فصل: مطلب المشيئة عند أهل السنة والمعتزلة ومعنى الآية فيها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهؤلاء خصوا من بين الأمم بحسب قضاء اللّه الأزلي، وتنطبق عليهم القاعدة ما عموم إلا وخص منه البعض، كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} الآية الأخيرة من سورة القصص المارة، وقوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} الآية 69 من الزمر الآتية، وقوله تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} الآية 88 من سورة النمل المارة في ج1.
هذا ولا يقال إنهم آمنوا قبل نزول العذاب لمخالفته للآية لأن الكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو بعد قرب وقوعه، لأنه وقع قبل إحاطته بهم وبعد مشاهدتهم له، واللّه أعلم.
وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون هي أن يونس عليه السلام بعثه اللّه إلى أهل نينوى بأرض الموصل، وكانوا مشركين فدعاهم لتوحيد اللّه تعالى ورفض سواء من الآلهة، فأبوا عليه وأصروا على كفرهم وكذبوه وجحدوا رسالته، فأخبرهم أنهم إذا لم يؤمنوا فإن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ليال، فأتقوا منه، واشتد غضبه عليهم، ولما لم يجد نصحه لهم نفعا أعرض عنهم وتركهم وذهب خارج قريتهم، فلما فقدوه عرفوا أن ما وعدهم به من العذاب واقع بهم لا محالة لأنهم لم يجربوا عليه كذبا، فخافوا وندموا، فلما أصبحوا توقعوا نزول العذاب فرأوا غيما أسود فغشاهم فأيقنوا أنه ما وعدهم به، فلبسوا المسوح وخرجوا إلى الصحراء بنسائهم وأولادهم ودوابهم وأظهروا توبتهم للّه وإيمانهم برسوله وردوا المظالم إلى أهلها وعجّوا إلى اللّه بالدعاء وعملوا ما كان يأمرهم به نبيهم وانتهوا عما نهاهم عنه، حتى انهم صاروا يقلعون الأحجار المغصوبة من بنائهم ويعطونها أهلها، رصاروا يتضرعون إلى اللّه، وفرقوا بين الأولاد والأمهات من نوع الإنسان والحيوان، وازداد بكاؤهم وبالغوا بالاستغاثة إلى اللّه.
وهم يشاهدون الدخان يظهر من ذلك الغيم، وانه لا يزال بسود ويتكاثف ويقرب منهم حتى غشي مدينتهم كلها واسودت أسطحتهم وأحاط بهم من كل جانب، وهم يلحّون بالدعاء إلى اللّه ويستصرخونه بالإغاثة، وصار الأطفال يتصايحون والحيوانات تتثاغى، والنساء تبكي، وازداد عويل الرجال لرقة قلوبهم على الأولاد والحيوانات والنساء وأملهم برجاء اللّه رفع بلاءه عنهم وهو يتقوّى ساعة فساعة، ثم ذهبوا إلى شيخ لهم كانوا يعتقدون به فشكوا إليه نزول العذاب واستطلعوا رأيه واسترشدوا به، فقال لهم قولوا يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت.
وقال الفضيل قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن له أهل.
وأنابوا كلهم إلى اللّه بإخلاص ونصح وصدق ودعوا كلهم بلسان واحد بذلك الدعاء وابتهلوا إلى اللّه تعالى موقنين قبول رجائهم، فرحمهم وكشف عنهم العذاب أولا بأول، وبدد تلك الغيوم حتى لم يبق منها شيء، فقرحوا وسبحوا اللّه وحمدوه وشكروه، ثم أمر اللّه يونس بالرجوع إليهم، فقال رب كيف أرجع فيجدوني كذابا لأني وعدتهم بالعذاب فكشفته عنهم، وإن عادتهم إذا كذب الرجل دون بيّنة قتلوه، وانصرف مغاضبا.
وسنأتي على بقية هذه القصة في الآية 139 فما بعدها من سورة الصافات الآتية حتى لا تتكرر هنا وهناك، وقد ألزمنا أنفسنا التحاشي عن التكرار في القصص وغيرها مهما أمكن، لأن سبب ضخامة تفاسير المفسرين من التكرار لا غير.

.مطلب المشيئة عند أهل السنة والمعتزلة ومعنى الآية فيها:

قال تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} على الإحاطة والشمول {جَمِيعًا} تأكيد بعد تأكيد بحيث لا يتخلف منهم أحد البتة، ولكن اللّه جل شأنه لم يشأ ذلك، لأنه لا يشاء إلا ما يعلمه ولا يعلم إلا ماله ثبوت في نفسه في لوحه، فما لا ثبوت له أصلا لا يعلم، وما لا يعلم لا يشاء، ولا يشاؤه لكونه مخالفا لحكمته التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع.
وفي هذه الآية إشارة إلى تحقيق دوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، وإعلام بكمال قدرته ونفوذ مشيئته، وحجة على المعتزلة الزاعمين أن اللّه تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها، وقرية لا يجوز التخلف عنها، وحملوا ما في الآية على الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة إلجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا، لكنه لم يشأ، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا له ولضده، وفوض الأمر إليهم، محتجين بقوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية 29 من سورة الكهف الآتية، وهذا ديّنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقيد مع أن قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} يأباه قياسهم لأن المعنى ليس لك الأمر بإكراه الناس على الإيمان، وإنما أنت مبلغ ومنذر، فلا تحرص على إيمان من لم يؤمن، لأنه لا يكون إلا بالتصديق والإقرار ولا يمكن الإكراه على التصديق.
والهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة والفاء للتفريع والمقصود تفريع الإنكار.
ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفريع الإنكار وقيل الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أربك لا يشاء أفأنت يا محمد تكرههم على الإيمان، والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على مشيئته تعالى، والإباء هو الإباء، فلابد من حمل المشيئة على إطلاقها، والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع على طريق المبالغة، ومن المعلوم أن المشيئة غير الإرادة، فإن اللّه تبارك وتعالى أمر الكافر بالإيمان وأراد منه الكفر بمقتضى مشيئته الأزلية، وهذا مما لا نزاع فيه، حتى أن الإنسان قد يأمر خادمه بشيء وهو يريد غيره، قال ابن عباس: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره عز وجل أنه لا يؤمن إلّا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولم يقل إلّا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول أي اللوح المحفوظ الذي فيه سابق علم اللّه الأزلي بما كان وما يكون، قال تعالى: {وَما كانَ} ما صح وما استقام ولا جاز {لِنَفْسٍ} من النفوس التي علم اللّه تعالى: {أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ومشيئته وإرادته.
وهذه الآية بيان لنبعية إيمان النفوس التي علم اللّه تعالى إيمانها بمشيئته وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك، وتقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} الكفر بقرينة ما قبله قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} الآية 137 من سورة التوبة في ج3.
وقيل السخط والعذاب وأصله الشيء الفاسد المستقذر، وعبّر عن الكفر بالرجس لأنه علم في الفساد والاستقذار، راجع الآية 128 من سورة الأنعام الآتية.
وقرئ بنون العظمة {ونجعل الرجس عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} أوامر اللّه ونواهيه فلا يفقهون مغازيها حتى يعوها ويتعظوا فيها، فيا أكرم الرسل.
{قُلِ} لهؤلاء الكفرة {انْظُرُوا} نظر اعتبار واستدلال وتفكر وتدبر {ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} من الآيات العظام الدالة على عظم صانعها، ففي السموات الشمس والقمر والنجوم السيارات والساكنات مما عرفه البشر ومما لم يعرفه بعد، وإن كابر بعضهم وقال بمعرفة كل ما في السموات حتى أنه أحصاها عدا فإن هناك من الأفلاك والبروج السائرة والواقفة الطالعة والغارية الظاهرة والخفية والتي يحصل بها الليل والنهار والإنضاج والرطوبة واليبوسة والتطعيم والتلوين وتأثيرات كثيرة وضعها اللّه تعالى فيها ومنافع تكون منها بإرادته تعالى للبشر والحيوان والطير والحوت والنبات والجماد، وفي الأودية والجبال والبحار والأنهار والعيون والأشجار والزروع والمعادن المختلفة نوعا وجنسا وشكلا ولونا طبيعة وعملا مما يتركب منها، وأذواق ما يؤكل منها وطعمها مما لا يعلم إحصاء إلا اللّه، ففي كل منها آية عظيمة دالة على رب عظيم يغنيكم أيها الكفرة عن طلب آية غيرها:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

إن كنتم تريدون الإيمان بمبدعها {وَما تُغْنِي الْآياتُ} مهما كانت جليلة ونادرة {وَالنُّذُرُ} مهما كثروا وتعبوا في نصح البشر {عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} حالا ومستقبلا لأن اللّه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم الذين لا يعقلون المنوه بهم آنفا الذين سبق لهم في الأزل الشقاء {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} هؤلاء الكفار الذين لا يعقلون آيات اللّه ويطلبون الآيات من الرسل {إِلَّا} أياما سودا {مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} بأن بوقع اللّه بهم مثل ما أوقعه عليهم من الغرق والخسف والريح والصيحة وغيرها من أنواع العذاب الذي صبّ على أسلافهم، وقد أطلقت الأيام على الوقائع الشديدة، لأن العرب تسمي النقم أياما كما هنا والنعم أياما كما في قوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} الآية 5 من سورة ابراهيم الآتية، فإذا كانوا ينتظرون إهلاكا مثل إهلاكهم لأنهم سائرون على شاكلتهم، فيا حبيبي {قُلْ} لهم {فَانْتَظِرُوا} ذلك لا تستعجلونه فإنه آت {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} له وإني مترقب إهلاككم فيه ونجاتي ومن معي لقوله عز قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا} من ذلك العذاب المنتظر {كَذلِكَ} مثل ما أنجينا الرسل الذين بعثناهم إلى الذين قبلكم وأهلكنا من كذبهم من أمثالكم لأنا نرى {حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} أنت ومن آمن بك يا محمد ونهلك المشركين الذين كذبوك.
واعلم أن حروف هذه الآية من كلمة كذلك إلخ 1468 بحساب الجمل وان الآيتين من سورة الصافات 171/ 172 والآية 51 من سورة المؤمن لها مساس في مغزى هذه الآية فراجعها وراجع الآية 47 من سورة الروم الآتية أيضا، وإنا مثلما نفّذنا وعيدنا بإهلاك الكفرة ننجز وعدنا بنصرة الرسل وفوز المؤمنين بهم، وهذا مما أوجبه اللّه تعالى على ذاته المقدسة من الحق هو من حيث الوعد والحكم لا من حيث الاستحقاق، لأنه تبارك وتعالى ما عليه واجب والعبد لا يستحق عليه شيئا، ومعنى أن الإنجاء واجب عليه انه كالأمر الواجب عليه تعالى بحسب وعده الذي لا يخلف، وإلا فلا وجوب حقيقة لا بالإنجاء ولا بالإهلاك، لأنه يفعل ما يشاء ويختار، فله أن يعذب المؤمن وينعم الكافر، فلا يسأل عما يفعل كما هو عقائد الأشعرية والماتريدية، وعليها جميع أهل السنة والجماعة، وهذا لا يعد ظلما منه، لأن الظلم التصرف في ملك الغير بلا حق، واللّه سبحانه وتعالى هو المالك المتفرد في عذا الكون علويه وسفليه، وله التصرف فيه كيفما شاء وأراد، وهذه الآية مقررة لمضمون ما قبلها، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيات 55/ 65 و91 المارات في هذه السورة، قال تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} الذي أدعوكم إليه تقدم ما فيها في الآية 91 المارة من هذه السورة أيضا {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأوثان لأني على دين أبيكم إبراهيم عليه السلام الذي تعرفونه، لا تشكون فيه، كما أن رؤساء النحل كلها تحترمه وتقر لحضرته بصحة الدين القويم ولا تشك فيه، فالأولى أن تشكوا في دينكم المبتدع الذي لا أصل له البتة، وإنما قدم النفي لأن العبادة غاية تعظيم المعبود فلا تليق لأخس الأشياء كالأوثان التي لا تضر ولا تنفع تارك عبادتها وعابدها، وإنما تليق لمن بيده النفع والضر والإحياء والإماتة الملمع إليه بقوله: {وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} فهو الذي يستحق العبادة لأنه خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم يميتكم ثم يحييكم، وقد اكتفى بذكر الوفاة لأنه أشد شيء على النفس وأقوى في الزجر والردع {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المصدقين باللّه الواحد وبما جاء من عنده، ولما ذكر العبادة التي هي من أعمال الجوارح اتبعها بما هو من أعمال القلوب وهو الإيمان فقال جل قوله: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} أي ذاتك كلها، وهذه عطف على أن أكون {لِلدِّينِ حَنِيفًا} مائلا عن كل أباطيلهم وهي حال مؤكدة من الوجه لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والاعراض عن الباطل بكلية الإنسان من إطلاق الجزء على الكل {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في الاعتقاد والأعمال {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} مما يدعوك إليه قومك من الاستشفاع بالأوثان وغيرها {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} لنفسك وغيرك، هذا كله خطاب عام مراد به غير حضرة الرسول وإنما خوطب به تهييجا وإلهابا لقلوب الناس وحثهم على التوحيد والكف عما هم عليه والرجوع إلى اللّه تعالى كما قدمناه في الآية 94 المارة من هذه السورة.
قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} من مرض وفقر وشدة وذلة {فَلا كاشِفَ لَهُ} عنك {إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} صحة وعافية ورفاه وجاه {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} على عباده من أحد ما {يُصِيبُ بِهِ} بكل من الضر والخير {مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} مؤمنهم وكافرهم وقد قطع جل شأنه في هذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه، وسبيل الاعتماد في الأمرين وغيرهما إلا عليه، وقد رجح سبحانه جانب الخير في هذه الآية على جانب الشر لأنه لما ذكر إمساس الضربين أن لا كاشف له إلا هو، فيدل هذا على أنه يزبل جميع المضار ويكشفها، لأن الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير قال: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} أي أن جميع الخيرات منه لا يقدر أحد على ردها، لأنه هو مفيضها على عباده، ولذلك عضدها بقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ} لذنوب عباده الساتر لها {الرَّحِيمُ} بهم الرءوف كثير الشفقة عليهم ومن رحمته لا يؤاخذهم بما يفعلون بحسب لطفه بهم، ويرزقهم وهم له جاحدون بمقتضى رأفته بهم، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} الآية الأخيرة من سورة فاطر المارة في ج1، وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} الآية 62 من سورة النحل الآتية، فأكثروا من شكره أيها الناس واحمدوه وعظموه ومجّدوه، فهو المختص بالحمد بالدنيا والآخرة وهو المالك له فلا يقدر أحد أن يحمد أحدا إلا بتقديره {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ} هو كتاب اللّه الذي فيه هديكم {مِنْ رَبِّكُمْ} ومالك أمركم على لسان رسولكم الذي هو منكم {فَمَنِ اهْتَدى} به وصدقه وآمن بما أنزل عليه {فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} لأن نفع هداه يرجع إليها {وَمَنْ ضَلَّ} عن سلوك طريق هداه ولم يسترشد به وكذب من أنزله عليه {فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} لأن وبال ضلاله عائد عليه نفسه، وفي هذه الآية تنزيه ساحة صاحب الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه من جلب نفع ودفع ضر لذلك أمره اللّه أن يقول لقومه العتاة المعاندين {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} للقيام بأموركم وإصلاح أحوالكم، وإنما أنا بشير لمن أطاع اللّه بالجنة ونذير لمن عصاه بالنار، وفي هذه الآية إشارة إلى أنه صلى اللّه عليه وسلم غير مجبر لهم على الإيمان ولا بمكرههم عليه، ولا هو مكلف بقسرهم على شيء ما وإنما هو مأمور بتبليغهم أوامر اللّه ونواهيه فقط كما مر في الآية الأخيرة من سورة طه المارة في ج1، وللبحث صلة في الآية 21 فما بعدها من سورة الغاشية الآتية، قال تعالى: {وَاتَّبِعْ} يا سيد الرسل في جميع شئونك اعتقادا وعملا وتبليغا {ما يُوحى إِلَيْكَ} من ربك في هذا القرآن واعمل به وذكر قومك ليعملوا به {وَاصْبِرْ} على عدم قبولهم أوامر ربك، وعلى أذاهم لك، ومخالفتهم لأمرك، ودم على هذه الحالة {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} بنصرك عليهم وإعلاء كلمتك وإظهار دينك بالوقت الذي قدرناه هذا وارض بحكم اللّه فيما تؤمر به وتنهى عنه {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} وأعدلهم وأنفذهم حكما، لأن المطلع على السراء العالم بما تخفيه الصدور من قول الخصمين يوقع حكمه على ما هو الواقع دون حاجة إلى بينة أو شهادة، فالخطأ في حكمه محال والقول بخلاف هذا ضلال، وفي هذه الآية الوعيد والتهديد بالخذلان للكافرين والوعد والبشارة للمؤمنين بالنصر بما لا يخفى على بصير.
ويوجد سورة أخرى في القرآن مختومة بمثل هذه اللفظة وهي سورة والتين المارة في ج1 فقط، وقد امتثل صلى اللّه عليه وسلم أمر ربه بالصبر على قومه حتى جزع الصبر ولم يجزع هو كما قيل:
سأصبر حتى يجزع الصبر عن صبري ** وأصبر حتى يحكم اللّه في أمري

وكما قيل أيضا:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ** صبرت على شيء أمر من الصبر

وكما في قول الآخر:
يبيت يريني الدهر كيف انقلابه ** أبيت أريه الصبر كيف يكون

وللصبر بحث في الآيات الأخيرات من سورة النحل الآتية فراجعها.
هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه على سيدنا محمد وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد للّه رب العالمين. اهـ.