فصل: (سورة البقرة: الآيات 42- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: الآيات 42- 43]:

{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}.
الباء التي في {بِالْباطِلِ} إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء خلطته به، كأن المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه {وَتَكْتُمُوا} جزم داخل تحت حكم النهى بمعنى: ولا تكتموا. أو منصوب بإضمار أن، والواو بمعنى الجمع، أى ولا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. فإن قلت: لبسهم وكتمانهم ليسا بفعلين متميزين حتى ينهوا عن الجمع بينهما، لأنهم إذا لبسوا الحق بالباطل فقد كتموا الحق؟ قلت: بل هما متميزان، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتابتهم في التوراة ما ليس منها. وكتمانهم الحق أن يقولوا: لا نجد في التوراة صفة محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم، أو حكم كذا. أو يمحوا ذلك. أو يكتبوه على خلاف ما هو عليه.
وفي مصحف عبد اللَّه: وتكتمون، بمعنى كاتمين {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، وهو أقبح لهم، لأنّ الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} يعنى صلاة المسلمين وزكاتهم {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} منهم، لأنّ اليهود لا ركوع في صلاتهم. وقيل الركوع الخضوع والانقياد لما يلزمهم في دين اللَّه. ويجوز أن يراد بالركوع: الصلاة، كما يعبر عنها بالسجود، وأن يكون أمرا بأن يصلى مع المصلين، يعنى في الجماعة، كأنه قيل: وأقيموا الصلاة وصلوها مع المصلين، لا منفردين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}.
احفظوا آداب الحضرة؛ فحفظ الآداب أتمُّ في الخدمة من الخدمة، والإشارة في إيتاء الزكاة إلى زكاة الهِمَم كما تؤدَّى زكاةُ النِّعم، قال قائلهم:
كلُّ شيءٍ له زكاةٌ تُودّى ** وزكاةُ الجمال رحمةُ مثلى

فيفيض من زوائد هممه ولطائف نظره على المُتَبِّعين والمَربين بما ينتعشون به و...، {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} تقتدي بآثار السلف في الأحوال، وتجتنب سنن الانفراد فإن الكون في غمار الجمع أسلم من الامتياز من الكافة. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}.
فيه أربع وثلاثون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} أمْرٌ معناه الوجوب، ولا خلاف فيه؛ وقد تقدّم القول في معنى إقامة الصلاة واشتقاقها وفي جملة من أحكامها، والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {وَآتُواْ الزكاة} أمْرٌ أيضًا يقتضي الوجوب.
والإيتاء: الإعطاء.
آتيته: أعطيته؛ قال الله تعالى: {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75].
وأتيته بالقصر من غير مَدّ جئته؛ فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مُدّ؛ ومنه الحديث: ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه. وسيأتي.
الثالثة: الزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد؛ يقال: زكا الزرعُ والمالُ يزكو؛ إذا كثر وزاد.
ورجل زكي؛ أي زائد الخير.
وسُمّيَ الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكِّي.
ويقال: زرع زاكٍ بيّن الزكاء.
وزكأت الناقة بولدها تزكأ به: إذا رمتْ به من بين رجليها.
وزكا الفرد: إذا صار زوجًا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعًا.
قال الشاعر:
كانوا خَسًا أو زَكًا من دون أربعة ** لم يَخْلَقُوا وجدود الناس تَعْتَلِجُ

جمع جَدّ؛ وهو الحظّ والبخت.
تعتلج أي ترتفع.
اعتلجت الأرض: طال نباتها.
فخسًا: الفردُ، وزكًا: الزّوْج.
وقيل: أصلها الثناء الجميل؛ ومنه زكَّى القاضي الشاهد.
فكأن مَن يُخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل.
وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير؛ كما يقال: زكا فلان؛ أي طهر من دنس الجَرْحة والإغفال.
فكأن الخارج من المال يطهّره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين.
ألا ترى أن النبيّ سمَّى ما يخرج من الزكاة أوساخَ الناس؛ وقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
الرابعة: واختلف في المراد بالزكاة هنا؛ فقيل: الزكاة المفروضة، لمقارنتها بالصلاة.
وقيل: صدقة الفطر؛ قاله مالك في سماع ابن القاسم.
قلت: فعلى الأوّل وهو قول أكثر العلماء فالزكاة في الكتاب مجملة بيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فروى الأئمة عن أبي سعيد الخدريّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس في حَبّ ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أَوْسُق ولا فيما دون خمسِ ذَوْدٍ صدقة ولا فيما دون خمسِ أواقٍ صدقة» وقال البخاري: «خمس أواق من الورِق» وروى البخاريّ عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فيما سَقتِ السماء والعيون أو كان عَثرِيًّا العُشْرُ وما سُقي بالنَّضْح نصفُ العُشر» وسيأتي بيان هذا الباب في الأنعام إن شاء الله تعالى.
ويأتي في براءة زكاة العين والماشية، وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.
وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نصٌّ عليها إلا ما تأوّله مالك هنا، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 14 15].
والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة الأعلى؛ ورأيت الكلام عليها في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرض زكاة الفطر في رمضان، الحديث.
وسيأتي، فأضافها إلى رمضان.
الخامسة: قوله تعالى: {واركعوا} الركوع في اللغة الانحناء بالشخص؛ وكل منحن راكع.
قال لَبيد:
أُخَبِّرُ أخبارَ القرون التي مضت ** أَدِبُّ كأني كلما قمت راكعُ

وقال ابن دُريد: الركعة الهُوّة في الأرض، لغة يمانية.
وقيل: الانحناء يعم الركوع والسجود؛ ويستعار أيضًا في الانحطاط في المنزلة.
قال:
ولا تُعادِ الضعيفَ عَلّك أن ** تركع يومًا والدهر قد رفعه

السادسة: واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر؛ فقال قوم: جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة.
قلت: وهذا ليس مختصًّا بالركوع وحده؛ فقد جعل الشرع القراءة عبارة عن الصلاة، والسجودَ عبارة عن الركعة بكمالها؛ فقال: {وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] أي صلاة الفجر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة.
وقيل: إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع.
وقيل: لأنه كان أثقل على القوم في الجاهلية؛ حتى لقد قال بعض من أسلم أظنه عمران بن حُصين للنبيّ صلى الله عليه وسلم: على ألاّ أخِرّ إلا قائمًا.
فمن تأويله على ألاّ أركع؛ فلما تمكن الإسلام مِن قلبه اطمأنت بذلك نفسه وامتثل ما أمر به من الركوع.
السابعة: الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمدّ ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعًا يقول: سبحان ربي العظيم ثلاثًا؛ وذلك أدناه.
روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين؛ وكان إذا ركع لم يُشخص رأسه ولم يصوّبه ولكن بين ذلك.
وروى البخاري عن أبي حُميد الساعدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبّر جعل يديه حَذْوَ منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره؛ الحديث.
الثامنة: الركوع فرض، قرآنًا وسُنّة، وكذلك السجود؛ لقوله تعالى في آخر الحج: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77].
وزادت السُّنة الطمأنينةَ فيهما والفصل بينهما.
وقد تقدّم القول في ذلك، وبيّنا صفة الركوع آنفًا.
وأما السجود فقد جاء مبيَّنًا من حديث أبي حُميد الساعديّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد مكّن جبهته وأنفه من الأرض ونحّى يديه عن جنبيه ووضع كفّيه حَذْو منكبيه. خرّجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وروى مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» وعن البَرَاء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجدتَ فضَع كفيك وارفع مرفقيك» وعن ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خَوّى بيديه يعني جنح حتى يرى وَضَح إبطيه من ورائه وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى.
التاسعة: واختلف العلماء فيمن وضع جبهته في السجود دون أنفه أو أنفه دون جبهته؛ فقال مالك: يسجد على جبهته وأنفه؛ وبه قال الثوريّ وأحمد، وهو قول النَّخَعِيّ.
قال أحمد: لا يجزئه السجود على أحدهما دون الآخر؛ وبه قال أبو خَيْثَمة وابن أبي شيبة.
قال إسحاق: إن سجد على أحدهما دون الآخر فصلاته فاسدة.
وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، ورُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي ليلى كلهم أمر بالسجود على الأنف.
وقالت طائفة: يجزئ أن يسجد على جبهته دون أنفه؛ هذا قول عطاء وطاوس وعكرمة وابن سِيرين والحسن البصري؛ وبه قال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد.
قال ابن المنذر: وقال قائل: إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته فقد أساء وصلاته تامة؛ هذا قول النعمان.
قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه.
قلت: الصحيح في السجود وضع الجبهة والأنف؛ لحديث أبي حُميد، وقد تقدّم.
وروى البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمِرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نَكْفِتُ الثياب والشَّعَر» وهذا كله بيان لمجمل الصلاة، فتعيّن القول به. والله أعلم.
وروي عن مالك أنه يجزيه أن يسجد على جبهته دون أنفه؛ كقول عطاء والشافعي.
والمختار عندنا قوله الأوّل، ولا يجزئ عند مالك إذا لم يسجد على جبهته.
العاشرة: ويكره السجود على كَوْر العمامة؛ وإن كان طاقة أو طاقتين، مثل الثياب التي تستر الركب والقدمين فلا بأس؛ والأفضل مباشرة الأرض أو ما يسجد عليه.
فإن كان هناك ما يؤذيه أزاله قبل دخوله في الصلاة، فإن لم يفعل فليمسحه مسحة واحدة.
وروى مسلم عن مُعَيْقِيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوّي التراب حيث يسجد قال: «إن كنتَ فاعلًا فواحدة» وروي عن أنس بن مالك قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدّة الحرّ؛ فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.
الحادية عشرة: لما قال تعالى: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] قال بعض علمائنا وغيرهم: يكفي منها ما يُسمَّى ركوعًا وسجودًا، وكذلك من القيام.
ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك؛ فأخذوا بأقلّ الاسم في ذلك؛ وكأنهم لم يسمعوا الأحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة.
قال ابن عبد البر: ولا يجزي ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع، ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعًا وواقفًا وساجدًا وجالسًا.
وهو الصحيح في الأثر، وعليه جمهور العلماء وأهل النظر؛ وهي رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم وغيره بوجوب الفصل وسقوط الطمأنينة؛ وهو وَهَم عظيم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وعلّمها.
فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم! روى النسائي والدّارَقُطْنِيّ وعليّ بن عبد العزيز عن رفاعة بن رافع قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد فصلّى، فلما قضى الصلاة جاء فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إرجع فصلّ فإنك لم تُصلّ» وجعل الرجل يصلي وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها؛ فلما جاء فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى القوم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وعليك ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ».
قال همام: فلا ندري، أمره بذلك مرتين أو ثلاثًا؛ فقال له الرجل: ما أَلَوْتُ، فلا أدري ما عِبتَ عليّ من صلاتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما أمره الله فيَغسِل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبّر الله تعالى ويُثني عليه ثم يقرأ أمّ القرآن وما أذن له فيه وتيسّر ثم يكبّر فيركع فيضع كفّيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائمًا حتى يقيم صُلبه ويأخذ كل عظمٍ مأخذه ثم يكبّر فيسجد فيمكّن وجهه قال همّام: وربما قال: جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يكبّر فيستوي قاعدًا على مقعده ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ، ثم قال: لا تَتمّ صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك» ومثله حديث أبي هريرة خرّجه مسلم، وقد تقدّم.
قلت: فهذا بيان الصلاة المجملة في الكتاب بتعليم النبيّ عليه السلام وتبليغه إياها جميع الأنام، فمن لم يقف عند هذا البيان وأخلّ بما فرض عليه الرحمن، ولم يمتثل ما بلغه عن نبيّه عليه السلام كان من جملة من دخل في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59].
على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
روى البخاريّ عن زيد بن وهب قال: رأى حُذيفة رجلًا لا يتم الركوع ولا السجود فقال: ما صلّيتَ ولو متَّ لمتَّ على غير الفِطرة التي فَطَر الله عليها محمدًا صلى الله عليه وسلم.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {مَعَ الراكعين} مع تقتضي المَعِيّة والجمعيّة؛ ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن: إن الأمر بالصلاة أوّلا لم يقتض شهود الجماعة، فأمرهم بقوله: {مع} شهود الجماعة.
وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين؛ فالذي عليه الجمهور أن ذلك من السنن المؤكدة، ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة.
وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضًا على الكفاية.
قال ابن عبد البر: وهذا قول صحيح؛ لإجماعهم على أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات.
فإذا قامت الجماعة في المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة؛ لقوله عليه السلام: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» أخرجه مسلم من حديث ابن عمر.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا» وقال داود الصلاة في الجماعة فرض على كل أحد في خاصته كالجمعة؛ واحتج بقوله عليه السلام: «لا صلاةَ لجار المسجد إلا في المسجد» خرّجه أبو داود وصحّحه أبو محمد عبد الحق؛ وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثَوْر وغيرهم.
وقال الشافعي: لا أرخّص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر؛ حكاه ابن المنذر.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد؛ فسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يرخّص لي فيصلي في بيته؛ فرخص له؛ فلما وَلّى دعاه فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة» قال نعم؛ قال: «فأجب».
وقال أبو داود في هذا الحديث: «لا أجد لك رخصة» خرجه من حديث ابن أم مَكْتُوم؛ وذكر أنه كان هو السائل.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن سمع النداء فلم يمنعه من إتيانه عذر قالوا: وما العذر؟ قال: خوفٌ أو مرض لم تُقبل منه الصلاة التي صلى» قال أبو محمد عبد الحق: هذا يرويه مَغراء العبدي.
والصحيح موقوف على ابن عباس: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له» على أن قاسم بن أصْبَغ ذكره في كتابه فقال: حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال حدّثنا سليمان ابن حرب، حدّثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«مَن سمع النداء فلم يَجب فلا صلاة له إلا من عذر» وحسبك بهذا الإسناد صحة.
ومَغراء العبدي روى عنه أبو إسحاق.
وقال ابن مسعود: ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
وقال عليه السلام: «بيننا وبين المنافقين شهود العَتَمة والصُّبح لا يستطيعونهما» قال ابن المنذر: ولقد روينا عن غير واحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: «مَن سمع النداء فلم يُجب من غير عذر فلا صلاة له» منهم ابن مسعود وأبو موسى الأشعريّ.
وروى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هَمَمت أن آمر فِتْيتي فيجمعوا حُزَمًا من حطب ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست لهم عِلّة فأحرقها عليهم» هذا ما احتج به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضًا، وهي ظاهرة في الوجوب، وحملها الجمهور على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة؛ بدليل حديث ابن عمر وأبي هريرة.
وحملوا قول الصحابة وما جاء في الحديث من أنه «لا صلاة له» على الكمال والفضل؛ وكذلك قوله عليه السلام لابن أم مكتوم: «فأجب» على الندب.
وقوله عليه السلام: «لقد هممت» لا يدل على الوجوب الحتم؛ لأنه هَمَّ ولم يفعل؛ وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلّفون عن الجماعة والجمعة.
يبيّن هذا المعنى ما رواه مسلم عن عبد اللَّه قال: مَن سرّه أن يلقى الله غدًا مسلِمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادَى بهن، فإن الله شرع لنبيّكم صلى الله عليه وسلم سُنن الهُدَى، وإنهن من سنن الهدى؛ ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سُنّة نبيّكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سُنة نبيّكم صلى الله عليه وسلم لضَلَلتم؛ وما من رجل يتطهّر فيحسن الطُّهور ثم يَعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خُطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحطّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصّف.
فبيّن رضي الله عنه في حديثه أن الاجتماع سُنّة من سُنن الهُدَى وتركه ضلال؛ ولهذا قال القاضي أبو الفضل عِيَاض: اختلف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن؛ هل يقاتل عليها أولا؛ والصحيح قتالهم؛ لأن في التمالؤ عليها إماتتها.
قلت: فعلى هذا إذا أقيمت السُّنة وظهرت جازت صلاة المنفرد وصحّت.
روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضْعًا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا يَنْهَزُه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يَخْط خُطوة إلا رُفع له بها درجةٌ وحطّ عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبِسه والملائكة يصلّون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلّى فيه يقولون اللَّهُمّ ارحمه اللّهُمّ اغفر له اللّهُمّ تُبْ عليه ما لم يُؤْذِ فيه ما لم يُحْدِث فيه» قيل لأبي هريرة: ما يحدث؟ قال: يَفْسُو أو يَضْرِط.
الثالثة عشرة: واختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة؛ هل لأجل الجماعة فقط حيث كانت، أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد؛ لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد كما جاء في الحديث؛ قولان:
والأول أظهر؛ لأن الجماعة هو الوصف الذي عُلّق عليه الحُكم. والله أعلم.
وما كان من إكثار الخطا إلى المساجد وقصد الإتيان إليها والمُكْث فيها فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة. والله أعلم.
الرابعة عشرة: واختلفوا أيضًا هل تفضل جماعة جماعة بالكثرة وفضيلة الإمام؟ فقال مالك: لا.
وقال ابن حبيب: نعم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كَثُر فهو أحبّ إلى الله» رواه أُبَي بن كعب وأخرجه أبو داود، وفي إسناده لين.
الخامسة عشرة: واختلفوا أيضًا فيمن صلّى في جماعة هل يُعيد صلاته تلك في جماعة أخرى؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم: إنما يعيد الصلاة في جماعة مع الإمام مَن صلّى وحده في بيته وأهلِه أو في غير بيته؛ وأمّا من صلّى في جماعة وإن قَلّت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهْوَيْه وداود بن عليّ: جائز لمن صلى في جماعة ووجد جماعة أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء؛ لأنها نافلة وسنة.
وروى ذلك عن حُذيفة بن اليَمَان وأبي موسى الأشعريّ وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشَّعْبي والنَّخَعِي، وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب.
احتج مالك بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُصلَّى صلاةٌ في يوم مرتين» ومنهم من يقول: لا تصلّوا.
رواه سليمان بن يَسار عن ابن عمر.
واتفق أحمد وإسحاق على أن معنى هذا الحديث أن يصلي الإنسان الفريضة، ثم يقوم فيصلّيها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى؛ فأمّا إذا صلاّها مع الإمام على أنها سُنّة أو تطوّع فليس بإعادة الصلاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة: «إنها لكم نافلة» من حديث أبي ذرّ وغيره.
السادسة عشرة: روى مسلم عن أبي مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَؤُمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلَمُهم بالسُّنة فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرةً فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقَدُمهم سِلْمًا ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تَكْرِمتِه إلا بإذنه» وفي رواية «سِنًّا» مكان «سِلْمًا».
وأخرجه أبو داود وقال: قال شعبة: فقلت لإسماعيل: ما تَكْرِمَتُه؟ قال: فراشه.
وأخرجه الترمذي وقال: حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم.
قالوا: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسُّنّة.
وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة.
وقال بعضهم: إذا أذِن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلّى به.
وكَرِهه بعضهم وقالوا: السُّنة أن يصلّي صاحب البيت.
قال ابن المنذر: رَوَينا عن الأشعث بن قيس أنه قدّم غلامًا وقال: إنما أقدّم القرآن.
وممن قال: يؤم القوم أقرؤهم ابن سِيرين والثوريُّ وإسحاق وأصحابُ الرأي.
قال ابن المنذر: بهذا نقول؛ لأنه موافق للسُّنة.
وقال مالك: يتقدّم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة، وإن للسنّ حقًا.
وقال الأوزاعيّ: يؤمّهم أفقههم؛ وكذلك قال الشافعي وأبو ثور إذا كان يقرأ القرآن؛ وذلك لأن الفقيه أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة.
وتأوّلوا الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان الأفقه؛ لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن، وقد كان مِن عُرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقرّاء؛ واستدلوا بتقديم النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أبا بكر لفضله وعلمه.
وقال إسحاق: إنما قدّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليدل على أنه خليفته بعده.
ذكره أبو عمر في التمهيد.
وروى أبو بكر البزار بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سافرتم فليؤمّكم أقرؤكم وإن كان أصغرَكم وإذا أمّكم فهو أميركم» قال: لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من رواية أبي هريرة بهذا الإسناد.
قلت: إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئًا.
ثبت في صحيح البخاريّ عن عمرو بن سَلِمة قال: كنا بماء ممَرِّ الناس وكان يمرّ بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوْحَى إليه كذا! أوْحى إليه كذا! فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يُقرّ في صدري؛ وكانت العرب تَلَوَّم بإسلامها فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق؛ فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند نبيّ الله حقًّا، قال: «صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن أحدكم وليؤمّكم أكثركم قرآنًا» فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآنًا لِمَا كنت أتلقّى من الركبان، فقدّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليّ بُرْدة إذا سجدت تقلّصتْ عني، فقالت امرأة من الحَيّ: ألا تغطّون عنا است قارئكم! فاشتروا فقطعوا لي قميصًا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص.
وممن أجاز إمامة الصبيّ غير البالغ الحسنُ البصري وإسحاقُ بن راهْوَيْه، واختاره ابن المنذر إذا عقل الصلاة وقام بها؛ لدخوله في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤمّ القوم أقرؤهم» ولم يستثن، ولحديث عمرو بن سَلِمة.
وقال الشافعي في أحد قوليه: يؤم في سائر الصلوات ولا يؤمّ في يوم الجمعة؛ وقد كان قبلُ يقول: ومن أجزأتْ إمامته في المكتوبة أجزأت إمامته في الأعياد، غير أني أكره فيها إمامة غير الوالي.
وقال الأوزاعيّ: لا يؤمّ الغلام في الصلاة المكتوبة حتى يحتلم، إلا أن يكون قوم ليس معهم من القرآن شيء فإنه يؤمّهم الغلام المراهق.
وقال الزهري: إن اضطروا إليه أَمّهم.
ومنع ذلك جملةً مالكٌ والثوريُّ وأصحابُ الرأي.
السابعة عشرة: الائتمام بكل إمام بالغ مسلم حُرٍّ على استقامة جائزٌ من غير خلاف، إذا كان يعلم حدود الصلاة ولم يكن يلحن في أمّ القرآن لحنًا يُخِلّ بالمعنى؛ مثل أن يكسر الكاف من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ويضم التاء في {أَنْعَمْتَ}.
ومنهم من راعى تفريق الطاء من الضاد؛ وإن لم يفرّق بينهما لا تصح إمامته؛ لأن معناهما يختلف.
ومنهم من رخّص في ذلك كله إذا كان جاهلًا بالقراءة وأمّ مثلَه.
ولا يجوز الائتمام بامرأة ولا خُنْثَى مُشْكل ولا كافرٍ ولا مجنونٍ ولا أميٍّ، ولا يكون واحدٌ من هؤلاء إمامًا بحال من الأحوال عند أكثر العلماء، على ما يأتي ذكره، إلا الأمِّيّ لمثله.
قال علماؤنا: لا تصح إمامة الأُمّي الذي لا يحسن القراءة مع حضور القارئ له ولا لغيره؛ وكذلك قال الشافعي.
فإن أمّ أمّيًا مثلَه صحّت صلاتهم عندنا وعند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إذا صلّى الأَمِّيّ بقوم يقرأون وبقوم أمّيين فصلاتهم كلهم فاسدة.
وخالفه أبو يوسف فقال: صلاة الإمام ومن لا يقرأ تامّة.
وقالت فرقة: صلاتهم كلهم جائزة؛ لأن كلًا مؤدٍّ فرضه، وذلك مثل المتيمم يصلي بالمتطهرين بالماء، والمصلي قاعدًا يصلي بقوم قيام صلاتهم مجزئة في قول من خالفنا؛ لأن كلا مؤدّ فرض نفسه.
قلت: وقد يحتج لهذا القول بقوله عليه السلام: «ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه» أخرجه مسلم.
وإن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الإمام، والله أعلم.
وكان عطاء بن أبي رباح يقول: إذا كانت امرأته تقرأ كبّر هو وتقرأ هي؛ فإذا فرغت من القراءة كبّر وركع وسجد وهي خلفه تصلّي.
ورُويَ هذا المعنى عن قتادة.
الثامنة عشرة: ولا بأس بإمامة الأعمى والأعرج والأشَلّ والأقطع والخِصيّ والعبد إذا كان كل واحد منهم عالمًا بالصلاة.
وقال ابن وهب: لا أرى أن يؤمّ الأقطع والأشل؛ لأنه منتقص عن درجة الكمال، وكرهت إمامته لأجل النقص.
وخالفه جمهور أصحابه وهو الصحيح؛ لأنه عضو لا يمنع فقده فرضًا من فروض الصلاة فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعين؛ وقد روى أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أمّ مكتوم يؤمّ الناس وهو أعمى، وكذا الأعرج والأقطع والأشل والخصيّ قياسًا ونَظَرًا، والله أعلم.
وقد روي عن أنس ابن مالك أنه قال في الأعمى: وما حاجتهم إليه! وكان ابن عباس وعِتْبان بن مالك يؤمّان وكلاهما أعمى؛ وعليه عامّة العلماء.
التاسعة عشرة: واختلفوا في إمامة ولد الزنى؛ فقال مالك: أكره أن يكون إمامًا راتبًا.
وكره ذلك عمر بن عبد العزيز.
وكان عطاء بن أبي رَباح يقول: له أن يؤم إذا كان مرضيًا، وهو قول الحسن البصري والزُّهري والنَّخَعيّ وسفيان الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وتجزئ الصلاة خلفه عند أصحاب الرأي، وغيره أحبّ إليهم.
وقال الشافعي: أكره أن ينصب إمامًا راتبًا مَن لا يُعرف أبوه، ومَن صلى أجزأه.
وقال عيسى بن دينار: لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شيء.
ونحوه قال ابن عبد الحكم إذا كان في نفسه أهلًا للإمامة.
قال ابن المنذر: يؤم لدخوله في جملة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القومَ أقرؤهم» وقال أبو عمر: ليس في شيء من الآثار الواردة في شرط الإمامة ما يدل على مراعاة نسب؛ وإنما فيها الدلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدِّين.
الموفية عشرين: وأما العبد فروَى البخاري عن ابن عمر قال: لما قدم المهاجرون الأوّلون العَصَبة موضع بقُبَاء قبل مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يؤمّهم سالم مَوْلَى أبي حُذيفة وكان أكثرهم قرآنًا.
وعنه قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأوّلين وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسجد قُبَاء، فهم أبو بكر وعمر وزيد وعامر بن ربيعة؛ وكانت عائشة يؤمّها عبدها ذكوان من المصحف.
قال ابن المنذر: وأَمّ أبو سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم حذيفة وأبو مسعود.
ورخّص في إمامة العبد النَّخَعِيُّ والشعبيُّ والحسنُ البصريّ والحكمُ والثوريُّ والشافعيّ وأحمد وإسحاق وأصحابُ الرأي؛ وكره ذلك أبو مِجْلَز.
وقال مالك: لا يؤمّهم إلا أن يكون العبد قارئًا ومَن معه من الأحرار لا يقرأون إلا أن يكون في عيد أو جمعة فإن العبد لا يؤمهم فيها؛ ويجزئ عند الأوزاعي إن صلوا وراءه.
قال ابن المنذر: العبد داخل في جملة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم».
الحادية والعشرون: وأما المرأة فروَى البخاريّ عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملّكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة».
وذكر أبو داود عن عبد الرحمن بن خلاّد عن أمّ ورقة بنت عبد اللَّه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها، قال: وجعل لها مؤذّنًا يؤذّن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها.
قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخًا كبيرًا قال ابن المنذر: والشافعي يوجب الإعادة على مَن صلّى من الرجال خلف المرأة.
وقال أبو ثور: لا إعادة عليهم.
وهذا قياس قول المُزَنِيّ.
قلت: وقال علماؤنا لا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء.
وروى ابن أَيْمن جواز إمامتها للنساء.
وأما الخُنْثَى المشكل فقال الشافعي: لا يؤم الرجال ويؤم النساء.
وقال مالك: لا يكون إماما بحال؛ وهو قول أكثر الفقهاء.
الثانية والعشرون: الكافر المخالف للشرع كاليهودي والنصراني يؤم المسلمين وهم لا يعلمون بكفره.
وكان الشافعي وأحمد يقولان: لا يجزئهم ويعيدون.
وقاله مالك وأصحابه؛ لأنه ليس من أهل القُربة.
وقال الأوزاعي: يعاقب.
وقال أبو ثَور والمُزَنِيّ لا إعادة على مَن صلى خلفه، ولا يكون بصلاته مسلمًا عند الشافعي وأبي ثور.
وقال أحمد: يجبر على الإسلام.
الثالثة والعشرون: وأما أهل البِدع من أهل الأهواء كالمعتزلة والجهمية وغيرهما فذكر البخاري عن الحسن: صلّ، وعليه بدعته.
وقال أحمد: لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه.
وقال مالك: ويصلى خلف أئمة الجَور، ولا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم.
وقال ابن المنذر: كل من أخرجته بدعته إلى الكفر لم تجز الصلاة خلفه، ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة؛ ولا يجوز تقديم من هذه صفته.
الرابعة والعشرون: وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر ونحو ذلك فاختلف المذهب فيه؛ فقال ابن حبيب: من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبدًا، إلا أن يكون الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة، فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذ سكران.
قاله من لقيت من أصحاب مالك.
وروي من حديث جابر بن عبد اللَّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: «لا تَؤمّنّ امرأة رجلًا ولا يؤمّن أعرابي مهاجرًا ولا يؤمَّنَّ فاجر بَرًّا إلا أن يكون ذلك ذا سلطان» قال أبو محمد عبد الحق: هذا يرويه عليّ بن زيد بن جُدْعان عن سعيد بن المسيّب، والأكثر يضعّف عليّ بن زيد.
وروى الدارقُطْني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سرّكم أن تُزَكُّوا صلاتكم فقدّموا خياركم» في إسناده أبو الوليد خالد بن إسماعيل المخزومي وهو ضعيف؛ قاله الدارقُطْنِي.
وقال فيه أبو أحمد ابن عَديّ: كان يضع الحديث على ثقات المسلمين؛ وحديثه هذا يرويه عن ابن جُريج عن عطاء عن أبي هريرة.
وذكر الدّارَقُطْنِيّ عن سلام بن سليمان عن عمر عن محمد بن واسع عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وَفْدٌ فيما بينكم وبين الله» قال الدّارقطني: عمر هذا هو عندي عمر بن يزيد قاضي المدائن، وسلام بن سليمان أيضًا مدائني ليس بالقوي؛ قاله عبد الحق.
الخامسة والعشرون: روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جُعل الإمام ليُؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا اللّهُمّ ربّنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون».
وقد اختلف العلماء فيمن ركع أو خفض قبل الإمام عامدًا على قولين: أحدهما: أن صلاته فاسدة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها؛ وهو قول أهل الظاهر ورُوِيَ عن ابن عمر.
ذكر سُنيد قال حدّثنا ابن عُلَيّة عن أيوب عن أبي قِلابة عن أبي الورد الأنصاري قال: صلّيت إلى جنب ابن عمر فجعلت أرفع قبل الإمام وأضع قبله، فلما سلّم الإمام أخذ ابن عمر بيدي فلواني وجذبني، فقلت: مالك! قال: مَن أنت؟ قلتُ: فلان بن فلان؛ قال: أنتَ من أهل بيت صدق! فما يمنعك أن تصلّي؟ قلت: أو ما رأيتني إلى جنبك! قال: قد رأيتك ترفع قبل الإمام وتضع قبله وإنه لا صلاة لمن خالف الإمام.
وقال الحسن ابن حَيّ فيمن ركع أو سجد قبل الإمام ثم رفع من ركوعه أو سجوده قبل أن يركع الإمام أو يسجد: لم يعتدّ بذلك ولم يجزه.
وقال أكثر الفقهاء: مَن فعل ذلك فقد أساء ولم تفسد صلاته؛ لأن الأصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها بالأئمة سُنّة حسنة، فمن خالفها بعد أن أدّى فرض صلاته بطهارتها وركوعها وسجودها وفرائضها فليس عليه إعادتها وإن أسقط بعض سننها؛ لأنه لو شاء أن ينفرد فصلّى قبل إمامه تلك الصلاة أجزأت عنه؛ وبئس ما فعل في تركه الجماعة.
قالوا: ومن دخل في صلاة الإمام فركع بركوعه وسجد بسجوده ولم يكن في ركعةٍ وإمامه في أخرى فقد اقتدى وإن كان يرفع قبله ويخفض قبله؛ لأنه بركوعه يركع وبسجوده يسجد ويرفع وهو في ذلك تبع له، إلا أنه مسيء في فعله ذلك لخلافه سنة المأموم المجتمع عليها.
قلت: ما حكاه ابن عبد البر عن الجمهور ينبئ على أن صلاة المأموم عندهم غير مرتبطة بصلاة الإمام؛ لأن الإتباع الحسيّ والشرعي مفقود، وليس الأمر هكذا عند أكثرهم.
والصحيح في الأثر والنظر القول الأوّل؛ فإن الإمام إنما جُعل ليؤتم به ويُقتدَى به بأفعاله؛ ومنه قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] أي يأتمّون بك؛ على ما يأتي بيانه.
هذا حقيقة الإمام لغة وشرعًا، فمن خالف إمامه لم يتبعه؛ ثم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن فقال: «إذا كبّر فكبّروا» الحديث.
فأتى بالفاء التي توجب التعقيب، وهو المبيِّن عن الله مراده.
ثم أوعد من رفع أو ركع قبلُ وعيدًا شديدًا فقال: «أمَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار» أخرجه المُوَطّأ والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم.
وقال أبو هريرة: إنما ناصيته بيد شيطان.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ عملٍ ليس عليه أَمْرُنا فهو ردٌّ» يعني مردود.
فمن تعمّد خلاف إمامه عالمًا بأنه مأمور باتباعه منهيّ عن مخالفته فقد استخف بصلاته وخالف ما أُمِر به؛ فواجب ألاّ تجزي عنه صلاته تلك؛ والله أعلم.
السادسة والعشرون: فإن رفع رأسه ساهيًا قبل الإمام فقال مالك رحمه الله: السُّنّة فيمن سها ففعل ذلك في ركوع أو في سجود أن يرجع راكعًا أو ساجدًا وينتظر الإمام، وذلك خطأ ممن فعله؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» قال ابن عبد البر: ظاهر قول مالك هذا لا يوجب الإعادة على من فعله عامدًا؛ لقوله: «وذلك خطأ ممن فعله»؛ لأن الساهي الإثمُ عنه موضوع.
السابعة والعشرون: وهذا الخلاف إنما هو فيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام، أما السلام فقد تقدّم القول فيه.
وأما تكبيرة الإحرام فالجمهور على أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام، إلا ما رُوِيَ عن الشافعيّ في أحد قوليه: أنه إن كبّر قبل إمامه تكبيرة الإحرام أجزأت عنه؛ لحديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى الصلاة فلما كبّر انصرف وأوْمأ إليهم أي كما أنتم ثم خرج ثم جاء ورأسه تقطر فصلّى بهم؛ فلما انصرف قال: «إني كنت جُنُبًا فنسيتُ أن أغتسل» ومن حديث أنس: «فكبّر وكبّرنا معه» وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا} في النساء إن شاء الله تعالى.
الثامنة والعشرون: وروى مسلم عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّهَى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشدّ اختلافا.
زاد من حديث عبد اللَّه: «وإيّاكم وهَيْشات الأسواق» وقوله: «استووا» أمرٌ بتسوية الصفوف وخاصّةً الصف الأوّل وهو الذي يلى الإمام، على ما يأتي بيانه في سورة الحجر إن شاء الله تعالى.
وهناك يأتي الكلام على معنى هذا الحديث بحول الله تعالى.
التاسعة والعشرون: واختلف العلماء في كيفية الجلوس في الصلاة لاختلاف الآثار في ذلك؛ فقال مالك وأصحابه: يُفْضي المصلّي بألْيَتَيْه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويَثْنِي رجله اليسرى؛ لما رواه في مُوَطَّئه عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وَرِكه الأيسر ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبدُ اللَّه بن عمر، وحدّثني أن أباه كان يفعل ذلك.
قلت: وهذا المعنى قد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يُشْخِص رأسه ولم يُصَوّبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرِشُ رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكانْ يَنْهَى عن عُقْبة الشيطان، ويَنْهَى أن يفترِش الرجل ذراعيه افتراش السّبُع، وكان يختم الصلاة بالتسليم.
قلت: ولهذا الحديث والله أعلم قال ابن عمر: إنما سُنّة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى.
وقال الثَّوْري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حَيّ: ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى، لحديث: وائل بن حُجْر؛ وكذلك قال الشافعيّ وأحمد وإسحاق في الجلسة الوسطى.
وقالوا في الآخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء كقول مالك؛ لحديث أبي حُميد الساعدي رواه البخاريّ قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كبّر جعل يديه حَذْوَ مَنْكِبَيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هَصَر ظهره، فإذا رفع استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدّم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته قال الطبري: إن فعل هذا فحسن، كل ذلك قد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
الموفية الثلاثين: مالك عن مسلم بن أبي مريم عن عليّ بن عبد الرحمن المُعَاويّ أنه قال: رآني عبد اللَّه بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة؛ فلما انصرف نهاني فقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؛ قلت: وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟
قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى؛ وقال: هكذا كان يفعل. قال ابن عبد البر: وما وصفه ابن عمر من وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الأصابع؛ كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مُجْمَعٌ عليه، لا خلاف عَلِمته بين العلماء فيها، وحسبك بهذا.
إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة، فمنهم من رأى تحريكها، ومنهم من لم يره.
وكل ذلك مرويّ في الآثار الصحاح المسندة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجميعه مباح، والحمد لله.
وروى سفيان بن عُيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم بمعنى ما رواه مالك وزاد فيه: قال سفيان: وكان يحيى بن سعيد حدّثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه: قال: «هي مذبّة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه ويقول هكذا».
قلت: روى أبو داود في حديث ابن الزبير: أنه عليه السلام كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها وإلى هذا ذهب بعض العراقيين، فمنع من تحريكها.
وبعض علمائنا رأوا أن مدّها إشارة إلى دوام التوحيد.
وذهب أكثر العلماء من أصحاب مالك وغيرهم إلى تحريكها، إلا أنهم اختلفوا في الموالاة بالتحريك على قولين؛ تأوّل مَن والاه بأن قال: إن ذلك يذكر بموالاة الحضور في الصلاة؛ وبأنها مقمعة ومدفعة للشيطان على ما روى سفيان.
ومن لم يوال رأى تحريكها عند التلفظ بكلمتي الشهادة، وتأوّل في الحركة كأنها نطق بتلك الجارحة بالتوحيد؛ والله أعلم.
الحادية والثلاثون: واختلفوا في جلوس المرأة في الصلاة؛ فقال مالك: هي كالرجل، ولا تخالفه فيما بعد الإحرام إلا في اللباس والجهر.
وقال الثوريّ: تُسْدُلُ المرأة جلبابها من جانب واحد؛ ورواه عن إبراهيم النَّخَعِيّ.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها.
وهو قول الشَّعْبي: تقعد كيف تيسر لها.
وقال الشافعيّ: تجلس بأستر ما يكون لها.
الثانية والثلاثون: روى مسلم عن طاوس قال: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين؛ فقال: هي السُّنّة؛ فقلنا له إنّا لنراه جفاء بالرجل؛ فقال ابن عباس: بل هي سُنّة نبيك صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف العلماء في صفة الإقعاء ما هو؛ فقال أبو عبيد: الإقعاء جلوس الرجل على أليتيه ناصبًا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسّبعُ.
قال ابن عبد البر: وهذا إقعاء مجتمَع عليه لا يختلف العلماء فيه.
وهذا تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه.
وقال أبو عبيد: وأما أهل الحديث فإنهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين.
قال القاضي عياض: والأشبه عندي في تأويل الإقعاء الذي قال فيه ابن عباس إنه من السُّنّة؛ الذي فسّر به الفقهاء من وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين؛ وكذا جاء مفسَّرًا عن ابن عباس: من السُّنة أن تمس عقبك أليتك، رواه إبراهيم بن مَيْسرة عن طاوس عنه؛ ذكره أبو عمر.
قال القاضي: وقد رُوي عن جماعة من السلف والصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ولم يقل بذلك عامة فقهاء الأمصار وسمّوْه إقعاء.
ذكر عبد الرزاق عن مَعمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه رأى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير يَقْعون بين السجدتين.
الثالثة والثلاثون: لم يختلف من قال من العلماء بوجوب التسليم وبعدم وجوبه أن التسليمة الثانية ليست بفرض، إلا ما روي عن الحسن بن حَيّ أنه أوجب التسليمتين معًا.
قال أبو جعفر الطحاوِيّ: لم نجد عن أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن الثانية من فرائضها غيره.
قال ابن عبد البر: مِن حجة الحسن بن صالح في إيجابه التسليمتين جميعًا وقوله: إن من أحدث بعد الأولى وقبل الثانية فسدت صلاته قوله صلى الله عليه وسلم: «تحليلها التسليم» ثم بيّن كيف التسليم فكان يسلّم عن يمينه وعن يساره.
ومن حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية قوله صلى الله عليه وسلم: «تحليلها التسليم» قالوا: والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم تسليم.
قلت: هذه المسألة مبنية على الأخذ بأقل الاسم أو بآخره، ولما كان الدخول في الصلاة بتكبيرة واحدة بإجماع فكذلك الخروج منها بتسليمة واحدة، إلا أنه تواردت السنن الثابتة من حديث ابن مسعود وهو أكثرها تواترًا ومن حديث وائل بن حُجْر الحضرميّ وحديثِ عمّار وحديث البَراء بن عازب وحديثِ ابن عمر وحديث سعد بن أبي وَقّاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين.
روى ابن جُريج وسليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمد الدّراوَرْدي كلُّهم عن عمرو بن يحيى المازني عن محمد بن يحيى بن حَبّان عن عمه واسع بن حَبّان قال قلت لابن عمر: حدّثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت؟ فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما خفضه، وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله عن يساره.
قال ابن عبد البر: وهذا إسناد مدني صحيح والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة، وهو عمل قد توراثه أهل المدينة كابرًا عن كابر، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد؛ لأنه لا يخفى وقوعه في كل يوم مرارًا.
وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين ومتوارث عندهم أيضًا.
وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان، وكذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين بل ذلك عندهم معروف، وحديث التسليمة الواحدة رواه: سعد بن أبي وقّاص وعائشة وأنس؛ إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث.
الرابعة والثلاثون: روى الدّارَقُطْنِي عن ابن مسعود أنه قال: من السُّنة أن يخفى التشهّد.
واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو: التحيات لله الزّاكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
واختار الشافعي وأصحابه واللَّيث بن سعد تشهّد ابن عباس؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعّلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» واختار الثّوْرِي والكوفيون وأكثر أهل الحديث تشهد ابن مسعود الذي رواه مسلم أيضًا قال: كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله، السلام على فلان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيّات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ثم يتخير من المسألة ما شاء»، وبه قال أحمد وإسحاق وداود.
وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه.
وروي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا وموقوفًا نحو تشهد ابن مسعود.
وهذا كله اختلاف في مباح ليس شيء منه على الوجوب، والحمد لله وحده.
فهذه جملة من أحكام الإمام والمأموم تضمّنها قوله جل وعز: {واركعوا مَعَ الراكعين} [البقرة: 43].
وسيأتي القول في القيام في الصلاة عند قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].
ويأتي هناك حكم الإمام المريض وغيره من أحكام الصلاة، ويأتي في آل عمران حكم صلاة المريض غير الامام، ويأتي في النساء في صلاة الخوف حكم المفترض خلف المتنفل، ويأتي في سورة مريم حكم الإمام يصلي أرفع من المأموم، إلى غير ذلك من الأوقات والأذان والمساجد؛ وهذا كله بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة}.
وقد تقدّم في أوّل السورة جملة من أحكامها، والحمد لله على ذلك. اهـ.