فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولماذا لا نفهم أن القرآن الذي بيّن الحق سبحانه وتعالى أنه معجزو محمد صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما نبغ فيه قومه؛ فتحداهم من جنس ما برعوا فيه. ويقول لهم: هاتوا مثيلًا له، ولن تستطيعوا، ولو أنه جاء بالقرآن على غير لغتهم في الكلام لقالوا: لا نستطيع؛ لأن حروف هذه اللغة جديدة علينا.
وقد شاء الحق أن يكون القرآن من نفس الحروف التي يتحدثون بها، وبالكلمات التي يعرفونها في لغتهم، وشاء سبحانه أن يجعل حروف وكلمات وآيات وأساليب القرآن غير قابلة للتقليد؛ لأن المتكلم مختلف، وبهذا جاءت عظمة القرآن لا من ناحية المادة الخام التي تبني منها الكلمات وهي الحروف؛ بل المعاني والنسق الذي جاءت به الحروف، فالمادة الخام- وهي الحروف- واحدة. وصار القرآن معجزة؛ لأن المتكلم هو الله.
وضربنا من قبل المثل لنقرب ذلك إلى الأذهان: هب أننا نريد أن نقيس مهارة من ينسجون الأقمشة، ونضع أمام كل منهم مجموعة من غزل الصوف وغزل القطن، وغزل الحرير، وهذه مواد خام يختلف كل منها عن الآخر، ونقول لهم: كل واحد منكم عليه أن ينسج قطعة من كل صنف لنعرف الأفضل في النسج.
وسنسمع من يقول: إن نتيجة نسج الصوف نسيج خشن، وناسج القطن سينسج قطعة تأخذ صفات القطن، وناسج الحرير سينسج لنا نسيجًا ناعمًا، أما إن أعطينا كلاّ منهم نوعًا واحدًا من الغزل؛ صوفًا أو قطنًا أو حريرًا، هنا سنعرف من الأقدر على النسج.
إذن: لو أن القرآن جاء بغير حروف العرب، وبغير كلمات العرب؛ لقالوا: لو كانت عندنا هذه الحروف وهذه الكلمات؛ لأتينا بأحسن منها.
لذلك شاء الحق أن يأتي القرآن من جنس الحروف والكلمات. ولذلك تحوم العقول حول مقدمات آيات السور؛ لتعرف شيئًا من الإيناسات بعد أن تواصلت الثقافات، ولم تعد اللغة العربية متوافرة مثلما كان الحال أيام نزول القرآن، ومن كانوا يملكون هذه الملكة الصافية أيام الرسول صلى الله عليه وسلم سمعوا الحروف التي في أوائل بعض السور وقبلوها، والحق سبحانه يقول: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [يونس: 1].
و{تِلْكَ}: إشارة، ولابد أن نفرق بين الإشارة والخطاب؛ لأن البعض يخلط بينهما، فالإشارة هي التي تشير إلى شيء مثل قولنا: هذا وذا، أو تلك، وهذا: إشارة لمذكر، والمثال هو قولنا: هذا القلم جميل، أما قولنا: تلك الدواة جميلة، فهذه إشارة لمذكر، والمثال هو قولنا: هذا القلم جميل، أما قولنا: تلك الدواة جميلة، فهذه إشارة لمؤنثة. أما الكاف: فهي حرف للخطاب، فالتاء: إشارة للآيات وهي مؤنثة، والكاف في {تِلْكَ}: للمخاطب، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. فالله يقول لرسوله: تلك الآيات يا محمد.
وعلى ضوء الفوارق بين الإشارة والخطاب تختلف أساليب القرآن، مثل قول الحق: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ...} [القصص: 32].
و{فَذَانِكَ}: إشارة لشيئين اثنين: للعصا.
و{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ...} [النمل: 12].
ويقول الحق أيضًا: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي...} [يوسف: 37].
وهذا ما قاله سيدنا يوسف عليه السلام للسجينين اللذين كانا معه. وتُظهر لنا العبارة أنه كان يخاطب اثنين، ولكنه يشير إلى التأويل بذا.
وحين دعت امرأة العزيز النسوة؛ ليشاهدن جمال سيدنا يوسف، وأعطت كل واحدة منهن سكينًا؛ وقالت: اخرج عليهن، ولأنه مفرد مذكر، وهن جماعة إناث، فالعبارة تأتي بخطاب لجماعة الإناث، وإشارة إلى المفرد المذكر فقالت: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي...} [يوسف: 32].
وذا إشارة إلى سيدنا يوسف، وكن خطاب للنسوة. والقرآن حين يخاطب جماعة يقول: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ...} [فصلت: 23].
إذن فهناك فرق بين الإشارة والآيات، فال (ت) إشارة للآيات، والآيات مؤنثة، والمخاطب الأول بالتكليف هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآيات- كما عرفنا من قبل- جمع آية، والآية هي الأمر العجيب، وكل منا يسمع من يقول: إنها آية في الحسن أو آية في الجمال، أو آية في الفن، أو آية في الروعة.
فالآية إذن هي الشيء العجيب، أو الشيء الذي بلغ من الحسن ومن الجمال درجة هائلة. وتطلق الآيات إطلاقات متعددة: فهي إما أن تكون المعجزات التي أمدَّ الله بها رسله؛ ليثبت صدقهم.
{مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132].
وإما أن تطلق الآيات على الأشياء العجيبة في الكون مثل قول الحق: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار...} [يس: 37].
وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ...} [الإسراء: 12].
وقول الحق: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً...} [المؤمنون: 50].
إذن: فالآية إما أن تكون شيئًا في الكون، وإما أن تطلق على المعجزة التي جاء بها الرسل؛ لتثبت صدقهم في البلاغ عن الله، وقد يكون المقصود بها آيات القرآن.
إذن: فالآيات تطلق على ثلاثة أمور: الآيات الكونية للنظر والاعتبار، وآيات إعجازية لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل الأحكام والتحدي للمشركين أن يأتوا بمثلها.
وهنا في قول الحق: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} المراد بها: الآيات القرآنية، وما دام الله هو خالق الآيات الكونية الحسية، وخالق المعجزات؛ وهو منزِّل القرآن؛ فلا تعارض بين الآيات؛ لأن مصدرها واحد.
وقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [يونس: 1].
وكلمة {الحكيم} معناها: الذي يضع الشيء في موضعه الدقيق بحكمة، فلا ينظر إلى ظاهر معطيات الشيء الآن ويغفل ما قد يأتي به من مضرّة.
ولله المثل الأعلى أقول: إنك قد تصل إلى الشيء، وتظن أنه يخلصك من متاعب أخرى، لكنه قد يؤدي إلى شيء أضر، وهذا هو السبب في اختلاف ألوان ووظائف العقاقير المختلفة، ولذلك نجد الطبيب الحاذق يكتب عددًا من الأدوية؛ ليستخلص المريض منها ما يشفيه، ويحاول بقدر الإمكان أن يُجنبه الآثار الجانبية لتلك الأدوية.
إذن: فهذه حكمة؛ لأن الطبيب لا يكتب الدواء الواحد الذي قد يأتي منه أثر ضار، بل يكتب معه دواء يخفّف من ضرره، وهذه حكمة منه لأنه يعمل احتياطات لما قد ينشأ من ضرر أو أثر جانبي.
وفي أوائل الخمسينات، حاول العلماء أن يقللوا من أثر تهديد الحشرات للزروع، واخترعوا مادة اسمها د. د. ت لمقاومة الحشرات، وافتخروا بهذا كل الفخر حتى علا كل صوت، وهذا لأن البشرية وصلت إلى مادة تقضي على الحشرات، ولكنهم اكتشفوا أن هذه المادة تضر الكائنات الحية الأخرى، والآن تُوقع العقوبة على من يستخدم تلك المادة؛ لأن ذلك عمل قد تم بغير حكمة. قد نأخذ منه ظاهر النفع، لكن له جوانب متعددة من الضرر، فقد سمّم الحيوانات وسمّم الزروع.
إذن: فالحكمة تعني: أن تضع الشيء في موضعه؛ ليعطيك فائدة لا تحدث ضررًا فيما بعد.
وقد أنزل الله المنهج في الكتاب ليقود حياتنا إلى كل صلاح. فإن طبقناه؛ فلسوف يأتي منه كل نفع، ولن يأتي لنا أي ضرر، وضربنا المثل في المعطيات التي أعطاها الحق لنا في الكون، فسبحانه خلق لنا الحيوانات؛ لنأخذ من لبنها، ونأخذ من أصوافها، ونأخذ من أصوافها، ونأخذ من جلودها، ونأكل من لحومها. وهو القائل: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس...} [النحل: 7].
أي: أنها ستعطينا درجة من الراحة، وإذا كان الإنسان قد اخترع أدوات أخرى تحمل عنا هذه المشقات، وتبلغنا غاياتنا بدون تعب؛ فهذه اختراعات تحقق مصلحة البشرية- وقد كانت البشرية تحمل أمتعتها فوق الحمار أو البغل- وقد صنع الإنسان هذه الاختراعات؛ فصارت عندنا السيارات الكبيرة التي تحمل أطنانًا من المواد والمتاع، ولكن لم نلتفت إلى ما تحدثه من عوادم تسبب فساد الهواء، وتلوثه على عكس فضلات الحمار أو البغل، التي تفيد في خصوبة الأرض.
إذن: فصناعة السيارات إن لم تتخلص من عيوب عوادمها بأسلوب ما، فهي اختراع بلا حكمة، ويجب البحث عن وسائل لإزالة أضرار احتراق الوقود، وبذلك نستفيد من سرعة السيارات، وقدرتها على حمل البضائع، ونتخلص مما تسببه من ضرر. وهكذا نعرف أن الحكمة هي: وضع الشيء في موضعه المفيد فائدة دائمة لا يأتي من بعدها ضرر.
ولقائل أن يقول: وما معنى قول الحق: {الكتاب الحكيم} هل الكتاب بمفرده له حكمة؟ أم أن الحكيم هو من أنزل الكتاب؟ ونقول: إن معنى {الكتاب الحكيم} أنه الكتاب الذي يمتلئ بالحكمة الصادرة من الله، أو الكتاب الذي أنزله الرب الحكيم. وكلمة حكيم على وزن فعيل، ومثلها مثل كريم ورحيم وتأتي مرة بصيغة فاعل، ومرة بصيغة فعيل، وموضعها هو الذي يبين لنا ذلك.
ومعنى كلمة {الحكيم} يتضح لنا من سياقها: فإن نسبت الأمر إلى الحكم فهو كتاب صادر من الحق سبحانه، وإن أردت الوصف بمعنى فاعل فهو من حاكم؛ والحاكم هو الذي يحكم في قضايا؛ ليبين وجه الحق فيها، والقرآن يحكم في كل قضايا الإيمان.
وقمة العقيدة التي يحكم فيها القرآن هي لا إله إلا الله. ومن يفعل عكس ذلك هو الظالم، وسبحانه القائل: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والقرآن يحسم هذه القضايا، وهو كحاكم فاصل فيها.
فإن قلت: محكم تكون قد نسبته لله، وإن قلت: حاكم فهو الفاعل وهو يحكم في قمة العقيدة لا إله إلا الله، وهي شهادة ذات لذات، وشهادة مشهد من الملائكة، وشهادة أدلة من الخلق: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم...} [آل عمران: 18].
وساعة يفصل القرآن في هذه القضية، فهو يحكم حكمًا عدلًا يبين وجه الحق في قمة العقائد. وهو حاكم في الأفعال؛ فيبين الحلال من الحرام ويضع حدًّا فاصلًا في الأحكام بين الحلال والحرام. وحاكم في الأخلاق.
إذن: حاكم تعني ما بين وجه الحق فيما تتعارض فيه الآراء والأفكار والمعسكرات المتضاربة.
وحكيم: إما أن تكون بمعنى فاعل وإما أن تكون بمعنى (مفعول) ووقعت الحكمة من قائله عليه، فصار محكمًا، وإن كانت كلمة الحكيم بمعنى فاعل تكون بمعنى حاكم وكلمة حاكم تدل على أن هناك فريقين: فريق يقول قضية، وفريق آخر يناقضه، فيأتي الحاكم؛ ليفصل بين الأمرين، وليعدل وينصف.
وقد جاء القرآن هكذا: حاكمًا في أمر القمة التي اختلف الخلق فيها؛ فمنهم من أنكر وجود إله وهم الملاحدة. ومنهم من قال: إن الإله هو غير الله، ومنهم من قال: الإله شريك لغيره، فجاء القرآن؛ ليفصل في هذه المسألة، وحكم فيها حكمًا واضحًا، وبيِّن: يا من تقولون: لا إله؛ أنتم كذابون، ويا من تقولون: إن الإله غير الله؛ أنتم كذابون، ويا من تقولون: إن الإله غير الله؛ أنتم كذابون، وبا من تقولون: إن الإله له شركاء مع الله؛ أنتم كذابون، بل هو إله واحد، وهذا أول حكم في قضية القمة.
وما دام الحكم في قضية القمة قد صح؛ إذن: فالاستقبال للمنهج سيكون واحدًا، فلا آلهة متعددة يضارب هذا ذاك، أو يناقضه، بل هو إله واحد، يصدر عنه حكم واحد يحقق الوحدة في التكاليف للناس جميعًا، ويُخرج جميع الناس من أهوائهم إلى مراده هو سبحانه، ويكون القرآن حاكمًا أيضًا في الأفعال، فقد يختلف الناس في تقييمهم لفعل واحد. فهذا يقول فعل حسن، وآخر يقول: فعل قبيح، ويحسم القرآن الأمر ويحدد الفعل الحسن؛ فيأمر به؛ ويحدد الفعل القبيح؛ فينهي عنه، ويبين القرآن لنا الحلال من الحرام.
إذن: فالقرآن حكم في العقائد وفي الأفعال وفي ذوات الأشياء حلاّ وحُرْمة، وهو يحكم أيضًا في قضية هامة تلي قضية الحكم في قمة العقيدة، وهي صدق البلاغ عن الله، فهذا الرسول الذي يحمل البلاغ عن الله لابد أن يكون صادقًا، وقد جاء القرآن بالحكم في هذه القضية بمعنى أنه قد جاء معجزًا، فإن لم تكونوا قد صدقتم بأن هذا رسول؛ فأتوا بمثل ما جاء به هذا الرسول.
فإن عجزتم؛ فالرسول بنفسه يخبركم أن القرآن ليس من عنده، بل من عند خالقه وخالقكم.
وسواء أكانت حكيم بمعنى فاعل أم بمعنى مفعول فقد دلتنا على أنها تعني وضع الأشياء في نصابها وضعًا يحقق النفع منها دائمًا، ولا ينتج عنها ضارًا أبدًا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {الر} قال: فواتح السور، أسماء من أسماء الله.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات وابن النجار في تاريخه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {الر} قال: أنا الله ارى.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله: {الر} قال: أنا الله أرى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {الر} قال: أنا الله أرى.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {الر} و{حم} و{ن} قال: اسم مقطع.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {الر} و{حم} و{ن} قال: حروف الرحمن مفرقة.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي وفي قوله: {الر} قال: ألف ولام وراء من الرحمن.
أما قوله: {تلك آيات الكتاب الحكيم}.
أخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {تلك} يعني هذه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: {تلك آيات الكتاب} قال: الكتب التي خلت قبل القرآن. اهـ.