فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} قال: أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ولا ينتفعون بما فيه.
وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منه يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل- يعنون به محمدًا صلى الله عليه وسلم- فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أتأمرون الناس بالبر} قال: بالدخول في دين محمد {وأنتم تتلون} يقول: تدرسون الكتاب بذلك {أفلا تعقلون} تفهمون، ينهاهم عن هذا الخلق القبيح.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: تنهون الناس عن الكفر لما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي قلابة في الآية: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت لاناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا.
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن أبي داود في البعث وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو النعيم في الحلية وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أُسري بي رجالًا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون».
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك، ما أصابك، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر...؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
وأخرج الخطيب في اقتضاء العلم بالعمل وابن النجار في تاريخ بغداد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فقالوا: بم دخلتم النار، وإنما دخلنا بتعليمكم؟! قالوا: إنا كنا نأمركم ولا نفعل».
وأخرج الطبرني والخطيب في اقتضاء العلم بالعمل وابن عساكر بسند ضعيف عن الوليد بن عقبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اناسًا من أهل الجنة يتطلعون إلى أناس من أهل النار فيقولون: بم خلتم النار، فوالله مادخلنا الجنة إلا بتعليمكم؟! فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل».
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الوليد بن عقبة أنه خطب الناس، فقال في خطبته: ليدخلن امراء النار ويدخلن من أطاعهم الجنة، فيقولون لهم وهم في النار: كيف دخلتم النار وإنما دخلنا الجنة بطاعتكم؟ فيقولون لهم: إنا كنا نأمركم بأشياء نخالف إلى غيرها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي قال: يشرف قوم في الجنة على قوم في النار فيقولون: ما لكم في النار، وإنما كنا نعمل بما تعملون...؟! قالوا: كنا نعلمكم ولا نعمل..؟! قالوا: به.
وأخرج ابن المبارك في الزهد عن الشعبي قال: يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار، فيقولون: ما أدخلكم النار، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ قالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله.
وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه».
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن جندب البجلي قال: إن مثل الذي يعظ الناس وينسى نفسه كمثل المصباح يضيء لغيره ويحرق نفسه.
وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها».
وأخرج ابن قانع في معجمه والخطيب في الاقتضاء عن سليك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا علم العالم ولم يعمل كان كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه».
وأخرج الأصبهاني في الترغيب بسند ضعيف عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالعالم السوء يوم القيامة فيقذف في جهنم فيدور بقصبه- قلت: وما قصبه؟ قال: أمعاؤه- كما يدور الحمار بالرحى، فيقال: ياويله، بم لقيت هذا وإنما اهتدينا بك؟! قال كنت أخالفكم إلى ما انهاكم عنه».
وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال ودع إليه».
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان وابن عساكر عن ابن عباس.
أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني قال قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 3] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فالحرف الثالث قال قول العبد الصالح شعيب {ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هود: 88] أحكمت هذه الآية؟ قال. لا. قال: فابدأ بنفسك.
وأخرج ابن مبارك في الزهد والبيهقي في شعب الإِيمان عن الشعبي قال: ما خطب خطيب في الدنيا إلا سيعرض الله عليه خطبته ما أراد بها.
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرادء قال: ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات.
وأخرج أحمد في الزهد عن عبد الله بن مسعود قال: ويل للذي لا يعلم ولو شاء الله لعلمه، وويل لمن يعلم ثم لا يعمل سبع مرات. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}.
أتُحَرِّضون الناس على البِدار وترضَوْن بالتخلُّف؟ ويقال أتدعون الخلْقَ إلينا وتقعدون عنَّا؟ أتسرحون الوفود وتقصرون في الورود؟ أتنافسون الخلق وتنافرونهم بدقائق الأحوال وترضون بإفلاسكم عن ظواهرها؟
ويقال أتبصرون من الحق مثقالَ الذَّرِ ومقياسَ الحَبِّ وتساهمون لأنفسكم أمثال الرمال والجبال؟ قال قائلهم:
وتبصر في العين مني القذى ** وفي عينك الجذع لا تبصر

ويقال أَتُسْقَوْنَ بالنُّجُب ولا تشربون بالنُّوَب؟
{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ} ثم تعاندون بخافايا الدعاوى وتجحدون بما شام قلوبكم من فضيحات الخواطر وصريحات الزواجر.
{أفَلاَ تَعْقِلُونَ} إن ذلك ذميمٌ من الخِصال وقبيحٌ من الفِعال. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر}.
الاستفهام معناه التقرير والتوبيخ.
قال ابن عرفة: فرق بعضهم بينهما بأن التقرير لمن أنعمت عليه ولم يحسن إليك.
والتوبيخ لمن أحسنت إليه وأساء إليك.
وجمع الأنفس جمع قلة تحقيرا لها، لأن الآية خرجت مخرج الذّمّ، والواو في {تنسون} يجب أو يترجح أن يكون واو الحال إذ لو لم تكن من تمام الأول للزم عليه تسلط الإنكار على كل واحدة من الجملتين على انفرادها، والأمر بالمعروف مطلوب شرعا لا يوبخ أحد على فعله فما الإنكار إلا على من يأمر بالبر حالة عدم اتصافه به.
فإن قلت: المضارع لا يقع حالا إلا بغير واو إلاّ فيما شذّ من قولهم: «قمت وأصك عينه»؟ قلنا: هو على اضمار المبتدأ أي {وأنتُمْ تَنسَوْنَ أنفُسَكُمْ}.
قيل لابن عرفة: لعل الإنكار تسلط على الجمع بين الأمرين أي أتجمعون بين الأمر بالبر ونسيان أنفسكم؟
فقال: ظاهر اللفظ بالاتصاف أن دلالته على ذلك المعنى إنما هو من ناحية كون تلك الجملة حالا فقط.
قلت: وأيضا فما يدل على إنكار الجمع بينهما إلا لو كان {تنسون} منصوبا كما قالوا في: لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ.
قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
أي العقل الذي يصدكم عن ارتكاب ما منع الشرع منه وهو العقل النافع وليس المراد العقل التكليفي لأنه ثابت، وهذا هو الذي اختص منه منتفٍ عنهم لأن المعنى: أتجهلون فلا تعقلون؟ انتهى. اهـ.

.من فوائد تقي الدين السبكي:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَوْله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الْمَقْصُودُ التَّقْبِيحُ عَلَى مَنْ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبِرِّ أَنْ يَتْرُكَ نَفْسَهُ مِنْهُ وَيُنْشِدُ لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ إذَا نَصَبْتَ وَتَشْرَبَ وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَعِنْدِي فِيهِ زِيَادَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ شَيْئَيْنِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ عَلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ فَذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَاحًا غَيْرَ مَكْرُوهٍ وَالْمَحْذُورُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءُ عِلَّةٍ فِي الْكَرَاهَةِ، كَأَكْلِ السَّمَكِ وَشُرْبِ اللَّبَنِ، الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَحْمُودًا وَالآخَرُ مَذْمُومًا وَلَكِنْ ذَمُّهُ مَعَ الْمَحْمُودِ أَعْظَمُ مِنْ ذَمِّهِ وَحْدَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} فَالأَمْرُ بِالْبِرِّ حَسَنٌ صِرْفٌ وَوَاجِبٌ، وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ سَوَاءٌ أَفْعَلَهُ الشَّخْصُ أَمْ لا؛ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ التَّرْكِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إثْمَانِ إثْمُ تَرْكِ الأَمْرِ وَإِثْمُ ارْتِكَابِ النَّهْيِ؛ وَإِذَا أَمَرَ وَلَمْ يَنْهَ نَفْسَهُ فَقَدْ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ الْمَجْمُوعِ، وَقَدْ لا يَكُونُ، وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ هَكَذَا أَنْ يُصَدِّرَ بِالْمَحْمُودِ وَيُؤَخِّرَ الْمَذْمُومَ كَالآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَكَالْبَيْتِ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الْخُلُقِ السَّيِّئِ مَحْمُودٌ وَإِتْيَانَ مِثْلِهِ مَذْمُومٌ، وَكَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ قَصْدُ تَقْدِيمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ لأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ بِالْبِرِّ سَبَبٌ فِي أَمْرِهِ نَفْسَهُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ قَبُحَ ذَلِكَ مِنْهُ جِدًّا، وَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يُقَالَ افْعَلْ وَلا تَنْسَ نَفْسَكَ، لأَنَّ بَعْضَ الطِّبَاعِ اللَّئِيمَةِ لا تَنْقَادُ لِلنَّصِيحَةِ؛ فَإِذَا صَوَّرَ لَهُ فِي صُوَرٍ تُنَاقِضُ فِعْلَهُ فَالتَّنَاقُضُ تَنْفُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الطِّبَاعِ وَالْعُقُولِ، كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى ائْتِمَارِهِ وَحُصُولِ نُزُوعِهِ عَنْ حَالَتِهِ الْقَبِيحَةِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيبِ قوله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثُ وَلا يَفْسُقُ».
فَالرَّفَثُ وَالْفِسْقُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا لِلصَّائِمِ وَغَيْرِهِ وَلَكِنْ مِنْ الصَّائِمِ أَقْبَحُ، لأَنَّ الصَّوْمَ سَبَبٌ مُؤَكِّدٌ لاجْتِنَابِهِمَا وَقَدْ يَجِيءُ هَذَا النَّوْعُ مُقَدَّمًا فِيهِ الْمَذْمُومُ كَقَوْلِهِ: أَطَرَبًا وَأَنْتَ قَيْسَرِيٌّ فَالطَّرَبُ مَذْمُومٌ قَبِيحٌ وَمِنْ الشَّيْخِ أَقْبَحُ انْتَهَى. اهـ.
وقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَوْله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} مُنَاسَبَةُ أَفَلا تَعْقِلُونَ إنَّ الَّذِينَ فَعَلُوهُ مُتَنَاقِضٌ لأَنَّ أَمْرَهُمْ النَّاسَ بِالْبِرِّ يَقْتَضِي أَنْ يَبْدَءُوا بِأَنْفُسِهِمْ فَنِسْيَانُهَا مُنَاقِضٌ لِلأَمْرِ، وَكِلاهُمَا أَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُنَاقِضٌ لِتِلاوَتِهِمْ الْكِتَابَ لأَنَّ تِلاوَةَ الْكِتَابِ تَقْتَضِي أَنْ لا يَنْسَوْا أَنْفُسَهُمْ وَلا يُنَاقِضُوا أَفْعَالَهُمْ فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ إلَى قُبْحِ حَالِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقوله: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} إلَى خُرُوجِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ وَمُسْتَحِيلٌ فِي الشَّرْعِ أَيْضًا، وَلا عِبْرَةَ بِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي. مِنْ أَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا ثَبَتَتْ اسْتِحَالَتُهُ فِي الْعَقْلِ لا فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْ هَذَا الْفَقِيهِ فَإِنَّ كُلَّ مَا اسْتَحَالَ فِي الْعَقْلِ اسْتَحَالَ فِي الشَّرْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}.
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} هذا استفهام معناه التوبيخ، والمراد في قول أهل التأويل علماءُ اليهود.
قال ابن عباس: كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن أمره حق؛ فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه.
وعن ابن عباس أيضًا: كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة، وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جُريج: كان الأحبار يحضّون على طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي.
وقالت فرقة: كانوا يحضّون على الصدقة ويبخلون.
والمعنى متقارب.
وقال بعض أهل الإشارات: المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالفون عن ظواهر رسومها.
الثانية: في شدّة عذاب مَن هذه صفته؛ روى حماد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة أسري بي مررت على ناس تُقرض شفاههم بمقاريضَ من نار، فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسوْن أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرّون قُصْبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم؟ فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا».
قلت: وهذا الحديث وإن كان فيه لين؛ لأن في سنده الخصيب بن جَحْدر كان الإمام أحمد يستضعفه، وكذلك ابن مَعين يرويه عن أبي غالب عن أبي أمامة صُديّ بن عجلان الباهلي، وأبو غالب هو فيما حكى يحيى بن مَعين حَزَوَّر القرشي مولى خالد بن عبد اللَّه بن أسيد.
وقيل: مولى باهلة.
وقيل: مولى عبد الرحمن الحضرمي.
كان يختلف إلى الشام في تجارته.
قال يحيى بن مَعين: هو صالح الحديث، فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتَى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه».
القُصْب بضم القاف: المِعَى، وجمعه أقصاب.
والأقتاب: الأمعاء، واحدها قِتب.
ومعنى «فتندلق»: فتخرج بسرعة.
وروينا «فتنفلق».
قلت: فقد دلّ الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالمًا بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشدّ ممن لم يعلمه؛ وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى، ومستخفّ بأحكامه، وهو ممن لا ينتفع بعلمه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه» أخرجه ابن ماجه في سُننه.
الثالثة: اعلم وفّقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر، ولهذا ذمّ الله تعالى في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها؛ وبخهم به توبيخًا يُتْلَى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} الآية.
وقال منصور الفقيه فأحسن:
إن قومًا يأمرونا ** بالذي لا يفعلونا

لمجانين وإن هم ** لم يكونوا يصرعونا

وقال أبو العتاهية:
وصفتَ التُّقَى حتى كأنك ذو تُقًى ** وريحُ الخطايا من ثيابك تسطع

وقال أبو الأسْود الدُّؤَليّ:
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه ** عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

وابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ** فإن انتهت عنه فأنت حكيمُ

فهناك يُقبَل إن وَعظتَ ويُقتَدى ** بالقول منك وينفع التعليمُ

وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحِيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته؛ فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئًا؟ فأنشأ يقول:
وغير تَقِيٍّ يأمر الناس بالتُّقَى ** طبيبٌ يداوي وَالطبيبُ مريضُ

قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
الرابعة: قال إبراهيم النَّخَعِيّ: إني لأكره القَصص لثلاث آيات، قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} الآية، وقولِه: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، وقولِه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
وقال سَلْم بن عمرو:
ما أقبحَ التّزهيدَ من واعظٍ ** يُزَهِّد الناسَ ولا يَزْهَدُ

لو كان في تزهيده صادقًا ** أَضحى وأمسى بيتُه المسجدُ

إنْ رفض الدنيا فما بالُه ** يَستمنح الناس ويسترفدُ

والرزق مقسومٌ على من تَرى ** ينالُه الأبيضُ والأسودُ

وقال الحسن لمطرِّف بن عبد اللَّه: عِظ أصحابك؛ فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل؛ قال: يرحمك الله! وأيّنا يفعل ما يقول! ويودّ الشيطان أنه قد ظَفِر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سمعت سعيد بن جُبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نَهَى عن منكر.
قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء!.
الخامسة: قوله تعالى: {بالبر} البِرّ هنا الطاعة والعمل الصالح.
والبِرّ: الصدق.
والبِرّ: ولد الثعلب.
والبِرّ: سَوق الغنم؛ ومنه قولهم: «لا يعرف هِرًّا من بِر» أي لا يعرف دعاء الغنم من سَوقها.
فهو مشترك؛ وقال الشاعر:
لا هُمّ رَبّ إن بكرا دونكا ** يَبَرُّك الناسُ ويفجرونكا

أراد بقوله: يبرّك الناس: أي يطيعونك.
ويقال: إن البِرّ الفؤادُ في قوله:
أكون مكان البِرّ منه ودونه ** وأجعل ما لي دونه وأُوامِرُه

والبُرُّ بضم الباء معروف، وبفتحها الإجلال والتعظيم؛ ومنه ولد بَرٌّ وبارّ؛ أي يُعظّم والديه ويكرمهما.
السادسة: قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون.
والنسيان بكسر النون يكون بمعنى التَّرك؛ وهو المراد هنا، وفي قوله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وقوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} [الأنعام: 44]، وقوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
ويكون خلاف الذِّكر والحفظ؛ ومنه الحديث: «نَسِيَ آدمُ فنسِيَتْ ذرّيتُه» وسيأتي.
يقال: رجل نَسْيان بفتح النون: كثير النِّسيان للشيء.
وقد نَسِيت الشيء نِسْيانًا، ولا تقل نَسَيانًا بالتحريك؛ لأن النّسَيان إنما هو تَثنية نَسَا العِرْق.
وأنفس: جمع نَفْس، جمع قِلّة.
والنَّفْس: الروح؛ يقال: خرجت نَفْسُه، قال أبو خِراش:
نجا سالم والنّفْس ونه بِشدْقِهِ ** ولم يَنْج إلا جَفْن سَيفٍ ومِئزرا

أي بجفن سيف ومئزر.
ومن الدليل على أن النفس الروح قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] يريد الأرواح؛ في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي.
وذلك بيّن في قول بلال للنبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم: «إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردّها إلينا في حين غير هذا» رواهما مالك؛ وهو أوْلى ما يقال به، والنّفْس أيضًا الدم؛ يقال: سالت نفسه؛ قال الشاعر:
تسيل على حدّ السيوف نفوسُنا ** وليست على غير الظُّبات تسيل

وقال إبراهيم النَّخَعِيّ: ما ليس له نَفْس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه.
والنفس أيضًا الجسد؛ قال الشاعر:
نُبّئتُ أن بني سُحَيم أدخلوا ** أبياتَهم تامُورَ نَفْسِ المُنذرِ

والتامور أيضًا: الدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} توبيخ عظيم لمن فَهِم.
{وَتَتْلُونَ} تقرأون.
{الكتاب} التوراة.
وكذا مَن فعل فعلهم كان مثلَهم.
وأصل التلاوة الاتباع، ولذلك استعمل في القراءة؛ لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نَسَقه؛ يقال: تلوته إذا تبعته تُلُوًّا، وتلوتُ القرآن تِلاوة.
وتلوتُ الرجلَ تُلُوًّا إذا خذلته.
والتَّلِيّة والتُّلاوة بضم التاء: البقية؛ يقال: تَلِيَتْ لي من حقي تُلاوة وتَلِية؛ أي بقيت.
وأتليت: أبقيت.
وتتلّيت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه.
قال أبو زيد: تَلَّى الرجلُ إذا كان بآخر رَمق.
الثامنة: قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم.
والعقل: المنع؛ ومنه عِقال البعير؛ لأنه يمنع عن الحركة.
ومنه العقل للدّية؛ لأنه يمنع وليّ المقتول عن قتل الجاني.
ومنه اعتقال البطن واللّسان.
ومنه يقال للمحصن: مَعْقِل.
والعقل.
نقيض الجهل.
والعقل: ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تُغشّى به الهوادج؛ قال عَلقمة:
عَقْلًا ورَقْمًا تكاد الطير تخطفه ** كأنه من دم الأجواف مَدمومُ

المدموم بالدال المهملة: الأحمر، وهو المراد هنا.
والمدموم: الممتلئ شحمًا من البعير وغيره.
ويقال: هما ضربان من البرود.
قال ابن فارس: والعقل من شِيات الثياب ما كان نقشه طولًا؛ وما كان نقشه مستديرًا فهو الرَّقْم.
وقال الزجاج: العاقل مَن عمل بما أوجب الله عليه، فمن لم يعمل فهو جاهل.
التاسعة: اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم؛ لأنه لو كان معدومًا لما اختص بالاتصاف به بعض الذوات دون بعض؛ وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه؛ إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى، على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها، إن شاء الله تعالى.
وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم؛ ثم منهم من صار إلى جوهر لطيف في البدن ينبثّ شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت، يفصل به بين حقائق المعلومات.
ومنهم من قال: إنه جوهر بسيط؛ أي غير مركب.
ثم اختلفوا في محله؛ فقالت طائفة منهم: محله الدماغ؛ لأن الدماغ محل الحِسّ.
وقالت طائفة أخرى: محله القلب، لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس.
وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد، من حيث إن الجواهر متماثلة؛ فلو كان جوهر عقلًا لكان كل جوهر عقلًا.
وقيل: إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني.
وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحيّ، والعقل عَرَض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذًا ومشتهيًا.
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وغيرهما من المحققين: العقل هو العلم، بدليل أنه لا يقال: عَقَلت وما علمت، أو علمت وما عقلت.
وقال القاضي أبو بكر: العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات؛ وهو اختيار أبي المعالي في الإرشاد؛ واختار في البرهان أنه صفة يتأتَّى بها درك العلوم.
واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه.
وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال: العقل غريزة.
وحكى الأستاذ أبو بكر عن الشافعي وأبي عبد اللَّه بن مجاهد أنهما قالا: العقل آلة التمييز.
وحكي عن أبي العباس القَلاَنسيّ أنه قال: العقل قوّة التمييز.
وحكي عن المحاسبي أنه قال: العقل أنوار وبصائر.
ثم رتّب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال: والأوْلى ألا يصح هذا النقل عن الشافعيّ ولا عن ابن مجاهد، فإن الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الأعراض مجاز.
وكذلك قول من قال: إنه قوّة، فإنه لا يعقل من القوّة إلا القدرة؛ والقلانسيّ أطلق ما أطلقه تَوسُّعًا في العبارات، وكذلك المحاسبي.
والعقل ليس بصورة ولا نور، ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر.
وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى. اهـ.