فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ}
قال ابن عباس: سبب نزولها أن الله تعالى لما بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولًا أنكر العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد، فنزلت هذه الآية.
وهذا لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الإنكار والتعجب مَن كفر من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه جاءهم رسول منهم، وقد أرسل الله إلى سائر الأمم رسلًا منهم.
ثم قال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَآمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِهِّم} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: أن لهم ثوابًا حسنًا بما قدموا من صالح الأعمال، قاله ابن عباس.
الثاني: سابق صدق عند ربهم أي سبقت لهم السعادة في الذكر الأول، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس أيضًا.
الثالث: أن لهم شفيع صدق يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم يشفع لهم، قاله مقاتل بن حيان.
الرابع: أن لهم سلف صدق تقدموهم بالإيمان، قاله مجاهد وقتادة.
والخامس: أن لهم السابقة بإخلاص الطاعة، قال حسان بن ثابت:
لنا القدم العُلْيَا إليكَ خَلْفَنَا ** لأَوَّلنا في طَاعَةِ اللَّهِ تابعُ

ويحتمل سادسًا: أن قدم الصدق أن يوافق الطاعة صدق الجزاء، ويكون القدم عبارة عن التقدم، والصدق عبارة عن الحق. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {أكان للناس عجبًا} الآية.
قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما نسبت هذه الآية أن قريشًا استبعدوا أن يبعث الله رسولًا من البشر، وقال الزجاج: إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم: أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية، وقوله: {أكان} تقرير والمراد بالناس قائلو هذه المقالة، و{عجبًا} خبر كان واسمها {أن أوحينا}، وفي مصحف ابن مسعود {أكان للناس عجب} وجعل الخبر في قوله: {أن أوحينا} والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذًا ومنه قول حسان: [الوافر]
يكون مزاجها عسلٌ وماء

ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أوصل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب؟ وقرأت فرقة {إلى رجل} بسكون الجيم، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين، والقدم هنا ما قدم، واختلف في المراد بها هاهنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد: هي الأعمال الصالحة من العبادات، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال زيد بن أسلم وغيره: هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته، وقال ابن عباس أيضًا وغيره: هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ، وهذا أليق الأقوال بالآية، ومن هذه اللفظة قول حسان: [الطويل]
لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا ** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ

وقول ذي الرمة: [الطويل]
لكم قدم لا ينكر الناس أنها ** مع الحسب العادي طمت على البحر

ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم: «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط»، أي ما قدم لها من خلقه، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم، فالقدم على التأويل الجارحة والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول رجل صدق ورجل سوء، وقوله: {قال الكافرون} يحتمل أن يكون تفسيرًا لقوله أكان وحينا إلى بشر عجبًا قال الكافرون عنه كذا وكذا، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفًا يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر {إن هذا لسحر مبين}، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه {إنه لساحر} والمعنى متقارب، وفي مصحف أبي {قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين}، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أكان للناس عجبًا}
سبب نزولها: أن الله تعالى لما بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم أنكرت الكفار ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد، فنزلت هذه الآية.
والمراد بالناس هاهنا: أهل مكة، والمراد بالرجُل: محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {منهم}: يعرفون نسبه، قاله ابن عباس، فأما الألِف فهي للتوبيخ والإِنكار.
قال ابن الأنباري: والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من إِرسال محمد، محذوف هاهنا، وهو مبيَّن في قوله: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم} [الزخرف 32]، أي: فكما وضح لكم هذا التفاضل بالمشاهدة، فلا تنكروا تفضيل الله مَنْ شاء بالنبوة؛ وإنما حذفه هاهنا اعتمادًا على ما بيَّنه في موضع آخر.
قال: وقيل: إِنما عجبوا من ذكر البعث والنشور، لأن الإِنذار والتبشير يتصلان بهما، فكان جوابهم في مواضع كثيرة تدل على كون ذلك، مثل قوله: {وهو أهون عليه} [الروم: 27]، وقوله: {يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس: 79].
وفي المراد بقوله: {قَدَم صدق} سبعة أقوال:
أحدها: أنه الثواب الحسن بما قدَّموا من أعمالهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وروى عنه أبو صالح قال: عمل صالح يَقْدمون عليه.
والثاني: أنه ما سبق لهم من السعادة في الذِّكر الأول، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قال أبو عبيدة: سابقة صدق.
والثالث: شفيع صدق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم يوم القيامة، قاله الحسن.
والرابع: سَلَفُ صدق تقدّموهم بالإِيمان، قاله مجاهد، وقتادة.
والخامس: مقام صدق لا زوال عنه، قاله عطاء.
والسادس: أن قدم الصِّدق: المنزلة الرفيعة، قاله الزجاج.
والسابع: أن القدم هاهنا: مصيبة المسلمين بنبيِّهم صلى الله عليه وسلم وما يلحقهم من ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبتهم لمشاهدته، ذكره ابن الأنباري.
فإن قيل: لِم آثر القَدَم هاهنا على اليد، والعرب تستعمل اليد في موضع الإِحسان؟
فالجواب: أن القدم ذكرت هاهنا للتقدم، لأن العادة جارية بتقدُّم الساعي على قدميه، والعرب تجعلها كناية عن العمل الذي يُتقدَّم فيه ولا يقع فيه تأخُّر، قال ذو الرمة:
لكم قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّها ** مع الحَسَب العادِيّ طَمَّتْ على البحر

فإن قيل: ما وجه إِضافة القدم إِلى الصدق؟
فالجواب: أن ذلك مدح للقدم، وكل شيء أضفته إِلى الصدق، فقد مدحته؛ ومثله: {أدخلني مُدْخَل صدق وأخرجْني مخرج صدق} [الاسراء: 80]، وقوله: {في مقعد صدق} [القمر: 55].
وفي الكلام محذوف، تقديره: أوحينا إِلى رجل منهم، فلما أتاهم الوحي {قال الكافرون إِن هذا لسحر مبين} قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {لَساحر} بألف.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر: {لَسحر} بغير ألف.
قال أبو علي: قد تقدم قوله: {أن أوحينا إِلى رجل منهم} فمن قال: ساحر، أراد الرجل؛ ومن قال: سحر، أراد الذي أُوحي، سحر، أي: الذي تقولون أنتم فيه: إِنه وحي، سحر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} استفهام معناه التقرير والتوبيخ.
و{عَجَبًا} خبر كان، واسمها {أَنْ أَوْحَيْنَا} وهو في موضع رفع؛ أي كان إيحاؤنا عجبًا للناس.
وفي قراءة عبد الله: {عجب} على أنه اسم كان.
والخبر {أَنْ أَوْحَيْنَا}.
{إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} قرئ {رَجْل} بإسكان الجيم.
وسبب النزول فيما رُوي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بُعث محمد: إن الله أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا.
وقالوا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيمَ أبي طالب؛ فنزلت: {أَكَانَ لِلنَّاسِ} يعني أهل مكة {عَجَبًا}.
وقيل: إنما تعجبوا من ذكر البعث.
قوله تعالى: {أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا} في موضع نصب بإسقاط الخافض؛ أي بأن أنذر الناس، وكذا {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ}.
وقد تقدّم معنى النّذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية.
واختلف في معنى {قَدَمَ صِدْقٍ} فقال ابن عباس: قدم صدق منزلَ صدق؛ دليله قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80].
وعنه أيضًا: أجرًا حسنًا بما قدّموا من أعمالهم.
وعنه أيضًا {قَدَمَ صِدْقٍ} سَبْقَ السعادة في الذكر الأوّل، وقاله مجاهد.
الزجاج: درجة عالية.
قال ذو الرُّمّة:
لكم قدَمٌ لا ينكر الناس أنها ** مع الحسب العالي طَمّت على البحر

قتادة: سلف صدق.
الربيع: ثواب صدق.
عطاء: مقام صدق.
يَمَانٍ: إيمان صدق.
وقيل: دعوة الملائكة.
وقيل: وَلدٌ صالح قدّموه.
الماورديّ: أن يوافق صدق الطاعة صدق الجزاء.
وقال الحسن وقتادة أيضًا: هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه شفيع مطاع يتقدّمهم؛ كما قال: «أنا فَرَطُكم على الحوض» وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال: «هي شفاعتي توسّلون بي إلى ربكم» وقال الترمذيّ الحكيم: قدّمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود.
وعن الحسن أيضًا: مصيبتهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد العزيز بن يحيى: {قَدَمَ صِدْقٍ} قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.
وقال مقاتل: أعمالًا قدّموها؛ واختاره الطبريّ.
قال الوضّاح:
صلِّ لذي العرش واتخذ قَدَمًا ** تُنْجيك يوم العِثار والزّلل

وقيل: هو تقديم الله هذه الأُمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة.
كما قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضيّ لهم قبل الخلائق» وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح؛ فكنّى عنه بالقَدَم كما يُكنَى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان.
وأنشد حسان:
لنا القَدم العليا إليك وخَلْفُنا ** لأوّلنا في طاعة الله تابع

يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم.
وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قَدَم؛ يقال: لفلان قَدَم في الإسلام، له عندي قَدَم صدقٍ وقَدَم شر وقَدَم خير.
وهو مؤنث وقد يذكر؛ يقال: قَدَم حَسَن وقدم صالحة.
وقال ابن الأعرابي: القدم التقدّم في الشرف؛ قال العَجّاج:
زلّ بنو العَوّام عن آل الحَكَمْ ** وتركوا المُلْك لملْك ذي قَدَم

وفي الصحاح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لي خمسة أسماء، أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يُحشر الناسُ على قدمي وأنا العاقب» يريد آخر الأنبياء؛ كما قال تعالى: {وَخَاتَمَ النبيين} [الأحزاب: 40].
قوله تعالى: {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} قرأ ابن مُحَيْصِن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش {لساحِر} نعتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الباقون {لِسَحْرٌ} نعتًا للقرآن وقد تقدّم معنى السحر في البقرة. اهـ.