فصل: صَدُّ الْكَنِيسَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَبَغْيُهُ عِوَجًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ ظَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقَةٌ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا لِشَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْعَرَبِيِّ مَلِكِ الْكَلْدَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ مُوسَى وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي حَفَائِرِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُسْتَمَدَّةٌ مِنْهَا لَا وَحْيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا شَرَحْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ وَذَكَرْنَا خُلَاصَتَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ (9: 30) وَهُوَ فِي (ص305 ج10 ط الْهَيْئَةِ) وَأَقَلُّ مَا يَقُولُهُ مُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ مُسْتَمَدَّةً مِنْهَا فَلَا تُعَدُّ أَحَقَّ مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حَمُورَابِيَ ادَّعَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
ثُمَّ يَرَى النَّاظِرُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلتَّوْرَاةِ مُتَعَبِّدِينَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ تَفْسِيرَهَا فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ وَبِأَبْنَائِهِمْ مَعَ عُلُومٍ أُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَيَرَى أَيْضًا أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي شَهِدَ الْمَسِيحَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ وَلَا بِنَبَأٍ غَيْبِيٍّ- بَلْ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَجَلُّهُمْ أَثَرًا، لَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ بَلْ كَانَ تَابِعًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ نَسْخِ قَلِيلٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ أَدَبِيٍّ لِجُمُودِ الْيَهُودِ الْمَادِّيِّ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا، فَأَمْكَنَ لِجَاحِدِي الْوَحْيِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَا يَكْثُرُ عَلَى رَجُلٍ مِثْلِهِ زَكِيِّ الْفِطْرَةِ ذَكِيِّ الْعَقْلِ نَاشِئٍ فِي حِجْرِ الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ وَالرُّوحَانِيَّةُ، أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا الْأَدَبِيَّةِ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَقُولُ هَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُهُ الْمَادِّيُّونَ وَالْمُلْحِدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ، وَأُلُوفٌ مِنْهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَذَاهِبِ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَلَا يَرْتَابُ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُفَكِّرُ غَيْرُ الْمُقَلِّدِ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِي أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ: مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ بَيَانِ هِدَايَةِ رُسُلِهِ، وَمِنْ عِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ الْمُرَقِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَمِنْ تَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ وَحُكْمِهِ الشُّورِيِّ الْمُرَقِّي لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ- كُلُّ ذَلِكَ أَرْقَى مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، بَلْ هُوَ الْإِصْلَاحُ الَّذِي بَلَغَ بِهِ دِينُ اللهِ أَعْلَى الْكَمَالِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا وَوِجْهَةِ نَظَرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ التَّفْسِيرِ (آخِرُهَا ص313 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
وَمَنْ نَظَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَسِيرَةِ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَائِرِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ يَرَى الْفَرْقَ الْعَظِيمَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِسِيرَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ؛ فَفِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَرَى وَصْفَ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالنَّدَمِ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَوَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي مِمَّا هُوَ قُدْوَةٌ سُوأَى، مِنْ حَيْثُ يَجِدُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ وَصْفِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِالْكَمَالِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، مَا هُوَ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَزِيدُ قَارِئَهَا إِيمَانًا وَهُدًى، فَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ تُشْبِهُ بُسْتَانًا فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ وَالشَّوْكِ، وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ وَالْحَشَرَاتِ، وَأَخْبَارُهُمْ فِي الْقُرْآنِ تُشْبِهُ الْعِطْرَ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْهَارِ، وَالْعَسَلَ الْمُشْتَارَ مِنْ تِلْكَ الثِّمَارِ، وَيَرَى فِيهِ رِيَاضًا أُخْرَى جَمَعَتْ جَمَالَ الْكَوْنِ كُلِّهِ.
وَنَدَعُ هُنَا ذِكْرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارُ فِي نَقْدِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَمِنْ أَخْصَرِهَا وَأَغْرَبِهَا كِتَابُ (أَضْرَارِ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) لِأَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ، وَالْقُرْآنُ خَالٍ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ.

.صَدُّ الْكَنِيسَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَبَغْيُهُ عِوَجًا:

إِنَّ رِجَالَ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَجِدُوا مَا يَصُدُّونَ بِهِ أَتْبَاعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ- بَعْدَ أَنْ رَأَوْهُ قَدْ قَضَى عَلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَادَ يَقْضِي عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، ثُمَّ امْتَدَّ نُورُهُ إِلَى الْغَرْبِ- إِلَّا تَأْلِيفَ الْكُتُبِ، وَنَظْمَ الْأَشْعَارِ وَالْأَغَانِي فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ وَنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَفُحْشِ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنِينَ أَكْذَبُ الْبَشَرِ وَأَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً لِلْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، فِي سَبِيلِ رِيَاسَتِهِمُ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ.
وَقَدْ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ يُصَدِّقُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَكْتُبُونَ. وَيَتَهَيَّجُونَ بِمَا يَنْظُمُونَ وَيُنْشِدُونَ، حَتَّى إِذَا مَا اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَرَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَعَاشَرُوهُمْ فَضَحُوهُمْ أَقْبَحَ الْفَضَائِحِ، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ (الْإِسْلَامِ خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْكُونْتِ دِي كَاسْتِرِي، وَكَمَا تَرَى فِي الْكِتَابِ الْفَرَنْسِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَاسِمِ (حَيَاةِ مُحَمَّدٍ) لِلْمُوسِيُو دِرِمِنْغَامْ وَهَذَانِ الْكِتَابَانِ فَرَنْسِيَّانِ مِنْ طَائِفَةِ الْكَاثُولِيكِ اللَّاتِينِ، وَقَدْ صَرَّحَا كَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ كَنِيسَتَهُمْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَبِأَدَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّفَاعِ.
وَلَمَّا ظَهَرَتْ طَائِفَةُ الْبُرُوتُسْتَانِ وَغَلَبَ مَذْهَبُهَا فِي شُعُوبِ الْأَنْجُلُوسَكْسُونِ وَالْجِرْمَانِ، وَكَانَ الْفَضْلُ فِي دَعْوَتِهِمُ الْإِصْلَاحِيَّةِ لِمَا انْعَكَسَ عَلَى أُورُبَّةَ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَتَعَفَّفْ قُسُوسُهُمْ وَدُعَاتُهُمْ (الْمُبَشِّرُونَ) عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَلَا تَجَمَّلُوا فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّزَاهَةِ وَالْأَدَبِ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مَطَاعِنِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَسُوءِ أَدَبِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا نَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنِ الَّذِينَ أَنْصَفُوا الْإِسْلَامَ مِنْ أَحْرَارِ عُلَمَائِهِمْ أَصْرَحُ قَوْلًا، وَلَعَلَّهُمْ أَكْثَرُ مِنَ اللَّاتِينِ عَدَدًا، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ فِي تَرْبِيَتِهِمْ أَقْوَى، وَسَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الْإِسْلَامَ فِي أُورُبَّةَ وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرْكَانِيَّةِ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْعَالَمِ كَمَا جَزَمَ الْعَلَّامَةُ بِرْنَارْدُ شُو الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ).

.مسألة: الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ أَيِ الْخَوَارِقِ:

بَقِيَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِهَا الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهَا. وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مَنْ تَجَرُّدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ لِبَاسِهَا، وَهِيَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ لَا لَهُ، وَصَادَّةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَنْهُ لَا مُقْنِعَةً بِهِ، وَلَوْلَا حِكَايَةُ الْقُرْآنِ لِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَكَانَ إِقْبَالُ أَحْرَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، وَاهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَعَمَّ وَأَسْرَعَ؛ لِأَنَّ أَسَاسَهُ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ، وَتَرْقِيَةِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَمَّا آيَتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هِيَ الْقُرْآنُ، وَأُمِّيَّةُ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فَهِيَ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ.
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ وَأَمَّا تِلْكَ الْعَجَائِبُ الْكَوْنِيَّةُ فَهِيَ مَثَارُ شُبَهَاتٍ وَتَأْوِيلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي رِوَايَتِهَا وَفِي صِحَّتِهَا وَفِي دَلَالَتِهَا وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَقَعُ مِنْ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْمَنْقُولُ مِنْهَا عَنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنِ الْعَهْدَيْنِ: الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَنْ مَنَاقِبِ الْقِدِّيسِينَ؛ وَهِيَ مِنْ مُنَفِّرَاتِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الدِّينِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيهَا مِنَ الْفَصْلِ.

.الْعَجَائِبُ وَمَا لِلْمَسِيحِ مِنْهَا:

جَاءَ فِي تَعْرِيفِ الْعَجَائِبِ وَأَنْوَاعِهَا مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ:
(عَجِيبَةٌ: حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ مَجْرَى الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ إِرْسَالِيَّةِ مَنْ جَرَتْ عَلَى يَدِهِ أَوْ فِيهِ. وَالْعَجِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ لَا ضِدُّهَا تَحْدُثُ بِتَوْقِيفِ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ لَا بِمُعَاكَسَتِهَا، وَهِيَ إِظْهَارُ نِظَامٍ أَعْلَى مِنَ الطَّبِيعَةِ يَخْضَعُ لَهُ النِّظَامُ الطَّبِيعِيُّ، وَلَنَا فِي فِعْلِ الْإِرَادَةِ مِثَالٌ يُظْهِرُ لَنَا حَقِيقَةَ أَمْرِ الْعَجَائِبِ إِذْ بِهَا نَرْفَعُ الْيَدَ وَبِذَلِكَ نُوقِفُ نَامُوسَ الثِّقَلِ وَيَتَسَلَّطُ اللهُ عَلَى قُوَى الطَّبِيعَةِ، وَيُرْشِدُهَا، وَيَمُدُّ مَدَارَهَا أَوْ يَحْصُرُهُ؛ لِأَنَّهَا عَوَامِلُ لِمَشِيئَتِهِ وَيُنَاطُ فِعْلُ الْعَجَائِبِ بِاللهِ وَحْدَهُ أَوْ بِمَنْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ.
وَإِذَا آمَنَّا بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ بِإِمْكَانِ الْعَجَائِبِ. وَكَانَتِ الْعَجِيبَةُ الْأَوْلَى خَلِيقَةَ الْكَوْنِ مِنَ الْعَدَمِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى. أَمَّا الْمَسِيحُ فَأُقْنُومُهُ عَجِيبَةٌ أَدَبِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَجَائِبُهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا إِظْهَارَ هَذَا الْأُقْنُومِ وَأَعْمَالِهِ، وَإِذَا آمَنَّا بِالْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ الْعَدِيمِ الْخَطِيَّةِ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا تَصْدِيقُ عَجَائِبِهِ. أَمَّا الشَّيْطَانُ فَعَجَائِبُهُ كَذَّابَةٌ.
وَلَابُدَّ مِنَ الْعَجَائِبِ لِتَعْزِيزِ الدِّيَانَةِ، فَكَثِيرًا مَا يَسْتَشْهِدُ الْمَسِيحُ بِعَجَائِبِهِ لِإِثْبَاتِ هُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ الْمَسِيحَ، وَكَانَ يَفْعَلُهَا لِتَمْجِيدِ اللهِ وَلِمَنْفَعَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ، كَانَ يَفْعَلُهَا ظَاهِرًا أَمَامَ جَمَاهِيرِ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَعْدَاؤُهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهَا لِبَعْلَزْبُولَ، وَسَوَاءٌ امْتَحَنَّاهَا بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَبِمُنَاسَبَتِهَا إِلَى إِرْسَالِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ الْغَرَضِ صَحِيحَةً. فَإِذَا لَمْ نُسَلِّمْ بِصِحَّتِهَا الْتَزَمْنَا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ مُقَرِّرِيهَا كَذَّابُونَ؛ الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَسُوغُ ظَنُّهُ بِالْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ.
وَبَقِيَتْ قُوَّةُ الْعَجَائِبِ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ، وَلَمَّا امْتَدَّتِ الدِّيَانَةُ الْمَسِيحِيَّةُ زَالَ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْآنَ سِوَى الْعَجَائِبِ الْأَدَبِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَانَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الدَّاخِلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ). اهـ.
ثُمَّ وَضَعَ الْمُؤَلِّفُ حُلُولًا أَحْصَى فِيهِ عَجَائِبَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ خَرَابِ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِلَى خَلَاصِ يُونَانَ (يُونُسَ) بِوَاسِطَةِ حُوتٍ فَبَلَغَتْ 67 عَجِيبَةً، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِجَدْوَلِ الْعَجَائِبِ الْمَقْرُونَةِ بِحَيَاةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْحَبَلِ بِهِ (بِفِعْلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ) إِلَى (الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ) فَبَلَغَتْ 37، وَعَزَّزَ الْجَدْوَلَيْنِ بِثَالِثٍ فِي (الْعَجَائِبِ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ) أَيِ الَّذِينَ بَثُّوا دَعْوَةَ الْمَسِيحِ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ (انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ) إِلَى (شِفَاءِ أَبِي بُوبْلِيُوسَ وَغَيْرِهِ) فَكَانَتْ عِشْرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ.

.بَحْثٌ فِي عَجَائِبِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

أَقُولُ: إِنَّ 27 مِنْ عَجَائِبِ الْمَسِيحِ الْمَذْكُورَةِ شِفَاءُ مَرْضَى وَمَجَانِينَ لَابَسَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا إِقَامَةُ مَوْتَى عَقِبَ مَوْتِهِمْ، وَمَا بَقِيَ فَمَسْأَلَةُ الْحَبَلِ بِهِ وَتَحْوِيلُهُ الْمَاءَ إِلَى خَمْرٍ وَسَحْبِ الشَّبَكَةِ فِي بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَإِشْبَاعِ خَمْسَةِ آلَافٍ مَرَّةً وَأَرْبَعَةِ آلَافٍ مَرَّةً أُخْرَى، وَضَرْبُ التِّينَةِ الْعَقِيمَةِ بِمَا أَيْبَسَهَا، وَقِيَامَةُ الْمَسِيحِ، وَصَيْدُ السَّمَكِ وَالصُّعُودِ.
وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ رِوَايَةَ الْأَنَاجِيلِ لِأَهَمِّهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَنَذْكُرُ مَا يَقُولُهُ فِيهَا مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ شَابٌّ مِنْ مَدِينَةِ نَابِينَ كَانَ مَحْمُولًا فِي جَنَازَةٍ وَأُمُّهُ تَبْكِي فَاسْتَوْقَفَ النَّعْشَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ؛ فَجَلَسَ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ (لُوقَا 7: 11- 16).
الثَّانِي: صَبِيَّةٌ مَاتَتْ فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا وَكَانَ رَئِيسًا: ابْنَتِي الْآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا. فَجَاءَ بَيْتَ الرَّئِيسِ وَوَجَدَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ (تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ) فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الْجَمْعَ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ (مَتَّ 9: 18- 24).
فَمُنْكِرُو الْعَجَائِبِ يَقُولُونَ إِنَّ كُلًّا مِنَ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ لَمْ يَكُونَا قَدْ مَاتَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَدْ قَامُوا مِنْ نُعُوشِهِمْ، بَلْ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَلِذَلِكَ تَمْنَعُ الْحُكُومَاتُ الْمَدَنِيَّةُ دَفْنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْتُبَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ شَهَادَةً بِمَوْتِهِ.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْآيَاتِ أَنْ يَجْزِمُوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مَيِّتَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ (لِيعَازِرُ) حَبِيبُهُ وَأَخُو مَرْثَا وَمَرْيَمَ حَبِيبَتِهِ: مَرِضَ فِي قَرْيَتِهِمْ (بَيْتِ عَنَيَا) فَأَرْسَلَتَا إِلَى الْمَسِيحِ قَائِلَتَيْنِ: (هُوَ ذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ) فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ وَحَضَرَ فَوَجَدَ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَاقَتْهُ مَرْثَا وَقَالَتْ: يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي، ثُمَّ دَعَتْ أُخْتَهَا مَرْيَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً كَمَا قَالَتْ مَرْثَا، وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا إِلَى عِنْدِ الْقَبْرِ لِلْبُكَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ (انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ) وَقَالَ: (أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟) فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ فَبَكَى وَانْزَعَجَ فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ، فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحَجَرِ فَرَفَعُوهُ (وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: أَيُّهَا الْأَبُ أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي) وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ (لِعَازِرَ! هَلُمَّ خَارِجًا) فَخَرَجَ الْمَيِّتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مَرْبُوطَتَانِ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ. انْتَهَى. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ 11 مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا.
أَتَدْرِي أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا يَقُولُ مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ؟ إِنَّنِي سَمِعْتُ طَبِيبًا سُورِيًّا بُرُوتُسْتَنْتِيًّا يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ بِتَوَاطُؤٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ حَبِيبَتَيْهِ وَحَبِيبِهِ لِإِقْنَاعِ الْيَهُودِ بِنُبُوَّتِهِ. وَحَاشَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا نَنْقُلُ هَذَا لِنُبَيِّنَ أَنَّ النَّصَارَى لَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ فَضْلًا عَنْ أُلُوهِيَّتِهِ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ وَتَنْفِي الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا فَهِمَ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ إِلَى كَاتِبِيهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا، دَعْ قَوْلَ الْمُنْكِرِينَ بِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَالِ وَالتَّلْبِيسِ أَوِ الْمُصَادَقَةِ فِيهَا، أَوْ عَدَّهُمْ إِيَّاهَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا مِنْ فَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ.
وَإِذَا كَانَ أَعْظَمُهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ يَحْتِمَلُ مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ فَمَا الْقَوْلُ فِي شِفَاءِ الْمَرْضَى وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَا يَدَّعِي الْعَوَّامُ مِنْ دُخُولِ الشَّيَاطِينِ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ مَا هُوَ إِلَّا أَمْرَاضٌ عَصَبِيَّةٌ تُشْفَى بِالْمُعَالَجَةِ أَوْ بِالْوَهْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَدُونَهَا مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالسَّمَكِ وَيُبْسِ التِّينَةِ.
آيَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَسَائِرُ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ:
هَذَا وَإِنَّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ تَارَةً وَبِالْمُرْسَلَةِ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم هِيَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ مَا رَوَاهُ الْإِنْجِيلِيُّونَ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّأْوِيلِ. وَلَمْ يَجْعَلْهَا بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ وَلَا أَمَرَ بِتَلْقِينِهَا لِلنَّاسِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ قَائِمَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي ثُبُوتِهَا وَفِي مَوْضُوعِهَا؛ لِأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ بَدَءُوا يَدْخُلُونَ فِي سِنِّ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ النَّوْعِيِّ الَّذِي لَا يَخْضَعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ فِيهِ لِاتِّبَاعِ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنِّظَامِ الْمَأْلُوفِ فِي سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ لَا يَكْمُلُ ارْتِقَاؤُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ مَوَانِعِهِ، فَجَعَلَ حُجَّةَ نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَيْنَ مَوْضُوعِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كِتَابُهُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ بِهِدَايَتِهِ وَعُلُومِهِ وَإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ: كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِيُرَبِّيَ الْبَشَرَ عَلَى التَّرَقِّي فِي هَذَا الِاسْتِقْلَالِ، إِلَى مَا هُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ.