فصل: دَرْسُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ لِلسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَشَهَادَتُهُمْ بِصِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ النُّبُوَّاتِ الْخَاصَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَالنُّبُوَّةِ الْعَامَّةِ الْبَاقِيَةِ، قَدْ عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ (الْعَجَائِبَ) عَلَى رَسُولِهِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ، وَبِهِدَايَتِهِ وَبِعُلُومِهِ وَبِإِعْجَازِهِ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَلَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (17: 88).
وَأَمَّا مَا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ: كَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَاسْتِعْدَادًا بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَالنَّصْرِ فِيهَا، ثُمَّ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ إِذْ تَأَلَّبَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحَاطُوا بِمَدِينَتِهِمْ فَرَدَّهُمُ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ شِفَاءُ الْمَرْضَى وَإِبْصَارُ الْأَعْمَى وَإِشْبَاعُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا وَقَعَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ اللهِ السَّحَابَ لِإِسْقَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَثْبِيتُ أَقْدَامِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَسِيخُ فِي الرَّمْلِ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يُصِبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْثِهَا شَيْءٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذْ نَفِدَ مَاءُ الْجَيْشِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْحَرُّ شَدِيدٌ حَتَّى كَانُوا يَذْبَحُونَ الْبَعِيرَ وَيُخْرِجُونَ الْفَرْثَ مِنْ كَرِشِهِ لِيَعْتَصِرُوهُ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَقِلُّ مَنْ يَجِدُ مِنْ عُصَارَتِهِ مَا يَشْرَبُهُ شُرْبًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى كَانَتِ السَّمَاءُ قَدْ سَكَبَتْ لَهُمْ مَاءً مَلَئُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الرَّوَايَا وَلَمْ تَتَجَاوَزْ عَسْكَرَهُمْ.
تَأْثِيرُ الْعَجَائِبِ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ.
لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ الْمُرْسَلِينَ حُجَّةً عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ اسْتَحَقُّوا بِجُحُودِهَا عَذَابَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا مِمَّنْ شَاهَدُوهَا إِلَّا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ بِهَا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَإِنَّ أَكْثَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْقِلُوهَا، وَقَدِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا. وَقَالَ الْيَهُودُ فِي الْمَسِيحِ: لَوْلَا أَنَّهُ رَئِيسُ الشَّيَاطِينِ لَمَا أَخْرَجَ الشَّيْطَانَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَقَالُوا: إِنَّ إِبْلِيسَ أَوْ بَعْلَزْبُولَ يَفْعَلُ أَكْبَرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَقَدْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ سَحَابَةً وَاحِدَةً فِي إِبَّانِ الْقَيْظِ قَدْ مَطَرَتْ عَسْكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ عِنْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّنَا مُطِرْنَا بِتَأْثِيرِ النَّوْءِ لَا بِدُعَائِهِ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِنَّمَا خَضَعَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ لِمَا لَا يَعْقِلُونَ لَهُ سَبَبًا، وَقَدِ انْطَوَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ فَالْآتِي بِهِ مَظْهَرٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْخَالِقَ نَفْسَهُ وَكَانَ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ يَخْضَعُ مِثْلَ هَذَا الْخُضُوعِ نَفْسِهِ لِلسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ وَالدَّجَّالِينَ وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ.
وَقَدْ نَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطَوْنَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يَضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا (مَتَّى 24: 24) وَقَدْ ذَكَرَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْهُمْ وَأَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْهُمُ الْقَادْيَانِيُّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ مُسْلِمِي الْهِنْدِ، وَتَذْكُرُ صُحُفُ الْأَخْبَارِ ظُهُورَ هِنْدِيٍّ آخَرَ يُرِيدُ إِظْهَارَ عَجَائِبِهِ فِي أَمْرِيكَا فِي هَذَا الْعَامِ وَنَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: (الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ مَقْبُولًا فِي وَطَنِهِ) وَجَعَلَ الْقَاعِدَةَ لِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ فِي النَّاسِ لَا الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ فَقَالَ: (مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ) وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَهُ- وَلَا قَبْلَهُ- نَبِيٌّ كَانَتْ ثِمَارُهُ الطَّيِّبَةُ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ كَثِمَارِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (16: 12) إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ، وَأَمَّا مَتَّى جَاءَ ذَلِكَ (أَيِ الْبَارْقَلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ) إِلَخْ وَمَا جَاءَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَشْرِيعٍ وَحِكْمَةٍ وَتَأْدِيبٍ غَيْرَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ.
وَمَنِ اسْتَقْرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَكْثَرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَجَائِبِ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، وَرَأَى الْجَمِيعَ يَنْقُلُونَ مِنْهَا عَنْ مُعْتَقِدِيهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَلُوا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا مِنَ الْخُرَافِيِّينَ.
ثُبُوتُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِهَا وَإِثْبَاتِهَا لِغَيْرِهَا:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَدْ ثَبَتَتْ بِنَفْسِهَا، أَيْ بِالْبُرْهَانِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لَا بِالْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ قَائِمٌ مَاثِلٌ لِلْعُقُولِ وَالْحَوَاسِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ آيَاتِ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ إِلَّا بِثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَالْحُجَّةُ الْوَحِيدَةُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الطَّوْرِ الْعِلْمِيِّ الِاسْتِقْلَالِيِّ مِنْ أَطْوَارِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ هُوَ شَهَادَتُهُ لَهَا. فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي نَقَلَتْهَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عَزْوِهَا إِلَى مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ؛ إِذْ لَا يُوجَدُ نُسَخٌ مِنْهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِاللُّغَاتِ الَّتِي كَتَبُوهَا بِهَا لَا تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا كَتَبُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَعَارُضِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ صِحَّةِ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ بِهَا، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ مِرَارًا.
الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ بِنَصِّهِ الْحَرْفِيِّ تَوَاتُرًا عَمَّنْ جَاءَ بِهِ بِطَرِيقَتَيِ الْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالنَّبِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ تَارِيخُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّصِلَةِ الْأَسَانِيدِ حِفْظًا وَكِنَايَةً هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَالدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ أَنْ يَعْقِلُوهُ وَيَبْنُوا عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا خُلَاصَةُ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ لِثُبُوتِ قَضَايَاهُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، فَهُوَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي جَمِيعِ أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ دُعَاةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى تَرْكِ الشُّرُورِ وَالرَّذَائِلِ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ يَبْنُونَ إِرْشَادَهُمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيَضُرُّهُمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ- وَوُجِدَ فِي جَمِيعِ مَا نُقِلَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أُمُورٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَلِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَأُمُورٌ خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَبِزَمَانِهِمْ، وَخُرَافَاتٌ يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ وَيَنْقُضُهَا الْعِلْمُ.
وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّهُ هُوَ الدِّينَ الْوَحِيدَ الَّذِي عُرِفَتْ حَقِيقَتُهُ وَتَارِيخُهُ بِالتَّفْصِيلِ فَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا شُبْهَةَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيِّينَ وَمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي شَهَادَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ لَهُ، تَمْهِيدًا لِدَحْضِ الشُّبْهَةِ، وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، فَنَقُولُ:

.دَرْسُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ لِلسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَشَهَادَتُهُمْ بِصِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم:

دَرَسَ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ تَارِيخَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي النَّقْدِ وَالتَّحْلِيلِ، وَدَرَسُوا السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَفَلَوْهَا فَلْيًا وَنَقَشُوهَا بِالْمَنَاقِيشِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ وَقَرَءُوا مَا تَرْجَمَهُ بِهِ أَقْوَامُهُمْ، وَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مُحِيطٍ بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَتَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَلاسيما الدِّيَانَتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِمَا كَتَبَهُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْكَنِيسَةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ آنِفًا، فَخَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ كُلِّهَا بِالنَّتِيجَةِ الْآتِيَةِ:
(إِنَّ مُحَمَّدًا كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، كَامِلَ الْعَقْلِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، صَادِقَ الْحَدِيثِ، عَفِيفَ النَّفْسِ، قَنُوعًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، غَيْرَ طَمُوعٍ بِالْمَالِ وَلَا جَنُوحٍ إِلَى الْمُلْكِ، وَلَا يُعْنَى بِمَا كَانَ يُعْنَى بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْفَخْرِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي تَحْبِيرِ الْخُطَبِ وَقَرْضِ الشِّعْرِ، وَكَانَ يَمْقُتُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَيَحْتَقِرُ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ سِيرَتِهِ وَيَقِينِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سِنِّهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَإِقْرَائِهِ إِيَّاهُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْبَائِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ قَوْمِهِ فَسَائِرِ النَّاسِ).
وَزَادَهُمْ ثِقَةً بِصِدْقِهِ أَنْ كَانَ أَوَّلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِهِ وَاهْتِدَاءً بِنُبُوَّتِهِ أَعْلَمَهُمْ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلُهُمْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّبْلِ وَالْفَضِيلَةِ، وَمَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَالِدِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَكُونَ مَعَهُمْ حُرًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَرَبِ حُرِّيَّةً وَاسْتِقْلَالًا فِي الرَّأْيِ وَلاسيما أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا خَالِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَدْ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى عِلْمٍ وَبُرْهَانٍ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، بِقَدْرِ مَا يُتَاحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَوِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا، وَبِتَصْوِيرِهَا بِالصُّورَةِ الَّتِي يَقْبَلُهَا الْعَقْلُ، الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِمَا وَرَاءَ الْمَادَّةِ أَوِ الطَّبِيعَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
قَدَحُوا زِنَادَ الْفِكْرِ، وَاسْتَوَرُوا بِهِ نَظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفَةِ، فَلَاحَ لَهُمْ مِنْهُ سَقْطٌ أَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهِ الضَّئِيلِ الصُّورَةَ الْخَيَالِيَّةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا الْأُسْتَاذُ مُونْتِيِهْ فِي عِبَارَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ آنِفًا وَفَصَّلَهَا إِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ وَغَيْرُهُ بِمَا نَشْرَحُهُ هَاهُنَا.

.شُبْهَةُ مُنْكِرِي عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، وَتَصْوِيرُهُمْ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

خُلَاصَةُ رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ أَنَّ الْوَحْيَ إِلْهَامٌ يَفِيضُ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ الْعَالِيَةَ، وَسَرِيرَتَهُ الطَّاهِرَةَ، وَقُوَّةَ إِيمَانِهِ بِاللهِ وَبِوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَثَنِيَّةٍ، وَتَقَالِيدَ وِرَاثِيَّةٍ، يَكُونُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يَتَجَلَّى فِي ذِهْنِهِ وَيُحْدِثُ فِي عَقْلِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ، فَيَتَصَوَّرُ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ إِرْشَادًا إِلَهِيًّا نَازِلًا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ يَتَمَثَّلُ لَهُ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَدْ يَسْمَعُهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْيَقَظَةِ كَمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْوَحْيِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْ كَلَامٍ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَوْ مَلَكٌ أَلْقَاهُ عَلَى سَمْعِهِ فَهُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ عِنْدَهُ.
يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيُّونَ: نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ عَمَّا رَأَى وَسَمِعَ، وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ مَنْبَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ جَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ؛ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مَا يَنْفِيهِ وَيُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ، وَإِنَّمَا نُفَسِّرُ الظَّوَاهِرَ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ بِمَا عَرَفْنَا وَثَبَتَ عِنْدَنَا دُونَ مَا لَمْ يَثْبُتْ.
وَيَضْرِبُونَ مَثَلًا لِهَذَا الْوَحْيِ قِصَّةَ جَانْ دَارْكِ الْفَتَاةِ الْإِفْرَنْسِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ قَدَاسَتَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بِزَمَنٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الَّذِي يُصَوِّرُونَ بِهِ ظَاهِرَةَ الْوَحْيِ قَدْ سَرَتْ شُبْهَتُهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرْتَابِينَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ فِي نَظَرِيَّاتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ أَوْ يَقْتَنِعُونَ بِهَا.
وَإِنَّنِي أَفْتَتِحُ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ بِالْكَلَامِ عَلَى جَانْ دَارْكْ فَقَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ سُؤَالٌ عَنْهَا نَشَرْتُهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فِي صَفْحَةِ 788 مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ 1321 هـ) وَهَذَا نَصُّهُ:

.شُبْهَةٌ عَلَى الْوَحْيِ:

حَضْرَةَ الْأُسْتَاذِ الرَّشِيدِ: عَرَضَتْ لِي شُبَهَاتٌ فِي وُقُوعِ الْوَحْيِ (وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ) فَعَمَدْتُ إِلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ- حَيْثُ وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَيْهَا- وَقَرَأْتُ فِي بَابَيْ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْوَحْيِ) و(إِمْكَانِ الْوَحْيِ) فَوَجَدْتُ الْكَلَامَ وَجِيهًا مَعْقُولًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّيْءِ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ، وَكَذَا إِمْكَانُهُ وَعَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ. ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدُ مِنْ أَنَّ حَالَةَ النَّبِيِّ وَسُلُوكَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَبِوُقُوعِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ دَلِيلُ نُبُوَّتِهِ وَتَأْيِيدُ بَعْثَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ (كَوْنُ) النَّبِيِّ حَمِيدَ السِّيرَةِ فِي عَشِيرَتِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَتِهِ- أَعْنِي مُعْتَقِدًا فِي نَفْسِهِ- سَبَبًا فِي نُهُوضِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الِاعْتِقَادِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
وَلَقَدْ حَدَثَ بِفَرَنْسَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ إِذْ كَانَتْ مَقْهُورَةً لِلْإِنْكِلِيزِ أَنَّ بِنْتًا تُدْعَى (جَانْ دَارْكْ) مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ سِيرَةً وَأَسْلَمِهِنَّ نِيَّةً اعْتَقَدَتْ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا بَعِيدَةً عَنِ التَّكَالِيفِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِإِنْقَاذِ وَطَنِهَا وَدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَصَارَتْ تَسْمَعُ صَوْتَ الْوَحْيِ فَأَخْلَصَتْ فِي الدَّعْوَةِ لِلْقِتَالِ، وَتَوَصَّلَتْ بِصِدْقِ إِرَادَتِهَا إِلَى رِئَاسَةِ جَيْشٍ صَغِيرٍ وَغَلَبَتْ بِهِ الْعَدُوَّ فِعْلًا، ثُمَّ مَاتَتْ غِبَّ نُصْرَتِهَا مَوْتَةَ الْأَبْطَالِ مِنَ الرِّجَالِ، إِذْ خَذَلَهَا قَوْمُهَا، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ عَدُوِّهَا فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ حَيَّةً، فَذَهَبَتْ تَارِكَةً فِي صَحَائِفِ التَّارِيخِ اسْمًا يَعْبَقُ نَشْرُهُ وَتَضُوعُ رَيَّاهُ، وَهِيَ الْآنَ مَوْضِعُ إِجْلَالِ الْقَوْمِ وَإِعْظَامِهِمْ، فَلَقَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمُ النَّهْضَةُ بَعْدَهَا وَجَرَوْا فِي الْعِلْمِ وَالرُّقِيِّ بَعِيدًا.
فَهَلْ نَجْزِمُ لِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ نَبِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ؟؟ رُبَّمَا تَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهَا لَا يُذْكَرُ مُقَارَنًا بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا وَصَلَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهِمْ، فَأَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مِنْ مِيزَانٍ نَزِنُ بِهِ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ لِنَعْلَمَ إِنْ كَانَتْ وَصَلَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا أَنْ نُصَدِّقَ دَعْوَةَ صَاحِبِهَا؟ وَهَلْ لَوْ سَاعَدَتِ الصُّدَفُ (كَذَا) رَجُلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ النَّاسِ فِعْلًا وَأَبْقَاهُمْ أَثَرًا وَاعْتَقَدَ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ لِوَهْمٍ قَامَ (عِنْدَهُ) يُفْضِي بِنَا ذَلِكَ إِلَى التَّيَقُّنِ مِنْ رِسَالَتِهِ؟
أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُضَافًا لِغَيْرِهِ يَدْعُو إِلَى التَّرْجِيحِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ أَبَدًا. عَلَى أَنَّنِي أَنْتَظِرُ أَنْ تَجِدُوا فِي قَوْلِي هَذَا خَطَأً تُقْنِعُونِي بِهِ أَوْ تَزِيدُونِي إِيضَاحًا يَنْكَشِفُ بِهِ الْحِجَابُ وَتَنَالُونَ بِهِ الثَّوَابَ. هَذَا وَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ فِئَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَفَّظُونَ فِي الْكِتْمَانِ، وَيَسْأَلُونَ الْكُتُبَ خَشْيَةَ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ فِي السُّؤَالِ عَارًا، وَكُلُّ عَقْلٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَيَزِلُّ وَيَسْتَقِيمُ. (أَحَدُ قُرَّائِكُمْ).

.جَوَابُ الْمَنَارِ:

لَقَدْ سَرَّنَا مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يُذْعِنْ لَهَا تَمَامَ الْإِذْعَانِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِي تَعَدِّي حُدُودِ الدِّينِ إِلَى فَضَاءِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَامَ، بَلْ أَطَاعَ شُعُورَ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَلَجَأَ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ السُّؤَالِ مِمَّنْ يُظَنُّ فِيهِمُ الْعِلْمُ بِمَا يَكْشِفُ الشُّبْهَةَ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَنْصَرِفُونَ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ أَوَّلِ قَذْعَةٍ مِنَ الشُّبَهِ تَلُوحُ فِي فَضَاءِ أَذْهَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شَبُّوا عَلَى حُبِّ التَّمَتُّعِ وَالِانْغِمَاسِ فِي اللَّذَّةِ، وَيَرَوْنَ الدِّينَ صَادًّا لَهُمْ عَنِ الِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهَا، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِمَاتَةَ شُعُورِهِ الْفِطْرِيِّ، كَمَا أَمَاتَ النُّشُوءُ فِي الْجَهْلِ بُرْهَانَهُ الْكَسْبِيَّ.