فصل: بَابُ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بَابُ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

افْتَتَحَ الْبَابَ بَلِ الْكِتَابَ كُلَّهُ بِرِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ- وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمَثَلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ:
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (96: 1- 3) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَبَرِ مَا أَرَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ «بَيْنَا أَنَا مَاشٍ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (74: 1- 5) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ». اهـ.
(وَأَقُولُ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا أَنَّ أَوَّلَهَا أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مُطْلَقًا وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنَّهَا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَالَّتِي هُنَا وَقَدْ عَبَّرَ صلى الله عليه وسلم عَنْ رُعْبِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: «فَجُئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ» أَيْ فَزِعْتُ وَخِفْتُ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِالتَّاءِ لِلْمَفْعُولِ.
هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ تَامَّةً وَبَعْدَهَا بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ {ن وَالْقَلَمِ} (68: 1) وَهُوَ غَلَطٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْجِيهِ كَوْنِهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ تَامَّةٍ بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِالتَّمْهِيدِ التَّكْوِينِيِّ ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ الْإِجْمَالِيِّ وَتَلَاهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ وَنُزُولُ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ أَوْ نَزَلَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

.بَسْطُ مَا يُصَوِّرُونَ بِهِ الْوَحْيَ النَّفْسِيَّ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:

هَأَنَذَا قَدْ بَسَطْتُ جَمِيعَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَحَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَوَطَنِهِ، وَمَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ خَلَوَاتِهِ وَتَحَنُّثِهِ وَتَفَكُّرِهِ فِيهَا، وَقَفَّيْتُ عَلَيْهَا بِأَصَحِّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَكَيْفَ كَانَ بَدْؤُهُ وَفَتْرَتُهُ، ثُمَّ كَيْفَ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِتَبْلِيغِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَكَيْفَ حَمِيَ وَتَتَابَعَ.
وَأُبَيِّنُ الْآنَ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ قَدْ نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ وَأَفْكَارِهِ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي وِجْدَانِهِ وَعَقْلِهِ، بِمَا لَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ فِي تَقْرِيبِهِ إِلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ أُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ وَالصَّحِيحِ مِنْ وَصْفِ حَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقُولُ:
يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْلَ مُحَمَّدٍ الْهُيُولَانِيَّ قَدْ أَدْرَكَ بِنُورِهِ الذَّاتِيِّ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا أَدْرَكَ ذَلِكَ أَفْرَادٌ آخَرُونَ مِنْ قَوْمِهِ- آمَنَّا وَصَدَّقْنَا- وَإِنَّ فِطْرَتَهُ الزَّكِيَّةَ قَدِ احْتَقَرَتْ مَا كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ- آمَنَّا وَصَدَّقْنَا- وَإِنَّ فَقْرَهُ وَفَقْرَ عَمِّهِ (أَبِي طَالِبٍ) الَّذِي كَفَلَهُ صَغِيرًا قَدْ حَالَ دُونَ انْغِمَاسِهِ فِيمَا كَانُوا يُسْرِفُونَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالشَّهَوَاتِ، مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَعَزْفِ الْقِيَانِ- الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ احْتِقَارًا لَهُ لَا عَجْزًا عَنْهُ-
وَأَنَّهُ طَالَ تَفَكُّرُهُ فِي إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ الْقَبِيحِ وَتَطْهِيرِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ- لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ-، وَإِنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ أَسْفَارِهِ وَمِمَّنْ لَقِيَهُ فِيهَا وَفِي مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنَ النَّصَارَى كَثِيرًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ- هَذَا وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَا يَضُرُّنَا-، وَإِنَّ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مَقْبُولَةً فِي عَقْلِهِ لِمَا عَرَضَ لِلنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الْبِدَعِ- هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مَعْقُولٌ غَيْرُ مَنْقُولٍ- وَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِثْلَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ قَدْ بَشَّرَ به.
عِيسَى الْمَسِيحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ- وَإِنَّ هَذَا عَلَقَ بِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ الَّذِي آنَ أَوَانُهُ- وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ لَهُمْ مِمَّا قَبْلَهُ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ- وَنَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَوِيَ هُنَالِكَ إِيمَانُهُ، وَسَمَا وِجْدَانُهُ، فَاتَّسَعَ مُحِيطُ تَفَكُّرِهِ، وَتَضَاعَفَ نُورُ بَصِيرَتِهِ، فَاهْتَدَى عَقْلُهُ الْكَبِيرُ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُبْدِعِ الْوُجُودِ، وَسِرِّ النِّظَامِ السَّارِي فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، بِمَا صَارَ بِهِ أَهْلًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَا زَالَ يُفَكِّرُ وَيَتَأَمَّلُ، وَيَنْفَعِلُ وَيَتَمَلْمَلُ، وَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْآلَامِ وَالْآمَالِ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ، الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَتَجَلَّى لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي الرُّؤَى الْمَنَامِيَّةِ، ثُمَّ قَوِيَ حَتَّى صَارَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ يُلَقِّنُهُ فِي الْيَقَظَةِ.
وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ فَهِيَ مُسْتَمَدَّةُ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِمَّا هَدَاهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَفَكُّرُهُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَجَلَّى لَهُ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا خِطَابُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ بِوَاسِطَةِ النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ مَلَكِ الْوَحْيِ جِبْرِيلَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْمِصْرِيِّينَ: إِنْ سُولُونَ الْحَكِيمَ الْيُونَانِيَّ وَضَعَ قَانُونًا وَشَرِيعَةً لِقَوْمِهِ فَلَيْسَ بِدْعًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يَضَعَ مُحَمَّدٌ شَرِيعَةً أَيْضًا، وَسَأُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الرَّأْيِ.

.تَفْنِيدُ تَصْوِيرِهِمْ لِلْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَإِبْطَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ:

(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ أَكْثَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَخَذُوا مِنْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةَ هِيَ آرَاءٌ مُتَخَيَّلَةٌ، أَوْ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ، لَا قَضَايَا تَارِيخِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ بَطَلَ التَّسْلِيمُ بِالنَّتِيجَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم سَمِعَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ خَبَرَ غَلَبِ الْفُرْسِ وَظُهُورِهِمْ عَلَى الرُّومِ؛ لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الْفُرْسَ بَعْدَ ذَلِكَ- هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِمَّا سَمِعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَصَارَى الشَّامِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِدَلَائِلِ التَّارِيخِ وَالْعَقْلِ. فَأَمَّا التَّارِيخُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ ظُهُورَ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ كَانَ فِي سَنَةِ 610م وَذَلِكَ بَعْدَ رِحْلَةِ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرَةِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَبْلَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ التَّارِيخَ أَنْبَأَنَا أَنَّ دَوْلَةَ الرُّومِ كَانَتْ مُخْتَلَّةً مُعْتَلَّةً فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرْجُو أَنْ تَعُودَ لَهَا الْكَرَّةُ وَالْغَلَبُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْفُسَهُمْ هَزِئُوا بِالْخَبَرِ وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ أَحَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَازَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَبِحَ الرِّهَانَ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي سُمُوِّ إِدْرَاكِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّ الْغَلَبَ سَيَعُودُ لِلرُّومِ عَلَى الْفَرَسِ فِي مُدَّةِ بِضْعِ سِنِينَ- لَا مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْأَخْبَارِ غَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ انْتِصَارَ الرُّومِ حَصَلَ سَنَةَ 622م وَكَانَ وَحْيُ التَّبْلِيغِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ 614م فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ سُورَةَ الرُّومِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَكُونُ النَّصْرُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ وَإِنْ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ الْمُدَّةُ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْبِضْعُ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالتِّسْعِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا النَّبَأِ بِقوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} (30: 1- 4) وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ مَثَلًا- هِيَ إِفَادَةٌ أَنَّ الْغَلَبَ يَكُونُ فِي الْحَرْبِ الْمُمْتَدَّةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَأَنْبَاءُ الْوَحْيِ وَالْعِبَرِ لَا تَكُونُ بِأُسْلُوبِ التَّارِيخِ الَّذِي يُحَدِّدُ الْوَقَائِعَ بِالسِّنِينَ، وَلَيْسَ فِي وُعُودِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ذِكْرُ السِّنِينَ وَلَا الشُّهُورِ فَهَذِهِ الْآيَةُ فَرِيدَةٌ فِي بَابِهَا.
وَمِثَالٌ آخَرُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ مُرُورِهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَحَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِهَا، الَّذِي أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَجْعَلُوهُ أَصْلًا لِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِهَا، وَالْخَبَرُ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ نَقْلِنَا إِيَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ أُنَاسٍ مَجْهُولِينَ، وَمَعَارِفُهُمْ لَا يُوثَقُ بِهَا أَصْلًا لِلْوَحْيِ الَّذِي جَاءَهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّى عَنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ شَيْئًا أَوْ عَاشَرَهُمْ لَنَقَلَ ذَلِكَ إِلَى أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا عُلِمَ عَنْهُ أَوْ قِيلَ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا دَوَّنُوهُ وَوَكَلُوا أَمْرَ صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِهَا إِلَى إِسْنَادِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) لَوْ وَقَعَ مَا ذَكَرَ لَاتَّخَذَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةً يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ قَدْ تَعَلَّمَهُ فِي الشَّامِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ قَيْنٌ (حَدَّادٌ) رُومِيٌّ يَصْنَعُ السُّيُوفَ وَغَيْرَهَا فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ عِنْدَهُ أَحْيَانًا يُشَاهِدُ صَنْعَتَهُ فَاتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (16: 103).
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) نُصُوصُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَقِصَصِهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقِينِهِ بِكُلِّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (28: 44، 45) وَقَوْلُهُ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (11: 49) وَنَحْوُهَا فِي قِصَّةِ يُونُسَ مِنْ سُورَتِهِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الَّذِي كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَدَوَّنَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا شَيْئًا بَلَغَهُمْ عَنْهُ إِلَّا دَوَّنُوهُ كَمَا رَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ حَدِيثَ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَجِدْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْعَاقِلَةُ الْمُفَكِّرَةُ وَسِيلَةً يَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَتَطْمَئِنُّ هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِفْتَاءَ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الَّذِي كَانَ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَمْرًا كَانَ يَرْجُوهُ مُحَمَّدٌ وَيَتَوَقَّعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَمَّ اسْتِعْدَادُهُ لَهُ بِاخْتِلَائِهِ وَتَعَبُّدِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا صَوَّرُوا بِهِ حَالَهُ فِيهِ مِنَ الْفِكْرِ الْمُضْطَرِبِ، وَالْوِجْدَانِ الْمُلْتَهِبِ، وَالْقَلْبِ الْمُتَقَلِّبِ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ اسْتِعْدَادُهُ تَجَلَّى لَهُ رَجَاؤُهُ وَاعْتِقَادُهُ، بِمَا تَمَّ بِهِ مُرَادُهُ، لَظَهَرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْوَثَّابَةُ، وَفِكْرَتُهُ الْوَقَّادَةُ، فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فِي بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَتَوْحِيدِ الدَّيَّانِ، وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْذَارِ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، مَا سَيَلْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، كَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَلاسيما: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (50: 1) وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ. ثُمَّ الْحَاقَّةِ وَالنَّبَأِ- أَوْ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْوُسْطَى الَّتِي تُقَرِّعُهُمْ بِالْحُجَجِ، وَتَأْخُذُهُمْ بِالْعِبَرِ، وَتَضْرِبُ لَهُمُ الْمَثَلَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الرُّسُلِ، كَسُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَجِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَتْلُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ سُورَةً، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا مِنْ ذَمِّ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ الَّذِي ضَاقَ بِهِ ذَرْعُهُ، إِذْ لَوْ تَحَدَّثَ بِذَلِكَ لَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِأَلْصَقِ النَّاسِ بِهِ. خَدِيجَةُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي بَيْتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي عَاشَرَهُ طُولَ عُمُرِهِ- فَهَذَا السُّكُوتُ وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ مَا صَوَّرُوا بِهِ اسْتِعْدَادَهُ لِلْوَحْيِ الذَّاتِيَّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَاسْتِمْدَادَهُ لِعُلُومِهِ مِنَ التَّلَقِّي وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ.