فصل: أَقْسَامُ المعْجِزَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْمُنْكِرُونَ لِلْمُعْجِزَاتِ وَشُبْهَةُ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ عَلَيْهَا:
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لَهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ مَا يَنْقُلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَا يُسَلِّمُونَ صِحَّةَ تَوَاتُرِهَا، إِذْ يَقِيسُونَ نَقْلَهُمْ لَهَا عَلَى مَا يَنْقُلُهُ الْعَوَامُّ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَقِدِينَ فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَادِعَةِ الَّتِي مَثَارُهَا الْوَهْمُ وَالتَّخَيُّلُ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الْمُعَاصِرَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْقُلْ لِلنَّاسِ أَخْبَارَ عَجَائِبِهِ الَّتِي تَقُصُّهَا الْأَنَاجِيلُ الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَهُ، وَيُعَلِّلُونَهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ الْخَوَارِقَ الصُّورِيَّةَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَعْلِيلَهَا قَالُوا: إِنَّهُ لابد لَهَا مِنْ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ يَظْهَرُ لَنَا أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ فَاعِلُوهَا، كَمَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ صُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ (الْفُقَرَاءِ) كَالِارْتِفَاعِ فِي الْهَوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ.
رَوَتْ إِحْدَى الْجَرَائِدِ الْمِصْرِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ أَخْبَارِ سَائِحِي الْإِفْرِنْجِ فِي الْهِنْدِ حَادِثَةً لِفَقِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ اسْمُهُ سَارَجُوهَا رَدْيَاسْ وَقَعَتْ فِي سَنَةِ 1837، وَخُلَاصَتُهَا أَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ جَاءَ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا رَانْجِيتْ سَنْجَا أَمِيرِ بَنْجَابَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ كَرَامَاتِهِ، وَكَانَ الْمَهَرَاجَا لَا يُصَدِّقُ مَا يُنْقَلُ مِنْ خَوَارِقِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا يُرِيدُ إِظْهَارَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ يُدْفَنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ حَيًّا، فَأَحْضَرَ الْمَهَرَاجَا نَفَرًا مِنْ أَطِبَّاءِ الْإِنْكِلِيزِ وَالْفَرَنْسِيسِ وَأُمَرَاءِ بَنْجَابَ، فَجَلَسَ الْفَقِيرُ الْقُرْفُصَاءَ أَمَامَهُمْ فَكَفَّنُوهُ بَعْدَ أَنْ وَضَعُوا الْقُطْنَ وَالشَّمْعَ عَلَى أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ- كَمَا أَوْصَاهُمْ- وَخَاطُوا عَلَيْهِ الْكَفَنَ وَوَضَعُوهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنَ الْخَشَبِ السَّمِيكِ وَسَمَّرُوا غِطَاءَهُ وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا عَلَيْهِ خِتْمَهُ، وَدَفَنُوهُ فِي قَبْوٍ دَاخِلَ حُجْرَةٍ صَغِيرَةٍ فِي حَدِيقَةِ الْقَصْرِ وَأَقْفَلُوا بَابَهَا وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا خِتْمَهُ بِالشَّمْعِ عَلَى قُفْلِهَا، وَأَمَرَ اثْنَيْنِ مِنْ رِجَالِ حَرَسِهِ الْأُمَنَاءِ بِحِرَاسَتِهَا وَطَائِفَةً مِنْ جُنْدِهِ بِمُعَاوَنَتِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَشْهَدِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَنْجَابِيِّينَ وَحَاشِيَةِ الْمَهَرَاجَا.
وَلَمَّا تَمَّتِ الْأَرْبَعُونَ حَضَرَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا وَشَاهَدُوا خِتْمَ الْحُجْرَةِ كَمَا كَانَ، وَالْعُشْبَ أَمَامَهَا فِي الْحَدِيقَةِ لَمْ تَطَأْهُ قَدَمُ أَحَدٍ، ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ الْحُجْرَةِ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَ الْقَبْوِ ثُمَّ أَخْرَجُوا الصُّنْدُوقَ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَهُ فَوَجَدُوهَا كُلَّهَا عَلَى حَالِهَا، فَفَتَحُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَحَدُ أُولَئِكَ مِنَ الْإِنْجِلِيزِ.
قال:
لَمَّا فَتَحُوا الصُّنْدُوقَ وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ وَجَدْتُ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ صُلْبَةً وَالرَّأْسَ مَائِلًا عَلَى إِحْدَى الْكَتِفَيْنِ، فَخِلْتُنِي أَمَامَ جُثَّةٍ هَامِدَةٍ فَارَقَتْهَا الْحَيَاةُ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَطَلَبْتُ مِنْ طَبِيبِي أَنْ يَفْحَصَهَا فَانْحَنَى عَلَيْهَا وَجَسَّ الْقَلْبَ وَالصُّدْغَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِلنَّبْضِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ شَعَرَ بِحَرَارَةٍ فِي مِنْطَقَةِ الدِّمَاغِ إِلَخْ.
ثُمَّ نَفَّذَ مَا أَوْصَى الْفَقِيرُ أَنْ يُعْمَلَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، فَغَسَلَ الْجِسْمَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَرَدَّ عَلَى الْأَوْصَالِ لِينَهَا السَّابِقَ بِالتَّدْرِيجِ، وَأُزِيلَ الْقُطْنُ وَالشَّمْعُ عَنِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَوُضِعَتْ أَكْيَاسٌ دَافِئَةٌ عَلَى الرَّأْسِ فَدَبَّتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ الْمُسَجَّى، وَتَقَلَّصَتِ الْأَعْصَابُ وَالْأَطْرَافُ ثُمَّ اضْطَرَبَتْ فَسَالَ مِنْهَا عَرَقٌ غَزِيرٌ وَعَادَتِ الْأَعْضَاءُ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَبَعْدَ دَقَائِقَ اتَّسَعَتْ حَدَقَتَا الْعَيْنَيْنِ وَعَادَ إِلَيْهِمَا لَوْنُهُمَا الطَّبِيعِيُّ، فَلَمَّا رَأَى الْفَقِيرُ الْمَهَرَاجَا شَاخِصًا إِلَيْهِ دَهِشًا مُتَحَيِّرًا قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ يَا مَوْلَايَ صِدْقَ قَوْلِي وَفِعْلِي؟ وَبَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ خَرَجَ مِنَ التَّابُوتِ وَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ أَحْسَنَ حَدِيثٍ وَيُطْرِفُهُمْ بِمَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ. اهـ.
إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَظْهَرَتْهَا الرِّيَاضَةُ الْمُكْتَسَبَةُ، وَهِيَ أَعْجَبُ مِنْ رِوَايَةِ الْإِنْجِيلِ لِمَوْتِ لِيعَازِرَ ثُمَّ حَيَاتِهِ بِدُعَاءِ الْمَسِيحِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ عَجَائِبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَغْرَبُ مِنْ حَادِثَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ الْهِنْدِيَّ قَدْ سُدَّ أَنْفُهُ وَلُفَّ فِي كَفَنٍ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ دُفِنَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ الَّذِي لَا يَعِيشُ أَحَدٌ بِدُونِهِ عَادَةً، وَأَهْلُ الْكَهْفِ نَامُوا فِي فَجْوَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ كَهْفٍ بَابُهُ إِلَى الشِّمَالِ، مَهَبِّ الْهَوَاءِ اللَّطِيفِ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تُصِيبُ مَدْخَلَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ عِنْدَ شُرُوقِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا مَائِلَةً مُتَزَاوِرَةً عَنْهُمْ، فَتُلَطِّفُ هَوَاءَهُ مِنْ حَيْثُ لَا تُصِيبُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْبَرُ الْغَرَابَةِ فِي نَوْمِهِمْ طُولَ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِيهِ وَكَانَتْ طَوِيلَةً جِدًّا حَتَّى عَلَى نَقْلِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ} (18: 25) الْآيَةَ- حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ السِّيَاقِ فَقَدْ يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: {قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} (18: 26) وَاللهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ خَفِيَ سِرُّ آيَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِمُحَالٍ. وَقَدْ نَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ بِمَرَضِ النَّوْمِ عِدَّةَ أَشْهُرٍ.
وَلَكِنْ مَا جَرَى لِلْفَقِيرِ الْهِنْدِيِّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَقَعَ بِطَرِيقَةٍ كَسَبِيَّةٍ مِنْ طَرَائِقَ رِيَاضَةِ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبْدَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِمَا تَبْقَى بِهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً فِي أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، مَعَ انْتِفَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الِاعْتِيَادِيَّةِ مِنْ دَوْرَةِ الدَّمِ وَالنَّفَسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِاتِّخَاذِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ السُّنَنَ الْعَامَّةَ قَاعِدَةً عَامَّةً وَلاسيما فِعْلِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، وَوَاضِعُ نِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْخَوَارِقِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِسُنَنِهِ بِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَتِهِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَحَاطَ بِحِكَمِهِ أَوْ بِسُنَنِهِ عِلْمًا؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ أَلَّا نُصَدِّقَ بِوُقُوعِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمَادَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ خَوَاصِّ الْكَهْرَبَاءِ وَغَيْرِهَا مَا لَوْ قِيلَ لِعُقَلَاءِ النَّاسِ وَحُكَمَائِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ إِنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، لَحَكَمُوا عَلَى مُدَّعِي إِمْكَانِهِ بِالْجُنُونِ لَا بِتَصْدِيقِ الْخُرَافَاتِ، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَسْرَارَ هَذَا الْكَوْنِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا خَالِقُهُ عَزَّ وَجَلَّ- وَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقَائِعُ غَرِيبَةٌ تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ نِظَامِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، بِحَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لِلْجُمْهُورِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَإِنَّ مَا يَتَنَاقَلُهُ الْجُمْهُورُ الْمُولَعُ بِالْغَرَائِبِ مِنْهَا- مِنْهُ مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهُ مَا لَهُ أَسْبَابٌ عِلْمِيَّةٌ أَوْ صِنَاعِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ الْوَهْمُ كَشِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، أَوِ انْخِدَاعِ الْبَصَرِ بِالتَّخَيُّيِلِ الَّذِي يَحْذَقُهُ الْمُشَعْوِذُونَ، وَمِنْهُ مَا فَعَلَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ الْمُبَيَّنُ بِقوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (20: 66) وَمِنْهُ انْخِدَاعُ السَّمْعِ كَالَّذِي يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اسْتِخْدَامَ الْجِنِّ، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ لَيْلًا بِأَصْوَاتٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ أَصْوَاتِهِمُ الْمُعْتَادَةِ فَيَظُنُّ مُصَدِّقُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ صَوْتُ الْجِنِّيِّ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُونَ نَهَارًا مِنْ بُطُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكُوا شِفَاهَهُمْ، فَلَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَلَا مِنْ نَقْلِهِمْ- وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى كَذِبِ الْمُنْتَحِلِينَ لِهَذِهِ الْغَرَائِبِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا وَسِيلَةً لِمَعَايِشِهِمُ الدَّنِيئَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيهَا لَتَنَافَسَ الْمُلُوكُ وَكِبَارُ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي صُحْبَتِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِمْ.

.أَقْسَامُ المعْجِزَاتِ:

الْمُعْجِزَاتُ قِسْمَانِ: تَكْوِينِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ تُشْبِهُ الْكَسْبِيَّةَ:
الْمُعْجِزَاتُ كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَسْبِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهَا بِحَسَبِ مَظْهَرِهَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا فَهُوَ يُشْبِهُ الْأَحْكَامَ الِاسْتِثْنَائِيَّةَ فِي قَوَانِينِ الْحُكُومَاتِ أَوْ مَا يَكُونُ بِإِرَادَةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ الْمُلُوكِ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ.
(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) وَقِسْمٌ يَقَعُ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ رُوحَانِيَّةٍ لَا مَادِّيَّةٍ.
أَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لَهُ، كَالْآيَاتِ التِّسْعِ بِمِصْرَ فَهِيَ مِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا بِكَسْبٍ لَهُ حَقِيقِيٍّ وَلَا صُورِيٍّ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْأُخْرَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَثْنَاءِ خُرُوجِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُدَّةَ التِّيهِ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِدُونِ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَا يَأْمُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْبَحْرِ أَوِ الْحَجَرِ بِعَصَاهُ الَّتِي هِيَ آيَتُهُ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَرِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ كَهَذِهِ الْآيَاتِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَا هِيَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِالرِّيَاضَةِ الرُّوحِيَّةِ أَوْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا.
وَأَمَّا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا- عَلَى كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ الْكَسْبِيَّةِ وَعَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ- قَدْ يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّهَا كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا حَدَثَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ بِنَفْخَةٍ مِنْ رُوحِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا- وَهُوَ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَتْ سَبَبَ عُلُوقِهَا بِهِ بِفِعْلِهَا فِي الرَّحِمِ مَا يَفْعَلُ تَلْقِيحُ الرَّجُلِ بِقُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا غَرْوَ أَنْ كَانَتْ مَظَاهِرُ آيَاتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَظَاهِرِ سَائِرِ الرُّوحِيِّينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَالْكَشْفِ وَشِفَاءِ بَعْضِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّوحَانِيِّينَ مِنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِعَمَلٍ كَسْبِيٍّ مِنْهُ، بَلْ مِنْ أَصْلِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (21: 91) {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (23: 50) فَآيَتُهُمَا هِيَ الْحَمْلُ بِهِ وَخَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْإِلَهِيِّ لَا بِسَبَبِ التَّلْقِيحِ الْبَشَرِيِّ، وَلَا بِمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ وُجُودِ مَادَّتَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي رَحِمِهَا.
وَأَعْظَمُ آيَاتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ التَّنْزِيلُ وَلَمْ يَنْقُلْهَا مُؤَلِّفُو الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَرُوِيَ أَنَّهَا مَنْصُوصَةٌ فِي إِنْجِيلِ الطُّفُولِيَّةِ الَّذِي نَبَذَتْهُ الْمَجَامِعُ الْكَنَسِيَّةُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَفُقِدَ مِنَ الْعَالَمِ هِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ قِطْعَةً مِنَ الطِّينِ فَيَجْعَلُهَا بِهَيْئَةِ طَيْرٍ، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَيْ مِنْ رُوحِهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَطِيرُ قَلِيلًا وَيَقَعُ مَيِّتًا. وَدُونَ هَذَا إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ الصَّحِيحِ الْجِسْمِ الْقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّ تَوْجِيهَ سَيَّالِ رُوحِهِ الْقَوِيِّ إِلَى جُثَّةِ الْمَيِّتِ مَعَ تَوْجِيهِ قَلْبِهِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَدُعَائِهِ، كَانَ يَكُونُ سَبَبًا رُوحَانِيًّا لِإِعَادَةِ رُوحِهِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا يَمَسُّ النُّورُ ذُبَالَ السِّرَاجِ الْمُنْطَفِئِ فَتَشْتَعِلُ أَوْ كَمَا يَتَّصِلُ السِّلْكُ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسِّلْكِ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا فَيَتَأَلَّقُ النُّورُ مِنْهُمَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ أَطِبَّاءِ هَذَا الْعَصْرِ إِعَادَةُ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى فَاقِدِهَا عَقِبَ فَقْدِهَا بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ أَوْ مُعَالَجَةٍ لِلْقَلْبِ وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ شِفَاءُ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَلاسيما الْعَصَبِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهَا مَسَّ الشَّيْطَانِ وَتَلَبُّسَهُ بِالْمَجْنُونِ كَمَا فِي الْأَنَاجِيلِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُوحٌ خَبِيثٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ مَعَ تَوَجُّهِ الرُّوحِ الطَّاهِرِ الَّذِي هُوَ شُعْلَةٌ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاتِّصَالِهِ بِمَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ، وَمَا مِنْ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ ضَعْفٌ فِي الْحَيَاةِ بِأَنْ يَزُولَ بِاتِّصَالِ هَذَا الرُّوحِ بِالْمُصَابِ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَالْقُوَّةِ.
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ الْمُكَاشَفَاتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (3: 49) وَقَدْ أَنْبَأَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرُهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ وَلاسيما أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّهَا دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا، وَالثِّقَةِ بِالْمَرْئِيِّ وَعَدَمِهَا، وَإِدْرَاكِ الْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ، وَالْغَائِبِ الْمَفْقُودِ، وَمَا كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا يَأْتِي فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَأَعْلَاهَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ وَلَنْ يُوجَدَ بَشَرٌ يَعْلَمُ بِالْكَشْفِ مَا وَقَعَ مُنْذُ الْقُرُونِ الْأُولَى كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ أَوْ مَا يَقَعُ بَعْدَ سِنِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِخْبَارِهِ عَنْ عَوْدِ الْكَرَّةِ لِلرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ، وَإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِ الْأَمْصَارِ وَاتِّبَاعِ الْأُمَمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ بِتَدَاعِيهِمْ عَلَيْهَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ فَعَلَهُ، وَمِنْهَا مُرَاسَلَةُ الْأَفْكَارِ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمَشْهُورَةَ لِمُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى دُونَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الظَّاهِرَةِ فِي قُوَاهُ الرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ آيَاتِهِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي أَفْعَالِهِ فِي نَظَرِ الْبَشَرِ، لِبُعْدِهَا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَفْعَالُهُمْ.
عِبَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ لِلْمَسِيحِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ دُونَ مُوسَى:
وَإِنَّمَا عَبَدَ بَعْضُ الْبَشَرِ عِيسَى وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَلَمْ يَعْبُدُوا مُوسَى كَذَلِكَ وَآيَاتُهُ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ آيَاتِ عِيسَى جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ رُوحِيَّةٍ عَامَّةٍ قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَظَنُّوا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِحُلُولِهِ فِيهِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَآيَاتُ مُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَفْطِنُوا لِاتِّبَاعِ عِيسَى لِمُوسَى فِي شَرْعِهِ- التَّوْرَاةِ- إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا نَسَخَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ إِحْلَالِ بَعْضِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمِنْ تَحْرِيمِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ.
وَمِثْلُ النَّصَارَى فِي هَذَا مَنْ يَفْتَتِنُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِالتَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الدَّاخِلِ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمُ اسْمَ الرَّبِّ وَلَا الْإِلَهِ وَلَا الْخَالِقِ، إِذِ الْأَسْمَاءُ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْفَرْقَانُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ، أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ لِمَنْ شَاءَ وَصَرْفِهِمَا عَمَّنْ شَاءَ بِمَا يُسَخِّرُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَبِدُونِهَا إِنْ شَاءَ- وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمَرْبُوبَ هُوَ الْمُقَيَّدُ فِي أَفْعَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِقُوَى الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ وَفِي وَسَائِلِهَا، وَقَدْ بَلَغَ الْبَشَرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيَّيْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَهُمْ لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُبْعَثُوا لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُعِثُوا لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ بِهَا، فَمَنَافِعُ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا وَإِنَّمَا تُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَتَلَ الظَّالِمُونَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَآذَوْا بَعْضَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ نَفْيُ هَذَا النَّفْعِ وَالضُّرِّ عَنْ كُلِّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} (10: 18) الْآيَةَ وَمِثْلُهَا آيَاتٌ، وَأَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (7: 188) وَقَالَ: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (72: 21) الْآيَاتِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا.