فصل: خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَنُلَخِّصُ الْمَوْضُوعَ هُنَا فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ:
(1) إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَجَعَلَهُ بِإِحْكَامٍ وَنِظَامٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَالَ، وَسُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ رَبَطَ فِيهَا الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ. فَمَخْلُوقَاتُهُ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَلِهَذَا قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ. وَهَذَا النِّظَامُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَكْوَانِ، الثَّابِتُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ- هُوَ الْبُرْهَانُ الْأَعْظَمُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} (21: 22).
(2) إِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْدَاعِ خَلْقِهِ وَنِظَامِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهِ لَا يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْبَشَرُ فِيهَا نَظَرًا وَتَفَكُّرًا وَاخْتِبَارًا وَتَدَبُّرًا وَتَجْرِبَةً وَتَصَرُّفًا، ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَسْرَارِهَا وَعَجَائِبِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ وَلَا يَظُنُّونَ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَتَخَيَّلُونَ وَلَا يَتَوَهَّمُونَ. وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى مَرَاكِبَهُمُ الْهَوَائِيَّةَ مِنْ تِجَارِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تُحَلِّقُ فِي الْأَجْوَاءِ، حَتَّى تَكَادَ تَتَجَاوَزُ مُحِيطَ الْهَوَاءِ، وَمَرَاكِبَهُمُ الْبَحْرِيَّةَ تَغُوصُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَنَرَاهُمْ يَتَخَاطَبُونَ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَقْطَارِ، كَمَا نَطَقَ الْوَحْيُ بِتَخَاطُبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَأَهْلُ الْجَنُوبِ حَدِيثَ أَهْلِ الشَّمَالِ وَخُطَبَهُمْ وَأَغَانِيَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْكَلَامُ. وَقَدْ يَغْمِزُ أَحَدُهُمْ زِرًّا كَهْرَبَائِيًّا فِي قَارَّةِ أُورُبَّةَ فَتَتَحَرَّكُ بِغَمْزَتِهِ آلَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي قَارَّةٍ أُخْرَى فِي طَرْفَةِ عَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا الْمَهَامِهُ الْفِيَحُ وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةُ، وَمِنْ دُونِهِمَا الْبِحَارُ الْوَاسِعَةُ، وَالْجَاهِلُونَ بِهَذِهِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ، لَا يَزَالُونَ يَلْجَئُونَ فِي طَلَبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ- الَّتِي ضَيَّقَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَهَا- إِلَى قُبُورِ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَعْرُوفِينَ وَالْمَجْهُولِينَ لِيَقْضُوا لَهُمْ حَاجَتَهُمْ، وَيَشْفُوا مَرْضَاهُمْ، وَيُعِينُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ زَوْجٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَوَطَنِيٍّ، وَأَعْدَاؤُهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ قَدْ سَادُوا حُكُومَتَهُمْ، وَاسْتَذَلُّوا أُمَّتَهُمْ، وَاسْتَأْثَرُوا بِجُلِّ ثَرْوَتِهِمْ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءُ بِمَا يَدْفَعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ.
(3) إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَسُنَنِ اللهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْعِلْمُ، وَأَخْبَرَنَا الْوَحْيُ بِأَنَّهُ لَا تَغْيِيرَ فِيهَا وَلَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ فَكُلُّ خَبَرٍ عَنْ حَادِثٍ يَقَعُ مُخَالِفًا لِهَذَا النِّظَامِ وَالسُّنَنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا اخْتَلَقَهُ الْمُخْبِرُ الَّذِي ادَّعَى شُهُودَهُ أَوْ خُدِعَ بِهِ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فَلابد أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُخْبِرُ كَمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي بَحْثِ الْخَبَرِ وَمَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ مِنْهُ.
(4) إِنَّ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى غَيْرِ سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ فِي خَلْقِهِ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ أَيَّدَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ وَتَخْوِيفِ الْمُعَانِدِينَ لَهُمْ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَسَبَبُ ذَلِكَ أَوْ حِكْمَتُهُ خَتْمُ النُّبُوَّةِ بِرِسَالَتِهِ. وَجَعَلَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ آيَةً دَائِمَةً وَهِدَايَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مُدَّةَ بَقَائِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (21: 107) لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ وَلَا إِلَى آيَةٍ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ نَفْسَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ دَلَالَتِهِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى.
خَتْمُ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعُ الْخَوَارِقِ بِهَا وَمَعْنَى الْكَرَامَاتِ:
(5) لَوْ كَانَ لِلْبَشَرِ حَاجَةٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْآيَاتِ، كَمَا يَدَّعِي الْمَفْتُونُونَ بِالْكَرَامَاتِ وَمُخْتَرِعُو الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ لَمَا كَانَ لِخَتْمِ النُّبُوَّةِ مَعْنًى؛ وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ الْبَهَائِيَّةُ وَالْقَادْيَانِيَّةُ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعَ الْوَحْيِ، وَيَدَّعُونَهُمَا لِلْبَابِ وَالْبَهَاءِ، وَلِغُلَامِ أَحْمَدَ الْقَادْيَانِيِّ وَخُلَفَائِهِ بِلَا انْقِطَاعٍ، حَتَّى سَامَهَا الْمُرْتَزِقَةُ مِنْهُمْ وَالرَّعَاعُ.
وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ كَيْفَ ارْتَقَى التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ فِي الْأُمَمِ بِارْتِقَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، كَارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ مِنْ طُفُولَةٍ إِلَى شَبَابٍ إِلَى كُهُولَةٍ بَلَغَ فِيهَا رُشْدَهُ وَاسْتَوَى، وَصَارَ يُدْرِكُ بِعَقْلِهِ هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْعَقْلِيَّةَ الْعُلْيَا (هِدَايَةَ الْقُرْآنِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى إِذْعَانِهِ لِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ، إِلَّا مَا يُدْهِشُ حِسَّهُ وَيُعْيِي عَقْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْكَوْنِ بَيَّنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ أَنَّ سُمُوَّ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَسُلْطَانَهُ عَلَى قُوَى الْكَوْنِ الْأَعْظَمِ بِمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُ تُنَافِي خُضُوعَهُ وَاسْتِكَانَتَهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا، إِلَّا مَا عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ سَبَبِهِ وَمَنْشَئِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى لِمُدَبِّرِ الْكَوْنِ وَمُسَخِّرِ الْأَسْبَابِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ أَتَاهُ مَنْ أَضْعَفِ الْجِهَاتِ فِيهِ وَهِيَ جِهَةُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَأَقَامَ لَهُ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِهِ مُرْشِدِينَ هَادِينَ، وَمَيَّزَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ بِخَصَائِصَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْإِقْنَاعِ بِآيَاتٍ بَاهِرَاتٍ تَمْلِكُ النُّفُوسَ، وَتَأْخُذُ الطَّرِيقَ عَلَى سَوَابِقِ الْعُقُولِ فَيَسْتَخْذِي الطَّامِحُ وَيَذِلُّ الْجَامِحُ، وَيَصْطَدِمُ بِهَا عَقْلُ الْعَاقِلِ فَيَرْجِعُ إِلَى رُشْدِهِ وَيَنْبَهِرُ لَهَا بَصَرُ الْجَاهِلِ فَيَرْتَدُّ عَنْ غَيِّهِ.
ثُمَّ قَالَ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: نَبِيٌّ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْإِقْنَاعِ بِرِسَالَتِهِ بِمَا يُلْهِي الْأَبْصَارَ أَوْ يُحَيِّرُ الْحَوَاسَّ أَوْ يُدْهِشُ الْمَشَاعِرَ، وَلَكِنْ طَالَبَ كُلَّ قُوَّةٍ بِالْعَمَلِ فِيمَا أُعِدَّتْ لَهُ، وَاخْتَصَّ الْعَقْلَ بِالْخِطَابِ، وَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، وَجَعَلَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الدَّلِيلِ، مَبْلَغَ الْحُجَّةِ وَآيَةَ الْحَقِّ الَّذِي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (41: 42).
لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ:
(6) إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِحُجَّةٍ لَا يُمْكِنُ لِمَنْ عَقَلَهَا رَدُّهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْعُلَمَاءِ الْوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِ الْأَدْيَانِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ- حَتَّى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى- وَعَلَى تَوَارِيخِهَا لِتَوَاتُرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاشْتِبَاهِ فِي كَوْنِهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ التَّوَاتُرَ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي نَقْلِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ نَقْلُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِخَبَرٍ أَدْرَكُوهُ بِالْحِسِّ، وَحَمَلَهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ بِدُونِ انْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحَالَةُ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ بِأُمُورٍ، أَهَمُّهَا عَدَمُ التَّحَيُّزِ وَالتَّشَيُّعِ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَعَدَمُ تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهِ، وَآيَةُ صِحَّةِ هَذَا التَّوَاتُرِ حُصُولُ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِهِ وَإِذْعَانُ النَّفْسِ لَهُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ رَدِّهِ اعْتِقَادًا وَوِجْدَانًا. وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا آيَةُ الْقُرْآنِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ بِبَقَائِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَارِيخِ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا مُتَّصِلًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى الْآنَ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهُوَ وُجُوهُ إِعْجَازِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا شُبْهَتَهُمْ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ كَوْنُهُ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي خُلُقِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِتَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ أَمْ لَا، وَكَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَا، يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِانْقِطَاعِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ بِوُقُوعِ كَرَامَةٍ كَوْنِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ بَعْدَ (مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم) فَلَا يَضُرُّ مُسْلِمًا فِي دِينِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ كَمَا يَعْتَقِدُ أَكْثَرُ عُقَلَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ النَّاسُ مِنَ الْخَوَارِقِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَبَعْضُهُ صِنَاعَةُ عِلْمٍ، أَوْ شَعْوَذَةُ سِحْرٍ، وَأَقَلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ الْغَالِيَةِ.
(7) إِنَّ الثَّابِتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعَيَّنَةِ قَلِيلٌ جِدًّا، فَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ فَصَرْفُهُ عَنْهَا بِالتَّحَكُّمِ فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأْبَاهُ مَدْلُولَاتُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَنْقُضُ شَيْئًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْقَطْعِيَّةِ ارْتِدَادٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَإِنْ عَارَضَهُ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ ابْتِدَاعٌ.

.خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ:

إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (32: 7) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ (الم) السَّجْدَةِ، فَهُوَ: {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (27: 88) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ وَلَا فُطُورٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، الْآيَةِ (3) وَأَنَّهُ خَلَقَهُ بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ لَا جُزَافًا وَلَا أُنُفًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (54: 49) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (25: 2) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (15: 19) {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (15: 21).
وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، وَفِيمَا هَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً تَتَّصِلُ فِيهَا الْأَسْبَابُ بِالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ مُحَابَاةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَامَّةٌ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّنَنِ بِاللَّفْظِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَأَنَّ لَهُ فِي آيَاتِهِ حِكَمًا جَلِيَّةً أَوْ خَفِيَّةً، وَأَنَّ مَا مَنَحَنَا إِيَّاهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ يَأْبَيَانِ عَلَيْنَا أَنْ نُثْبِتَ وُقُوعَ شَيْءٍ فِي الْخَلْقِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ نِظَامِ التَّقْدِيرِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ، إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ يَشْتَرِكُ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ فِي إِثْبَاتِهِ وَتَمْحِيصِهِ وَأَنَّهُ لابد أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا عَنْ خَلَلٍ وَلَا عَبَثٍ، وَأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهِ كَسَائِرِ مَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، نَبْحَثُ عَنْهَا لِنُزَادَ عِلْمًا بِكَمَالِهِ وَنُكْمِلَ بِهِ أَنْفُسَنَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا وَلَا نَتَّخِذَهَا حُجَّةً وَلَا عُذْرًا عَلَى الْكُفْرِ بِهِ لِجَهْلِنَا، وَقَدْ ثَبَتَ لِأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ مِنَّا أَنَّ مَا نَجْهَلُ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ أَكْثَرُ مِمَّا نَعْلَمُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحِيطَ الْبَشَرُ بِهِ عِلْمًا.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ مَنَحَنَا رُسُلًا هَدَوْنَا بِآيَاتِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَضِيقِ مَدَارِكِ الْحِسِّ، وَمَا يَسْتَنْبِطُهُ الْفِكْرُ مِنْهَا بَادِيَ الرَّأْيِ، إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ سَعَةِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْلَا هِدَايَتُهُمْ لَظَلَّ الْبَشَرُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ مَا لَمْ يَكُونُوا يُدْرِكُونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ مِنَ الْأَجْسَامِ وَأَعْرَاضِهَا، وَبِقِيَاسِهِمْ مَا جَهِلُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنْهَا.
وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ التَّارِيخِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِآيَاتِهِ لِرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ هُوَ الَّذِي وَجَّهَ عُقُولَ الْبَشَرِ إِلَى الْبَحْثِ فِي أَسْرَارِ الْوُجُودِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الِارْتِقَاءِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي الْأَجْيَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَصِيبٌ فِي ذَلِكَ- فَهَذَا الْإِيمَانُ بِالْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْغَيْبِ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَ الْبَشَرَ إِلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ كَانَ يَعُدُّهَا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنْ مُحَالَاتِ الْعُقُولِ كَالْغَيْبِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ، حَتَّى لَمْ يُعَدَّ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ بَعِيدًا عَنِ الْعَقْلِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
فَتَبَيَّنَ لَنَا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كَانَ لِلْبَشَرِ بِآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ، هِيَ مِنْ حِكَمِ نَصْبِهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْآيَاتِ:
(الْأُولَى) جَعْلُهَا دَلِيلًا حِسِّيًّا عَلَى اخْتِيَارِهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَكَوْنِ سُنَنِ النِّظَامِ فِي الْخَلْقِ خَاضِعَةً لَهُ لَا حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَلَا مُقَيِّدَةً لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
(الثَّانِيَةُ) جَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ بِوَحْيِهِ وَنُذُرًا لِلْمُعَانِدِينَ لَهُمْ مِنَ الْكَفَّارِ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ بِكَسْبِهِمْ أَوْ تَقَعُ مِنْهُمْ بِاسْتِعْدَادٍ رُوحِيٍّ لَمَا كَانَتْ آيَةً عَلَى صِدْقِهِمْ.
(الثَّالِثَةُ) هِدَايَةُ عُقُولِ الْبَشَرِ بِرُؤْيَتِهَا إِلَى سَعَةِ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَضِيقِ نِطَاقِ الْمُحَالِ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَإِلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بَعِيدًا عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ وَالْأُمُورِ الْمَعْهُودَةِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ- لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحَالًا يُجْزَمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَبِكَذِبِ الْمُخْبِرِ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمَ الثُّبُوتِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلَا يَنْقُصُهُمْ لِتَكْمِيلِ عِلْمِهِمْ إِلَّا ثُبُوتُ آيَةٍ للَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِلَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْكَوْنِ.
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ لِآيَاتِ الرُّسُلِ وَمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعُقُولِ، قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ نَفْسُهَا سَبَبًا لِإِنْكَارِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُمْ وَمُوصِلًا إِلَيْهَا (وَهُوَ الْآيَاتُ وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ)- لَا إِنْكَارَ إِمْكَانِهِ بَلْ إِنْكَارَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ، فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَدْ فَعَلَ مَا صَارُوا يَفْعَلُونَ بِإِقْدَارِهِ وَتَوْفِيقِهِ نَظِيرًا لَهُ فِي الْغَرَابَةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِحَقِيقَتِهِ، كَمَا قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (41: 53) وَلَكِنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآفَاقِ، الْتَمَسُوا لَهَا سُنَّةً بِقِيَاسِ مَا لَمْ يَعْرِفُوا عَلَى مَا عَرَفُوا، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَإِبْدَاعِهِ، وَظَلُّوا عَلَى لَبْسِهِمْ، كَالَّذِينِ طَلَبُوا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولًا فَقَالَ فِيهِمْ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (6: 9) أَيْ لَمَّا كَانُوا لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُدْرِكُوا الْمَلَكَ وَيَتَلَقَّوْا عَنْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِصُورَةِ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَلَوْ جَعَلَ اللهُ الْمَلَكَ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ بِمَا يُلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنِ اسْتِنْكَارِ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ الْآنَ: ظَهَرَتْ لَهُمْ فِي عَصْرِنَا عِدَّةُ آيَاتٍ رُوحِيَّةٍ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ فَشَبَّهُوهَا بِمَا عَرَفُوا مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ بِالسَّيَّالِ الْكَهْرَبَائِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَعْتَرِفُوا بِآيَةٍ إِبْدَاعِيَّةٍ مِنَ الْخَالِقِ لَا تَخْضَعُ لِعِلْمِهِمْ.
الْخَطَرُ عَلَى الْبَشَرِ مِنِ ارْتِقَاءِ الْعِلْمِ بِدُونِ الدِّينِ:
إِنَّ حِرْمَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِآيَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ، قَدْ جَعَلَ حَظَّ الْبَشَرِ مِنْ هَذَا الِارْتِقَاءِ الْعَجِيبِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمُ ازْدَادُوا بِهِ شَقَاءً، حَتَّى صَارَتْ حَضَارَتُهُمْ مُهَدَّدَةً بِالتَّدْمِيرِ الْعِلْمِيِّ الصِّنَاعِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَجَمِيعُ عُلَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ وَسَاسَتِهِمُ الدَّهَاقِينَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَلَنْ يُتَلَافَى إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَهَذَا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ؛ وَلِأَجْلِهِ أَثْبَتَ الْآيَاتِ بِكِتَابِهِ وَفِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْضَعَ الْبَشَرُ إِلَّا لِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، بِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْإِلَهِيِّ الَّذِي فَوْقَ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْجَمْعَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ الْمُثْبِتِ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ.