فصل: المقصد الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المقصد الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ:

قَدْ أَتَى عَلَى الْبَشَرِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالِيمُ خَارِجَةٌ عَنْ مُحِيطِ الْعَقْلِ، كُلِّفَ الْبَشَرُ بِهَا مُقَاوَمَةَ فِطْرَتِهِمْ، وَتَعْذِيبَ أَنْفُسِهِمْ، وَمُكَابَرَةَ عُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، خُضُوعًا لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَهُمْ إِيَّاهَا، فَإِنِ انْقَادُوا لِسَيْطَرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا كَانُوا مِنَ الْفَائِزِينَ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ سِرًّا أَوْ جَهْرًا كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ.
حَتَّى إِذَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ- بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دِينَ اللهِ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَأَنْ لَا سَيْطَرَةَ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ وَضَمِيرِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّمَا رُسُلُ اللهِ هُدَاةٌ مُرْشِدُونَ، مُبَشِّرُونَ وَمُنْذِرُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَقْصِدِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَزَايَا بِالشَّوَاهِدِ الْمُخْتَصَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ:

.(1) الْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ:

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30: 30) الْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ. وَعَنِ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَعَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُقَابِلُهُ الزَّيْغُ وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ إِلَخْ. وَفِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا هِيَ الْجِبِلَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ: الْجِسْمَانِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَالرُّوحَانِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَعْرِفَةِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ فِيهِمَا، وَمَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ غَرِيزَةِ الدِّينِ الْمُطْلَقِ، الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ الْوِجْدَانِيُّ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ فَوْقَ قُوَى الْكَوْنِ وَالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهِمَا نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ، فَرَبُّ هَذَا السُّلْطَانِ هُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، وَالْمَصْدَرُ الذَّاتِيُّ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ الْمُحَرِّكَيْنِ لِشُعُورِ التَّعَبُّدِ الْفِطْرِيِّ، وَطَلَبِ الْعِرْفَانِ الْغَيْبِيِّ، فَالْعِبَادَةُ الْفِطْرِيَّةُ هِيَ التَّوَجُّهُ الْوِجْدَانِيُّ إِلَى هَذَا الرَّبِّ الْغَيْبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ مِنْ نَفْعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ، وَدَفْعِ ضُرٍّ يَمَسُّهُ أَوْ يَخَافُهُ وَيَرَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي كُلِّ مَا تَشْعُرُ فِطْرَتُهُ بِاسْتِعْدَادِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَأَعْنِي بِالْإِنْسَانِ جِنْسَهُ، فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ دُونَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ مِنْ مَقْدُورِهِ، وَيَعُدُّ مُسَاعَدَةَ غَيْرِهِ لَهُ مِنْ جِنْسِ كَسْبِهِ، فَطَلَبُهُ لِلْمُسَاعَدَةِ مِنْ أَمْثَالِهِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ- فَتَعْظِيمُ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ بِوَسَائِلِ اسْتِجْدَائِهِ، وَخُضُوعُ الضَّعِيفِ لِلْقَوِيِّ لِاسْتِنْجَادِهِ وَاسْتِعْدَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَخُنُوعُ السُّوقَةِ لِلْمَلِكِ أَوِ الْأَمِيرِ لِخَوْفِهِمْ مِنْهُ أَوْ رَجَائِهِ- لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي عُرْفِ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَلَا مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَإِنَّمَا رُوحُ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَمُخُّهَا هُوَ دُعَاءُ ذِي السُّلْطَانِ الْعُلْوِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ مَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْقِلُهُ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَلَاسِيَّمَا الدُّعَاءَ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالشَّدَائِدِ.
قال صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» هَكَذَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، أَيْ هُوَ الرُّكْنُ الْمَعْنَوِيُّ الْأَعْظَمُ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوحُهَا الْمُفَسَّرُ بِرِوَايَةِ «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» وَكُلُّ تَعْظِيمٍ وَتَقَرُّبٍ قَوْلِيٍّ أَوَعَمَلِيٍّ لِصَاحِبِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ فَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ- هَذَا أَصْلُ دِينِ الْفِطْرَةِ الْغَرِيزِيِّ فِي الْبَشَرِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ التَّشْرِيعِيُّ، الَّذِي هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ يُوحِيهِ اللهُ إِلَى رُسُلِهِ، لِئَلَّا يَضِلَّ عِبَادُهُ بِضِعْفِ اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَرِيزَةِ الدِّينِ كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْبَشَرُ بِالْإِذْعَانِ وَالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُلَقِّنُ لَهُمْ إِيَّاهُ مُؤَيَّدًا فِي تَبْلِيغِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى، وَالتَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ الْمُطْلَقِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، الَّذِي تَخْضَعُ لَهُ الْأَسْبَابُ وَالسُّنَنُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَهُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِرَارًا، وَبَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ شُرِّعَ لِتَكْمِيلِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلرُّقِيِّ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُعِدَّةِ إِيَّاهُمْ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُصَادِمُهَا.
فَهَذَا الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ حَاجَةٌ مِنْ حَاجِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ كَمَالُهَا النَّوْعِيُّ بِدُونِهِ، فَهُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ كَمَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.

.(2) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ:

تَقْرَأُ قَامُوسَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فَلَا تَجِدُ فِيهِ كَلِمَةَ (الْعَقْلِ) وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي فَضُلَ الْإِنْسَانُ بِهَا جَمِيعَ أَنْوَاعِ هَذَا الْجِنْسِ الْحَيِّ كَاللُّبِّ وَالنُّهَى، وَلَا أَسْمَاءَ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَالَمِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَظَائِفِ الْعَقْلِ، وَلَا أَنَّ الدِّينَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ، وَقَائِمٌ بِهِ وَعَلَيْهِ. أَمَّا ذِكْرُ الْعَقْلِ بِاسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فَيَبْلُغُ زُهَاءَ خَمْسِينَ مَرَّةً، وَأَمَّا ذِكْرُ {أُولِي الْأَلْبَابِ} فَفِي بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَأَمَّا كَلِمَةُ {أُولِي النُّهَى} أَيِ الْعُقُولِ فَقَدْ جَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ آخِرِ سُورَةِ طه.
أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِعْلُ الْعَقْلِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ اللهِ، وَكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَهْتَدُونَ بِهَا الْعُقَلَاءُ، وَيُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْغَالِبِ آيَاتُ الْكَوْنِ الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2: 164) وَيَلِي ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ آيَاتُ كِتَابِهِ التَّشْرِيعِيَّةُ وَوَصَايَاهُ، كَقَوْلِهِ فِي تَفْصِيلِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (6: 151) وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ كَأَمْرٍ لِرَسُولِهِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْمِهِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10: 16) وَجَعَلَ إِهْمَالَ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ سَبَبَ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ سُورَةِ الْمُلْكِ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (67: 10) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (7: 179) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (22: 46) الْآيَةَ.
كَذَلِكَ آيَاتُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَمَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الدِّينِ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَنَّ الْغَافِلِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ كَالْأَنْعَامِ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ، الَّتِي لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَلَا تَصْعَدُ بِهَا فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، بِعِرْفَانِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (34: 46).
وَقَوْلُهُ: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} (30: 8) وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الْعُقَلَاءِ أُولِي الْأَلْبَابِ: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3: 191) وَقَوْلُهُ بَعْدَ نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَحَصْرِ وَظِيفَتِهِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (6: 50).
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ، بِمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ أَنَّ التَّفَكُّرَ هُوَ مَبْدَأُ ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ، وَبِقَدْرِ جَوْدَتِهِ يَكُونُ تَفَاضُلُهُمْ فِيهِ. اهـ.
وَقَدْ كَانَتِ التَّقَالِيدُ الدِّينِيَّةُ حَجَّرَتْ حُرِّيَّةَ التَّفَكُّرِ وَاسْتِقْلَالَ الْعَقْلِ عَلَى الْبَشَرِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَبْطَلَ بِكِتَابِهِ هَذَا الْحَجْرَ، وَأَعْتَقَهُمْ مِنْ هَذَا الرِّقِّ، وَقَدْ تَعَلَّمَ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ أُمَمُ الْغَرْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُكِسَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى عَادَ بَعْضُهُمْ يُقَلِّدُونَ فِيهَا مَنْ أَخَذُوهَا عَنْ أَجْدَادِهِمْ.

.(3) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ:

ذُكِرَ اسْمُ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً فِي عَشَرَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَذُكِرَتْ مُشْتَقَّاتُهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِأَنْوَاعِهَا، فَمِنَ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (17: 36) قَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لَاتَحْكُمْ بِالْقِيَافَةِ وَالظَّنِّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمُكَ تَقْلِيدًا أَوْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ فِي التَّارِيخِ: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (46: 4) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي عُلُومِ الْبَشَرِ الْمَادِّيَّةِ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (30: 6 و7) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ فِيهَا دُونَ الْعِلْمِ الرُّوحِيِّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (17: 85).
وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (22: 8) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِيهِ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْهُدَى وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ وَهُوَ هُدَى الدِّينِ. وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (30: 22) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفِ أَلْوَانُهَا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الطَّرَائِقِ فِي الْجِبَالِ وَأَلْوَانِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (35: 28) الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ هُنَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَسْرَارَ الْكَوْنِ وَأَسْبَابَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَلْوَانِهَا وَآيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا.
عَظَّمَ الْقُرْآنُ شَأْنَ الْعِلْمِ تَعْظِيمًا لَا تُعْلُوهُ عَظْمَةٌ أُخْرَى بِقوله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (3: 18) الْآيَةَ، فَبَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ، وَجَعَلَ أُولِي الْعِلْمِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ فِي قَوْلِهِ: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (58: 11) وَأَمَرَ أَكْرَمَ رُسُلِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ بِقَوْلِهِ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (20: 114).
وَيُؤَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةَ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ كَقوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (10: 36) وَمِثْلُهُ: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (53: 28) وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (4: 157).
وَبَلَغَ مِنْ تَعْظِيمِهِ لِشَأْنِ الْعِلْمِ وَالْبُرْهَانِ أَنْ قَيَّدَ بِهِ الْحُكْمَ بِمَنْعِ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأَقْصَى الْكُفْرِ فَقَالَ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (7: 33) السُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ.
وَقَالَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (29: 8) وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ لَا يَكُونُ بِعِلْمٍ وَلَا بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْبُطَلَانِ، وَتَرَى تَفْصِيلَ هَذَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ وَمَا يَلِيهِ مِنْ ذَمِّ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا الْمُطْلَقِ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2: 269): وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (62: 2) وَفِي مَعْنَاهَا آيَتَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (4: 113) وَقَالَ لَهُ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (16: 125) وَقَالَ لَهُ فِي خَاتِمَةِ الْوَصَايَا بِأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيِ عَنْ كَبَائِرِ الرَّذَائِلِ، مَعَ بَيَانِ عِلَلِهَا وَمَا لَهَا مِنَ الْعَوَاقِبِ: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (17: 39) وَقَالَ لِنِسَائِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ} (33: 34).
وَقَدْ آتَى اللهُ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْحِكْمَةَ، وَلَكِنْ أَضَاعَهَا أَقْوَامُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِالتَّقَالِيدِ وَالرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَنَسَخَهَا بُولَسْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ.
قال اللهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (4: 54) فَالْكِتَابُ أَعْلَى مَا يُؤْتِيهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَيَلِيهِ الْحِكْمَةُ وَيَلِيهَا الْمُلْكُ. وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} (2: 251) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (5: 110) وَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (31: 12) وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَصَايَاهُ لِابْنِهِ بِالْفَضَائِلِ وَمَنَافِعِهَا وَنَهْيَهُ عَنِ الرَّذَائِلِ مُعَلَّلَةً بِمَضَارِّهَا. فَالْحِكْمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، هِيَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ كَعِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَسْرَارِ الْخَلْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (17: 39) وَلَوْلَا اقْتِرَانُ تِلْكَ الْوَصَايَا بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا وَمَنَافِعِهَا لَمَا سُمِّيَتْ حِكْمَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى فِيهَا الْمُبَذِّرِينَ لِلْمَالِ (إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ نِظَامَ الْمَعِيشَةِ بِإِسْرَافِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ بِعَدَمِ حِفْظِهَا وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا بِالِاعْتِدَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (17: 27) ثُمَّ قَالَ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (17: 29) فَعَلَّلَ الْإِسْرَافَ فِي الْإِنْفَاقِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فَاعِلِهِ أَنْ يَكُونَ مَلُومًا مِنَ النَّاسِ وَمَحْسُورًا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْسُورُ مَنْ حُسِرَ عَنْهُ سَتْرُهُ فَانْكَشَفَ مِنْهُ الْمُغَطَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنِ انْحَسَرَتْ قُوَّتُهُ وَانْكَشَفَتْ عَنْ عَجْزِهِ، وَالْمَحْسُورُ الْمَغْمُومُ أَيْضًا. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصِحُّ فِي وَصْفِ الْمُسْرِفِ فِي النَّفَقَةِ، يُوقِعُهُ إِسْرَافُهُ فِي الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ إِلَخْ. وَحَسِيرُ الْبَصَرِ كَلَيْلُهُ وَقَصِيرُهُ.
وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ لِلْحَقَائِقِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ حَكِيمًا.

.(4) الْإِسْلَامُ دِينُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (4: 174) وَقَالَ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (23: 117) قَيَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى الشِّرْكِ بِكَوْنِهِ لَا بُرْهَانَ لِصَاحِبِهِ يَحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأُمَمَ مَعَ رُسُلِهِمْ وَوَرَثَتِهِمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبُهُمْ بِحَضْرَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (28: 75).
وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} (21: 220) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهِ بِمُطَالَبَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِهِ مُطَالَبَةَ تَعْجِيزٍ فَقَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (21: 24) الْآيَةَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (27: 64).
وَقَالَ فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ وَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ لَهُمْ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6: 81) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (6: 83) فَالدَّرَجَاتُ هُنَا دَرَجَاتُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْحِكْمَةِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِلْمِ آيَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِيهِ.
وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْبُرْهَانُ بِلَفْظِ السُّلْطَانِ قوله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} (40: 35) الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} (40: 56) الْآيَةَ، وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ بِآيَاتِهِ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ.