فصل: المقصد الْخَامِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: تَقْرِيرُ مَزَايَا الْإِسْلَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُقُوقِ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمَلِكِ وَالسُّوقَةِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ شَوَاهِدِهِ فِي إِصْلَاحِ التَّشْرِيعِ فِيهِ.
(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) الْوَحْدَةُ الدِّينِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدِّينِ، فِي أُخُوَّتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَعِبَادَاتِهِ، وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلِاجْتِمَاعِيِّ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَاؤُهُمْ وَكِبَارُ عُلَمَائِهِمْ يَخْتَلِطُونَ بِالْفُقَرَاءِ وَالْعَوَّامِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَسَائِرِ مَوَاطِنِ الْحَجِّ. لَا تَجِدُ شُعُوبَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ يَرْضَوْنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ لِلْعَمَلِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (49: 10) وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارَبِينَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (9: 11).
(الْأَصْلُ السَّادِسُ) وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، بِأَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْبِلَادِ الْخَاضِعَةِ لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ، إِلَّا حَقَّ الْإِقَامَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لِلْحَرَمَيْنِ وَسِيَاجِهِمَا مِنَ الْجَزِيرَةِ حُكْمَ الْمَعَابِدِ وَالْمَسَاجِدِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي مَعَابِدِ الْمَلَلِ كُلِّهَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَلَهَا حُرْمَتُهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهَا دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُمْ، الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) وَحْدَةُ الْقَضَاءِ وَاسْتِقْلَالُهُ وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيهَا أَمَامَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّخْصِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُرَاعِي فِيهَا حُرِّيَّةَ الْعَقِيدَةِ وَالْوِجْدَانِ بِنَاءً عَلَى أَسَاسِهِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ يَسْمَحُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى عُلَمَاءِ مِلَّتِهِمْ وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِعَدْلِ شَرِيعَتِنَا النَّاسِخَةِ لِشَرَائِعِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (5: 42) وَقَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (5: 48).
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) وَحْدَةُ اللُّغَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاتِّحَادُ وَالْإِخَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، وَصَيْرُورَةُ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ. وَمَازَالَ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ فِي مَصَالِحِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَكُونُ لَهُمْ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرِكَةٌ، يَتَعَاوَنُونَ بِهَا عَلَى التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَمَنَاهِجِ التَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمْنِيَةُ قَدْ حَقَّقَهَا الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ لُغَةِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحُكْمِ لُغَةً لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ، إِذْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ مَسُوقِينَ بِاعْتِقَادِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِفَهْمِهِمَا وَالتَّعَبُّدِ بِهِمَا وَالِاتِّحَادِ بِإِخْوَتِهِمْ فِيهِمَا، وَهُمَا مَنَاطُ سِيَادَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانَ كَوْنِهِ كِتَابًا عَرَبِيًّا وَحُكْمًا عَرَبِيًّا، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاتِّعَاظِ وَالتَّأَدُّبِ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَعَلَّمُونَ لُغَةَ الشَّرْعِ الَّذِي يَخْضَعُونَ لِحُكْمِهِ، وَالْحُكُومَةِ الَّتِي يَتْبَعُونَهَا لِمَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا.
وَقَدْ بَيَّنْتُ مِنْ قَبْلُ وُجُوبَ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَوْنَهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي رِسَالَتِهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ خُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، إِلَى أَنْ كَثُرَ الْأَعَاجِمُ وَقَلَّ الْعِلْمُ وَغَلَبَ الْجَهْلُ، فَصَارُوا يَكْتَفُونَ مِنْ لُغَةِ الدِّينِ بِمَا فَرَضَهُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ (فَرَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص264 وَمَا بَعْدَهَا ج9 ط الْهَيْئَةِ).
وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْكِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ، الَّذِي يُنَافِي وَحْدَتَهُمْ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ كَمَا شَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى لَهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه وَكَانَ يَخُصُّ بِمَقْتِهِ وَإِنْكَارِهِ التَّفَرُّقَ فِي الْجِنْسِ النِّسْبِيِّ أَوِ اللُّغَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَشْهُورٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجْمَعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ الشَّاهِدُ الْآتِي.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:
جَاءَ قَيْسُ بْنُ مُطَاطِيَّةَ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ، وَبِلَالٌ الْحَبَشِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدْ قَامُوا بِنُصْرَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَمَا بَالُ هَذَا (يَعْنِي هَذَا الْمُنَافِقُ بِالرَّجُلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ يَنْصُرُونَهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَا الَّذِي يَدْعُو الْفَارِسِيَّ وَالرُّومِيَّ وَالْحَبَشِيَّ إِلَى نَصْرِهِ؟).
فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ (أَيْ بِمَا عَلَى لَبَبِهِ وَنَحْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ) ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَتِهِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ- وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ، وَالْأَبَ وَاحِدٌ، وَإِنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ» فَقَامَ مُعَاذٌ، فَقَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي بِهَذَا الْمُنَافِقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «دَعْهُ إِلَى النَّارِ» فَكَانَ قَيْسٌ مِمَّنِ ارْتَدَّ فِي الرِّدَّةِ فَقُتِلَ.
أَرَأَيْتَ لَوْ ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَكَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْحُرُوبِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ وَأَدَّى بِهِمْ إِلَى هَذَا الضَّعْفِ الْعَامِّ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ حَافَظُوا عَلَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنْ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ تَجِدُ سَبِيلًا لِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الدَّوْحَةِ الْبَاسِقَةِ مِنْ جَنَّةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَامْتِلَاخِ هَذَا السَّيْفِ الصَّارِمِ مِنْ غِمْدِهِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الْمَعْصُومِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُصْلِحِ لِشُعُوبِ الْبَشَرِ وَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَجْلِ تَكْوِينِ هَذَا الشَّعْبِ وَمَا أُدْغِمَ وَيُدْغَمُ فِيهِ مِنَ الشُّعُوبِ تَكْوِينًا جَدِيدًا، بِرَابِطَةِ لُغَةٍ تُخْلَقُ خَلْقًا جَدِيدًا، لِأَجْلِ أَنْ يَلْحَقَ بِالشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ دَعِيًّا، كَمَا يُلْصَقُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبِيهِ إِلْصَاقًا فَرِيًّا، فَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا عَظِيمًا جَدَّدَ أَوْ أَوْجَدَ شَعْبًا وَلُغَةً وَدَوْلَةً وَدِينًا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَبْغُونَ.
لَقَدْ كَانَ هَذَا الشَّعْبُ (التُّرْكُ) قَائِمًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى رِيَاسَةٍ رُوحِيَّةٍ، يَدِينُ لَهَا أَوْ بِهَا زُهَاءَ أَرْبَعِمِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا يُحْسِنُ بِهِ الْقِيَامَةَ، وَمِنَ الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ مَا يُعَزِّزُ بِهِ الْقِيَادَةَ، وَمِنَ النِّظَامِ مَا يُحْكِمُ بِهِ السِّيَاسَةَ، لَأَمْكَنُهُ أَنْ يَسُوسَ بِهَا الشَّرْقَ ثُمَّ يَسُودَ بِنُفُوذِهَا الْغَرْبَ، كَمَا كَانَ يَقْصِدُ نَابِلْيُونُ الْكَبِيرُ لَوْ تَمَّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي مِصْرَ.
يَعْتَرِضُ بَعْضُ أُولِي النَّظَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَصَرِ الْكَلِيلِ عَلَى تَوْحِيدِ اللُّغَةِ فِي الشُّعُوبِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَنَّهُ خِلَافُ طَبِيعِيَّةِ الْبَشَرِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الدِّينِ أَبَعْدُ مِنْ تَوْحِيدِ اللُّغَةِ عَنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ إِنْ أُرِيدَ بِالْبَشَرِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمْ، وَأَنَّ الْحُكَمَاءَ، مَا زَالُوا يَسْعَوْنَ لِجَمْعِ الْبَشَرِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ تَرَقِّيَ بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَرَقِّي أَهْلِهَا فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْقُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ أَنْ يَرْغَبُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِجَمْعِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي شَرَعَ تَوْحِيدَ الدِّينِ مَعَ شَرْعِهِ وَلُغَتِهِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَأْبَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً تَدِينُ بَدِينٍ وَاحِدٍ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (11: 118، 119) وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِيَقِلَّ الشَّقَاءُ الَّذِي يُثِيرُهُ الْخِلَافُ فِيهِمْ- هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي جَعَلَ أَعْلَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُمْ فِي الْعُمْرَانِ يَبْذُلُونَ فِي هَذَا الْعَهْدِ أَكْثَرَ مَا تَسْتَغِلُّهُ شُعُوبُهُمْ مِنْ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ فِي سَبِيلِ الْحُرُوبِ الَّتِي تُنْذِرُ عُمْرَانَهُمْ بِالْخَرَابِ وَالدَّمَارِ.
دَعَا الْإِسْلَامُ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا، حَتَّى امْتَدَّ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مَا بَيْنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْهِنْدِ، وَلَوْلَا مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ، وَعَلَى حُكُومَاتِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَعَلَى شُعُوبِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ، وَالتَّفَرُّقِ بِالِاخْتِلَافِ، لَدَخَلَ فِيهِ أَكْثَرُ الْبَشَرِ، وَلَصَارَتْ لُغَتُهُ لُغَةً لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي حَظِيرَتِهِ مِنَ الْأُمَمِ، فَمِنْ غَرَائِزِهِمُ اخْتِيَارُ الْأَفْضَلِ إِذَا عَرَفُوهُ.
قَالَ أَحَدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي الْأَسِتَانَةِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ أَحَدُ شُرَفَاءِ مَكَّةَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقِيمَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي مَيْدَانِ كَذَا مِنْ عَاصِمَتِنَا (بَرْلِينْ) قِيلَ لَهُ: لِمَاذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَوَّلَ نِظَامَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ عَنْ قَاعِدَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْغَلَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَلَكُنَّا نَحْنُ الْأَلَمَانَ وَسَائِرَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ عَرَبًا وَمُسْلِمِينَ.
فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي تُوَحِّدُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَهَا بِمَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ عَلَيْهَا بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الَّذِي نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْأُمِّيِّ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ فَفَاقَ بِهَا جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، أَمِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيِ اللهِ تَعَالَى أَفَاضَهُ عَلَيْهِ؟!.

.المقصد الْخَامِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: تَقْرِيرُ مَزَايَا الْإِسْلَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ:

وَنُلَخِّصُ أَهَمَّهَا بِالْإِجْمَالِ فِي عَشْرِ جُمَلٍ:
(1) كَوْنُهُ وَسَطًا جَامِعًا لِحُقُوقِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2: 143) الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَسَطٌ بَيْنَ الَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْحُظُوظُ الْجَسَدِيَّةُ وَالْمَنَافِعُ الْمَادِّيَّةُ كَالْيَهُودِ، وَالَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّعَالِيمُ الرُّوحِيَّةُ، وَتَعْذِيبُ الْجَسَدِ وَإِذْلَالُ النَّفْسِ وَالزُّهْدُ كَالْهِنْدُوسِ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ التَّعَالِيمَ أَكْثَرُهُمْ.
(2) كَوْنُ غَايَتِهِ الْوُصُولَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، لَا بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ وَالِاتِّكَالِ، وَلَا بِالشَّفَاعَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(3) كَوْنُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّعَارُفَ وَالتَّأْلِيفَ بَيْنَ الْبَشَرِ، لَا زِيَادَةَ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ فِي كَوْنِهِ عَامًّا مُكَمِّلًا وَمُتَمِّمًا لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي.
وَإِنَّمَا تَفْصِيلُ أُصُولِهِ فِي تِلْكَ الْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ.
(4) كَوْنُهُ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عُسْرَ وَلَا إِرْهَاقَ وَلَا إِعْنَاتَ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2: 286) وَقَالَ بَلَغَتْ حِكْمَتُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} (2: 220) وَقَالَ عَظُمَتْ رَأْفَتُهُ: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2: 185) وَقَالَ جَلَّتْ مِنَّتُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (22: 78) وَقَالَ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (5: 6).
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَدَاؤُهُ وَيُحْرِجُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَمِثْلُهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ- الْأَوَّلُ يَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ وَيَقْضِيهِ كَالْمُسَافِرِ، وَالثَّانِي لَا يَقْضِي بَلْ يُكَفِّرُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ إِذَا قَدَرَ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَيُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الرِّبَا وَآيَاتِ الصِّيَامِ، وَآيَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ يُسْرِ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (5: 101) مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَجُمِعَ فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ.
(5) مَنْعُ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَإِبْطَالُ جَعْلِهِ تَعْذِيبًا لِلنَّفْسِ، بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ بِدُونِ إِسْرَافٍ وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي تَفْسِيرِ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (7: 31 و32) وَقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} وَهُوَ فِي (4: 171) و(5: 77) وَفِي هَذَا النَّهْيِ اعْتِبَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْغُلُوِّ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْيُسْرِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَةِ وَعَنْ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَعَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخِصَاءِ مُبَيِّنَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مِصْدَاقُ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.
(6) قِلَّةُ تَكَالِيفِهِ وَسُهُولَةُ فَهْمِهَا، وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَجِيءُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُسْلِمُ، فَيُعْلِمُهُ مَا أَوْجَبَ اللهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَيُعَاهِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَيَقُولُ: «أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ» وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ قَبُولِ النَّاسِ لَهُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا التَّكَالِيفَ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَتَّى صَارَ الْعِلْمُ بِهَا مُتَعَسِّرًا، وَالْعَمَلُ بِهَا مُتَعَذِّرًا.
(7) انْقِسَامُ التَّكْلِيفِ إِلَى عَزَائِمَ وَرُخَصٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرُّخَصِ، وَابْنُ عُمَرَ يُرَجِّحُ الْعَزَائِمَ. وَالنَّاسُ دَرَجَاتٌ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّشْمِيرِ وَالِاعْتِدَالِ، فَيُوَافِقُ الْبَدَوِيَّ السَّاذَجَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْحَكِيمَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّبَقَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (35: 32).
(8) نُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ مُرَاعًى فِيهِمَا دَرَجَاتُ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَضَعْفِهَا، فَالْقَطْعِيُّ مِنْهَا هُوَ الْعَامُّ، وَغَيْرُ الْقَطْعِيِّ تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَفْهَامُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُقِرُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ، كَمَا فَعَلَ عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فَتَرَكَهُمَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَأَقَرَّ كُلًّا عَلَى اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَتَا الْمَائِدَةِ بِالتَّحْرِيمِ الْقَطْعِيِّ.
قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (29: 43).
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ فِيهِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ أَيْضًا، وَأَمَّا الْآيَاتُ الظَّنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ، وَالْأَحَادِيثُ الْأُحَادِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ الرِّوَايَةِ أَوِ الدَّلَالَةِ، فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ.
(9) مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ وَجَعْلُ الْبَوَاطِنِ مَوْكُولَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَّامِ وَلَا الرُّؤَسَاءِ الرَّسْمِيِّينَ وَلَا لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا وَلَا أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَوْ يُضْمِرُ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا الْعُقُوبَاتُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الْعَمَلِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ: بَرَاءَةٌ (التَّوْبَةِ).
(10) مَدَارُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا عَلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ شَخْصِيٌّ وَلَا رِيَاسَةٌ، وَمَدَارُهَا فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ النِّيَّةِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرَيْنِ كَثِيرَةٌ.