فصل: قَوَاعِدُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قَوَاعِدُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ:

مَنِ اسْتَقْرَأَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ شَخْصِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ يَرَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا كُلِّهَا قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَشَرَهِ التِّجَارَةِ بِالدِّينِ وَالْخُرَافَاتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْإِصْلَاحِ الْحَرْبِيِّ.
وَالْعِبْرَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ، الَّتِي فَضُلَ بِهَا الْإِسْلَامُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوَانِينِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ، فَهَلْ كَانَتْ بِوَحْيٍ نَبَعَ بَعْدَ الْكُهُولَةِ مِنْ نَفْسِهِ، أَمْ هُوَ كَمَا بَلَغَنَا رُوحِيٌّ مِنْ رَبِّهِ؟.

.المقصد السَّابِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ: الْإِرْشَادُ إِلَى الْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ:

(تَمْهِيدٌ) بَيِّنَّا مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ أَوْ أُصُولَ فِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ مِنْ طَرِيقِ التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ وَالسُّلْطَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْمَفَاسِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّذِي يَتَوَقَّفُ كَمَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ وَهِيَ:- طُغْيَانُ الثَّرْوَةِ وَدَوْلَتِهَا. عُدْوَانُ الْحَرْبِ وَقَسْوَتُهَا. ظُلْمُ الْمَرْأَةِ وَاسْتِبَاحَتُهَا. ظُلْمُ الضَّعْفَةِ وَالْأَسْرَى وَسَلْبُ حُرِّيَّتِهِمْ، وَهُوَ الرِّقُّ الْمُطْلِقُ- ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ حُظُوظِ الدُّنْيَا مَنُوطَةٌ- مِنْهَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِصْلَاحُ فِيهَا إِلَّا بِتَعَاوُنِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ وَإِنَّنَا نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، مُبْتَدِئِينَ بِالْمَالِ، وَالْآيَاتُ فِيهِ تَدُورُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْطَابٍ، فَنَقُولُ:

.1- الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي الْمَالِ كَوْنُهُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ:

الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْقُرْآنِ فِي الْمَالِ أَنَّهُ فِتْنَةٌ، أَيِ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانٌ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَعَايِشَ وَمَصَالِحَ، إِذْ هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَهُوَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّنَافُسِ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ، وَكَنْزِهِ وَاحْتِكَارِهِ وَجَعْلِهِ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَتَدَاوُلِهِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (3: 186) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَأَى عَرْشَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكَرُ أَمْ أَكْفُرُ} (27: 40) الْآيَةَ.
وَقَالَ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضَّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} (34: 37) الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (30: 39) وَقَالَ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} (3: 14) الْآيَةَ. وَقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (8: 28) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ (64: 15) وَيَلِيهَا التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ وَقَصْرُ الْفَلَاحِ عَلَى الْوِقَايَةِ مِنْ شُحِّ النَّفْسِ، وَقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (18: 46) انْظُرْ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْكَهْفُ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (7) وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْعُمْرَانِ، وَأَحْسَنُهُ أَنْفَعُهُ لِلنَّاسِ وَأَرْضَاهُ لِلَّهِ بِشُكْرِهِ، ثُمَّ مَا ضَرَبَهُ مِنَ الْمَثَلِ بِصَاحِبَيِ الْجَنَّتَيْنِ، وَالْمَثَلِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِنَبَاتِ الْأَرْضِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (59: 7) وَالدُّولَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ الْمَالُ الْمُتَدَاوَلُ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَالُ مَحْصُورًا فِي الْأَغْنِيَاءِ مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ وَحْدَهُمْ. وَقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (9: 34) إِلَخْ، الْكَنْزُ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ التَّدَاوُلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَالُ نَافِعًا لِلنَّاسِ.
وَالشَّوَاهِدُ فِي فِتْنَةِ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ تَجِدُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَلاسيما الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنْهُ فَمِنَ الْآيَاتِ فِي ارْتِبَاطِ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَالشَّقَاءِ بِمَنْعِهِ مَا هُوَ لِلتَّرْهِيبِ وَمَا هُوَ لِلتَّرْغِيبِ، وَجَمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2: 195) الْآيَةَ، أَيْ إِنَّ مَنْعَ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّهْلُكَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2: 195) وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ اللَّيْلِ: (92: 5- 11).
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ شَوَاهِدُ الْقُطْبِ الثَّانِي مِنْ آيَاتِ الْمَالِ وَهِيَ:

.2- الْآيَاتُ فِي ذَمِّ طُغْيَانِ الْمَالِ وَغُرُورِهِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ:

قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَلَقِ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (96: 6 و7) أَيْ حَقًّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ غَنِيًّا بِالْمَالِ. وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَبِي جَهْلٍ أَشَدِّ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْمَسَدِ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (111: 1 و2) إِلَخْ وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْهُمَزَةِ: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} (104: 2 و3) إِلَخْ. وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ مِنْ سُورَتَيِ الْمُدَّثِّرِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِمَا.

.3- ذَمُّ الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِهِ وَالرِّيَاءِ فِي إِنْفَاقِهِ:

قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3: 180) وَقَالَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} (2: 268) الْآيَةَ، فَسَّرُوا الْفَحْشَاءَ بِالْبُخْلِ. أَيِ الشَّيْطَانُ يَصُدُّكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَخْوِيفِكُمْ مِنَ الْفَقْرِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْبُخْلِ الَّذِي فَحَشَ شَرُّهُ وَضَرَرُهُ، وَقَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} (57: 23 و24) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ آيَاتُ 9: 76 و77 وَآيَةُ 47: 38 وَآيَةُ 4: 39 وَآيَةُ 2: 188 وَآيَةُ 4: 161 وَآيَةُ 4: 29 وَآيَةُ: 9: 34 و35.

.4- مَدْحُ الْمَالِ وَالْغِنَى بِكَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ وَجَزَائِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ:

قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْهُ: {فَقَلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (71: 10- 12) وَفِي مَعْنَاهُ مَا حَكَاهُ عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَتِهِ (11: 52) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ (72: 13- 17) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيَانُ نِعْمَتِهِ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِمَا بِهِدَايَةِ الدِّينِ فِي آخِرِ قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طه (20: 122 و123) الْآيَاتِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى عَطْفًا عَلَى الْأَمْرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (9: 28) أَيْ وَإِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا يَعْرِضُ لَكُمْ بِحِرْمَانِ مَكَّةَ مِمَّا كَانَ يُنْفِقُهُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ وَغَنَائِمِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ لِلَّذِينِ أَعْطَوُا الْفِدَاءَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ: {إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} (8: 70) وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْعَرَبَ الْفُقَرَاءَ عَامَّةً وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَسْرَى بِالْإِسْلَامِ، فَجَعَلَهُمْ أَغْنَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ الْأَعْظَمِ بِقَوْلِهِ: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (93: 8) وَامْتَنَّ عَلَى قَوْمِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتِّجَارَةِ الْوَاسِعَةِ بِرِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فِي سُورَةٍ خَاصَّةٍ بِذَلِكَ، وَسَمَّى لْمَالَ الْكَثِيرَ خَيْرًا بِقَوْلِهِ فِي صِفَاتِ الْإِنْسَانِ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لِشَدِيدٌ} (100: 8) وَقَالَ: {إِنَّ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (2: 180) الْآيَةَ.

.5- مَا أَوْجَبَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالِاقْتِصَادِ فِيهِ:

قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} (4: 5) قِيَامُ الشَّيْءِ وَقِوَامُهُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ) مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ وَيُحْفَظُ وَيَثْبُتُ، أَيْ جَعَلَهَا قِوَامَ مَعَايِشِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ وَالسُّفَهَاءُ هُمُ الْمُسْرِفُونَ الْمُبَذِّرُونَ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِمْ دُونَ الرُّشْدِ أَوْ لِفَسَادِ أَخْلَاقِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (25: 67) الْإِسْرَافُ: التَّبْذِيرُ وَالْإِفْرَاطُ وَالْقَتْرُ وَالْقُتُورُ وَالْإِقْتَارُ: الْإِقْلَالُ وَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ.

.6- إِنْفَاقُ الْمَالِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَالْوَسِيلَةِ لِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَعَزَّةِ الدَّوْلَةِ:

هَذَا هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَقْطَابِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْمَالِ وَأَكْثَرِهَا فِيهِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَسَائِلُ لَهُ، وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَأَظْهَرُ الشَّوَاهِدِ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ هُوَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِذْعَانِ، الْمَبْنِيِّ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِدُونِ شَهَادَتِهِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْإِسْلَامِ تُقَبْلُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ الْعَمَلِيَّةَ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى السَّرَائِرِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (49: 14 و15) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، فَقَدَّمَ الْجِهَادَ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي تَحْقِيقِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ. وَيَلِي هَذَا الشَّاهِدَ آيَةُ الْبِرِّ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ بِالِاخْتِيَارِ، أَوَّلُ آيَاتِ الْإِيمَانِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (2: 177) إِلَخْ.
وَمِنَ الْآيَاتِ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} (4: 95) اقْرَأْ تَتِمَّةَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} (57: 10) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَثِيرَةٌ، وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُهَا فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي وَالْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَهَذَا الْجُزْءِ (11) مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ، وَبَيَانِ آدَابِهِ، عِشْرُونَ آيَةً مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هِيَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ يَتَخَلَّلُهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا فَرَاجِعْهَا مِنْ آيَةِ 261- 281 مَعَ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ.
ثُمَّ رَاجِعْ فِي فِهْرِسِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ كَلِمَةَ (الْمَالُ: الْجِهَادُ بِهِ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ وَقِوَامُ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ) يُرْشِدْكَ إِلَى عَشْرِ صَفَحَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَصَّلْنَا فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.

.7- الْحُقُوقُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَنْدُوبَةُ فِي الْمَالِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ فِي الْإِسْلَامِ:

قَدْ عَقَدْتُ لِتَفْسِيرِ قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (9: 103) فَصْلًا: {فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ وَامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ} وَلَخَّصْتُ أُصُولَ هَذَا الْإِصْلَاحِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَصْلًا، فَرَاجِعْهَا فَمَا هِيَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ.
وَمَوْضُوعُ بَحْثِنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ (دَلَائِلُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي عَرَفْنَا خُلَاصَةَ تَارِيخِهِ قَدِ اهْتَدَى بِعَقْلِهِ، أَوْ بِوَحْيٍ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فَاقَتْ وَعَلَتْ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ فِي أَرْقَى عُصُورِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ، وَإِنَّمَا الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفَاضَهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فَلَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهُ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ.

.المقصد الثَّامِنُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ: إِصْلَاحُ نِظَامُ الْحَرْبِ وَدَفْعُ مَفَاسِدِهَا وَقَصْرُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلْبَشَرِ:

التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ فِي مَرَافِقِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ غَرِيزَةٌ مِنْ غَرَائِزِ الْحَيَاةِ، وَإِفْضَاءُ التَّنَازُعِ إِلَى التَّعَادِي وَالِاقْتِتَالِ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، أَوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ كَانَ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ الْفَلْجُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَانَ الظَّفَرُ لِلْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّظَامِ وَالِاخْتِلَالِ كَانَ النَّصْرُ لِلنِّظَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الْغَلَبُ لِلصَّلَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (21: 18) وَقَالَ فِي بَيَانِ نَتِيجَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمَا: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (13: 17).
وَأَمَّا التَّنَازُعُ وَالتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالسُّلْطَةِ الظَّالِمَةِ، وَاسْتِبْعَادُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُ مُسْتَطِيرٌ، وَيَزِيدُ ضَرَاوَةَ الْبَشَرِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيُورِثُهُمُ الْحِقْدَ وَيُؤَرِّثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى خِيفَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى هَذَا الْعُمْرَانِ الْعَظِيمِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ، بِمَا اسْتَحْدَثَهُ الْعِلْمُ الْوَاسِعُ مِنْ وَسَائِلِ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ، كَالْغَازَاتِ السَّامَّةِ وَمَوَادِّ الْهَدْمِ وَالتَّحْرِيقِ تَقْذِفُهَا الطَّيَّارَاتُ الْمُحَلِّقَةُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، عَلَى الْمَدَائِنِ الْمُكْتَظَّةِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَتَقْتُلُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ سَاعَاتٍ مَعْدُودَةٍ.
وَقَدْ حَارَتِ الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَتَرَى دَهَاقِينَ السِّيَاسَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَفَاوَضُونَ مَعَ أَقْرَانِهِمْ لِوَضْعِ نِظَامٍ لِتَقْرِيرِ السَّلَامِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ الْخِصَامِ، بِمُعَاهَدَاتٍ يَعْقِدُونَهَا، وَأَيْمَانٍ يَتَقَاسَمُونَهَا، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ خَائِبِينَ، أَوْ يَنْقُضُونَ مَا أَبْرَمُوا مُتَأَوِّلِينَ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِهِ مُخَادِعِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ سَبَبَ هَذِهِ الْخَيْبَةِ بِمَا وَجَدْنَا مِصْدَاقَهُ فِي هَذِهِ الدُّوَلِ بِأَظْهَرِ مِمَّا كَانَ فِي عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ نَزَلَ هَذَا الْبَيَانُ فِي عَهْدِهِمْ، كَأَنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (16: 92) وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا فِي نَقْضِ عُهُودِكُمْ وَالْعَوْدِ إِلَى تَجْدِيدِهَا كَالْمَرْأَةِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ إِبْرَامِهِ نَقْضَ أَنْكَاثٍ (وَهُوَ جَمْعُ نِكْثٍ بِالْكَسْرِ: مَا نُقِضَ لِيُغْزَلَ مَرَّةً أُخْرَى) حَالَ كَوْنِكُمْ تَتَّخِذُونَ عُهُودَكُمْ دَخْلًا بَيْنَكُمْ (وَالدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَسَادُ وَالْغِشُّ الْخَفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ) لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى رِجَالًا، وَأَكْثَرَ رِبْحًا وَمَالًا، وَأَقْوَى أَسِنَّةً وَنِصَالًا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ مُعَاهَدَاتِ الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأُمَمِ، يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْإِصْلَاحُ وَالْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ، فَتُبْنَى عَلَى الْإِخْلَاصِ دُونَ الدَّخَلِ وَالدَّغَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَا ذُكِرَ.
وَلَوْ طَلَبُوا الْمَخْرَجَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَوَجَدُوهُمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالسَّلَامِ، وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ.