فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا رأيت إنسانًا محسنًا في دينه، فلابد لك أن تحترمه؛ لأن إحسانه في دينه قد ينفعك أنت؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
وكان الحق سبحانه قادرًا أن ينزلها إياك أعبد وإياك أستعين ولكنه شاء أن تنزل على صورتها تلك؛ حتى يأذن سبحانه بقبول الصفقة من كل قائليها، فيتقبل من عباده أعمالهم بما يغفر لبعضهم الأشياء المعيبة.
ولذلك أقول: إن رأيت إنسانًا مستغرقًا في العبادة فلا تسخر منه ولا تهزأ به؛ لأن حرصه على الطاعة وانشغاله بالعبادة قد تنفعك أنت.
وساعة تتلقى آمرًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجده شاقًّا، فعليك أن تتذكر أنه المرجع الذي قد يشفع لك في الأمور التي لم تقدر عليها.
ولابد أن يرضى الحق عن المشفوع له؛ لأنه قد أجاد فعل حسنات. وإن كانت له سيئات، وقد رأى رجل سيدنا عمر في رؤيا، فسأل الرائي سيدنا عمر بن الخطاب: ماذا افعل الله بك يا ابن الخطاب؟ فقال سيدنا عمر: غفر الله لي. فسأل الرائي: بماذا؟ أجاب سيدنا عمر: لأني رأيت غلامًا يعبث بعصفور فاشتريته حتى لا أفجعه في عصفور يملكه، وأخذت العصفور وأطلقته.
واعترض أحد السامعين للرؤيا متسائلًا: ألم يفعل ابن الخطاب أعمالًا تؤهله لمغفرة الله إلا مسألة العصفور هذه؟ فقال له قائل: أحسن الفهم يا رجل؛ فمسألة إطلاق العصفور إنما تخص غفر الخطايا، وأما أعمال عمر بن الخطاب الجليلة فهي لرفع الدرجات.
وفي القرآن آيتان جاءتا بنص متقارب، فالحق يقول: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ...} [البقرة: 48].
والآية الثانية تقول: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ...} [البقرة: 123].
ومن حاولوا المقارنة بين الآيتين بغرض الطعن في القرآن، هم من الغرباء عن اللغة ولا يملكون ملكة البيان التي يمكن أن يستقبلوا الأساليب بها، ولو امتلكوا هذه الملكة لعلموا أن الصدر في الآيتين محتمل لوجهين، فهناك نفس جازية هي التي تتشفع ونفس مجزيٌّ عنها هي التي يُتشفع لها.
والضمير الذي يأتي في قول الحق: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا} و{وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا} و{وَلاَ تَنفَعُهَا}، هذا الضمير يصح أن يرجع إلى النفس الشافعة، ويصح أن يرجع إلى النفس المشفوع لها. والإنسان منا إذا ما كان عليه شيء لإنسان آخر، وغير قادر على أن يستبرئ ذمته منه، فهو يلجأ إلى صديق لهذا الآخر، له مكانة عنده ليستشفع له. وفور أن يذهب صاحب المكانة إلى هذا الاخر فهو يقول له: هل تقبل شفاعتي لفلان؟ فإن قال صاحب الأمر: لن أقبل الشفاعة، فالمستشفع عنده يقول له: إذن: سأدفع العدل، أي: ما يساوي قيمة ما كنت سأتشفع له فيه.
وهكذا نجد أنفسنا أمام نفسين: شافعة، ومشفوع لها. والضمير يعود على أي من النفسين.
وهكذا نجد أن صدر كل آية من الآيتين اللتين يقال عنهما: إنهما متشابهتان، صدر كل منهما منسجم مع عجزها.
وينهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بعد أن أوجزت الآية فكرة عن خلق الله تعالى للكون، وأنه يشفع لمن شاء ويختار من يقدم له الشفاعة، فيقول: {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3].
فسبحانه خلق الكون، واستتبَّت بيده مقاليد الأمور، وخلق الإنسان ليعمر هذا الكون، ونعلم أنه سبحانه قد شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو، وحين يشهد الحق لنفسه، فسبحانه على ثقة تامة بأن أوامره في كونه نافذة.
وقوله سبحانه: {ذلكم} أي: إشارة إلى ما تقدم من خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش، وتدبير الأمر كله، ولا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، هذا هو الله ربكم، وما دام هو ربكم فاعبدوه؛ لأنه هو الذي خلق من عدم، وأمد من عُدْم، وله كل صفات الكمال المطلق.
وهذه العبادة لا تعود عليه سبحانه بأي فائدة، فسبحانه منزَّه عن فائدة تعود عليه؛ لأنكم إن عبدتموه فلن تزيدوا في ملكه شيئًا، وإن لم تعبدوه فلن تنقصوا من ملكه شيئًا. والعبادة يعود نفعها عليكم؛ لأنكم ستأخذون بها منهجًا يخرج كل الخلق عن أهوائهم، ويصير هوى الموجِّه واحدًا، فلا تصطدم إرادة بإرادة، بل تتساند الإرادات؛ فيتكامل العالم.
إذن: فالعبادة توحِّد أهواء الخلق إلى مراد واحد، لا يأنف الإنسان منا أن يخضع له؛ لأن هذا ليس خضوعًا من بشر لبشر، بل خضوعًا من مخلوق لخالق، وبذلك تستقيم أموركم الاختيارية، كما استقامت أموركم غير الاختيارية.
وهكذا لا تنحصر العبادة في أركان الإسلام الخمسة فقط، بل تكون هذه الأركان الخمسة هي الدعائم التي تقوم عليها عمارة الإسلام، وكل الإسلام هو كل أمر لله وكل نهي له سبحانه؛ ولذلك حين نتابع تسلسل الأمور، سنجد أن أركان الإسلام الواجبة تعتمد على حركة الحياة كلها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويقول الحق في آخر الآية: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} والذهن أو المخ- كما نسميه- فيه ملكات متعددة مثل: ملكة التخيُّل، وملكة الحفْظ والاختزان، وكثير من الملكات الأخرى منها مَلكَةُ التذكُّر. ومعنى التذكُّر أن شيئًا سبق لك إلْفٌ به، فطرأ عليك ما أنساك، وحين تنسى أمرًا يخصُّ أحد أقرانك، فهو يقول لك: تذكر يا أخي الأمر الفلاني، وهو لا يأتي لك بأمرٍ مجهول لم تعرفه أولًا، بل يأتي لك بأمر كان معلومًا لك، ولكنك نسيته.
والإنسان حين ينظر إلى الكون نظرة غير متحيزة لابد أن يؤمن بأن لهذا الكون إلهًا، وهذا الأمر لا نأخذه من الفلاسفة، بل من رجل الشارع، وراعى الشاة؛ فقد جاء في الأثر أن راعيًا كان يسير في الصحراء فرأى بَعْرًا في الطريق، فقال: إذا كان البعر يدل على البعير، والسير يدل على المسير، أفلا يدل كل هذا الكون على وجود اللطيف الخبير؟!
والمثال من حياتنا اليومية: أن غسَّالة الملابس الكهربية- وهي لا تدل على شيء ضروري في الحياة، بدليل أن السابقين علينا كانوا يغسلون ملابسهم بدونها، فهي تمثل ترفًا، لا ضرورة- نجد الناس يعرفون من الذي ابتكرها، ومن أوصلها بالكهرباء ومَنْ صنع لها توقيتات دورات الغسيل، ومثلها مثل المصباح الكهربي ومَنْ صنع لها توقيتات دورات الغسيل، ومثلها مثل المصباح الكهربي الذي يفسد بعد عدد معيّن من الساعات، ونجد التلاميذ يدرسون تاريخ من صنعه، فهل يمكن أن ننسى من خلق الشمس التي تضيء الكون؟
بل ونجد في زماننا العالم والكافر وهو يمدُّنا بأدلة الإيمان، فكل اختراع نجد مَنْ يسجله؛ حتى لا يسرقه غيره، فما بالنا بالشمس التي تضيء وتُدْفئ، والقمر الذي يحدد الشهور، والنجوم التي تدل الناس على الاتجاهات ولا شيء في كون الله يحتاج إل قطع غيار، ألا نعترف بمن خلق كل ذلك، ها هو ذا سبحانه يدلنا على مَنْ خلق ويبلغنا ما يسجل له ملكية ما خلق، فأنزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم ليدلنا على أنه سبحانه الذي خلق، وأبقى الله الكافرين ليتحدى مَنْ يناقض قضية الخلق.
وسجل الحق سبحانه ما خلقه لنفسه، ولم يقدر أحد من الكافرين على إنكار ذلك.
ولن نأخذ الأدلة على وجود الله من الفلاسفة الذين يرتبون النتائج على المقدمات، ومطابقة قياس الشكل على الموضوع، بل سوف نأخذ الدليل من كلمة الكفر نفسها، هذه الكلمة (كفر) تعني: (ستر)، فهل يُسْتَرُ إلا موجودٌ؟
إذن: فالكفر بالله دليل على وجود الله، وما دام الكفر سَتْرًا، فالكفر أمر طارئ، نتيجة للغفلة، والغفلة إنما تأتي لأن مقتضيات الإيمان تقيد النفس في حركتها؛ لذلك قد يغفل الإنسان متناسيًا أن قيود المنهج لا تطبق عليه وحده، بل تطبق على كل الناس.
فحين يُحرَّم الله السرقة، فهو لم يحرمها علىإنسان واحد، بل حرمها على كل إنسان، فقيَّد الآخرين ومنعهم من أن يسرقوا منك.
وحين يأمرك بغضِّ بصرك عن محارم جارك، فهو يحمي محارمك أن ينظر إليها غيرك.
إذن: فالإيمان جاء بالنفعية لكل إنسان. وما دام الأمر كذلك، نجد الحق سبحانه يقول: {اذكروا...} [فاطر: 3].
وحين يجلس الإنسان بمفرده ولا تُحركه شهواته فهو يهتدي إلى الإيمان بأن هذا الكون لم يَأتِ صدفة.
واسم الخالق للكون لا يمكن أن يعرفه الإنسان بعقله؛ لأن التصورات تختلف من إنسان لآخر. وتجد الفلاسفة حين أقروا بأن هذا الكون لابد له من خالق لم يتعرفوا على الاسم، بل أخطأ بعضهم التصور وظنوا أن من خلق الكون ترك النواميس لتعمل، وتناسوا أن الخالق لا يباشر سلطانه في الكون مرة واحدة.
لذلك جاء الرسل بالمعجزات التي تخرق النواميس؛ ليدلنا سبحانه على أنه هو الذي خلق، وله قيومية على ما خلق، فليست المسألة مسألة نواميس تعمل بذاتها، بل شاء سبحانه أن يدلنا على عدم الآلية في الكون.
ونحن نعلم أن الآلية التي يصممها البشر في بعض المعدات تتسبب في إحداث جمود، فالعقل الإلكتروني ليست له قيومية على المعلومات المختزنة فيه، فلا يستطيع أن يخفي منها شيئًا إذا طلبت منه.
أما عقل الإنسان فله سيطرة على معلوماته ويستطيع أن يخفي ما شاء منها، ولذلك قال الحق سبحانه: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42].
فما دام قيل للإنسان: لا تكتم الحق. إذن: فله قدرة على الإخفاء.
والوردة الطبيعية- على سبيل المثال- حيويتها في ذبولها على عكس الوردة الصناعية التي تظل على جمودها ليس فيها حياة.
والحق حين يقول: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ...} [المؤمنون: 80] أو {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ...} [السجدة: 4] فهو يحرّض الإنسان على أن يتذكر، ويتفكر، ويعتبر. ولو كان القرآن يريد أن يخدع الإنسان، لما أثار انتباهه إلى ضرورة التذكر والتفكر والتدبر والاعتبار.
وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى: هب أنك ذهبت إلى محل للصوف لتشتري قماشًا متميزًا، فتجد البائع يفرد أمامك القماش، ويشده بيديه ليبين لك متانته، ثم يأخذ منه خيطًا ويحرقه ليبين لك أنه صوف خالص نقي، إن هذا البائع يحاول أن يشرح لك خبايا صناعة الصوف؛ لأنه واثق من جودة ما يبيع.
هذا ما يحدث فيما بين البشر، فما بالنا حين يعرض خالق الكون على مخلوقاته أسرار الكون ويدعوهم عبر منهجه إلى التذكُّر والتعقُّل والتفكُّر والتدبُّر والاعتبار.
والحق سبحانه يطلب منا ذلك ثقة منه في أن الإنسان منا، إن فعل ذلك؛ فسيصل إلى مراد الحق من الخلق.
وإياكم أن تظنوا أن الله خَلَق لكم، ثم خلق لكم، ثم أنزل لكم المنهج ليسعد حياتكم في الدنيا والآخرة، ثم اعتزلكم. لا، بل هو قيُّوم حياتكم ولا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا يفلت منه شيء، ولا أحد بقادر علىأن يختلس منه شيئا.
وفي الحديث القدسي: «يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم. وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فَلِم جعلتموني أهون الناظرين إليكم».
وأنت في الحياة اليومية تعرف أن أحدًا لا يقترب من إنسان قوي منتبه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}
قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر} فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ خبرًا ثانيًا لـ {إن}.
الثاني: أنه حالٌ.
الثالث: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإِعراب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
لا يحتاج فِعْله إلى مُدّةٍ، وكيف ذلك ومن جملة أفعاله الزمان والمدة؟ فَخَلَقَ السموات والأرضَ في ستة أيام، وتلك الأيام أيضًا من جملة ما خَلَق الله سبحانه وتعالى.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت. وملوكنا إذا أرادوا التجلّي والظهورَ للحَشَم والرعية برزوا لهم على سرير مُلْكِهم في ألوان مشاهدهم. فأخبر الحقُّ سبحانه بما يَقْرُب من فَهْم الخلْقِ ما ألقى إليهم من هذه الجملة: استوى على العرش، ومعناه اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وعلاء الربوبية، تقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار، والمعبودُ عن الحدود.
{يُدّبّرُ الأَمْرَ}: أي الحادثاتُ صادرةٌ عن تقديره، وحاصلةٌ بتدبيره، فلا شريكَ يعضده، وما قضى فلا أحد يردُّه.
{مَا مِن شَفِيعٍ إلاَّ مِنْ بَعدِ إذْنِهِ}: هو الذي يُنْطِقُ مَنْ يخاطبه، وهو الذي يخلق ما يشاء على من يشاء إذا التمس يُطالِبهُ.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}: تعريف وقوله: {فَاعْبُدُوهُ}: تكليف؛ فحصولُ التعريف بتحقيقه، والوصولُ إلى ما وَرَدَ به التكليف بتوفيقه. اهـ.