فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اختلفوا في المخاطبين بقوله سبحانه وتعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} فقال قوم: هم المؤمنون بالرسول.
قال: لأن من ينكر الصلاة أصلًا والصبر على دين محمد صلى الله عليه وسلم لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة، فلا جرم وجب صرفه إلى من صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يمتنع أن يكون الخطاب أولًا في بني إسرائيل، ثم يقع بعد ذلك خطابًا للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والأقرب أن المخاطبين هم بنو إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم.
فإن قيل: كيف يؤمرون بالصبر والصلاة مع كونهم منكرين لهما؟
قلنا: لا نسلم كونهم منكرين لهما.
وذلك لأن كل أحد يعلم أن الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن وأن الصلاة التي هي تواضع للخالق والاشتغال بذكر الله تعالى يسلي عن محن الدنيا وآفاتها، إنما الاختلاف في الكيفية، فإن صلاة اليهود واقعة على كيفية وصلاة المسلمين على كيفية أخرى.
وإذا كان متعلق الأمر هو الماهية التي هي القدر المشترك زال الإشكال المذكور وعلى هذا نقول: إنه تعالى لما أمرهم بالإيمان وبترك الإضلال وبالتزام الشرائع وهي الصلاة والزكاة؛ وكان ذلك شاقًا عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه لا جرم عالج الله تعالى هذا المرض فقال: {واستعينوا بالصبر والصلاة}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والصلاة} خصّ الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهًا بذكرها.
و: كان عليه السلام إذا حَزَبَه أمْرٌ فَزَع إلى الصلاة؛ ومنه ما روي أن عبد اللَّه بن عباس نُعِيَ له أخوه قُثَم وقيل بنت له وهو في سفر فاسترجع وقال: عَوْرة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله.
ثم تنحَّى عن الطريق وصلّى، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: {واستعينوا بالصبر والصلاة}.
فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية.
وقال قوم: هي الدعاء على عُرْفها في اللغة؛ فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله} [الأنفال: 45]؛ لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء.
وقول ثالث، قال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم؛ ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبًا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهّد في الدنيا، والصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر، وتُخشع ويُقرأ فيها القرآن الذي يذكّر الآخرة. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

ذكروا في الصبر والصلاة وجوهًا:
أحدها: كأنه قيل واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر أي يحبس النفس عن اللذات، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك تم الأمر، لأن المشتغل بالصلاة لابد وأن يكون مشتغلًا بذكر الله عز وجل وذكر جلاله وقهره وذكر رحمته وفضله، فإذا تذكر رحمته صار مائلًا إلى طاعته وإذا تذكر عقابه ترك معصيته فيسهل عند ذلك اشتغاله بالطاعة وتركه للمعصية.
وثانيها: المراد من الصبر هاهنا هو الصوم لأن الصائم صابر عن الطعام والشراب، ومن حبس نفسه عن قضاء شهوة البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله تعالى وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثيره الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات، ولأنه عليه الصلاة والسلام قال: «الصوم جنة من النار».
وقال الله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] لأن الصلاة تمنع عن الاشتغال بالدنيا وتخشع القلب ويحصل بسببها تلاوة الكتاب والوقوف على ما فيه من الوعد والوعيد والمواعظ والآداب الجميلة، وذكر مصير الخلق إلى دار الثواب أو دار العقاب رغبة في الآخرة ونفرة عن الدنيا فيهون على الإنسان حينئذ ترك الرياسة، ومقطعة عن المخلوقين إلى قبلة خدمة الخالق ونظير هذه الآية قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153]. اهـ.

.قال القرطبي:

الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين.
قال يحيى بن اليَمان: الصبر ألا تتمنّى حالة سوى ما رزقك الله، والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك.
وقال الشعبيّ: قال عليّ رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
قال الطبري: وصدق عليّ رضي الله عنه؛ وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح؛ فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق.
فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به.

.فائدة: جزاء الأعمال:

وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدًّا فقال: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية.
وجعل أجر الصابرين بغير حساب، ومدح أهله فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
وقد قيل: إن المراد بالصابرين في قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون} [الشورى: 43] أي الصائمون؛ لقوله تعالى في صحيح السُّنّة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الصيام لي وأنا أَجْزِي به» فلم يذكر ثوابًا مقدّرًا كما لم يذكره في الصبر. والله أعلم.

.فائدة: فضل الصبر:

مِن فَضْل الصّبر وصفَ الله تعالى نفسه به؛ كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد أو ليس شيء أصبرَ على أذًى سمعه من الله تعالى إنهم ليَدْعُون له ولدًا وإنه ليعافيهم ويرزقهم» أخرجه البخاري.
قال علماؤنا: وصفُ الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم، ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها، ووصفه تعالى بالصبر لم يَرِد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى، وتأوّله أهل السُّنة على تأويل الحلم؛ قاله ابن فُورَك وغيره.
وجاء في أسمائه الصبور للمبالغة في الحلم عمن عصاه. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وإنها} ففي هذا الضمير وجوه:
أحدها: الضمير عائد إلى الصلاة أي صلاة ثقيلة إلا على الخاشعين.
وثانيها: الضمير عائد إلى الاستعانة التي يدل عليها قوله: {واستعينوا}.
وثالثها: أنه عائد إلى جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40، 47، 122] إلى قوله: {واستعينوا} والعرب قد تضمر الشيء اختصارًا أو تقتصر فيه على الإيماء إذا وثقت بعلم المخاطب فيقول القائل: ما عليها أفضل من فلان يعني الأرض.
ويقولون: ما بين لابتيها أكرم من فلان يعنون المدينة.
وقال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة} [النحل: 61]، ولا ذكر للأرض، أما قوله: {لكبيرة} أي لشاقة ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين فيجب أن يكون ثوابهم أكثر وثواب الخاشع أقل، وذلك منكر من القول، قلنا: ليس المراد أن الذي يلحقهم من التعب أكثر مما يلحق الخاشع وكيف يكون ذلك الخاشع يستعمل عند الصلاة جوارحه وقلبه وسمعه وبصره، ولا يغفل عن تدبر ما يأتي به من الذكر والتذلل والخشوع، وإذ تذكر الوعيد لم يخل من حسرة وغم، وإذا ذكر الوعد فكمثل ذلك، وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثقل عليه بفعل الصلاة أعظم، وإنما المراد بقوله: وإنها ثقيلة على من لم يخشع أنه من حيث لا يعتقد في فعلها ولا في تركها عقابًا، فيصعب عليه فعلها.
فالحاصل أن الملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة ثقل عليه فعلها، لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطبع، أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع وفي تركها أعظم المضار لم يثقل ذلك عليه لما يعتقد في فعله من الثواب والفوز العظيم بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم، ألا ترى إلى قوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من عقابه.
مثاله إذا قيل للمريض: كل هذا الشيء المر فإن اعتقد أن له فيه شفاء سهل ذلك عليه، وإن لم يعتقد ذلك فيه صعب الأمر عليه، وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».
وصف الصلاة بذلك للوجوه التي ذكرناها لا لأنها كانت لا تثقل عليه، وكيف وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حتى تورمت قدماه، وأما الخشوع فهو التذلل والخضوع. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} اختلف المتأوّلون في عود الضمير من قوله: {وإنها}؛ فقيل: على الصلاة وحدها خاصة؛ لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم.
والصبر هنا: الصوم.
فالصلاة فيها سجن النفوس، والصوم إنما فيه منع الشهوة؛ فليس مَن مُنع شهوة واحدة أو شهوتين كما مُنع جميع الشهوات.
فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب، ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق، فيتسلّى بتلك الأشياء عما مُنع.
والمصلّي يمتنع من جميع ذلك، فجوارحه كلها مقيَّدة بالصلاة عن جميع الشهوات.
وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعبَ على النفس ومكابدتها أشدّ، فلذلك قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}.
وقيل: عليهما، ولكنه كَنَى عن الأغلب وهو الصلاة؛ كقوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 34]، وقوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].
فردّ الكناية إلى الفضة؛ لأنها الأغلب والأعم، وإلى التجارة؛ لأنها الأفضل والأهم.
وقيل: إن الصبر لمّا كان داخلًا في الصلاة أعاد عليها؛ كما قال: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
ولم يقل: يرضوهما؛ لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز؛ ومنه قول الشاعر:
إنّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأس ** ودَ ما لم يُعاصَ كان جنونا

ولم يقل يعاصيا، ردّ إلى الشباب لأن الشَّعَر داخل فيه.
وقيل: ردّ الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصارا؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين؛ ومنه قول الشاعر:
فمن يك أمْسَى بالمدينة رَحْلُه ** فإني وَقيّارٌ بها لغرِيبُ

وقال آخر:
لكلّ هَمٍّ مِن الهموم سَعَهْ ** والصُّبْحُ والمُسْيُ لا فلاح مَعَهْ

أراد: لغريبان، لا فلاح معهما.
وقيل: على العبادة التي يتضمّنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقيل: على المصدر، وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله: {واستعينوا}.
وقيل: على إجابة محمد عليه السلام؛ لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه.
وقيل: على الكعبة؛ لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها.
{وكبيرةٌ} معناه ثقيلة شاقة، خبر إنّ.
ويجوز في غير القرآن: وإنه لكبيرة.
{إِلاَّ عَلَى الخاشعين} فإنها خفيفة عليهم.
قال أرباب المعاني: إلا على من أُيِّد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} الضمير للصلاة كما يقتضيه الظاهر، وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واستجماعها ضروبًا من الصبر، ومعنى كبرها ثقلها وصعوبتها على من يفعلها، على حد قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 3 1] والاستثناء مفرغ أي: كبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين وهم المتواضعون المستكينون، وأصل الخشوع الاخبات، ومنه الخشعة بفتحات الرمل المتطامن، وإنما لم تثقل عليهم، لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما ادخر من ثوابها فتهون عليهم، ولذلك قيل: من عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف، جاد بالعطية، وجوّز رجوع الضمير إلى الاستعانة على حد {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] ورجح بالشمول، وما يقال: إن الاستعانة ليست بكبيرة لا طائل تحته، فإن الاستعانة بالصلاة أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها على وجه الاستعانة بها على الحوائج أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك، وقيل: يجوز أن يكون من أسلوب {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 26] وقوله:
إن شرخ الشباب والشعر الأس ** ود ما لم يعاصَ كان جنونا

والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 43] أو المراد كل خصلة منها، وقيل: الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها، ومشقتها عليهم ظاهرة، وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة. اهـ.