فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبعض المحققين كصاحب حكمة العين وصاحب المواقف نقلوا ما نقلوا عن ابن الهيثم ولم يقفوا على مقصوده منه فقالوا: إنه ضعيف وإلا لما انخسف القمر في شيء من الاستقبالات أصلًا وذلك كما قال العاملي عجيب منهم، وأنت تعلم أن لا جزم أيضًا وأن ضم ما ضم لجواز أن يكون سبب آخر لاختلاف تلك الأشكال النورية لكنا لا نعلمه كأن يكون كوكب كمد تحت فلك القمر ينخسف به في بعض استقبالاته.
وإن طعن في ذلك بأنه لو كان لرؤي.
قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك الاختلاف والخسوف من آثار إرادة الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلولة الأرض بينها وبينه بل ليس هناك إلا توسط الكاف والنون وهو كاف عند من سلمت عينه من الغين.
وللمتشرعين من المحدثين وكذا لساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم كلمات شهيرة في هذا الشأن، ولعلك قد وقفت عليها وإلا فستقف بعد إن شاء الله تعالى.
وقد استندوا فيما يقولون إلى أخبار نبوية وأرصاد قلبية وغالب الأخبار في ذلك لم تبلغ درجة الصحيح وما بلغ منها آحاد ومع هذا قابل للتأويل بما لا ينافي مذهب الفلاسفة والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية وما يلتحق بذلك وأن القول به مما لا يضر بالدين إلا إذا صادم ما علم مجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم {هذا} وسمي القمر قميرًا لبياضه كما قال الجوهري، واعتبر هو وغيره كونه قمرًا بعد ثلاث.
{وَقَدَّرَهُ} أي قدر له وهيأ {مَنَازِلَ} أو قدر مسيره في منازل فمنازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية، وجوز أن يكون قدر بمعنى جعل المتعدي لواحد و{مَنَازِلَ} حال من مفعوله أي جعله وخلقه متنقلًا وإن يكون بمعنى جعل المتعدي لاثنين أي صيره ذا منازل، وإيامًا كان فالضمير للقمر وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأكثر، وجوز أن يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما، والمنازل ثمانية وعشرون وهي الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الاعزل والعفرة والزباني والأكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت، وهي مقسمة على البروج الاثنى عشر المهشورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلثمائة وستين أجزاء دائرة البروج على اثنى عشر، والدرجة عندهم منقسمة بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهي منقسمة بستين ثالثة وهكذا إلى الروابع والخوامس والسوادس وغيرها، ويقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثًا وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة، وتسمية ما ذكرنا منازل مجاز لأنه عبارة عن كواكب مخصوصة من الثوابت قريبة من المنطقة، والمنزلة الحقيقية للقمر الفراغ الذي يشغله جرم القمر على أحد الأقوال في المكان، فمعنى تزول القمر في هاتيك المنازل مسامتته إياها، وكذا تعتبر المسامتة في نزوله في البروج لأنها مفروضة أولا في الفلك الأعظم.
وأما تسمية نحو الحمل والثور والجوزة بذلك فباعتبار المسامتة أيضًا.
وكان أول المنازل الشرطين ويقال له النطح وهو لأول الحمل ثم تحركت حتى صار أولها على ما حرره المحققون من المتأخرين الفرغ المؤخر ولا يثبت على ذلك لأن للثوابت حركة على التوالي على الصحيح وإن كانت بطيئة وهي حركة فلكها، ومثبتو ذلك اختلفوا في مقدار المدة التي يقطع بها جزأ واحدًا من درجات منطقته فقيل هي ست وستون سنة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الاعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الاعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية وطابقه الرصد الجديد الذي تولاه نصير الطوسي بمراغة، وزعم محيي الدين أحد أصحابه أنه تولى رصد عدة من الثوابت كعين الثور وقلب العقرب بذلك الرصد فوجدها تتحرك في كل ست وستين سنة شمسية درجة واحدة، وادعى بطليموس أنه وجد الثوابت القريبة إلى المنطقة متحركة في كل مائة سنة شمسية درجة والله تعالى أعلم بحقائق الأحوال وهو المتصرف في ملكه وملكوته حسبما يشاء {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين} التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية {والحساب} أي ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، واللام على ما يفهم من أمالي عز الدين بن عبد السلام متعلقة بقدر.
واستشكل هو ذلك بأن علم العدد والحساب لا يفتقر لكون القمر مقدرًا بالمنازل بل طلوعه وغروبه كاف.
وذكر بعضهم أن كمة ذلك صلاح الثمار بوقوع شعاع القمر عليها وقوعًا تدريجيًا، وكونه أدل على وجوده سبحانه وتعالى إذ كثرة اختلاف أحوال الممكن وزيادة تفاوت أوصافه أدعى إلى احتياجه إلى صانع حكيم واجب بالذات وغير ذلك مما يعرفه الواقفون على الاسرار؛ وأجاب مولانا سرى الدين بأن المراد من الحساب حساب الأوقات بمعرفة الماضي من الشهر والباقي منه وكذا من الليل ثم قال: وهذا إذا علقت اللام بقدره منازل منازل فإن علقته بجعل الشمس والقمر لم يرد السؤال.
ولعل الأولى على هذا أن يحمل {السنين} على ما يعم السنين الشمسية والقمرية وان كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية، والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة، فإن السنة الأولى عبارة عن ثلثمائة وخمسة وستين يومًا وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الايلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلثمائة وأربعة وخمسين يومًا وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، وينقسم كل منهما إلى بسيطة وكبيسة وبيان ذلك في محله، وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر في السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر في الأوقات المحسوبة، وتحقيقه أن الحساب إحصاء ما له كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها عدد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثنى عشر شهرًا قد تحصل كل من ذلك من أيام معلومة قد تحصل كل منها من ساعات كذلك والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك، ولما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصيل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد، وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعًا، وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبئ عن ذلك، والسنة من حيث تحققها في نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها، وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من تلك الحيثية المذكورة أعني حيثية تحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها من عدة ساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث أنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك.
وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودًا وعلمًا على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين له علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصيل أمر آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذي اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب قاله شيخ الإسلام.
{مَا خَلَقَ الله ذلك} أي ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى سبحانه من الأحوال {إِلاَّ بالحق} استثناء من أعم أحوال الفاعل والمفعول، والباء للملابسة أي ما خلق ذلك ملتبسًا بشيء من الأشياء إلا ملتبسًا بالحق مراعيًا فيه الحكمة والمصلحة أو مراعى فيه ذلك فالمراد بالحق هنا خلاف الباطل والعبث {يُفَصّلُ الآيات} أي الآيات التكوينية المذكورة أو الأعم منها ويدخل المذكور دخولًا أوليًا أو نفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك.
وقرئ {نُفَصّلُ} بنون العظمة وفيه التفات {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها.
وتخصيص التفصيل بهم على الاحتمالين لأنهم المنتفعون به، والمراد لقوم عقلاء من ذوي العلم فيعم من ذكرنا وغيرهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} هذا استئناف ابتدائي أيضًا، فضمير {هو} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {إن ربكم الله} [يونس: 3].
وهذا استدلال آخر على انفراده تعالى بالتصرف في المخلوقات، وهذا لون آخر من الاستدلال على الإلهية ممزوج بالامتنان على المحجوجين به لأن الدليل السابق كان متضمنًا لِعظيم أمر الخلق وسعة العلم والقدرة بذكر أشياء ليس للمخاطبين حظ في التمتع بها.
وهذا الدليل قد تضمن أشياء يأخذ المخاطبون بحظ عظيم من التمتع بها وهو خلق الشمس والقمر على صورتهما وتقدير تنقلاتهما تقديرًا مضبوطًا ألهم الله البشر للانتفاع به في شؤون كثيرة من شؤون حياتهم.
فجَعْلُ الشمسسِ ضياء لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تهمهم مشاهدته بما به قوام أعمال حياتهم في أوقات أشغالهم.
وجَعْل القمر نورًا للانتفاع بنوره انتفاعًا مناسبًا للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة وهو الليل.
ولذلك جُعل نوره أضعف ليُنتفع به بقدر ضرورة المنتفع، فمن لم يضطرَّ إلى الانتفاع به لا يشعرُ بنوره ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جُعل ظلام الليل لحصوله، ولو جعلت الشمس دائمة الظهور للناس لاستووا في استدامة الانتفاع بضيائها فيشغلهم ذلك عن السكون الذي يستجدون به ما فتر من قواهم العصبية التي بها نشاطُهم وكمالُ حياتهم.
والضياء: النور الساطع القوي، لأنه يضيء للرائي.
وهو اسم مشتق من الضوء، وهو النور الذي يوضح الأشياء، فالضياء أقوى من الضوء.
ويَاء {ضياء} منقلبة عن الواو لوقوع الواو إثر كَسرة الضاد فقلبت ياء للتخفيف.
والنور: الشعاع، وهو مشتق من اسم النار، وهو أعم من الضياء، يصدق على الشعاع الضعيف والشعاع القوي، فضياء الشمس نور، ونور القمر ليس بضياء.
هذا هو الأصل في إطلاق هذه الأسماء، ولكن يكثر في كلام العرب إطلاق بعض هذه الكلمات في موضع بعض آخر بحيث يَعسر انضباطه.
ولما جعل النور في مقابلة الضياء تعين أن المراد به نورٌ مَّا.
وقوله: {ضياء} و{نورًا} حالان مشيران إلى الحكمة والنعمة في خلقهما.
والتقدير: جعل الأشياء على مِقدار عنْد صُنعها.
والضمير المنصوب في (قَدَّره): إما عائد إلى النور فتكون المنازل بمعنى المراتب، وهي مراتب نور القمر في القوة والضعف التابعة لما يظهر للناس نيرًا من كُرة القمر، كما في قوله تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعُرجون القديم} [يس: 39].
أي حتى نقص نوره ليلةً بعد ليلة فعاد كالعرجون البالي.
ويكون {منازل} في موضع الحال من الضمير المنصوب في {قدَّره} فهو ظرف مستقر، أي تقديرًا على حسب المنازل، فالنور في كل منزلة لَه قدَر غير قدره الذي في منزلة أخرى.
وإما عائد إلى (القمر) على تقدير مضاف، أي وقدر سيره، فتكون {منازل} منصوبًا على الظرفية.
والمنازل: جمع منزل؛ وهو مكان النزول.
والمراد بها هنا المواقع التي يظهر القمر في جهتها كل ليلة من الشهر.
وهي ثمان وعشرون منزلة على عدد ليَالي الشهر القمري.
وإطلاق اسم المنازل عليها مجاز بالمشابهة وإنما هي سُمُوت يلوح للناس القمرُ كل ليلة في سَمْت منها، كأنه ينزل بها.
وقد رَصدها البشر فوجدوها لا تختلف.
وعلم المهتدون منهم أنها ما وجدت على ذلك النظام إلا بصنع الخالق الحكيم.
وهذه المنازل أماراتها أنجم مجتمعة على شكل لا يختلف، فوضع العلماء السابقون لها أسماء.
وهذه أسماؤها في العربية على ترتيبها في الطلوع عند الفجر في فصُول السنة.
والعرب يبْتدئون ذِكرها بالشَرَطَاننِ وهكذا، وذلك باعتبار حلول القمر كل ليلة في سمت منزلة من هذه المنازل، فأول ليلة من ليالي الهلال للشَّرَطان وهكذا.
وهذه أسماؤها مرتبة على حسب تقسيمها على فصول السنة الشمسية.
وهي: العَوَّاء، السِّمَاك الاعْزل، الغَفْر، الزُّبَاني، الإكليل، القَلْب، الشَّوْلَةَ، النَعَائم، البَلْدَة، سَعْد الذَّابححٍ، سَعْدُ بَلَع، سَعْد السُّعود، سَعْد الأخْبِيَة، الفَرْغ الأعلى، الفَرْغ الأسفل، الحُوت، الشَّرَطَاننِ، البُطَيْن، الثُّرَيَّا، الدَّبَران، الهَقْعَة، الهَنْعَة، ذِرَاع الأسَد، النَّشْرَة، الطَّرْف، الجَبْهَة، الزُّبْرَة، الصَّرْفَة.
وهذه المنازل منقسمة على البروج الاثني عشر التي تحل فيها الشمس في فصول السنة، فلكل برج من الاثني عشر بُرجًا مَنزلتان وثُلُث، وهذا ضابط لمعرفة نجومها ولا علاقة له باعتبارها مَنازل للقمر.
وقد أنبأنا الله بعلة تقديره القمر منازل بأنها معرفة الناس عدد السنين والحساب، أي عدد السنين بحصول كل سنة باجتماع اثني عشر.
والحساب: مصدر حسب بمعنى عد.