فصل: من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ماخلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون} (يونس: 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ماخلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون} [يونس: 5]:

ذكر ابن كثير (يرحمه الله) ما نصه: يخبر تعالي عما خلق من الايات الدالة علي كمال قدرته وعظيم سلطانه، وانه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وجعل شعاع القمر نورا، هذا فن وهذا فن اخر، ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقدر القمر منازل، فاول ما يبدو صغيرا، ثم يتزايد نوره وجرمه حتي يستوسق ويكمل ابداره، ثم يشرع في النقص حتي يرجع الي حالته الاولي في تمام شهر، كقوله تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم} وقوله تعالى: {والشمس والقمر حسبانا}، {وقدره} اي القمر {منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} فبالشمس تعرف الايام، وبسير القمر تعرف الشهور والاعوام، {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} اي لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة، كقوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض ومابينهما باطلا}، وقال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون}، وقوله: {ونفصل الآيات} اي نبين الحجج والادلة، {لقوم يعلمون}.
وجاء في تفسير الجلالين (رحم الله كاتبيه برحمته الواسعة) ما نصه: {هو الذي جعل الشمس ضياء} ذات ضياء... {والقمر نورا وقدره} من حيث سيره {منازل} ثمانية وعشرين منهلا في ثمان وعشرين ليلة من كل شهر، ويستتر ليلتين ان كان الشهر ثلاثين يوما، او: ليلة ان كان تسعة وعشرين يوما {لتعلموا} بذلك {عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك} المذكور {الا بالحق} لاعبثا، تعالي عن ذلك {يفصل} بالياء والنون: يبين {الآيات لقوم يعلمون} يتدبرون.
وذكر صاحب الظلال (رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه: {هو الذي جعل الشمس ضياء} فيها اشتعال. {والقمر نورا}.. فيه انارة. {وقدره منازل} ينزل في كل ليلة منزلا يكون فيه علي هيئة خاصة، كما هو مشهود في القمر... {لتعلموا عدد السنين والحساب}.. ولاتهال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس. هل هذا كله عبث؟ هل هذا كله باطل؟ هل هذا كله مصادفة؟ كلا لايكون كل هذا النظام، وكل هذا التناسق، وكل هذه الدقة التي لاتتخلف معها حركة، لايكون هذا كله عبثا ولا باطلا ولا مصادفة عابرة: {ما خلق الله ذلك إلا بالحق}.. الحق قوامه، والحق اداته، والحق غايته، والحق ثابت راجح راسخ، وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة: {يفصل الآيات لقوم يعلمون}.. فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة الي العلم لادراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر.
وجاء في صفوة البيان لمعاني القران (رحم الله كاتبه برحمته الواسعة) مانصه: {جعل الشمس ضياء} شروع في بيان ادلة كمال قدرته تعالي وعظيم حكمته وتدبيره، ردا علي منكري البعث. اي هو الذي جعل الشمس ذات ضياء في النهار، والقمر ذا نور في الليل، وقدر سير القمر في منازله الثمانية والعشرين في كل شهر، تقديرا بديعا محكما، ليعرف بذلك ابتداء الشهور والسنين وانتهاءها وعددها والحساب بالاوقات من الاشهر والايام. وبذلك تنتظم مصالح في العبادات والمعاملات وسائر الشئون المعاشية.. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة يتعاقبان دائما بحسب طلوع الشمس وغروبها، ويتفاوتان بحسب الامكنة طولا وقصرا. {قدره منازل} صير القمر ذا منازل يسير فيها.
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم (جزاهم الله خير الجزاء) ما نصه: وربكم الذي خلق السماوات والارض والذي جعل الشمس تشع الضياء، والقمر يرسل النور، وجعل للقمر منازل ينتقل فيها، فيختلف نوره تبعا لهذه المنازل، لتستعينوا بهذا في تقدير مواقيتكم، وتعلموا عدد السنين والحساب، وماخلق الله ذلك الا بالحكمة، وهو سبحانه يبسط في كتابه الايات الدالة علي الوهيته وكمال قدرته لكي تتدبروها بعقولكم وتستجيبوا لما يقتضيه العلم.
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما يلي: الشمس جرم سماوي ملتهب مضيء بذاته، وهو مصدر الطاقات علي الارض ومنها الضوء والحرارة بينما القمر جرم غير مضيء بذاته بل يعكس او يرد ما يقع عليه من ضوء الشمس فيبدو منيرا.
وذكر صاحب صفوة التفسير (جزاه الله خيرا) ما نصه: {هو الذي جعل الشمس ضياء} الاية للتنبيه علي دلائل القدرة والوحدانية اي هو تعالي بقدرته جعل الشمس مضيئة ساطعة بالنهار كالسراج الوهاج {والقمر نورا} اي وجعل القمر منيرا بالليل وهذا من كمال رحمته بالعباد، ولما كانت الشمس اعظم جرما خصت بالضياء، لانه هو الذي له سطوع ولمعان قال الطبري: المعني اضاء الشمس وانار القمر {وقدره منازل} اي قدر سيره في مناهل وهي البروج {لتعلموا عدد السنين والحساب} اي لتعلموا ايها الناس حساب الاوقات، فبالشمس تعرف الايام، وبسير القمر تعرف الشهور والاعوام {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} اي ماخلق تعالي ذلك عبثا بل لحكمة عظيمة، وفائدة جليلة {يفصل الآيات لقوم يعلمون} اي يبين الايات الكونية ويوضحها لقوم يعلمون قدرة الله، ويتدبرون حكمته، قال ابو السعود: اي يعلمون الحكمة في ابداع الكائنات، فيستدلون بذلك علي شئون مبدعها جل وعلا.

.الدلالة العلمية للآية الكريمة:

اولا: في التفريق بين كل من الضياء والنور:
الضوء (الضياء) هو الجزء المرئي من الطاقة الكهرومغناطيسية (الكهربية المغناطيسية) والتي تتكون من سلسلة متصلة من موجات الفوتونات التي لاتختلف عن بعضها البعض الا في طول موجة كل منها، وفي معدل ترددها.
وتتفاوت موجات الطيف الكهرومغناطيسي في اطوالها بين جزء من مليون مليون جزء من المتر بالنسبة الي اقصرها وهي اشعة جاما، وبين عدة كيلومترات بالنسبة الي اطولها وهي موجات الراديو (المذياع او الموجات اللاسلكية)، وياتي بين هذين الحدين عدد من الموجات التي تترتب حسب تزايد طول الموجة من اقصرها الي اطولها: الاشعة السينية، والاشعة فوق البنفسجية، والضوء المرئي، والاشعة تحت الحمراء.
وعين الانسان لا تستطيع ان تلتقط من هذه الموجات سوي الضوء المرئي اطوال تتراوح بين 7000،4000 انجستروم (والانجستروم يساوي جزءا من عشرة بلايين جزء من المتر) وطول الموجة يتناسب تناسبا عكسيا مع ترددها (اي عدد مرات ارتفاع الموجة وانخفاضها في الثانية الواحدة)، وحاصل ضرب هاتين الكميتين يساوي سرعة الضوء (حوالي 300.000 كيلو متر في الثانية) وموجات الضوء المرئي اسرع من موجات الراديو بحوالي بليون مرة، وبالتالي فان اطوال موجاتها اقصر ببليون مرة من اطوال موجات الراديو.
والضوء الابيض هو عبارة عن خليط من موجات ذات اطوال محددة عديدة متراكبة علي بعضها البعض، ويمكن تحليلها بامرارها في منشور هجاجي او غير ذلك من اجههة التحليل الطيفي، وقد امكن التعرف علي سبع من تلك الموجات اقصرها هو الطيف البنفسجي (ويقترب طول موجته من 4000 انجستروم)، واطولها هو الطيف الاحمر (ويقترب طول موجته من 7000 انجستروم)، وبينهما البرتقالي، والاصفر، والاخضر، والاهرق. وغير ذلك من الالوان المتدرجة في التغير فيما بين تلك الالوان السبع، وان كانت عين الانسان لا تستطيع ان تميه منها سوي هذه الالوان السبعة.
وتنتج طاقة الشمس من عملية الاندماج النووي والتي يتم فيها اتحاد اربعة من نوي ذرات الايدروجين لتنتج نواة واحدة من نوي ذرات الهيليوم، وينطلق الفرق بين مجموع كتلة الاربع نوي لذرات الايدروجين وكتلة نواة الهيليوم علي هيئة طاقة (تساوي 0،0282 وحدة ذرية لكل تفاعل) وهذه الطاقة الناتجة عن تلك العملية يكون اغلبها علي هيئة اشعة جاما (حوالي 96%) وجزء قليل علي هيئة النيوترينوات Neutrinos (في حدود 4%)، وسرعان ماتتحول اشعة جاما الي حرارة بينما تهرب النيوترينوات في الحال وتفقد.
وتشير الدراسات الشمسية الي ان هذا النجم المتواضع قد بدا بتركيب كيميائي يغلب عليه عنصرا الايدروجين (حوالي 90%)، والهيليوم (حوالي 9%) مع اثار طفيفة من عناصر اخري مثل الكربون، النتروجين والاوكسجين (في حدود 1%).
وبالتركيه التجاذبي لتلك الكتلة الغاهية بدات درجة حرارتها في الارتفاع، وعند وصول الحرارة الي المليون درجة مئوية بدات عملية الاندماج النووي في التفاعل وانطلقت الطاقة النووية للشمس التي رفعت درجة حرارة لبها الي اكثر من 15 مليون درجة مئوية، ورفعت درجة حرارة سطحها الي ستة الاف درجة مئوية.
وعملية الاندماج النووي في داخل الشمس عملية معقدة للغاية ولا داعي للدخول في تفاصيلها هنا حتي لا يغيب عنا الهدف من هذا المقال، ولكن محصلة هذه العملية هي الارتفاع بنسبة الهيليوم في قلب الشمس من 9% الي حوالي 30%، وانتاج طاقة الشمس المتمثلة في الطيف الكهرومغناطيسي، الذي هود الارض وغيرها من اجرام المجموعة الشمسية باغلب الطاقة التي تحتاجها.
والطيف المرئي من مجموعة اطياف الطاقة الكهرومغناطيسية المنطلقة من الشمس هو المعروف باسم ضوء الشمس، وعلي ذلك فالضوء عبارة عن تيار من الفوتونات المنطلقة من جسم مشتعل، ملتهب، متوقد بذاته سواء كان ذلك بفعل عملية الاندماج النووي كما هو حادث في داخل الشمس، وفي داخل غيرها من نجوم السماء، او من جسم مادي يستثار فيه الاليكترونات بعملية التسخين الكهربائي او الحراري، فيقفه الاليكترون من مستوي عال في الطاقة الي مستوي اقل، والفارق بين المستويين هو كمية الطاقة المنبعثة (QuantumEnergy) علي هيئة ضوء وحرارة، وتكون سرعة تردد موجات الضوء الناشيء مساوية لسرعة تحرك الشحنات المتذبذبة بين مستويات الذرة المختلفة من مثل الاليكترونات.
وعلي ذلك فان مصادر الضوء هي اجسام مادية لها حشد هائل من الجسيمات الاولية المستثارة بواسطة رفع درجة الحرارة من مثل الاليكترونات وغيرها من اللبنات الاولية للمادة، واهم مصادر الضوء بالنسبة لنا (أهل الارض) هي الشمس ووقودها هو عملية الاندماج النووي.
والمصابيح الكهربائية تنتج الضوء عن طريق تسخين سلك من معادن الاشعاع، وكلما ارتفعت درجة الحرارة هادت كمية الضوء المشع وارتفعت معدلات تردد موجاته.
وبنفس الطريقة يحترق فتيل السراج باشعاله بواسطة احتراق الهيت (من مثل هيت الهيتون) او النفط (الكيروسين) او الكحول فيشع بواسطة الترددات التي يمتصها، وكلما ارتفعت درجة حرارته هادت قدرته علي اشعاع الضوء، وذلك بهيادة كمية الضوء الصادر منه، وارتفاع معدلات تردده.
وعلي ذلك فان الجسم المادي عندما يسخن فانه يشع بمقدار الطاقة التي يمتصها برفع درجة حرارته باية واسطة متاحة.
وتختلف الصفات البصرية للمواد في درجات الحرارة الفائقة، وذلك لان ذبذبة اي من الفوتونات او الاليكترونات تتم بعنف شديد فتتداخل موجات الطيف الكهرومغناطيسي (ومنها موجات الضوء المرئي) مع بعضها البعض تداخلا كبيرا مما يؤدي الي حدوث الكثير من الظواهر غير المتوقعة، وذلك لان الموجات الكهرومغناطيسية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمصادرها وكواشفها.
وضوء الشمس عند مروره في الطبقات الدنيا من الغلاف الغاهي للارض يتعرض للعديد من عمليات الامتصاص والتشتت والانعكاس علي كل من هباءات الغبار، وقطيرات الماء وبخاره، وجهيئات الهواء الموجودة بتركيه عال نسبيا في هذا الجزء من الغلاف الغاهي للارض فيظهر بهذا اللون الابيض المبهج الذي يميه فترة النهار.
كذلك يتعرض ضوء الشمس للعديد من عمليات التشتت والانعكاس عندما يسقط علي سطح القمر المكسو بالعديد من الطبقات الهجاجية الرقيقة والناتجة عن ارتطام النياهك بهذا السطح، والانصهار الجهئي للصخور علي سطح القمر بفعل ذلك الارتطام. فالقمر (وغيره من اجرام مجموعتنا الشمسية) هي اجسام معتمة باردة لا ضوء لهاولكنها يمكن ان تري لقدرتها علي عكس اشعة الشمس فيبدو منيرا، وهذا هوالفرق بين ضوء الشمس ونور القمر. فنور القمر ناتج عن تشتيت ضوء الشمس علي سطحه بواسطة القوي التي يبذلها الحقل الكهرومغناطيسي علي الشحنات الكهربية التي تحتويها كل صور المادة. فالحقل الكهرومغناطيسي المتذبذب لضوء الشمس الساقط يحدث قوة دورية ضاغطة علي كل شحنة اليكترونية مما يجعلها تقوم بحركة متناسقة مع تردد موجات الطيف الابيض.
ومن الثابت علميا ان شحنة متذبذبة تشع في جميع الاتجاهات (فيما عدا اتجاه حركتها) مما يبرر عمليات تشتت الضوء، وهي عمليات تعتمد علي عدد وحجم، وبنية، وهيئة واتجاهات، وتفاعل كل من الجسيمات القائمة بمثل هذه العمليات من التشتت مع بعضها البعض، والصفات الحرارية الديناميكية للوسط الذي تتشتت فيه. ومن المعروف ان تردد الضوء الساقط يتفق تماما مع تردد الشعاع الساقط مع تباعد قليل بين خطوط الاطياف المختلفة بسبب حركة الجسم المشتت للضوء الساقط عليه، ولذلك تاتي خطوط اطياف الشعاع المشتت بشكل اضعف من خطوط اطياف الشعاع الساقط من اشعة الشمس.
القران الكريم يفرق بين الضياء والنور انطلاقا من هذه الحقائق العلمية التي تمايه بين الضوء الصادر من جسم مشتعل، ملتهب، مضي بذاته. في درجات حرارة عالية (قد تصل الي ملايين الدرجات المئوية كما هو الحال في قلب الشمس) وبين الشعاع المنعكس من جسم بارد يتلقي شعاع الضوء فيعكسه نورا، ركه القران الكريم علي التمييه الدقيق بين ضياء الشمس ونور القمر، وبين كون الشمس سراجا وكون القمر نورا فقال (عز من قائل): {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره مناهل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون} (يونس: 5).