فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}
وهكذا بينّ الحق اختلاف الليل عن النهار مما يؤكد أنهما وجدا معًا، وعطف عليها {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض}؛ لأنه سبحانه خلق الكون بما فيه من مقومات حياة من مأكل ومشرب وهواء، وغير ذلك، ثم سخَّر الكون كله؛ لخدمة السيد وهو الإنسان.
ولو نظرتَ إلى مقومات الحياة لوجدت فيها احتياجات أساسية تتمثل في نفس هواء، وشراب ماء، وطعام؛ هذه أهم احتياجات الإنسان من مقومات الحياة. ويصبر الإنسان على المأكل أكثر مما يصبر على المشرب، ويصبر على المشرب أكثر مما يصبر على نَفَس الهواء، بل ولا يملك الإنسان الصبر على نَفَس الهواء مقدار شهيق وزفير.
لذلك شاء الحق أن يملك قومٌ طعام غيرهم، لأن الجسم يمكنه أن يصبر على الطعام لمدة قد تصل إلى الشهر ويعتمد في ذلك على إذابة الدهن المتراكم بداخله، عكس ما اخترع البشر من آلات، فالسيارة لا يمكن أن تسير لمتر واحد دون وقود، أما الجسم فيتحمل لعل مَنْ يملك الطعام يخفف من القيود، أو لعل الإنسان الجائع يجد طريقه لينال ما يقتات به.
أما الماء فقد شاء الحق أن يقلل من احتكار البشر له؛ لأن الإنسان أكثر احتياجًا للماء من الطعام.
أما الهواء فسبحانه وتعالى لم يُملِّك الهواء لأحد؛ لأن الهواء هو العنصر الأساسي للحياة؛ ولذلك اشتق منه لفظ النّفس، ونَفْس ونَفَس.
ولو نظرتَ إلى الهواء في الوجود كله لوجدته عامل صيانة لكل الوجود من ثبات الأرض، إلى ثبات المباني التي عليها، إلى ثبات الأبراج، إلى ثبات الجبال، كل ذلك بفعل الهواء؛ لأن تياراته التي تحيط بجوانب كل الأشياء هي التي تثّبتها، وإنْ تخلخل الهواء في أي ناحية حول تلك المباني والجبال فهي تنهدم على الفور.
إذن: الهواء هو الذي يحفظ التوازن في الكون كله. ولذلك قلنا: إنك لو استعرضتَ ألفاظ القرآن لوجدت أن الحق سبحانه حينما يتكلم عن تصريف الرياح، فهو سبحانه يتكلم بدقَّةِ خالقٍ، بدقة إله حكيمٍ، فهو يرسل من الرياح ما فيه الرحمة، مثل قول الحق: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ...} [الحجر: 22].
لكن إذا جاء بذكر ريح ففي ذلك العقاب، مثل قوله: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6].
ومثل قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} [الأحقاف: 25].
لأن الرياح تأتي من كل ناحية، فتوازن الكائنات، أما الريح فهي تأتي من ناحية واحدة فتدهم ما في طريقها.
وهنا يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} أي: أنه جاء بالمخلوقات الأخرى مجملة بعد أن جاء بذكر الشمس والقمر كآيتين منفصلتين، ثم ذكر السماوات والأرض وما فيهما من آيات أخرى: من رعد، وبرق، وسحاب، ونجوم وعناصر في الكون، كل ذلك مجمل في قوله: {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض}؛ لأنه لو أراد أن يفصِّل لَذَكَرَ كثيرًا من الآيات والنعم، وهو القائل: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا...} [إبراهيم: 34].
والقرآن ليس كتابًا لبسط المسائل كلها، بل هو كتاب منهج، ومن العجيب أنه جاء بـ {إن} وهي التي تفيد الشك في قوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا}؛ لأن أحدًا مهما أوتي من العلم ليس بقادر أن يُحصي نعمَ الله في الكون؛ ولأن الإقبال على العَدّ فرض إمكان الحصر، ولا يوجد إمكان لذلك الحصر؛ لذلك لم يأت بإذا، بل جاء بـ {إن} وهي في مقام الشك.
والأعجب من هذا أنك تجد أن العَدَّ يقتضي التكرار، ولم يقل الله سبحانه: وإن تعدوا نعم الله، بل جاء بنعمة واحدة، وإذا استقصيتَ ما في النعمة لوجدتَ فيها آلاف النعم التي لا تُحصَى.
ويُنهي الحق الآية بقوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}، والآيات تطلق ثلاث إطلاقات: الإطلاق الأول آيات القرآن، والإطلاق الثاني على المعجزة الدالة على صدق الرسول، والإطلاق الثالث للآية أنها تحمل عجيبة من عجائب الكون الواضحة في الوجود الدالة على عظمة الله سبحانه.
وهذه الآيات خلقها الله لتُلْفت إلى مُكَوِّن هذه الآيات، واللفتة إلى مُكوِّن هذه الآيات ضرورة لينشأ الإنسان في انسجام مع الكون الذي أنشيء من أجله، بحيث لا يأتي له بعد ذلك ما ينغّص هذا الانسجام، فهبْ أن إنسانًا ارتاح في حياته الدنيا ثم استقبل الآخرة بشقاء وجحيم، فما الذي استفاده من ذلك؟
إذن: كل المسائل التي تنتهي إلى زوال لا يمكن أن تُعتبر نعمة دائمة؛ لأن النعمة تعني أن تتنعم بها تنعُّمًا يعطيك يقينًا أنها لا تفارقك وأنت لا تفارقها، والدنيا في أطول أعمارها؛ إما أن تفوت النعمةُ فيها الإنسان، وإما أن يفوت هو النعمة.
والحق- سبحانه وتعالى- يبقى الذين يريدون أن يتقوا الله؛ ليصلوا إلى نعيم لا يفوت ولا يُفَات، ويجب أن ينظروا في آيات الكون؛ لأنهم حين ينظرون في آيات الكون بإمعان يكونون قد أفادو فائدتين: الفائدة الأولى أن يفيدوا مما خلق الله، والفائدة الثانية أن يعتبروا بأن هذا الكون الذي خلقه الله إنما جعله وسيلة ومَعْبرًا إلى غيره، فقد خلق فيه الخلق ليعيش بالأسباب، لكنه يريد أن يُسْلمه بعد ذلك إلى حياة يعيش فيها بالمسبِّب وهو الله. فالذين يتقون هم الذين يلتفتون، والذين لا يتقون لا يعتبرون بالنظر في الكون وتمر على الإنسان منهم الأشياء فلا يعتبرون بها، كما قال الله: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
إذن: فهم لا يلتفتون إلى ما في آيات الحق من الآيات الدالة على عظمة قدرة الله سبحانه؛ فهم غير حريصين على أن يَقُوا أنفسهم عذاب الآخرة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيتين:

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}
ذكر هاهنا بعض نعمه على المكلفين، وهي مما يستدل به على وجوده ووحدته، وقدرته وعلمه، وحكمته بإتقان صنعه في هذين النيرين المتعاقبين على الدوام، بعدما ذكر قبل هذا إبداعه للسموات والأرض، واستواءه على العرش، وغير ذلك.
والضياء قيل: جمع ضوء، كالسياط والحياض.
وقرأ قنبل عن ابن كثير {ضئاء} بجعل الياء همزة مع الهمزة.
ولا وجه له، لأن ياءه كانت واوًا مفتوحة، وأصله: ضواء فقلبت ياء لكسر ما قبلها.
قال المهدوي: ومن قرأ {ضئاء} بالهمزة فهو مقلوب قدّمت الهمزة التي بعد الألف، فصارت قبل الألف، ثم قلبت الياء همزة، والأولى: أن يكون {ضياء} مصدرًا لا جمعًا، مثل قام يقوم قيامًا، وصام يصوم صيامًا، ولابد من تقدير مضاف: أي: جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة، وكأنهما جعلا نفس الضياء والنور.
قيل: الضياء أقوى من النور، وقيل الضياء هو ما كان بالذات، والنور ما كان بالعرض، ومن هنا قال الحكماء: إن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس.
قوله: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي: قدر مسيره في منازل، أو قدره ذا منازل، والضمير راجع إلى القمر، ومنازل القمر: هي المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به، وجملتها ثمانية وعشرون وهي معروفة، ينزل القمر في كل ليلة منها منزلًا لا يتخطاه، فيبدو صغيرًا في أول منازله، ثم يكبر قليلًا قليلًا حتى يبدو كاملًا، وإذا كان في آخر منازله رقّ واستقوس، ثم يستتر ليلتين إذا كان الشهر كاملًا، أو ليلة إذا كان ناقصًا، والكلام في هذا يطول، وقد جمعنا فيه رسالة مستقلة جوابًا عن سؤال أورده علينا بعض الأعلام.
وقيل: إن الضمير راجع إلى كل واحد من الشمس والقمر، كما قيل في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].
وفي قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف

وقد قدّمنا تحقيق هذا فيما سبق من هذا التفسير، والأولى رجوع الضمير إلى القمر وحده، كما في قوله تعالى: {والقمر قدرناه مَنَازِلَ} [ياس: 39]، ثم ذكر بعض المنافع المتعلقة بهذا التقدير، فقال: {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} فإن في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى، وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى، ولولا هذا التقدير الذي قدّره الله سبحانه، لم يعلم الناس بذلك ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم.
والسنة تتحصل من اثني عشر شهرًا، والشهر يتحصل من ثلاثين يومًا إن كان كاملًا، واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي: أربع وعشرون ساعة لليل والنهار، قد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء، ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة وأيام النقصان، والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف؛ ثم بيّن سبحانه أنه ما خلق الشمس والقمر، واختلاف تلك الأحوال إلا بالحق والصواب، دون الباطل والعبث، فالإشارة بقوله: {ذلك} إلى المذكور قبله، واستثناء مفرّغ من أعم الأحوال، ومعنى تفصيل الآيات تبينها، والمراد بالآيات التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما، وتدخل هذه الآيات التكوينية المذكورة هنا دخولًا أوّليًا في ذلك.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب: {يفصل} بالتحتية.
وقرأ ابن السميفع {تفصل} بالفوقية على البناء للمفعول.
وقرأ الباقون بالنون.
واختار أبو عبيد، وأبو حاتم، القراءة الأولى، ولعل وجه هذا الاختيار أن قبل هذا الفعل {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} وبعده {وَمَا خَلَقَ الله في السموات والارض}.
ثم ذكر سبحانه المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وما خلق في السموات والأرض من تلك المخلوقات، فقال: {إِنَّ في اختلاف اليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله في السموات والأرض لآيات لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} أي: الذين يتقون الله سبحانه، ويجتنبون معاصيه، وخصهم بهذه الآيات لأنهم الذين يمعنون النظر والتفكر في مخلوقات الله سبحانه حذرًا منهم عن الوقوع في شيء مما يخالف مراد الله سبحانه، ونظرًا لعاقبة أمرهم، وما يصلحهم في معادهم.
قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لبقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم، بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلابد من أمر ونهي.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله تعالى: {جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُورًا} قال: لم يجعل الشمس كهيئة القمر لكي يعرف الليل من النهار، وهو قوله: {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل} [الإسراء: 12].
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في الآية قال: وجوههما إلى السموات، وأقفيتهما إلى الأرض.
وأخرج ابن مردويه، عن عبد الله بن عمرو، مثله.
وأخرج أبو الشيخ، عن خليفة العبدي، قال: لو أن الله تبارك وتعالى لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد، ولكن المؤمنون تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فملأ كل شيء وغطى كل شيء، وفي مجيء سلطان النهار إذا جاء فمحا سلطان الليل، وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض، وفي النجوم، وفي الشتاء والصيف، فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم تبارك وتعالى حتى أيقنت قلوبهم بربهم. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}
أخرج أبو الشيخ عن خليفة العبدي قال: لو أن الله تبارك وتعالى لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد، ولكن المؤمنين تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فملأ كل شيء وغطى كل شيء، وفي مجيء سلطان النهار إذا جاء فمحا سلطان الليل، وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض، وفي النجوم، وفي الشتاء والصيف، فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم تبارك وتعالى حتى أيقنت قلوبهم بربهم عز وجل، وكأنما عبدوا الله عن رؤية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}
اخْتُصَّ النهارُ بضيائه، وانفرد الليلُ بظلماته، من غير استيجاب لذلك، ومن غير استحقاق عقاب لهذا، وفي هذا دليلٌ على أَنَّ الردَّ والقبولَ، والمَنْعَ والوصولَ، ليست معلولةً ولا حاصلةً بأمرِ مُكْتَسبٍ؛ كلاَّ إنها إرادةٌ ومَشِيئَةٌ، وحُكْمٌ وقضية.
النهارُ وقتُ حضور أهلِ الغفلة في أوطان كَسْبِهم، ووقتُ أربابِ القربة والوصلة لانفرادهم بشهود ربِّهم، قال قائلهم:
هو الشمس، إلا أنَّ للشمس غَيبةً ** وهذا الذي نعنيه ليس يغيبُ

والليلُ لأحدِ شخصين: أمَّا للمُحِبِّ فَوقْتُ النَّجوى، وأَمّا للعاصي فَبَثُّ الشكوى. اهـ.