فصل: تفسير الآيات (44- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 45):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)}
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وما كنت بجانب الغربي} قال: جانب غربي الجبل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {وما كنت ثاوياً} قال: الثاوي، المقيم.

.تفسير الآية رقم (46):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)}
أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} قال: نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني.
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعاً.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «إن رب العزة نادى يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي» ثم أنزل هذه الآية في سورة موسى وفرعون {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا}.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الابانة والديلمي عن عمرو بن عبسة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك} ما كان النداء؟ وما كانت الرحمة؟ قال: «كتاب كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، ثم وضعه على عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً أدخلته الجنة».
وأخرج الحلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعاً، مثله.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته قبل أن يسألني. وذلك في قوله: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} قال: نودوا يا أمة محمد ما دعوتمونا إلا استجبنا لكم، ولا سألتمونا إلا أعطيناكم».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما قرب الله موسى إلى طور سينا نجينا قال: أي رب هل أحد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا، وكلمتني تكليماً، قال: نعم. محمد أكرم علي منك. قال: فإن كان محمد أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر، وأنجيتهم من فرعون وعمله، وأطعمتهم المن والسلوى. قال: نعم. أمة محمد أكرم علي من بني إسرائيل. قال: إلهي أرنيهم قال: إنك لن تراهم، وإن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم. إلهي فنادى ربنا: أمة محمد أجيبوا ربكم، فاجابوا وهم في أصلاب آبائهم، وأرحام امهاتهم إلى يوم القيامة. فقالوا: لبيك... أنت ربنا حقاً، ونحن عبيدك حقاً، قال: صدقتم، وأنا ربكم وأنتم عبيدي حقاً قد غفرت لكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أراد أن يمن عليه بما اعطاه وبما أعطى امته فقال: يا محمد {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا}».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نصر السجزي في الابانة عن مقاتل {وما كنت بجانب الطور} يقول: وما كنت أنت يا محمد بجانب الطور إذ نادينا أمتك وهم في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} قال: إذ نادينا موسى {ولكن رحمة من ربك} أي مما قصصنا عليك.

.تفسير الآيات (47- 50):

{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)}
أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهالك في الفترة يقول: رب لم يأتني كتاب ولا رسول. ثم قرأ هذه الآية {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين}».
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون} قال: هم أهل الكتاب. يقول بالكتابين التوراة والفرقان فقال الله: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين}.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} قال: يهود تأمر قريشاً أن تسأل محمداً {مثل ما أوتي موسى... من قبل} يقول الله لمحمد: قل لقريش يقولون لهم {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا} قال: قول يهود لموسى وهارون {وقالوا إنا بكل كافرون} قال: يهود تكفر أيضاً بما أوتي محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} قال: من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان يقرأ {قالوا ساحران تظاهرا}.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ {قالوا ساحران تظاهرا} قال: موسى وهارون.
وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ {ساحران تظاهرا} بالألف قال: يعني موسى ومحمداً عليهما السلام.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة رضي الله عنه أنه كان يقرأ {سحران تظاهرا} قال: هما كتابان.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه {قالوا ساحران تظاهرا} يقول: التوراة والفرقان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه {قالوا ساحران تظاهرا} قال: التوراة والفرقان حين صدق كل واحد منهما صاحبه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ {سحران تظاهرا} يقول: كتابان التوراة والفرقان. ألا تراه يقول {فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه قال: لو كان يريد النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل {فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه} إنما أراد الكتابين.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي رزين رضي الله عنه أنه كان يقرأها {سحران تظاهرا} يقول: كتابان التوراة والإِنجيل.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {قالوا سحران تظاهرا} قال: ذلك اعداء الله اليهود للإِنجيل والقرآن قال: ومن قرأها {ساحران} يقول: محمد وعيسى.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الكريم أبي أمية قال: سمعت عكرمة يقول {سحران} فذكرت ذلك لمجاهد فقال: كذب العبد قرأتها على ابن عباس {ساحران} فلم يُعِبْ علي.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن مجاهد قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما وهو بين الركن والباب والملتزم وهو متكئ على يدي عكرمة فقلت: أسحران تظاهرا، أم ساحران؟ فقلت ذلك مراراً فقال عكرمة {ساحران تظاهرا} اذهب أيها الرجل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك رضي الله عنه {وقالوا إنا بكل كافرون} يقول: بالتوراة والقرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد {وقالوا إنا بكل كافرون} قال: الذي جاء به موسى، والذي جاء به عيسى.

.تفسير الآيات (51- 55):

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو القاسم البغوي في معجمه والباوردي وابن قانع الثلاثة في معاجم الصحابة والطبراني وابن مردويه بسند جيد عن رفاعة القرظي رضي الله عنه قال: نزلت {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} إلى قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} في عشرة رهط: انا أحدهم.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه {ولقد وصلنا لهم} قال: لقريش {القول}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه {ولقد وصلنا لهم القول} قال: بَيَّنا.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {ولقد وصلنا لهم القول} قال: وصل الله لهم القول في هذا القرآن يخبرهم كيف يصنع بمن مضى، وكيف صنعوا، وكيف هو صانع.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي رفاعة رضي الله عنه قال: خرج عشرة رهط من أهل الكتاب- منهم أبو رفاعة- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، فأوذوا، فنزلت {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}.
وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن علي بن رفاعة رضي الله عنه قال: كان أبي من الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، وكانوا عشرة، فلما جاؤوا جعل الناس يستهزئون بهم، ويضحكون منهم، فأنزل الله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن مجاهد رضي الله عنه {الذين آتيناهم الكتاب} إلى قوله: {لا نبتغي الجاهلين} قال: في مسلمة أهل الكتاب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} قال: كنا نحدث أنها أنزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق يأخذون بها، وينتهون إليها، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وصبرهم على ذلك قال: وذكر لنا أن منهم سلمان، وعبد الله بن سلام.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} قال: يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب.
وأخرج ابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: تداولتني الموالي حتى وقعت بيثرب، فلما يكن في الأرض قوم أحب إلي من النصارى، ولا دين أحب إلي من النصرانية، لما رأيت من اجتهادهم، فبينا أنا كذلك إذ قالوا: قد بعث في العرب نبي، ثم قالوا: قدم المدينة فاتيته فجعلت أسأله عن النصارى قال: لا خير في النصارى، ولا أحب النصارى قال: فاخبرته أن صاحبي قال: لو أدركته فأمرني أن أقع النار لوقعتها قال: وكنت قد استهترت بحب النصارى، فحدثت نفسي بالهرب، وقد جرد رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فأتاني آتٍ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقلت: اذهب حتى أجيء وأنا أحدث نفسي بالهرب قال لي: لن افارقك حتى أذهب بك إليه، فانطلقت به فلما رآني قال: يا سلمان قد أنزل الله عذرك {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}.
وأخرج الطبراني والخطيب في تاريخه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: أنا رجل من أهل رام هرمز، كنا قوماً مجوساً، فأتانا رجل نصراني من أهل الجزيرة، فنزل فينا واتخذ فينا ديراً، وكنت في كتاب في الفارسية، وكان لا يزال غلام معي في الكتاب يجيء مضروباً يبكي قد ضربه أبواه.
فقلت له يوماً: ما يبكيك؟ قال: يضربني أبواي قلت: ولم يضربانك؟ قال: آتي صاحب هذا الدير، فإذا علما ذلك ضرباني، وأنت لو أتيته سمعت منه حديثاً عجيباً قلت: فاذهب بي معك، فاتيناه فحدثنا عن بدء الخلق، وعن بدء مغلق السموات والأرض، وعن الجنة والنار. فحدثنا باحاديث عجب، وكنت أختلف إليه معه، ففطن لنا غلمان من الكتاب، فجعلوا يجيئون معنا.
فلما رأى ذلك أهل القرية أتوه فقالوا: يا هذا إنك قد جاورتنا فلم نر من جوارك إلا الحسن، وإننا لنا غلماننا يختلفون إليك، ونحن نخاف أن تفسدهم علينا، أخرج عنا قال: نعم. فقال لذلك الغلام الذي كان يأتيه: اخرج معي. قال: لا أستطيع ذلك قد علمت شدة أبوي علي قلت: لكنني أخرج معك، وكنت يتيماً لا أب لي، فخرجت معه فأخذنا جبل رام هرمز، فجعلنا نمشي ونتوكل ونأكل من ثمر الشجر حتى قدمنا الجزيرة، فقدمنا نصيبين فقال لي صاحبي: يا سلمان ان هاهنا قوماً عباد الأرض، وأنا أحب أن ألقاهم.
فجئنا إليهم يوم الأحد وقد اجتمعوا، فسلم عليهم صاحبي فحيوه وبشوا به وقالوا: أين كان غيبتك؟ قال: كنت في اخوان لي من قبل فارس، فتحدثنا ما تحدثنا ثم قال لي صاحبي: قم يا سلمان انطلق قلت: لا، دعني مع هؤلاء قال: إنك لا تطيق ما يطيق هؤلاء، يصومون الأحد إلى الأحد، ولا ينامون هذا الليل، فإذا فيهم رجل من أبناء الملوك ترك الْمُلْكَ ودخل في العبادة، فكنت فيهم حتى أمسينا، فجعلوا يذهبون واحداً واحداً إلى غاره الذي يكون فيه، فلما أمسينا قال: ذاك الذي من أبناء الملوك هذا الغلام ما تصنعونه؟ ليأخذه رجل منكم فقالوا: خذه أنت.
فقال لي: قم يا سلمان فذهب بي حتى أتى غاره الذي يكون فيه فقال لي: يا سلمان هذا خبز، وهذا أدم، فكل إذ غرثت، وصم إذا نشطت، وصَلِ ما بدا لك، ونم إذا كسلت، ثم قام في صلاته فلم يكلمني ولم ينظر الي، فأخذني الغم تلك السبعة الأيام لا يكلمني أحد، حتى كان الأحد فانصرف إلي، فذهبت إلى مكانهم الذي كانوا يجتمعون، وهم يجتمعون كل أحد يفطرون فيه، فيلقى بعضهم بعضاً، فيسلم بعضهم على بعض، ثم لا يلتقون إلى مثله.
فرجعت إلى منزلنا فقال لي: مثل ما قال لي أول مرة: هذا خبز وهذا أدم فكل منه إذا غرثت، وصم إذا نشطت، وصلِّ ما بدا لك، ونم إذا كسلت، ثم دخل في صلاته فلم يلتفت إلي ولم يكلمني إلى الأحد الآخر، فاخذني غم، وحدثت نفسي بالفرار، فقلت: اصبر أحدين أو ثلاثة، فلما كان الأحد رجعنا إليهم، فافطروا واجتمعوا فقال لهم: إني أريد بيت المقدس. فقالوا له: وما تريد إلى ذاك؟ قال: لا عهد به قالوا: إنا نخاف أن يحدث بك حدث فيليك غيرنا، وكنا نحب أن نليك قال: لا عهد به.
فلما سمعته يذكر ذاك فرحت قلت: نسافر ونلقى الناس فيذهب عني الغم الذي كنت أجد، فخرجت أنا وهو وكان يصوم من الأحد إلى الأحد، ويصلي الليل كله، ويمشي بالنهار، فإذا نزلنا قام يصلي. فلم يزل ذاك دأبه حتى نزلنا بيت المقدس، وعلى الباب رجل مقعد يسأل الناس فقال: اعطني. فقال: ما معي شيء، فدخلنا بيت المقدس، فلما رآه أهل بيت المقدس بشوا به واستبشروا به فقال لهم: غلامي هذا فاستوصوا به، فانطلقوا بي فاطعموني خبزاً ولحماً، ودخل في الصلاة فلم ينصرف إلي حتى كان يوم الأحد الآخر، ثم انصرف فقال لي: يا سلمان إني أريد أن أضع رأسي، فإذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فايقظني. فبلغ الظل الذي قال فلم أوقظه رحمة له مما رأيت من اجتهاده ونصبه، فاستيقظ مذعوراً فقال: يا سلمان ألم أكن قلت لك إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني؟ قلت: بلى. ولكن إنما منعني رحمة لك لما رأيت من دأبك قال: ويحك يا سلمان.. ! إني أكره أن يفوتني شيء من الدهر لم أعمل فيه لله خيراً.
ثم قال لي: يا سلمان اعلم أن أفضل ديننا اليوم النصرانية. قلت: ويكون بعد اليوم دين أفضل من النصرانية؟ كلمة ألقيت على لساني. قال: نعم. يوشك أن يبعث نبي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإذا أدركته فاتبعه وصدقه قلت: وإن أمرني أن أدع النصرانية؟ قال: نعم. فإنه نبي الله لا يأمر إلا بالحق، ولا يقول إلا حقاً، والله لو أدركته ثم أمرني أن أقع في النار لوقعتها.
ثم خرجنا من بيت المقدس، فمررنا على ذلك المقعد فقال له: دخلت فلم تعطني وهذا تخرج فاعطني.
فالتفت فلم ير حوله أحداً قال: فاعطني يدك، فأخذ بيده فقال: قم باذن الله. فقام صحيحاً سوياً، فتوجه نحو أهله، فاتبعته بصري تعجباً مما رأيت، وخرج صاحبي فأسرع المشي، وتبعته فتلقاني رفقة من كلب اعراب، فسبوني فحملوني على بعير، وشدوني وثاقاً فتداولني البياع حتى سقطت إلى المدينة، فاشتراني رجل من الأنصار، فجعلني في حائط له من نخل، فكنت فيه ومن ثم تعلمت الخوص، أشتري خوصاً بدرهم فاعلمه فابيعه بدرهمين، فأرد درهماً إلى الخوص واستنفق درهماً أحب أن آكل من عمل يدي، فبلغنا ونحن بالمدينة أن رجلاً خرج بمكة يزعم أن الله أرسله، فمكثنا ما شاء الله أن نمكث، فهاجر إلينا وقدم علينا فقلت: والله لأجربنه فذهبت إلى السوق، فاشتريت لحم جزور ثم طحنته، فجعلت قصعة من ثريد، فاحتملتها حتى أتيته بها على عاتقي حتى وضعتها بين يديه فقال: ما هذه.. أصدقة أم هدية؟قلت: بل صدقة فقال لأصحابه: كلوا بسم الله. وأمسك ولم يأكل، فمكثت أيام، ثم اشتريت لحماً أيضاً بدرهم، فاصنع مثلها فاحتملتها حتى أتيته بها، فوضعتها بين يديه فقال: ما هذه... صدقة أم هدية؟ فقلت: بل هدية. فقال لأصحابه: كلوا بسم الله وأكل معهم. قلت: هذا- والله- يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فرأيت بين كتفيه خاتم النبوّة مثل بيضة الحمامة، فاسلمت.
فقلت له ذات يوم: يا رسول الله أي قوم النصارى؟ قال: لا خير فيهم ولا فيمن يحبهم قلت في نفسي: أنا- والله- أحبهم. قال: وذاك حين بعث السرايا وجرد السيف. فسرية تخرج وسرية تدخل والسيف يقطر قلت: يحدث بي الآن أني أحبهم، فيبعث إلي فيضرب عنقي، فقعدت في البيت فجاءني الرسول ذات يوم فقال: يا سلمان أجب رسول الله قلت: هذا- والله- الذي كنت أحذر قلت: نعم. اذهب حتى ألحقك قال: لا والله حتى تجيء، وأنا أحدث نفسي أن لو ذهب فأفر.
فانطلق بي حتى انتهيت إليه، فلما رآني تبسم وقال لي: يا سلمان ابشر فقد فرج الله عنك، ثم تلا على هؤلاء الآيات {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} إلى قوله: {لا نبتغي الجاهلين} قلت: يا رسول الله- والذي بعثك بالحق- سمعته يقول: لو أدركته فأمرني أن أقع في النار لوقعتها، إنه نبي لا يقول إلا حقاً، ولا يأمر إلا بالحق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} قال: «نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم أحب أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعظمته في اليهود، ومنزلته فيهم، وقد ستر بينه وبينهم ستراً فكلمهم ودعاهم فأبوا فقال: أخبروني عن عبد الله بن سلام كيف هو فيكم؟ قالوا: ذاك سيدنا وأعلمنا قال: أرأيتم إن آمن بي وصدقني أتؤمنون بي وتصدقوني؟ قالوا: لا يفعل ذاك. هو أفقه فينا من أن يدع دينه ويتبعك، قال أرأيتم إن فعل؟ قالوا: لا يفعل قال: أرأيتم إن فعل؟ قالوا إذاً نفعل.. قال: أخرج يا عبد الله بن سلام فخرج فقال: أبسط يدك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فبايعه، فوقعوا به وشتموه وقالوا: والله ما فينا أحد أقل علماً منه، ولا أجهل بكتاب الله منه قال: ألم تثنوا عليه آنفاً؟ قالوا: انا استحينا أن تقول اغتبتم صاحبكم من خلفه. فجعلوه يشتمونه فقام إليه أمين بن يامين فقال: أشهد أن عبد الله بن سلام صادق، فابسط يدك فبايعه، فأنزل الله فيهم {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} يعني إبراهيم واسمعيل وموسى وعيسى وتلك الأمم وكانوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنيس رضي الله عنه في قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} قال: هؤلاء قوم كانوا في زمان الفترة متمسكين بالإِسلام، مقيمين عليه، صابرين على ما أوذوا، حتى أدرك رجال منهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: لما أتى جعفر وأصحابه النجاشي أنزلهم، واحسن إليهم، فلما أرادوا أن يرجعوا قال من آمن من أهل مملكته: ائذن لنا فلنصحب هؤلاء في البحر، ونأتي هذا النبي فنحدث به عهداً، فانطلقوا فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدوا معه أحداً وخيبر ولم يصب أحد منهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائذن لنا فلنأت أرضنا فإن لنا أموالاً فنجيء بها فننفقها على المهاجرين، فانا نرى بهم جهداً، فأذن لهم فانطلقوا، فجاؤوا بأموالهم فانفقوها على المهاجرين، فأنزلت فيهم الآية {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون}.
وأخرج ابن ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه قال: إن قوماً من المشركين أسلموا فكانوا يؤذونهم، فنزلت هذه الآية فيهم {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه...} قال: أناس من أهل الكتاب أسلموا فكان أناس من اليهود إذا مروا عليهم سبوهم، فأنزل الله هذه الآية فيهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} قال: لا يجاورون أهل الجهل والباطل في باطلهم، أتاهم من الله ما وقذهم عن ذلك.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأول والكتاب الآخر. ورجل كانت له أمة فأدبها وأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها. وعبد مملوك أحسن عبادة ربه، ونصح لسيده».
وأخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين».