فصل: تفسير الآيات (35- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 40):

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40)}
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد في مسنده والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلا استفتحه بسبحان ربي الأعلى الوهاب».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} يقول: لا أسلبه كما سلبته.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} قال: لا تسلبنيه كما سلبتنيه.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرض لي الشيطان في مصلاي الليلة كأنه هرُّكم هذا، فأردت أن أحبسه حتى أصبح، فذكرت دعوة أخي سليمان {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فتركته».
وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عفريتاً جعل يتلفت علي البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، وإن الله تعالى أمكنني منه، فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا، فتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فرده الله خاسئاً».
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا قائم أصلي اعترض الشيطان، فأخذت حلقه، فخنقته حتى أني لأجد برد لسانه على ابهامي، فيرحم الله سليمان لولا دعوته لأصبح مربوطاً تنظرون إليه».
وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت لصلاة الصبح، فلقيني شيطان في السدة. سدة المسجد، فزحمني حتى أني لأجد مس شعره، فاستمكنت منه، فخنقته حتى أني لأجد برد لسانه على يدي، فلولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح مقتولاً تنظرون إليه».
وأخرج أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قام يصلي صلاة الصبح فقرأ، فألبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني وإبليس. فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين، الإِبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد، فتلاعب به صبيان المدينة».
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مر عليَّ الشيطان، فتناولته، فخنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي فقال: أوجعتني أوجعتني.. ولولا ما دعا به سليمان لأصبح مناطا إلى اسطوانة من أساطين المسجد ينظر إليه، وِلْدَانُ أهل المدينة».
وأخرج الطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان أراد أن يمر بين يدي، فخنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي. وأيم الله لولا ما سبق إليه أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد حتى يطيف به ولدان أهل المدينة».
وأخرج الحاكم في المستدرك عن عمر بن علي بن حسين قال: مشيت مع عمي وأخي جعفر فقلت: زعموا أن سليمان عليه السلام سأل ربه أن يهبه ملكاً قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن يعمر ملك في أمة نبي مضى قبله ما بلغ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم من العمر في أمته».
وأخرج عبد بن حميد عن وهب بن منبه رضي الله عنه، أنه ذكر من ملك سليمان، وتعظيم ملكه، أنه كان في رباطه اثنا عشر ألف حصان، وكان يذبح على غدائه كل يوم سبعين ثوراً، سوى الكباش، والطير، والصيد. فقيل لوهب: أكان يسع هذا ماله؟! قال: كان إذا ملك الملك على بني إسرائيل اشترط عليهم أنهم رقيقه، وإن أموالهم له؛ ما شاء أخذ منها، وما شاء ترك.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي خالد البجلي رضي الله عنه قال: بلغني أن سليمان عليه السلام ركب يوماً في موكبه، فوضع سريره فقعد عليه، وألقيت كراسي يميناً وشمالاً، فقعد الناس عليها يلونه، والجن وراءهم، ومردة الجن والشياطين وراء الجن. فأرسل إلى الطير، فأظلته بأجنحتها، وقال للريح: احملينا يريد بعض مسيره، فاحتملته الريح وهو على سريره، والناس على كراسيهم يحدثهم ويحدثونه، لا يرتفع كرسي ولا يتضع، والطير تظلهم.
وكان موكب سليمان يسمع من مكان بعيد، ورجل من بني إسرائيل آخذ مسحاته في زرع له، قائماً يهيئه إذ سمع الصوت فقال: إن هذا الصوت ما هو إلا لموكب سليمان وجنوده، فحان من سليمان التفاتة وهو على سريره، فإذا هو برجل يشتد يبادر الطريق فقال عليه السلام في نفسه: إن هذا الرجل ملهوف، أو طالب حاجة، فقال للريح حين وقفت به: قفي.. فوقفت به وبجنود حتى انتهى إليه الرجل وهو منبهر، فتركه سليمان حتى ذهب بهره، ثم أقبل عليه فقال ألك حاجة؟ وقد وقف عليه الخلق فقال: الحاجة جاءت بي إلى هذا المكان يا رسول الله.
إني رأيت الله أعطاك ملكاً لم يعطه أحداً قبلك ولا أراه يعطيه أحداً بعدك، فكيف تجد ما مضى من ملكك هذه الساعة؟ قال: أخبرك عن ذاك إني كنت نائماً فرأيت رؤيا، ثم تنبهت فعبرتها قال: ليس إلا ذاك قال: فأخبرني كيف تجد ما بقي من ملكك الساعة؟ قال: تسألني عن شيء لم أره قال: فإنما هي هذه الساعة، ثم انصرف عنه مولياً.
فجلس سليمان عليه السلام ينظر في قفاه، ويتفكر فيما قاله، ثم قال للريح إمضي بنا، فمضت به قال الله: {رخاء حيث أصاب} قال: الرخاء التي ليست بالعاصف، ولا باللينة وسطاً، قال الله تعالى {غدوها شهر ورواحها شهر} [ سبأ: 12] ليست بالعاصف التي تؤذيه، ولا باللينة التي تشق عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن سلمان بن عامر الشيباني رضي الله عنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم سليمان، وما أعطاه الله تعالى من ملكه، فلم يكن يرفع طرفه إلى السماء تخشعاً حتى قبضه الله تعالى».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رفع سليمان عليه السلام طرفه إلى السماء تخشعاً حيث أعطاه الله تعالى ما أعطاه».
وأخرج أحمد في الزهد عن عطاء رضي الله عنه قال: كان سليمان عليه السلام يعمل الخوص بيده، ويأكل خبز الشعير، ويطعم بني إسرائيل الحواري.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن عساكر عن صالح بن سمار رضي الله عنه قال: بلغني أنه لما مات داود عليه السلام، أوحى الله تعالى إلى سليمان عليه الصلاة والسلام «سلني حاجتك قال: أسألك أن تجعل قلبي يخشاك كما كان قلب أمي، وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي. فقال: أرسلت إلى عبدي أسأله حاجته، فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني، وأن أجعل قلبه يحبني، لأهبن له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده قال الله تعالى {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} والتي بعدها مما أعطاه، وفي الآخرة لا حساب عليه».
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {فسخرنا له الريح..} قال: لم يكن في ملكه يوم دعا الريح والشياطين.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه قال: لما عقر سليمان عليه السلام الخيل أبدله الله خيراً منها، وأمر الريح تجري بأمره كيف يشاء {رخاء} قال: ليست بالعاصف، ولا باللينة بين ذلك.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {تجري بأمره رخاء} قال: مطيعة له حيث أراد.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {رخاء حيث أصاب} قال: حيث شاء.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {رخاء} قال: لينة {حيث أصاب} قال: حيث أراد {والشياطين كل بناء} قال: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل {وغواص} قال: يستخرجون له الحلى من البحر {وآخرين مقرنين في الأصفاد} قال: مردة الشياطين في الأغلال.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {رخاء} قال: الطيبة {والشياطين كل بناء وغواص} قال: يغوص للحلية {وبناء} بنوا لسليمان قصراً على الماء فقال: اهدموه من غير أن تمسه الأيدي. فرموه بالفادقات حتى وضعوه، فبقيت لنا منفعته بعدهم، فكان من عمل الجن، وبقيت لنا منفعة السياط، كان يضرب الجن بالخشب، فيكسر أيديها وأرجلها، فقالوا هل توجعنا فلا تكسرنا؟ قال: نعم. فدلوه على السياط، والتمويه أمر الجن فموهت على ثم أمر به، فألقى على الأساطين تحت قوائم خيل بلقيس، والقارورة لما أخرج الأعور شيطان البحر حيث أراد بناء بيت المقدس قال الأعور: ابتغوا لي بيضة هدهد، ثم قال اجعلوا عليها قارورة، فجاء الهدهد، فجعل يرى بيضته وهو لا يقدر عليها، ويطيف بها فانطلق فجاء بماسة مثل هذه، فوضعها على القارورة، فانشقت فانشق بيت المقدس بتلك الماسة والقذافة. وكان في البحر كنز، فدلوا عليه سليمان عليه السلام، وزعموا أن سليمان عليه السلام يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين سنة لما أعطيَ من الملك في الدنيا.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {هذا عطاؤنا} قال: كل هذا أعطاه إياه بعد رد الخاتم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فامنن} يقول: اعتق من الجن من شئت {أو أمسك} منهم من شئت.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {هذا عطاؤنا...} قال الحسن: الملك الذي أعطيناك، فأعط ما شئت، وامنع ما شئت، فليس لك تبعة، ولا حساب عليك في ذلك.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} قال: بغير حرج، إن شئت أمسكت، وإن شئت أعطيت.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه في الآية قال: ما أعطيت، أو أمسكت، فليس عليك فيه حساب.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه قال: ما من نعمة أنعم الله على عبد إلا وقد سأله فيها الشكر إلا سليمان بن داود عليه السلام. قال الله لسليمان عليه السلام {فامنن أو أمسك} بغير حساب.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه قال: إن الله أعطى سليمان عليه السلام ملكاً هنيئاً فقال الله: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} قال: إن أعطيَ أجر، وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} أي حسن مصير.
وأخرج ابن المنذر عن أبي صالح رضي الله عنه {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} قال: الزلفى القرب {وحسن مآب} قال: المرجع.

.تفسير الآيات (41- 44):

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}
أخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} قال: ذهاب الأهل والمال والضر الذي أصابه في جسده. قال: ابتلى سبع سنين وأشهراً، فألقى على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه، وأعظم له الأجر، وأحسن.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {بنصب وعذاب} قال: {بنصب} الضر في الجسد، {وعذاب} قال: في المال.
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن الشيطان عرج إلى السماء قال: يا رب سلطني على أيوب عليه السلام قال الله: قد سلطتك على ماله وولده، ولم أسلطك على جسده. فنزل فجمع جنوده فقال لهم: قد سلطت على أيوب عليه السلام، فأروني سلطانكم، فصاروا نيراناً، ثم صاروا ماء، فبينما هم بالمشرق إذا هم بالمغرب، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق، فأرسل طائفة منهم إلى زرعه، وطائفة إلى أهله، وطائفة إلى بقره، وطائفة إلى غنمه، وقال: إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف. فأتوه بالمصائب بعضها على بعض. فجاء صاحب الزرع فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك عدوّاً، فذهب به. وجاء صاحب الإِبل فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على إبلك عدواً، فذهب بها؟ ثم جاءه صاحب البقر فقال: ألم تر إلى ربك أرسل على بقرك عدواً، فذهب بها؟ وتفرد هو ببنيه جمعهم في بيت أكبرهم.
فبينما هم يأكلون ويشربون اذهبت ريح، فأخذت بأركان البيت، فألقته عليهم، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم؟ فبينما هم يأكلون ويشربون اذهبت ريح، فأخذت باركان البيت، فألقته عليهم، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم. فقال له أيوب: أنت الشيطان، ثم قال له أنا اليوم كيوم ولدتني أمي، فقام فحلق رأسه، وقام يصلي، فرن إبليس رنة سمع بها أهل السماء، وأهل الأرض، ثم خرج إلى السماء فقال: أي رب انه قد اعتصم، فسلطني عليه، فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال: قد سلطتك على جسده، ولم أسلطك على قلبه.
فنزل فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدميه إلى قرنه، فصار قرحة واحدة، وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه، فكانت امرأته تسعى إليه حتى قالت له: أما ترى يا أيوب نزل بي والله من الجهد والفاقة ما أن بعت قروني برغيف. فأطعمك، فادع الله أن يشفيك ويريحك قال: ويحك.. ! كنا في النعيم سبعين عاماً، فأصبري حتى نكون في الضر سبعين عاماً، فكان في البلاء سبع سنين، ودعا فجاء جبريل عليه السلام يوماً، فأخذ بيده، ثم قال: قم.
فقام فنحاه عن مكانه وقال: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} فركض برجله، فنبعت عين فقال: اغتسل. فاغتسل منها، ثم جاء أيضاً فقال: {اركض برجلك} فنبعت عين أخرى. فقال له: اشرب منها، وهو قوله: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} وألبسه الله تعالى حلة من الجنة، فتنحى أيوب، فجلس في ناحية، وجاءت امرأته، فلم تعرفه فقالت: يا عبدالله أين المبتلي الذي كان هاهنا لعل الكلاب ذهبت به، والذئاب؟ وجعلت تكلمه ساعة فقال: ويحك.. ! أنا أيوب قد رد الله عليّ جسدي، ورد الله عليه ماله وولده عياناً {ومثلهم معهم} وأمطر عليهم جراداً من ذهب، فجعل يأخذ الجراد بيده، ثم يجعله في ثوبه، وينشر كساءه، فيجعل فيه فأوحى الله إليه: يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك.
وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن إبليس قعد على الطريق، فاتخذ تابوتاً يداوي الناس فقالت امرأة أيوب: يا عبدالله إن هاهنا مبتلي من أمره كذا وكذا.. فهل لك أن تداويه؟ قال: نعم. بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره. فأتت أيوب عليه السلام فذكرت ذلك له فقال: ويحك.. ! ذاك الشيطان لله عليَّ إن شفاني الله تعالى أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله تعالى أمره أن يأخذ ضغثاً فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ، فضرب بها ضربة واحدة.
وأخرج ابن أبي حاتم قال: الشيطان الذي مس أيوب يقال له مسوط. فقالت امرأة أيوب ادع الله يشفيك، فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه، فعند ذلك قال: {ربِ أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [ الأنبياء: 83].
وأخرج ابن المنذر عن ابن جرير رضي الله عنه في قوله: {اركض برجلك هذا} الماء {مغتسل بارد وشراب} قال: ركض رجله اليمنى فنبعت عين، وضرب بيده اليمنى خلف ظهره فنبعت عين، فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه قال: ضرب برجله أرضاً يقال لها الحمامة، فإذا عينان ينبعان فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن رضي الله عنه أن نبي الله أيوب عليه السلام لما اشتد به البلاء إما دعا وإما عرض بالدعاء، فأوحى الله تعالى إليه {أن اركض برجلك} فنبعت عين، فاغتسل منها فذهب ما به، ثم مشى أربعين ذراعاً، ثم ضرب برجله فنبعت عين فشرب منها.
وأخرج عبد بن حميد عن معاوية بن قرة رضي الله عنه قال: إن نبي الله أيوب عليه السلام لما أصابه الذي أصابه قال إبليس: يا رب ما يبالي أيوب أن تعطيه أهله ومثلهم معهم وتخلف له ماله وسلطانه سلطني على جسده قال: اذهب فقد سلطتك على جسده، وإياك يا خبيث ونفسه قال فنفخ فيه نفخة سقط لحمه، فلما أعياه صرخ صرخة اجتمعت إليه جنوده قالوا يا سيدنا ما أغضبك؟ فقال الا أغضب إني أخرجت آدم من الجنة وإن ولده هذا الضعيف قد غلبني فقالوا: يا سيدنا ما فعلت امرأته؟ فقال: حية فقال: أما هي فقد كفيك أمرها فقال له: فإن أطلقتها فقد أصبت وإلا فأعطه فجاء إليها فاستبرأها، فأتت أيوب فقالت له: يا أيوب إلى متى هذا البلاء؟ كلمة واحدة ثم استغفر ربك فيغفر لك فقال لها: فعلتها أنت أيضاً. ثم قال لها أما والله لئن الله تعالى عافاني لأجلدنك مائة جلدة فقال: {رب أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} قأتاه جبريل عليه السلام فقال: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} فرجع إليه حسنه وشبابه، ثم جلس على تل من التراب فجاءته امرأته بطعامه فلم تر له أثراً فقالت لأيوب عليه السلام وهو على التل: يا عبدالله هل رأيت مبتلي كان ههنا؟ فقال لها: إن رأيتيه تعرفينه؟ فقالت له لعلك أنت هو؟ قال: نعم. فأوحى الله إليه أن {خذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} قال: والضغث أن يأخذ الحزمة من السياط فيضرب بها الضربة الواحدة.
وأخرج أحمد في الزهد عن عبد الرحمن بن جبير رضي الله عنه قال: ابتلى أيوب عليه السلام بماله وولده وجسده وطرح في المزبلة، فجعلت امرأته تخرج فتكتسب عليه ما تطعمه، فحسده الشيطان بذلك فكان يأتي أصحاب الخير والغنى الذين كانوا يتصدقوا عليها فيقول: اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها، فالناس يتقذرون طعامكم من أجلها انها تأتيكم وتغشاكم، فجعلوا لا يدنونها منهم ويقولون: تباعدي عنا ونحن نطعمك ولا تقربينا، فأخبرت بذلك أيوب عليه السلام، فحمد الله تعالى على ذلك وكان يلقاها إذا خرجت كالمتحزن بما لقي أيوب فيقول: لج صاحبك وأبى إلا ما أبى الله، ولو تكلم بكلمة واحدة تكشف عنه كل ضر، ولرجع إليه ماله وولده. فتجيء فتخبر أيوب فيقول لها: لقيك عدوّ الله فلقنك هذا الكلام لئن أقامني الله من مرضي لأجلدنك مائة. فلذلك قال الله تعالى {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} يعني بالضغث القبضة من الكبائس.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما {وخذ بيدك ضغثاً} قال: الضغث القبضة من المرعى الطيب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {وخذ بيدك ضغثاً} قال: حزمة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وخذ بيدك ضغثا} قال: عود فيه تسعة وتسعون عوداً، والأصل تمام المائة. وذلك أن امرأته قال لها الشيطان: قولي لزوجك يقول كذا وكذا.. ! فقالت له... فحلف أن يضربها مائة، فضربها تلك الضربة فكانت تحلة ليمينه وتخفيف عن امرأته.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه بلغه أن أيوب عليه السلام حلف ليضربن امرأته مائة في أن جاءته في زيادة على ما كانت تأتي به من الخبز الذي كانت تعمل عليه وخشي أن تكون قارفت من الخيانة، فلما رحمه الله وكشف عنه الضر علم براءة امرأته مما اتهمها به، فقال الله عز وجل {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} فأخذ ضغثاً من ثمام وهو مائة عود، فضرب به كما أمره الله تعالى.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وخذ بيدك ضغثاً} قال: هي لأيوب عليه السلام خاصة وقال عطاء: هي للناس عامة.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك رضي الله عنه {وخذ بيدك ضغثاً} قال: جماعة من الشجر وكانت لأيوب عليه السلام خاصة، وهي لنا عامة.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وخذ بيدك ضغثاً..}. وذلك أنه أمره أن يأخذ ضغثاً فيه مائة طاق من عيدان القت، فيضرب به امرأته لليمين التي كان يحلف عليها قال: ولا يجوز ذلك لأحد بعد أيوب إلا الأنبياء عليهم السلام.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: «حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها: ممن حملك؟ قالت: من فلان المقعد، فسأل المقعد فقال صدقت، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا له عثكولاً فيه مائة شمراخ، فاضربوه به ضربة واحدة ففعلوا».
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: «كان في أبياتنا إنسان ضعيف مجدع، فلم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء أهل الدار يعبث بها، وكان مسلماً فرفع سعد رضي الله عنه شأنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اضربوه حده فقالوا يا رسول الله: إنه أضعف من ذلك ان ضربناه مائة قتلناه قال: فخذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ، فاضربوه ضربة واحدة وخلوا سبيله».
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان رضي الله عنه، أن رجلاً أصاب فاحشة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض على شفا موت، فأخبر أهله بما صنع، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقنو فيه مائة شمراخ، فضربه ضربة واحدة.
وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشيخ قد ظهرت عروقه قد زنى بامرأة، فضربه بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة.
أما قوله تعالى: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد}.
أخرج ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أيوب عليه السلام رأس الصابرين يوم القيامة.
وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن العاصي رضي الله عنه قال: نودي أيوب عليه السلام يا أيوب لولا أفرغت مكان كل شعرة منك صبراً ما صبرت.
وأخرج ابن عساكر عن ليث بن أبي سليمان رضي الله عنه قال: قيل لأيوب عليه السلام لا تعجب بصبرك، فلولا أني أعطيت موضع كل شعرة منك صبراً ما صبرت.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة أيوب قالت: يا أيوب إنك رجل مجاب الدعوة، فادع الله أن يشفيك فقال: ويحك.. ! كنا في النعماء سبعين عاماً، فدعينا نكون في البلاء سبع سنين.
وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال: زوجة أيوب عليه السلام رحمة رضي الله عنها بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن الحسن رضي الله عنه قال: كان أيوب عليه السلام كلما أصابه مصيبة قال: اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت مهما تبقى نفسك أحمدك على حسن بلائك.