فصل: فصل: روى مسلم في صحيحه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الطب النبوي **


الطــــب النبــوي

من كتـاب زاد المعـاد

 المرض‏:‏ نوعان‏:‏ مرض القلوب، ومرض الأبدان

وهما مذكوران في القرآن‏.‏

 ومرض القلوب‏:‏ نوعان‏:‏ مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي

وكلاهما في القرآن‏.‏ قال تعالى في مرض الشبهة‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة، فأبى وأعرض‏:‏ ‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 48 ‏:‏49‏]‏ فهذا مرض الشبهات والشكوك‏.‏

وأما مرض الشهوات، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏‏.‏ فهذا مرض شهوة الزنى، والله أعلم‏.‏

 فصل‏:‏ وأما مرض الأبدان

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏، وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن، والإستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة‏:‏ حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة‏.‏

فقال في آية الصوم‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلبًا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة، وما يوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة، وتضعف، فأباح للمسافر الفطر حفظًا لصحته وقوته عما يضعفها‏.‏

وقال في آية الحج‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل، أو حكة، أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغًا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، فإذا حلق رأسه، تفتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها، فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه‏.‏

والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة‏:‏ الدم إذا هاج، والمني إذا تبيغ، والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش‏.‏ وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه‏.‏

وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى‏.‏

وأما الحمية‏:‏ فقال تعالى في آية الوضوء‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج، فقد أرشد ـ سبحانه ـ عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده، ونحن نذكر هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي‏.‏

فأما طب القلوب، فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها، وفاطرها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل، وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم، فغلط ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية، وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته، وقوته عن ذلك بمعزل، ومن لم يميز بين هذا وهذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات‏.‏

 فصل‏:‏ وأما طب الأبدان‏:‏ فإنه نوعان

نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب، كطب الجوع، والعطش، والبرد، والتعب بأضدادها وما يزيلها‏.‏

والثاني‏:‏ ما يحتاج إلى فكر وتأمل، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج، بحيث يخرج بها عن الاعتدال، إما إلى حرارة، أو برودة، أو يبوسة، أو رطوبة، أو ما يتركب من اثنين منها، وهي نوعان‏:‏ إما مادية، وإما كيفية، أعني إما أن يكون بانصباب مادة، أو بحدوث كيفية، والفرق بينهما أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها، فتزول موادها، ويبقى أثرها كيفية في المزاج‏.‏

وأمراض المادة أسبابها معها تمدها، وإذا كان سبب المرض معه، فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولًا، ثم في المرض ثانيًا، ثم في الدواء ثالثًا‏.‏ أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته، إما في شكل، أو تجويف، أو مجرى، أو خشونة، أو ملاسة، أو عدد، أو عظم، أو وضع، فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالًا، والخروج عن الاعتدال فيه يسمى تفرق الإتصال، أو الأمراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية‏.‏

والأمراض المتشابهة‏:‏ هي التي يخرج بها المزاج عن الاعتدال، وهذا الخروج يسمى مرضًا بعد أن يضر بالفعل إضرارًا محسوسًا‏.‏

وهي على ثمانية أضرب‏:‏ أربعة بسيطة، وأربعة مركبة، فالبسيطة‏:‏ البارد، والحار، والرطب، واليابس، والمركبة‏:‏ الحار الرطب، والحار اليابس، والبارد الرطب، والبارد اليابس، وهي إما أن تكون بانصباب مادة، أو بغير انصباب مادة، وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجًا عن الاعتدال صحة‏.‏

وللبدن ثلاثة أحوال‏:‏ حال طبيعية، وحال خارجة عن الطبيعية، وحال متوسطة بين الأمرين‏.‏ فالأولى‏:‏ بها يكون البدن صحيحًا، والثانية‏:‏ بها يكون مريضًا‏.‏ والحال الثالثة‏:‏ هي متوسطة بين الحالتين، فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط، وسبب خروج البدن عن طبيعته، إما من داخله، لأنه مركب من الحار والبارد، والرطب واليابس، وإما من خارج، فلأن ما يلقاه قد يكون موافقًا، وقد يكون غير موافق، والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال، وقد يكون من فساد في العضو، وقد يكون من ضعف في القوى، أو الأرواح الحاملة لها، ويرجع ذلك إلى زيادة ما الاعتدال في عدم زيادته، أو نقصان ما الاعتدال في عدم نقصانه، أو تفرق ما الاعتدال في اتصاله، أو اتصال ما الاعتدال في تفرقه، أو امتداد ما الاعتدال في انقباضه، أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله‏.‏

فالطبيب‏:‏ هو الذي يفرق ما يضر بالإنسان جمعه، أو يجمع فيه ما يضره تفرقه، أو ينقص منه ما يضره زيادته، أو يزيد فيه ما يضره نقصه، فيجلب الصحة المفقودة، أو يحفظها بالشكل والشبه، ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض، ويخرجها، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية، وسترى هذا كله في هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شافيًا كافيًا بحول الله وقوته، وفضله ومعونته‏.‏

 فصل‏:‏ فكان من هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل التداوي في نفسه

والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقرباذين، بل كان غالب أدويتهم بالمفردات، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه، أو يكسر سورته، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك، وأهل البوادي قاطبة، وإنما عني بالمركبات الروم واليونانيون، وأكثر طب الهند بالمفردات‏.‏

وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل عنه إلى المركب‏.‏‏.‏

قالوا‏:‏ وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية، لم يحاول دفعه بالأدوية‏.‏

قالوا‏:‏ ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية، فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله، أو وجد داء لا يوافقه، أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه، أو كيفيته، تشبث بالصحة، وعبث بها‏.‏ وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبًا، وهم أحد فرق الطب الثلاث‏.‏

والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية، فالأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات، أمراضها قليلة جدًا، وطبها بالمفردات، وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة، وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة، فالأدوية المركبة أنفع لها، وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة، فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة، فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية‏.‏

ونحن نقول‏:‏ إن ها هنا أمرًا آخر، نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم، فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول‏:‏ هو قياس‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ هو تجربة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ هو إلهامات، ومنامات، وحدس صائب‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج، فتلغ في الزيت تتداوى به، وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض، وقد عشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج، فتمر عيونها عليها‏.‏ وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب‏.‏

وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم، وأقيستهم من الأدوية القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والإلتجاء إليه، والإنطراح والإنكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه‏.‏

وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورًا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجًا عنها، ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها، وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس، وأغلظهم حجابًا، وأكثفهم نفسًا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها، فقام حتى كأن ما به قلبة‏.‏

فهذان نوعان من الطب النبوي، نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومنا القاصرة، ومعارفنا المتلاشية جدًا، وبضاعتنا المزجاة، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله، ونستمد من فضله، فإنه العزيز الوهاب‏.‏

 فصل‏:‏ روى مسلم في صحيحه

من حديث أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله عز وجل‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين ‏:‏ عن عطاء، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء‏)‏‏.‏

وفي مسند الإمام أحمد ‏:‏ من حديث زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال‏:‏ كنت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجاءت الأعراب، فقالوا‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ أنتداوى‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا‏:‏ ما هو‏؟‏ قال‏:‏ الهرم‏)‏‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله‏)‏‏.‏

وفي المسند ‏:‏ من حديث ابن مسعود يرفعه‏:‏ ‏(‏إن الله ـ عز وجل ـ لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله‏)‏ وفي المسند و السنن ‏:‏ عن أبي خزامة، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هي من قدر الله‏)‏‏.‏

فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏(‏لكل داء دواء‏)‏، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله، ولهذا علق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفاء على مصادفة الدواء للداء، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده، فعلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ البرء بموافقة الداء للدواء، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية،أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نقله إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته، وكان العلاج قاصرًا، ومتى لم يقع المداوي على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحًا لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له، أو القوة عاجزة عن حمله، أو ثم مانع يمنع من تأثيره، لم يحصل البرء لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد، وهذا أحسن المحملين في الحديث‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون من العام المراد به الخاص، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه، وهذا يستعمل في كل لسان، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد‏:‏ ‏{‏تدمر كل شيء بأمر ربها‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏ أي كل شيء يقبل التدمير، ومن شأن الريح أن تدمره، ونظائره كثيرة‏.‏

ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم، ومقاومة بعضها لبعض، ودفع بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، تبين له كمال قدرة الرب تعالى، وحكمته، وإتقانه ما صنعه، وتفرده بالربوبية، والوحدانية، والقهر، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه، كما أنه الغني بذاته، وكل ما سواه محتاج بذاته‏.‏

وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا‏.‏

وفيها رد على من أنكر التداوي، وقال‏:‏ إن كان الشفاء قد قدر، فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قدر، فكذلك‏.‏ وأيضًا، فإن المرض حصل بقدر الله، وقدر الله لا يدفع ولا يرد، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏ وأما أفاضل الصحابة، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا، وقد أجابهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما شفى وكفى، فقال‏:‏ هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله، فما خرج شيء عن قدره، بل يرد قدره بقدره، وهذا الرد من قدره، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما، وهذا كرد قدر الجوع، والعطش والحر، والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله‏:‏ الدافع، والمدفوع والدفع‏.‏

ويقال لمورد هذا السؤال‏:‏ هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببًا من الأسباب التي تجلب بها منفعة، أو تدفع بها مضرة، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا، لم يكن بد من وقوعهما، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما، وفي ذلك خراب الدين والدنيا، وفساد العالم، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق، معاند له، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه، كالمشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، و ‏{‏لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏، فهذا قالوه دفعًا لحجة الله عليهم بالرسل‏.‏

وجواب هذا السائل أن يقال‏:‏ بقي قسم ثالث لم تذكره، هو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب، وإلا فلا، فإن قال‏:‏ إن كان قدر لي السبب، فعلته، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله‏.‏

قيل‏:‏ فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك، وولدك، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به، ونهيته عنه فخالفك‏؟‏ فإن قبلته، فلا تلم من عصاك، وأخذ مالك، وقذف عرضك، وضيع حقوقك، وإن لم تقبله، فكيف يكون مقبولًا منك في دفع حقوق الله عليك‏.‏ وقد روي في أثر إسرائيلي‏:‏ أن إبراهيم الخليل قال‏:‏ يا رب ممن الداء‏؟‏ قال‏:‏ مني ‏.‏ قال‏:‏ فممن الدواء‏؟‏ قال‏:‏ مني‏.‏ قال‏:‏ فما بال الطبيب‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ رجل أرسل الدواء على يديه‏.‏

وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لكل داء دواء‏)‏، تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله، تعلق قلبه بروح الرجاء، وبردت عنده حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح، قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته‏.‏

وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه‏.‏ وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضًا إلا جعل له شفاء بضده، فإن علمه صاحب الداء واستعمله، وصادف داء قلبه، أبرأه بإذن الله تعالى‏.‏

 

فصل‏:‏ في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الاحتماء من التخم

والزيادة في الأكل على قدر الحاجة، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب في المسند وغيره‏:‏ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلًا، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه‏)‏‏.‏

 

الأمراض نوعان

أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية، وهي الأمراض الأكثرية، وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن، وتناول الأغذية القليلة النفع، البطيئة الهضم، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية، واعتاد ذلك، أورثته أمراضًا متنوعة، منها بطيء الزوال وسريعه، فإذا توسط في الغذاء، وتناول منه قدر الحاجة، وكان معتدلًا في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير‏.‏

ومراتب الغذاء ثلاثة‏:‏ أحدها‏:‏ مرتبة الحاجة‏.‏ والثانية‏:‏ مرتبة الكفاية‏.‏ والثالثة‏:‏ مرتبة الفضلة‏.‏ فأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه، فلا تسقط قوته، ولا تضف معها، فإن تجاوزها، فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث للنفس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع‏.‏ فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن‏.‏

هذا إذا كان دائمًا أو أكثريًا‏.‏ وأما إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اللبن، حتى قال‏:‏ والذي بعثك بالحق، لا أجد له مسلكًا‏.‏ وأكل الصحابة بحضرته مرارًا حتى شبعوا‏.‏

والشبع المفرط يضعف القوى والبدن، وإن أخصبه، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء، لا بحسب كثرته‏.‏

ولما كان في الإنسان جزء أرضي، وجزء هوائي، وجزء مائي، قسم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأين حظ الجزء الناري‏؟‏

قيل‏:‏ هذه مسألة تكلم فيها الأطباء، وقالوا‏:‏ إن في البدن جزءًا ناريًا بالفعل، وهو أحد أركانه واسطقساته‏.‏

ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم، وقالوا‏:‏ ليس في البدن جزء ناري بالفعل، واستدلوا بوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير، واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية، أو يقال‏:‏ إنه تولد فيها وتكون، والأول مستبعد لوجهين، أحدهما‏:‏ أن النار بالطبع صاعدة، فلو نزلت، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم‏.‏ الثاني‏:‏ أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد، ونهاية العظم أولى بالانطفاء‏.‏

وأما الثاني‏:‏ ـ وهو أن يقال‏:‏ إنها تكونت ها هنا ـ فهو أبعد وأبعد، لأن الجسم الذي صار نارًا بعد أن لم يكن كذلك، قد كان قبل صيرورته إما أرضًا، وإما ماء، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة، وهذا الذي قد صار نارًا أولًا، كان مختلطًا بأحد هذه الأجسام، ومتصلًا بها، والجسم الذي لا يكون نارًا إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها، لا يكون مستعدًا لأن ينقلب نارًا لأنه في نفسه ليس بنار، والأجسام المختلطة باردة، فكيف يكون مستعدًا لانقلابه نارًا‏؟‏

فإن قلتم‏:‏ لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام، وتجعلها نارًا بسبب مخالطتها إياها‏؟‏

قلنا‏:‏ الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول، فإن قلتم‏:‏ إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار، وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة، ظهرت النار منها، وإذا ضربنا الحجر على الحديد، ظهرت النار، وكل هذه النارية حدثت عند الإختلاط، وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضًا‏.‏

قال المنكرون‏:‏ نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار، كما في ضرب الحجارة على الحديد، أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار، كما في البلورة، لكنا نستبعد ذلك جدًا في أجرام النبات والحيوان، إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار، ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة، كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها، فلا تتولد النار البتة، فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار‏؟‏

الوجه الثاني‏:‏ في أصل المسألة‏:‏ أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع، فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية، لكانت محالًا إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهرًا طويلًا، بحيث لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل، لكان مغلوبًا بالجزء المائي الذي فيه، وكان الجزء الناري مقهورًا به، وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب، فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جدًا إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار الوجه الرابع‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة، يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء، وفي بعضها أنه خلقه من تراب، وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين، وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار، وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالًا كالفخار، ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار، بل جعل ذلك خاصية إبليس‏.‏ وثبت في صحيح مسلم ‏:‏ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم‏)‏، وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط، ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار، ولا أن في مادته شيئًا من النار‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان، وهي دليل على الأجزاء النارية، وهذا لا يدل، فإن أسباب الحرارة أعم من النار، فإنها تكون عن النار تارة، وعن الحركة أخرى، وعن انعكاس الأشعة، وعن سخونة الهواء، وعن مجاورة النار، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضًا، وتكون عن أسباب أخر، فلا يلزم من الحرارة النار‏.‏

قال أصحاب النار‏:‏ من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما، وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر، ولا متحدًا به، وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد، فلا يخلو، إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا، فإن حصل، فهو الجزء الناري، وإن لم يحصل، لم يكن المركب مسخنًا بطبعه، بل إن سخن كان التسخين عرضيًا، فإذا زال التسخين العرضي، لم يكن الشيء حارًا في طبعه، ولا في كيفيته، وكان باردًا مطلقًا، لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حارًا بالطبع، فعلمنا أن حرارتها إنما كانت، لأن فيها جوهرًا ناريًا‏.‏

وأيضًا فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد، لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد، وكانت خالية عن المعاون والمعارض، وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية، ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد، لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله، والشيء لا ينفعل عن مثله، وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه، وإن كان دونه فعدم الإنفعال يكون أولى، فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد، ولا تألم به‏.‏ قالوا‏:‏ وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول‏:‏ الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها، وطبيعتها النارية، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول‏:‏ إن صورتها النوعية تفسد عند الامتزاج‏.‏

قال الآخرون‏:‏ لم لا يجوز أن يقال‏:‏ إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت، فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب، ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتًا كان أو حيوانًا أو معدنًا، وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الامتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل‏؟‏ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة، وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك‏.‏

وأما حديث إحساس البدن بالبرد، فنقول‏:‏ هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخينًا، ومن ينكر ذلك‏؟‏ لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار، فإنه وإن كان كل نار مسخنًا، فإن هذه القضية لا تنعكس كلية، بل عكسها الصادق بعض المسخن نار‏.‏

وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية، فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية، والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا، وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏