فصل: (الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ): فِي الِانْتِفَاعِ وَإِحْدَاثِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَهَوَائِهَا وَقَرَارِهَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القواعد الفقهية ***


‏(‏الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ‏)‏‏:‏ فِي الِانْتِفَاعِ وَإِحْدَاثِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَهَوَائِهَا وَقَرَارِهَا

أَمَّا الطَّرِيقُ نَفْسُهُ فَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا أَوْ أَحْدَثَ فِيهِ مَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَلَا يَجُوزُ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا مَعَ السَّعَةِ وَانْتِفَاءِ الضَّرَرِ فَإِنْ كَانَ الْمُحْدِثُ فِيهِ مُتَأَبِّدًا كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فَإِنْ كَانَ لِمَنْفَعَةٍ خَاصَّةٍ بِآحَادِ النَّاسِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ لِمَنْفَعَةٍ عَامَّةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ؛ مِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهُ بِحَالَةِ انْتِفَاءِ إذْنِ الْإِمَامِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَأَبِّدٍ وَنَفْعُهُ خَاصٌّ كَالْجُلُوسِ وَإِيقَافِ الدَّابَّةِ فِيهِ فَفِيهِ خِلَافٌ أَيْضًا‏.‏

وَأَمَّا الْقَرَارُ الْبَاطِنُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمَنْصُوصِ‏.‏

وَأَمَّا الْهَوَاءُ فَإِنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ خَاصًّا بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ فَالْمَعْرُوفُ مَنْعُهُ بِإِذْنِهِ فِيهِ خِلَافٌ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلِكَ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ‏.‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ إذَا حَفَرَ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ بِئْرًا فَإِنْ كَانَ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ طَرِيقَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ جَازَ وَإِنْ كَانَ بِدُونِ إذْنِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي إذْ الْبِئْرُ مَظِنَّةُ الْعَطَبِ، وَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ لِنَفْسِهِ ضَمِنَ بِكُلِّ حَالٍ وَلَوْ كَانَ فِي فِنَائِهِ نَصَّ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ إذْنُ الْإِمَامِ فِيهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ‏.‏

وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْقَاضِي أَنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي فِنَائِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ حَفْرٍ وَغَيْرِهِ إذَا لَمْ يَضُرَّ وَإِمَّا فِي فِنَاءِ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَضَرَّ بِأَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ جَازَ وَهَلْ يُعْتَبَرُ إذْنُهُمْ أَوْ إذْنُ الْإِمَامِ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ إذَا بَنَى مَسْجِدًا فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ جَازَ وَإِلَّا فَرِوَايَتَانِ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَا يُؤْخَذُ مِنْ الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الرِّوَايَتَيْنِ وَكَلَامُ أَحْمَدَ أَكْثَرُهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ الْمَسَاجِدُ الَّتِي فِي الطَّرَقَاتِ حُكْمُهَا أَنْ تُهْدَمَ‏.‏

وَقَالَ إسْمَاعِيلُ الشَّالَنْجِيُّ‏:‏ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ غِنًى وَبِهِمْ إلَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَسْجِدُ حَاجَةٍ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى هُنَاكَ مَسْجِدٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَسَأَلْت أَحْمَدَ هَلْ يُبْنَى عَلَى خَنْدَقِ مَدِينَةِ الْمُسْلِمِينَ مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ‏.‏

قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي الْمُتَرْجَمِ‏:‏ وَاَلَّذِي عَنَى أَحْمَدَ مِنْ الضَّرَرِ بِالطَّرِيقِ مَا وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السَّبْعِ الْأَذْرُعِ كَذَا قَالَ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْبِنَاءُ إذَا فَضَلَ مِنْ الطَّرِيقِ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِقَوْمٍ أَرَادُوا الْبِنَاءَ فِيهَا وَتَشَاجَرُوا فِي مِقْدَارِ مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْهَا لِلطَّرِيقِ وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَأَنْكَرُوا جَوَازَ تَضْيِيقِ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ بِنَاءُ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ فِي الطُّرُقَاتِ فَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ لِلْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ كَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَكَذَا إنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ كَخَانٍ مُسَبَّلٍ وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ لِمَنْفَعَةٍ تَخْتَصُّ بِأَحَدِ النَّاسِ فَالْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ مُشْتَرَكٌ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إسْقَاطَ الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ مِنْهُ وَالِاخْتِصَاصُ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ الْإِذْنَ فِي ذَلِكَ وَفِي كِتَابِ الطُّرُقَاتِ لِابْنِ بَطَّةَ أَنَّ بَعْضَ الْأَصْحَابِ أَفْتَى بِجَوَازِهِ وَأَخَذَهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ‏.‏

وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ حَقُّ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ بَاقٍ غَيْرَ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْمُرُورِ إلَى اسْتِحْقَاقِ اللُّبْثِ لِلْعِبَادَةِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ‏:‏ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ قَدْ سَلَكَهُ النَّاسُ وَصُيِّرَ طَرِيقًا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا‏.‏

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى إذَا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ جَزِيرَةٍ لَمْ يُبْنَ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِيهَا ضَرَرًا وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ إذَا بَنَى فِي طَرِيقِ الْمَارَّةِ فَضَرَّ بِالْمَارَّةِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَلَمْ يُجَوِّزْهُ، وَكُرِهَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ بُخْتَانَ أَنْ يَطْحَنَ فِي الْغُرُوبِ وَقَالَ رُبَّمَا غَرِقَتْ السُّفُنُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُثَنَّى‏:‏ إذَا كَانَتْ فِي طَرِيقِ النَّاسِ فَلَا يُعْجِبُنِي وَالْغُرُوبُ كَأَنَّهَا طَاحُونٌ يُصْنَعُ فِي النَّهْرِ الَّذِي تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ وَكُرِهَ شِرَاءُ مَا يُطْحَنُ فِيهَا‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْغُرْبَةِ فِي النَّهْرِ‏:‏ إنْ كَانَ وَضْعُهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَالطَّرِيقُ وَاسِعٌ وَالْجَرَيَانُ مُعْتَدِلٌ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ‏.‏

وَلَعَلَّ الْغُرْبَةَ كَالسَّفِينَةِ لَا تَتَأَبَّدُ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَحُكْمُ الْغِرَاسِ حُكْمُ الْبِنَاءِ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي النَّخْلَةِ الْمَغْرُوسَةِ فِي الْمَسْجِدِ‏:‏ أَنَّهَا غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا وَلَوْ قَلَعَهَا الْإِمَامُ كَانَ أَوْلَى وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ أَطْلَقَ فِيهَا الْكَرَاهَةَ كَصَاحِبِ الْمُبْهِجِ وَجَعَلَ ثَمَرَهَا لِجِيرَانِ الْمَسْجِدِ الْفُقَرَاءِ وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ وَابْنِ بُخْتَانَ فِي دَارِ السَّبِيلِ يُغْرَسُ فِيهَا كَرْمٌ قَالَ‏:‏ إنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَلَا‏.‏

وَظَاهِرُهُ جَوَازُهُ مَعَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ وَلَعَلَّ الْغَرْسَ كَانَ لِجِهَةِ السَّبِيلِ أَيْضًا‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ اخْتِصَاصُ آحَادِ النَّاسِ فِي الطَّرِيقِ بِانْتِفَاعٍ لَا يَتَأَبَّدُ فَمِنْ ذَلِكَ الْجُلُوسُ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ‏:‏ إنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا وَلَا ضَرَرَ فِي الْجُلُوسِ بِالْمَارَّةِ جَازَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِدُونِ إذْنِهِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ شَاءَ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي جَوَازِهِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ رِوَايَتَيْنِ، وَحَكَى فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ بِالْجَوَازِ وَالْمَنْعِ ثُمَّ حَمَلَهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ حَالَتَيْنِ؛ فَالْجَوَازُ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ وَالْمَنْعُ إذَا ضَرَّ وَجَعَلَ حَقَّ الْجُلُوسِ كَحَقِّ الِاسْتِطْرَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَطِّلُ حَقَّ الْمُرُورِ بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ كَالْقِيَامِ لِحَاجَةٍ وَأَظُنُّ أَنَّ ابْنَ بَطَّةَ حَكَى قَبْلَهُ رِوَايَتَيْنِ مُطْلَقَتَيْنِ فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُقْنِعِ فِي الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ هَلْ يُوجِبُ ضَمَانَ مَا عَثُرَ بِهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِهِ، وَأَمَّا الْقَاضِي فَقَالَ‏:‏ لَا يَضْمَنُ بِالْجُلُوسِ رِوَايَةً وَاحِدَةً‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ أَوْ أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ وَالْمَنْصُوصُ مَنْعُهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ إذَا أَقَامَ دَابَّتَهُ عَلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ لَيْسَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ حَقٌّ، وَكَذَا نَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ وَحَنْبَلٌ ضَمَانَ جِنَايَةِ الدَّابَّةِ إذَا رَبَطَهَا فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَا أَطْلَقَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ حَالَةِ التَّضْيِيقِ وَالسَّعَةِ وَمَأْخَذُهُ أَنَّ طَبْعَ الدَّابَّةِ الْجِنَايَةُ بِفَمِهَا أَوْ رِجْلِهَا فَإِيقَافِهَا فِي الطَّرِيقِ كَوَضْعِ الْحَجَرِ وَنَصْبِ السِّكِّينِ فِيهِ‏.‏

وَحَكَى الْقَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ رِوَايَةً أُخْرَى بِعَدَمِ الضَّمَانِ إذَا وَقَفَ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ لِقَوْلِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ إذَا وَقَفَ عَلَى نَحْوِ مَا يَقِفُ النَّاسُ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ أَنْ يَقِف فِي مِثْلِهِ فَنَفَحَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ إذَا كَانَ وَاقِفًا لِحَاجَةٍ وَكَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، وَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَحَمَلَ الْمَنْعَ عَلَى حَالَةِ ضِيقِ الطَّرِيقِ وَالْجَوَازَ عَلَى حَالَةِ سَعَتِهِ وَالْمَذْهَبُ عَنْهُ الْجَوَازُ مَعَ السَّعَةِ وَعَدَمِ الْإِضْرَارِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الْمَذْهَبَ الْمَنْعَ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَصَرَّحَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي صُورَتَيْ الْقِيَامِ وَالرَّبْطِ وَخَالَفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ الرَّبْطُ عُدْوَانٌ بِكُلِّ حَالٍ وَرَبْطُ السَّفِينَةِ وَإِرْسَاؤُهَا فِي النَّهْرِ الْمَسْلُوكِ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَالطَّرِيقُ وَاسِعٌ وَالْجَرَيَانُ مُعْتَدِلٌ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ وَخَالَفَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فِي اعْتِبَارِ إذْنِ الْإِمَامِ فِي هَذَا لِتَكَرُّرِهِ، قَالَ الْمَيْمُونِيُّ‏:‏ مِلْتُ أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى وَدَوَاعِيَهُ يَعْنِي فِي دِجْلَةَ فَاكْتَرَى زَوْرَقًا مِنْ وَدَوَاعِيَهُ فَرَأَيْتُهُ يَتَخَطَّى زَوَّجْتُكَهُمَا عِدَّةً لِأُنَاسٍ وَلَمْ أَرَهُ اسْتَأْذَنَ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّهُ حَرِيمُ دِجْلَةَ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا ضَيَّقُوهُ جَازَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ لَوْ وُضِعَ فِي الْمَسْجِدِ سَرِيرٌ وَنَحْوُهُ جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ بِخِلَافِ مَا إذَا بَسَطَ فِيهِ مُصَلَّى وَقُلْنَا لَا يَثْبُتُ بِهِ السَّبْقُ فَإِنَّهُ يُرْفَعُ وَيُصَلَّى مَوْضِعَهُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَفْعَهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِالطَّرِيقِ بِإِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ وَالْأَقْذَارِ فَإِنْ كَانَ نَجَاسَةً فَهُوَ كَالتَّخَلِّي فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَكِنْ هَلْ هُوَ نَهْيُ كَرَاهَةٍ أَوْ نَهْيُ تَحْرِيمٍ كَلَامُ الْأَصْحَابِ مُخْتَلَفٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الزَّلَقُ كَرَشِّ الْمَاءِ وَصَبِّهِ وَإِلْقَاءِ قُشُورِ الْبِطِّيخِ أَوْ يَحْصُلُ بِهِ الْعُثُورُ كَالْحَجَرِ فَلَا يَجُوزُ وَالضَّمَانُ وَاجِبٌ بِهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رَشِّ الْمَاءِ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ إلَّا أَنْ يَرُشَّهُ لِيَسْكُنَ بِهِ الْغُبَارُ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ فَيَصِيرُ كَحَفْرِ الْبِئْرِ السَّابِلَةِ‏.‏

وَفِيهِ رِوَايَتَانِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الْحَفْرُ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ سَوَاءٌ تَرَكَهُ ظَاهِرًا أَوْ غَطَّاهُ وَأَسْقَفَ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ الْمَرُّوذِيّ‏:‏ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَحْفِرُ فِي فِنَائِهِ الْبِئْرَ أَوْ الْمَخْرَجَ الْمُغْلَقَ‏.‏

قَالَ‏:‏ لَا هَذَا طَرِيقٌ لِلْمُسْلِمِينَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ إنَّمَا هِيَ بِئْرٌ تُحْفَرُ وَيُسَدُّ رَأْسُهَا‏.‏

قَالَ‏:‏ أَلَيْسَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمَيْنِ أَكْرَهُ هَذَا كُلَّهُ فَمَنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي بَاطِنِ الطَّرِيقِ بِالْحَفْرِ، وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ هَانِئٍ وَابْنُ بُخْتَانَ وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ فِي رَجُلٍ فِي دَارِهِ شَجَرَةٌ، فَنَبَتَ مِنْ عُرُوقِهَا شَجَرَةٌ فِي دَارِ رَجُلٍ آخَرَ، لِمَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا أَدْرِي مَا هَذَا وَرُبَمَا كَانَ ضَرَرًا عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَرَرٌ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عُرُوقُهَا تَحْتَ الْأَرْضِ لَا يُؤْخَذُ بِقَلْعِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يَكُونُ بِظُهُورِهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ‏.‏

انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ، وَصَرَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْوَاضِحِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِوُجُوبِ إزَالَةِ عُرُوقِ شَجَرَتِهِ مِنْ أَرْضِ غَيْرِهِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ إشْرَاعُ الْأَجْنِحَةِ وَالسَّابَاطَاتِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ فِي الْجِدَارِ إلَى الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ بِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَمُهَنَّا وَغَيْرِهِمْ‏.‏

وَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي وَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَالْأَكْثَرُونَ يُجَوِّزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَعَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ بِهِ، وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلشَّيْخِ مَجْدُ الدِّينِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ‏"‏ إنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ جَازَ ‏"‏ وَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ‏؟‏ عَلَى رِوَايَتَيْنِ‏:‏ إحْدَاهُمَا، يَفْتَقِرُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِجِهَةٍ خَاصَّةٍ إلَّا لِلْإِمَامِ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ لَا يَفْتَقِرُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الطَّرِيقِ الْمُرُورُ وَهُوَ لَا يَخْتَلُّ بِذَلِكَ وَأَمَّا الْمَيَازِيبُ وَمَسِيلُ الْمِيَاهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ قَالَ الْمَرُّوذِيّ‏:‏ سُقِفَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَطْحُ الْحَاكَّةِ وَجُعِلَ مَسِيلُ الْمِيَاهِ إلَى الطَّرِيقِ وَبَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ‏:‏ اُدْعُ لِي النَّجَّارَ يُحَوِّلُ الْمِيزَابَ إلَى الدَّارِ‏.‏

فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَحَوَّلَهُ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَهُ مُحَرَّمًا لَمْ يَفْعَلْهُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا حَوَّلَهُ تَوَرُّعًا لِحُصُولِ الشُّبْهَةِ فِيهِ، وَفِي الْمُغْنِي احْتِمَالٌ بِجَوَازِهِ مُطْلَقًا مَعَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إخْرَاجُ الْمَيَازِيبِ إلَى الدَّرْبِ النَّافِذِ هُوَ السُّنَّةُ وَذَكَرَ حَدِيثَ الْعَبَّاسِ فِي ذَلِكَ وَالْمَانِعُونَ يَقُولُونَ مِيزَابُ الْعَبَّاسِ وَضَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَكَانَ أَبْلَغَ مِنْ إذْنِهِ فِيهِ وَلَا كَلَامَ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّمَانُونَ‏)‏‏:‏ أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلَاثَةٌ‏:‏ عَقْدٌ، وَيَدٌ، وَإِتْلَافٌ

أَمَّا عُقُودُ الضَّمَانِ فَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا وَكَذَلِكَ سَبَقَ ذِكْرُ الْأَيْدِي الضَّامِنَةِ، وَأَمَّا الْإِتْلَافُ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَ الْإِتْلَافَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ كَالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ أَوْ يَنْصِبُ سَبَبًا عُدْوَانًا فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِتْلَافُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ عُدْوَانًا أَوْ يُؤَجِّجَ نَارًا فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ فَيَتَعَدَّى إلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ كَانَ الْمَاءُ مُحْتَبِسًا بِشَيْءٍ وَعَادَتُهُ الِانْطِلَاقُ فَيُزِيلُ احْتِبَاسَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي انْطِلَاقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَدَخَلَ تَحْتَ ذَلِكَ مَا إذَا حَلَّ وِكَاءَ زِقٍّ مَائِعٍ فَانْدَفَقَ أَوْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَطَارَ أَوْ حَلَّ عَبْدًا آبِقًا فَهَرَبَ هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَالْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى الْإِتْلَافِ بِمَا يَقْتَضِيهِ عَادَةً وَاسْتَثْنَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ مَا كَانَ مِنْ الطُّيُورِ يَأْلَفُ الْبُرُوجَ وَيَعْتَادُ الْعَوْدَ فَقَالَ لَا ضَمَانَ فِي إطْلَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِعَوْدِهِ فَلَيْسَ إطْلَاقُهُ إتْلَافًا وَقَالَ‏:‏ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ الصَّحِيحُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا يُحَالُ الضَّمَانُ عَلَى فِعْلِهِ كَالْآدَمِيِّ وَمَا لَا يُحَالُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ فَإِذَا حَلَّ قَيْدَ الْعَبْدِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَهُ اخْتِيَارٌ وَيَصِحُّ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَيَقْطَعُ مُبَاشَرَتَهُ لِلتَّلَفِ بِسَبَبِ مُطْلَقِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ لِسَيِّدِهِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ لِلسَّيِّدِ تَعَيَّنَ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ إنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَلَى سَيِّدِهِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ لِلسَّيِّدِ فَأُحِيلَ عَلَى الْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِلْجِنَايَةِ وَلَكِنْ خَرَّجَ ابْنُ الزاغوني فِي الْإِقْنَاعِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ أَصْلِهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَّضْمِينِ لِتَعَلُّقِهَا بِالرَّقَبَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ شَيْءٌ مِنْهَا وَلَا يَلْزَمُ مِثْلَهُ فِي مُطْلَقِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ إلَى الْإِتْلَافِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ أُحِيلَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ صِيَانَةً لِلْجِنَايَةِ عَلَى مَالِ الْمَعْصُومِ عَنْ الْإِهْدَارِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَخَرَّجَ الْآمِدِيُّ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ يُتَّبَعُ بِهَا بَعْدَ عِتْقِهِ‏.‏

وَهَاهُنَا فَرْعٌ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ بَيْنَ ضَمَانِ الْيَدِ وَضَمَانِ الْإِتْلَافِ وَهُوَ مَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا أَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ مِنْجَلًا لِلصَّيْدِ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ حَيَوَانٌ مَضْمُونٌ أَوْ عَثَرَ بِآلَاتِ الصَّيْدِ حَيَوَانٌ مَضْمُونٌ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ ضَمِنَ مِنْ التَّرِكَةِ وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ فِي بَابِ الرَّهْنِ حَتَّى قَالَا‏:‏ لَوْ بِيعَتْ التَّرِكَةُ لَفُسِخَ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ مِنْهَا لِسَبْقِ سَبَبِهِ وَلَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْوُقُوعِ ضَمِنُوا قِيمَةَ الْعَبْدِ كَالْمَرْهُونِ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْ ضَمَانِ الْيَدِ فَهَلْ يُجْعَلُ كَيَدِ الْمُشَاهَدَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ يَجْعَلُ الْيَدَ لِمَنْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ يُحْتَمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصْلُهُمَا اخْتِلَافُ الْأَصْحَابِ فِيمَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ هَلْ هُوَ تَرِكَةٌ مَوْرُوثَةٌ جَعْلًا لَهَا كَيَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ أَوْ هُوَ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَأَيْدِيهِمْ‏؟‏ وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ تَرِكَةٌ مَوْرُوثَةٌ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ‏:‏ بَلْ هُوَ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ مِلْكِ الشَّبَكَةِ إلَيْهِ كَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ النِّتَاجِ الْمَوْرُوثِ وَيُثْمِرُ مِنْ الشَّجَرِ وَأَمَّا فِي الْعُدْوَانِ الْمُجَرَّدِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهُ بِمَوْتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُتَعَدِّي لِانْعِقَادِ سَبَبِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ الْخِلَافَ فِيمَنْ مَالَ حَائِطُهُ فَطُولِبَ بِنَقْضِهِ فَبَاعَهُ ثُمَّ سَقَطَ هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ‏؟‏ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا، وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ إذَا اسْتَدَامَهُ أَمْ لَا‏؟‏ الْأَظْهَرُ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ كَمَنْ اشْتَرَى حَائِطًا مَائِلًا فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْبَائِعِ فِيهِ فَإِذَا طُولِبَ بِإِزَالَتِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ عَلَى رِوَايَةٍ‏.‏

وَلَوْ حَفَرَ عَبْدُهُ بِئْرًا عُدْوَانًا بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ تَلِفَ بِهَا مَالٌ أَوْ غَيْرُهُ فَفِي الْمُغْنِي الضَّمَانُ عَلَى الْعَبْدِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِالْجِنَايَةِ وَفِي التَّلْخِيصِ هُوَ عَلَى السَّيِّدِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَمَا دُونَ لِثُبُوتِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعِتْقِ بِذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَنْتَقِلُ وَهُوَ بَعِيدٌ‏.‏

تَنْبِيهٌ لَوْ أَتْلَفَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ ضَمِنَهُ ضَمَانَ إتْلَافٍ وَيَدٍ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ ضَمَانَ يَدٍ وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْإِتْلَافِ عَلَيْهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ مُوجِبُهَا مَعْصِيَةً وَفِيهِ وَجْهٌ بِالْمَنْعِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي تَعْلِيقِهِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ رُخْصَةٌ فَلَا تُسْتَبَاحُ بِمُحَرَّمٍ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ التِّسْعُونَ‏)‏‏:‏ الْأَيْدِي الْمُسْتَوْلِيَةُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثَلَاثَةٌ يَدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِاسْتِيلَائِهَا الْمِلْكُ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ عَمَّا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْمِلْكُ بِهِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَيَدٌ لَا يَثْبُتُ لَهَا الْمِلْكُ وَيَنْتَفِي عَنْهَا الضَّمَانُ وَيَدٌ لَا يَثْبُتُ لَهَا الْمِلْكُ وَيَثْبُتُ عَلَيْهَا الضَّمَانُ

أَمَّا الْأُولَى فَيَدْخُلُ فِيهَا صُوَرٌ‏:‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ اسْتِيلَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَيَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْهُمْ فِيمَا لَمْ يَمْلِكُوهُ أَيْضًا مِمَّا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْأَيْدِي كَأُمِّ الْوَلَدِ وَمَا لَمْ يَحُوزُوهُ إلَى دَارِهِمْ وَمَا شَرَدَ إلَيْهِمْ مِنْ دَوَابِّ الْمُسْلِمِينَ وَأَرِقَّائِهِمْ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ ذَلِكَ أَيْضًا‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ اسْتِيلَاءُ الْأَبِ عَلَى مَالِ الِابْنِ فَإِنْ كَانَ اسْتِيلَاءٌ يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ فَلَا إشْكَالَ فِي انْتِفَاءِ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ وَجْهُ التَّمَلُّكِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الضَّمَانُ وَلَوْ أَتْلَفَهُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ‏.‏

وَأَمَّا الْيَدُ الثَّانِيَةُ فَيَدْخُلُ فِيهَا صُوَرٌ‏:‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ بِالْقَبْضِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ مَنْ قَبَضَ الْمَالَ لِحِفْظِهِ عَلَى الْمَالِكِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِيمَنْ أَخَذَ آبِقًا لِيَرُدَّهُ إلَى سَيِّدِهِ فَهَرَبَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَكِنَّ أَخْذَ الْآبِقِ فِيهِ إذْنٌ شَرْعِيٌّ وَفِي التَّلْخِيصِ وَجْهٌ آخَرُ بِالضَّمَانِ فِي الْمُسْتَنْقَذِ مِنْ الْغَاصِبِ لِلرَّدِّ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ كَانَ الْقَابِضُ حَاكِمًا فَهُوَ أَوْلَى بِنَفْيِ الضَّمَانِ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَفِي التَّلْخِيصِ فِيمَا إذَا حَمَلَ الْمَغْصُوبُ إلَيْهِ لِيَدْفَعَهُ إلَى مَالِكِهِ فَهَلْ يَلْزَمُ قَبُولُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَ اللُّزُومَ وَهُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ وَفِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ وَالْمُغْنِي لَيْسَ لِلْحَاكِمِ انْتِزَاعُ مَالِ الْغَائِبِ وَالْمَغْصُوبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا مِثْلَ أَنْ يَجِدَهُ فِي تَرِكَةِ مَيِّتٍ وَوَارِثُهُ غَائِبٌ فَلَهُ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ أَوْ يَجِدُهَا فِي يَدِ السَّارِقِ فَيَقْطَعُهُ وَتُنْزَعُ مِنْهُ الْعَيْنُ تَبَعًا لِوِلَايَةِ الْقَطْعِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْغَائِبِ وَمَسْأَلَةِ قَطْعِ السَّارِقِ لِمَالِ الْغَائِبِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الطَّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ عَنْ حُكْمِ الْإِمَامِ كَالْبُغَاةِ لَا يَضْمَنُ الْإِمَامُ وَطَائِفَتُهُ وَمَا أَتْلَفُوهُ عَلَيْهِمْ حَالَ الْحَرْبِ وَفِي تَضْمِينِهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى الْإِمَامِ فِي تِلْكَ الْحَالِ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا نَفْيُ الضَّمَانِ إلْحَاقًا لَهُمْ بِأَهْلِ الْحَرْبِ‏.‏

وَأَمَّا أَهْلُ الرِّدَّةِ إذَا لَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ اجْتَمَعُوا بِدَارٍ مُنْفَرِدِينَ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ فَفِي تَضْمِينِهِمْ رِوَايَتَانِ وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ عَدَمَ التَّضْمِينِ إلْحَاقًا لَهُمْ بِأَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا الْيَدُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ الْيَدُ الْعَارِيَّةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الضَّمَانُ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالتِّسْعُونَ‏)‏‏:‏ يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ وَبِالْيَدِ الْأَمْوَالُ الْمَحْضَةُ الْمَنْقُولَةُ إذَا وُجِدَ فِيهَا النَّقْلُ

فَأَمَّا غَيْرُ الْمَنْقُولِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْعَقْدِ وَبِالْيَدِ أَيْضًا كَمَا يَضْمَنُ فِي عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ بِالِاتِّفَاقِ وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعَقَارَ لَا يُضْمَنُ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ فِي الْغَصْبِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ العكبري فِي الْعَارِيَّةِ فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّ الْقَاضِي وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَإِنْ حَصَلَ نَقْلُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ وَالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ النَّقْلُ فَهَلْ يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ فِيهِ كَلَامٌ سَبَقَ فِي أَحْكَامِ الْقُبُوضِ، وَأَمَّا الْيَدُ الْمُجَرَّدَةُ فَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ‏:‏ لَا يَتَوَقَّفُ الضَّمَانُ بِهَا عَلَى النَّقْلِ أَيْضًا كَالْعَقْدِ وَكَمَا يَصِيرُ الْمُودِعُ ضَامِنًا بِمُجَرَّدِ جُحُودِ الْوَدِيعَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا إزَالَةِ يَدٍ‏.‏

وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْغَاصِبُ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي فَتَلِفَتْ قَبْلَ النَّقْلِ ثُمَّ جَاءَ الْمَالِكُ، أَنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِي، قَالَ‏:‏ وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ تَعَيَّنَ مَنْعُ تَضْمِينِهِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ كَمَالِ الِاسْتِيلَاءِ وَهُوَ النَّقْلُ فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الضَّمَانِ بِالْعَقْدِ وَبِالْيَدِ وَفِي التَّلْخِيصِ إثْبَاتُ الْيَدِ ‏[‏وَجَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هَاهُنَا لَا يَضْمَنُهُ ضَمَانَ غَصْبٍ وَإِنْ كَانَ يَضْمَنُهُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ضَمَانَ عَقْدٍ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ وَقَاسَهُ عَلَى الْعَقَارِ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي خَارَ مِنْ ضُمَّانِهِ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ لَمْ يَضْمَنْهُ بِذَلِكَ ضَمَانَ غَصْبٍ فِيمَا يَقْبَلُ النَّقْلَ‏]‏ إلَّا فِي الدَّابَّةِ فَإِنَّ رُكُوبَهَا كَافٍ وَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ عَلَى الْفُرُشِ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ الِاسْتِيلَاءِ وَصَرَّحَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الدَّابَّةِ‏.‏

وَأَمَّا غَيْرُ الْأَمْوَالِ الْمَحْضَةِ فَنَوْعَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا فِيهِ شَائِبَةُ الْحُرِّيَّةِ لِثُبُوتِ بَعْضِ أَحْكَامِهَا دُونَ حَقِيقَتِهَا كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ فَيُضْمَنُ بِالْيَدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْأَصْحَابُ وَكَذَلِكَ يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ قَالَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْحُرُّ الْمَحْضُ هَلْ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ أَمْ لَا‏؟‏ الْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحُرَّ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ فَلَا يَضْمَنُ بِهَا بِحَالٍ وَلَوْ كَانَ تَابِعًا لِمَنْ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ كَمَنْ غَصَبَ أَمَةً حَامِلًا بِحُرٍّ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ بِمَا يُشْعِرُ أَنَّهُ مَحِلُّ وِفَاقٍ حَكَى الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ أَيْضًا وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الْحُرِّ الصَّغِيرِ وَضَمَانُهُ بِالتَّلَفِ تَحْتَهَا رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ لِشَبَهِهِ بِالْعَبْدِ حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَعْوَى نَسَبِهِ مَعَ جَهَالَتِهِ وَدَعْوَى رِقِّهِ‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ خِلَافِهِ‏:‏ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَى الْحُرِّ الْكَبِيرِ بِالْعَقْدِ دُونَ الْيَدِ وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ إذَا أَسْلَمَ نَفْسَهُ إلَى مُسْتَأْجِرِهِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اسْتَقَرَّتْ لَهُ الْأُجْرَةُ لِتَلَفِ مَنَافِعِهِ تَحْتَ يَدِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عِنْدَنَا لِدُخُولِ الْمَنْفَعَةِ تَحْتَ الْيَدِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاعَى اثْنَانِ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لَهُ تَرْجِيحًا بِالْيَدِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِنَا بِتَقَدُّمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَحَكَى صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَجْهًا بِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ دُونَ ذَاتِهِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ صِحَّةَ إجَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْأَجِيرِ الْخَاصِّ وَجَزَمَ الْأَزَجِيُّ فِي النِّهَايَةِ بِصِحَّتِهِ وَبَنَى عَلَيْهِ جَوَازَ صِحَّةِ إجَارَةِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَهُ وَذَكَرَ احْتِمَالَيْنِ، وَبَنَى صَاحِبُ التَّلْخِيصِ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ غَصْبَ الْحُرِّ وَحَبْسَهُ عَنْ الْعَمَلِ فَإِنَّ فِي ضَمَانِ أُجْرَتِهِ وَجْهَيْنِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي تَذْكِرَتِهِ وَغَيْرِهِمَا، وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ صِحَّةَ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الْمَغْصُوبَةِ وَإِنَّ الْغَاصِبَ لَا يَضْمَنُ مَهْرَهَا وَلَوْ حَبَسَهَا عَنْ النِّكَاحِ حَتَّى فَاتَ بِالْكِبَرِ‏.‏

وَخَالَفَ ابْنُ الْمُنَى وَجَزَمَ فِي تَعْلِيقِهِ بِضَمَانِ مَهْرِ الْأَمَةِ بِتَفْوِيتِ النِّكَاحِ وَذَكَرَ فِي الْحُرَّةِ تَرَدُّدًا لِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لَوْ حَمَلَتْ ثُمَّ تَلِفَتْ بِالْوِلَادَةِ ضَمِنَهَا الْوَاطِئُ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا زَنَى بِهَا كُرْهًا فَحَمَلَتْ ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ الطَّلْقِ قَالَ فِي التَّلْخِيصِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ كَأَنَّهُ إثْبَاتُ يَدٍ وَهَلَاكٍ تَحْتَ الْيَدِ الْمُسْتَوْلِيَةِ عَلَى الرَّحِمِ وَالْحُرَّةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ وَمُجَرَّدُ السَّبَبِ ضَعِيفٌ وَفِي الْمُغْنِي يَضْمَنُهَا مُطْلَقًا لِحُصُولِ التَّسَبُّبِ فِي التَّلَفِ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالتِّسْعُونَ‏)‏‏:‏ هَلْ تَثْبُتُ يَدُ الضَّمَانِ مَعَ ثُبُوتِ يَدِ الْمَالِكِ أَمْ لَا‏؟‏

فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ فِيمَنْ أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ وَمَعَهُ جَارِيَةٌ أَنَّهَا مِلْكُهُ مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ زَالَ انْتِفَاعُ الْمَالِكِ وَسُلْطَانُهُ ثَبَتَ الضَّمَانُ وَإِلَّا فَلَا، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ‏:‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ لَوْ غَصَبَ دَابَّةً عَلَيْهَا مَالِكُهَا وَمَتَاعُهُ فَفِي الْخِلَافِ الْكَبِيرِ لَا يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَصْحَابُ لَوْ اسْتَوْلَى عَلَى حُرٍّ كَبِيرٍ لَمْ يَضْمَنْ ثِيَابَهُ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ وَلَوْ كَانَ الْحُرُّ صَغِيرًا‏.‏

وَقُلْنَا لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ فَفِي ثِيَابِهِ وَجْهَانِ نَظَرًا إلَى ‏[‏أَنَّ‏]‏ يَدَهُ لَا قُوَّةَ لَهَا عَلَى الْمَنْعِ وَهَذَا يَشْهَدُ لِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الِامْتِنَاعِ فِي انْتِفَاءِ الضَّمَانِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَسَافَةٍ فَزَادَ عَلَيْهَا أَوْ لِحَمْلِ شَيْءٍ فَزَادَ عَلَيْهِ وَهِيَ فِي يَدِ الْمُؤَجِّرِ فَتَلِفَتْ قَالَ فِي الْمُجَرَّدِ‏:‏ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ بِالزِّيَادَةِ، وَسُكُوتُ الْمَالِكِ لَا يَمْنَعُ الضَّمَانَ كَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَهُ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ‏.‏

وَفِي التَّلْخِيصِ لَا يَضْمَنُ إذَا تَلِفَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ تَلِفَتْ بِالْحَمْلِ فَفِي تَكْمِيلِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَتَنْصِيفِهِ وَجْهَانِ، وَيَتَوَجَّهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الِامْتِنَاعِ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ الضَّمَانُ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ كَمَنْ غَصَبَ دَابَّةً وَأَكْرَهَ الْمَالِكَ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ فَإِنَّ هَذَا زِيَادَةُ عُدْوَانٍ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ إذَا جَنَتْ يَدُهُ عَلَى الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْعَمَلِ فِيهَا وَيَدُ صَاحِبِهَا ثَابِتَةٌ عَلَيْهَا فَلَا ضَمَانَ قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْغَاصِبِ وَالْغَاصِبُ لَا يَضْمَنُ مَا دَامَ يَدُ صَاحِبِهِ ثَابِتَةً عَلَيْهِ انْتَهَى‏.‏

وَمُرَادُهُ بِثُبُوتِ يَدِ صَاحِبِهِ ثُبُوتُ سُلْطَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَلِهَذَا لَوْ أَعَادَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ إلَى يَدِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ تَصَرُّفُهُ إلَيْهِ، مِثْلُ إنْ رَهَنَهُ عَبْدُهُ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ فِيهِ لَمْ يَبْرَأْ بِذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مِلْكُهُ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ دَخَلَ دَارَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ جَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالْمَالِكُ جَالِسٌ فِي الدَّارِ أَوْ عَلَى الْبِسَاطِ فَفِي الْخِلَافِ الْكَبِيرِ لَا ضَمَانَ وَعَلَّلَ بِانْتِفَاءِ الْحَيْلُولَةِ وَرَفْعِ الْيَدِ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ رَكِبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ إنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَرَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا ضَمِنَ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى اشْتِرَاطِ الْحَيْلُولَةِ وَالْقَهْرِ لِلضَّمَانِ وَفِي التَّلْخِيصِ لَوْ دَخَلَ دَارَ الْمَالِكِ وَهُوَ فِيهَا قَاصِدٌ لِلْغَصْبِ فَهُوَ غَاصِبٌ لِلنِّصْفِ لِاجْتِمَاعِ يَدِهِمَا وَاسْتِيلَائِهِمَا بِشَرْطِ قُوَّةِ الدَّاخِلِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَهْرِ وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ غَائِبًا فَالدُّخُولُ غَصْبٌ بِكُلِّ حَالٍ لِحُصُولِ الِاسْتِيلَاءِ بِهِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي خِلَافِهِ أَنَّ الْجَالِسَ عَلَى بِسَاطِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا جَلَسَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالدَّاخِلُ إنْ دَخَلَ بِنِيَّةِ الْغَصْبِ صَارَ غَاصِبًا‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ أَرْدَفَ الْمَالِكُ خَلْفَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَتَلِفَتْ فَهَلْ يَضْمَنُ الرَّدِيفُ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِكَوْنِهِ مُسْتَعِيرًا أَمْ لَا لِثُبُوتِ يَدِ الْمَالِكِ عَلَيْهَا ذَكَرَ فِي التَّلْخِيصِ احْتِمَالَيْنِ وَصَحَّحَ لِلثَّانِي‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏ لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ مِلْكًا لِاثْنَيْنِ فَرَفَعَ الْغَاصِبُ يَدَ أَحَدِهِمَا وَوَضَعَ يَدَهُ مَوْضِعَ يَدِهِ وَأَقَرَّ الْآخَرَ عَلَى حَالِهِ فَهَلْ يَكُونُ غَاصِبًا لِنَصِيبِ رَفْعِ يَدِهِ خَاصَّةً أَمْ هُوَ غَاصِبٌ لِنِصْفِ الْعَيْنِ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مُشَاعًا قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ‏:‏ هُوَ غَاصِبٌ لِنِصْفِ مَنْ رَفَعَ يَدَهُ فَقَطْ وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَعَلَى، هَذَا لَوْ اسْتَعْمَلَ الْغَاصِبُ وَالشَّرِيكُ الْمِلْكَ وَانْتَفَعَا بِهِ لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الشَّرِيكَ لِشَرِيكِهِ الْمُخْرِجِ شَيْءٌ فَلَوْ بَاعَا الْعَيْنَ صَحَّ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ كُلِّهِ وَبَطَلَ فِي النِّصْفِ الَّذِي بَاعَهُ الْغَاصِبُ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ قَوْمٍ ضَيْعَةً ثُمَّ رَدَّ إلَى أَحَدِهِمْ نَصِيبَهُ مُشَاعًا لَمْ يَطِبْ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ بِمَا رُدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ يُشْبِهُ أَصْلَهُ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي مَنْعِ إجَارَةِ الْمُشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ بِانْفِرَادِهِ فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَرْفَعْ يَدَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا فِي الرُّبْعِ خَاصَّةً وَالرُّبْعُ الْآخَرُ حَقٌّ لِشَرِيكِهِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَلَمْ يَجْتَمِعْ هَاهُنَا يَدُ الْغَاصِبِ مَعَ يَدِ الْمَالِكِ فِي شَيْءٍ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالتِّسْعُونَ‏)‏‏:‏ مَنْ قَبَضَ مَغْصُوبًا مِنْ غَاصِبِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ

فَالْمَشْهُورُ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فِي جَوَازِ تَضْمِينِهِ مَا كَانَ الْغَاصِبُ يَضْمَنُهُ مِنْ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَابِضُ قَدْ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ اسْتَقَرَّ ضَمَانُهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ مَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ضَمَانِهِ وَلَمْ يَكُنْ؛ حَصَلَ لَهُ بِمَا ضَمِنَهُ نَفْعٌ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ حَصَلَ لَهُ بِهِ نَفْعٌ فَهَلْ يَسْتَقِرُّ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ أَمْ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرُونَ وَفِي بَعْضِهِ خِلَافٌ نُشِيرُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْأَيْدِي الْقَابِضَةُ مِنْ الْغَاصِبِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَالِ عَشْرَةٌ‏:‏

‏(‏الْأُولَى‏)‏ الْغَاصِبَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الضَّمَانُ كَأَصْلِهَا وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا مَعَ التَّلَفِ تَحْتَهَا وَلَا يُطَالَبُ بِمَا زَادَ عَلَى مُدَّتِهَا‏.‏

‏(‏وَالثَّانِيَةُ‏)‏‏:‏ الْآخِذَةُ لِمَصْلَحَةِ الدَّافِعِ كَالِاسْتِيدَاعِ وَالْوَكَالَةِ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَالْمَشْهُورُ أَنَّ لِلْمَالِكِ تَضْمِينُهَا ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْغَاصِبِ لِتَغْرِيرِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلَيْهَا لِتَلَفِ الْمَالِ تَحْتَهَا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ وَسَيَأْتِي أَصْلُهُ وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَضْمِينُهَا بِحَالٍ مِنْ الْوَجْهِ الْمَحْكِيِّ كَذَلِكَ فِي الْمُرْتَهِنِ وَنَحْوِهِ وَأَوْلَى، وَخَرَّجَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنْ مُودِعِ الْمُودَعِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِيدَاعُ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ وَحْدَهُ كَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ مَنَعَ ظُهُورَهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَذَلِكَ فَرَّقُوا بَيْنَ مُودَعَ الْمُودِعِ وَمُودَعَ الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ فِي الْأَوَّلِ الْقَبْضُ وَهُوَ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ مِنْ جِهَتَيْنِ بِخِلَافِ مُودَعِ الْغَاصِبِ فَإِنْ قَبْضَهُ صَالِحٌ لِتَضْمِينِهِ حَيْثُ كَانَ الضَّمَانُ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْغَاصِبِ قَبْلَهُ وَبِأَنَّ الضَّمَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَبْضِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ وَالْقَبْضُ مِنْ يَدِ أَمِينِهِ وَلَا عُدْوَانَ فِيهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ فَاخْتَصَّ الضَّمَانُ بِالْمُتَعَدِّي بِخِلَافِ مُودَعِ الْغَاصِبِ لِقَبْضِهِ مِنْ يَدِ ضَامِنِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي الْوَكَالَةِ وَالرَّهْنِ أَنَّ الْوَكِيلَ وَالْأَمِينَ فِي الرَّهْنِ إذَا بَاعَا وَقَبَضَا الثَّمَنَ ثُمَّ بَانَ الْمَبِيعُ مُسْتَحِقًّا لَمْ يَلْزَمْهُمَا شَيْءٌ، لَا تُنَاقِضُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ شَيْءٌ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي أَقْبَضَهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ‏.‏

أَمَّا أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُطَالِبُهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعَيْنِ بِالضَّمَانِ فَهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَهُوَ بِمَعْزِلٍ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ‏.‏

‏(‏الثَّالِثَةُ‏)‏ الْقَابِضَةُ لِمَصْلَحَتِهَا، وَمَصْلَحَةُ الدَّافِعِ كَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ بِجُعْلٍ وَالْمُرْتَهِنِ، فَالْمَشْهُورُ جَوَازُ تَضْمِينِهَا أَيْضًا وَتَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَتْ لِدُخُولِهَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي فِي الرَّهْنِ احْتِمَالَيْنِ آخَرَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْقَابِضِ لِتَلَفِ مَالِ الْغَيْرِ تَحْتَ يَدِهِ الَّتِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَهِيَ كَالْعَالِمَةِ بِالْحَالِ، إجَازَةُ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْمُضَارِبِ أَيْضًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا يَجُوزُ تَضْمِينُهَا بِحَالٍ لِدُخُولِهَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْهَبُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَضْمِينُ الْقَابِضِ مَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ضَمَانِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا ثُمَّ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُسْتَحِقُّ قَلْعَهُ إلَّا مَعَ ضَمَانِ نَقْصِهِ كَالْغِرَاسِ الْمُحْتَرَمِ الصَّادِرِ عَنْ إذْنِ الْمَالِكِ فَجُعِلَ الْمَغْرُورُ كَالْمَأْذُونِ لَهُ فَلَا يَضْمَنُ ابْتِدَاءً مَا لَمْ يَلْزَمْ ضَمَانُهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ نَقَلَ حَرْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَغْرُورِ فِي النِّكَاحِ أَنَّ فِدَاءَ وَلَدِهِ عَلَى مَنْ غَرَّرَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى الزَّوْجِ مُطَالَبَةً‏.‏

وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا نَقَلَ عَنْهُ مُهَنَّا فِيمَنْ بَعَثَ رَجُلًا إلَى رَجُلٍ لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ فَقَالَ لَهُ خُذْ مِنْهُ دِينَارًا فَأَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُرْسِلِ لِتَغْرِيرِهِ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الرَّسُولِ، وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الضَّمَانَ فِي هَذِهِ الْأَمَانَاتِ يَسْتَقِرُّ عَلَى مَنْ ضَمِنَ مِنْهُمَا فَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ‏.‏

‏(‏الرَّابِعَةُ‏)‏‏:‏ الْقَابِضَةُ لِمَصْلَحَتِهَا خَاصَّةً إمَّا بِاسْتِيفَاءِ الْعَيْنِ كَالْقَرْضِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَالْعَارِيَّةِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الضَّمَانِ فِي الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا ضَمِنَتْ الْعَيْنَ وَالْمَنْفَعَةَ رَجَعَتْ عَلَى الْغَاصِبِ بِضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهَا كَانَ بِتَغْرِيرِهِ، وَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ لَا يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ إذَا تَلِفَتْ بِالِاسْتِيفَاءِ وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهَا فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِفَاعِ لِاسْتِيفَائِهَا بَدَلَهُ؛ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ لَهَا الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ، وَأَصْلُ الرِّوَايَتَيْنِ الرِّوَايَتَانِ فِي رُجُوعِ الْمَغْرُورِ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْمَنْفَعَةَ ابْتِدَاءً فَفِيهِ طَرِيقَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ الْبِنَاءُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا لَا يَرْجِعُ الْقَابِضُ عَلَيْهِ إذَا ضَمِنَ ابْتِدَاءً رَجَعَ الْغَاصِبُ هُنَا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْخَطَّابِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الْقَابِضِ قَوْلًا وَاحِدًا قَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏.‏

وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلَا يَرْجِعُ بِضَمَانِهَا حَيْثُ دَخَلَتْ عَلَى ضَمَانِهَا وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ يَسْتَقِرُّ هَاهُنَا عَلَيْهَا ضَمَانُ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ تَلِفَتْ الْمَنْفَعَةُ بِاسْتِيفَاءٍ أَوْ بِتَفْوِيتٍ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَضْمِينُهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا تُطَالِبُ هَذِهِ بِضَمَانٍ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانُهُ ابْتِدَاءً وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا ضَمَانُ مَا دَخَلَتْ عَلَى ضَمَانِهِ مَا دَخَلَتْ عَلَى ضَمَانِهِ وَيَتَخَرَّجُ لَنَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا ضَمَانُ شَيْءٍ وَسَنَذْكُرُ أَصْلَهُ فِي الْقِسْمِ الَّذِي بَعْدَهُ‏.‏

‏(‏الْخَامِسَةُ‏)‏‏:‏ الْقَابِضَةُ تَمَلُّكًا بِعِوَضٍ مُسَمًّى عَنْ الْعَيْنِ بِالْبَيْعِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى ضَمَانِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا ضَمِنَتْ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا ضَمِنَتْ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ كَدُخُولِهَا عَلَى ضَمَانِهَا وَلَكِنْ يُسْتَرَدُّ الثَّمَنُ مِنْ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ لِانْتِفَاءِ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِيمَةُ الَّتِي ضَمِنَتْ الْمَالِكُ وَفْقَ الثَّمَنِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْأَصْحَابِ هَاهُنَا وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَفِي ضَمَانِ الْمَغْرُورِ الْمَهْرِ‏.‏

وَفِي التَّلْخِيصِ احْتِمَالٌ إنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَزْيَدَ رَجَعَتْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْغَاصِبِ حَيْثُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الضَّمَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْمُنَى فِي خِلَافِهِ وَقَدْ سَبَقَ فِي قَاعِدَةِ ضَمَانِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ بِالْمُسَمَّى أَوْ بِعِوَضِ الْمِثْلِ مَا يُشْبِهُ هَذَا وَلَوْ طَالَبَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ إذَا كَانَ أَزْيَدَ مِنْ الْقِيمَةِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْمُتَّجِرِ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِ إذْنٍ أَنَّ الرِّبْحَ لِلْمَالِكِ، ثُمَّ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ بَيَّنَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِوَقْفِ الْعُقُودِ عَلَى الْإِجَازَةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ ذَلِكَ وَكَذَا فِي الْمُضَارِبِ إذَا خَالَفَ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ‏.‏

وَهَلْ لِلْمُضَارِبِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَطَرَدَهُمَا أَبُو الْفَتْحِ الْحَلْوَانِيُّ فِي الْكِفَايَةِ فِي الْغَاصِبِ وَحَكَى صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي بَابِ الرَّهْنِ رِوَايَةً أُخْرَى بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِمَّا صَنَعَهُ وَحَكَاهُ فِي الْكَافِي فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ وَجْهًا وَصَرَّحَ الْقَاضِي بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي خِلَافِهِ فِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْمَغْرُورِ بِالْمَهْرِ‏.‏

وَهُوَ عِنْدِي قِيَاسُ الْمَذْهَبِ حَيْثُ قُلْنَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِرُجُوعِ الْمَغْرُورِ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مَعَ اسْتِيفَائِهِ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ وَاسْتِهْلَاكِهَا وَدُخُولِهِ عَلَى ضَمَانِهَا، وَلِهَذَا طَرَدَ مُحَقِّقُوا الْأَصْحَابِ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا الْغَاصِبُ وَوَطِئَهَا الزَّوْجُ هَلْ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى الْغَاصِبِ سَوَاءٌ ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْمَهْرَ أَوْ لَمْ يُضَمِّنْهُ‏؟‏ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا دَلَّسَ الْعَيْبَ ثُمَّ تَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَصَ أَوْ تَعَيَّبَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذ الثَّمَنَ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَصَلَ لَهُ انْتِفَاعٌ بِمَا نَقَصَهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عِوَضَهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إلْحَاقًا لَهُ بِلَبَنِ الْمُصَرَّاةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِ الْعَيْنِ بِالْمُسَمَّى وَلَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ كَتَدْلِيسِ الْبَائِعِ الْعَيْبَ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ فَلَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ مَعَ تَدْلِيسِ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْلَى‏.‏

وَأَمَّا الْمَنَافِعُ إذَا ضَمِنَهَا الْمَالِكُ لِلْمُشْتَرِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَغْصُوبَةَ مَضْمُونَةٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ فَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ لِدُخُولِهِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَسَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا أَوْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يَرْجِعُ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ لِاسْتِيفَائِهِ عِوَضَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَحُكْمُ الثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَبِيعِ حُكْمُ الْمَنَافِعِ إذَا ضَمِنَهَا رَجَعَ بِبَدَلِهَا عَلَى الْغَاصِبِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْكَسْبُ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيُخَرَّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَقَدْ أَشَارَ أَحْمَدُ إلَى هَذَا فِي رِوَايَة ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ بَاعَ مَاشِيَةً أَوْ شَاةً فَوَلَدَتْ أَوْ نَخْلًا لَهَا ثَمَرَةٌ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا أَوْ اسْتَحَقَّ أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الثَّمَرَةِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ إنْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِمْ شَيْئًا أَوْ بِأَنْ بَاعَ أَوْ اسْتَهْلَكَ فَإِنْ كَانَ مَاتَ أَوْ ذَهَبَ بِهِ الرِّيحُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانَ مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ دُونَ مَا أُتْلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ رُجُوعًا عَلَى الْغَاصِبِ‏.‏

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ النَّمَاءِ فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ تَضْمِينُهُ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ضَمَانِهِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَهَذَا يُقَوِّي التَّخْرِيجَ الْمَذْكُورَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي إلَّا مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ لَكِنْ انْتَفَعَ بِهِ كَالْخِدْمَةِ وَمَهْرِ الْمُشْتَرَاةِ وَأَمَّا قِيمَةُ الْأَوْلَادِ فَلَا يَرْجِعُ بِهَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ نَفْعَهَا لِغَيْرِهِ لَا لَهُ، وَأَوْجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ قِيمَةَ غَرْسِ الْمُشْتَرِي غَيْرِ مَقْلُوعٍ إذَا قَلَعَهُ الْمَالِكُ وَمُرَادُهُ مَا نَقَصَ بِقَلْعِهِ وَإِنَّمَا أَجَازَ لِلْمَالِكِ قَلْعَ الْغِرَاسِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ نَقْصِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ امْتِنَاعِ الْمَالِكِ مِنْ الضَّمَانِ لَهُ فَإِنَّ تَفْرِيغَ الْأَرْضِ مِنْ الْغِرَاسِ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَإِنَّمَا لِلضَّمَانِ عَلَى الْغَارِّ لِتَعَدِّيهِ‏.‏

كَمَا أَنَّ تَضْمِينَ الْقَابِضِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانُهُ مُمْتَنِعٌ حَيْثُ أَمْكَنَ تَضْمِينُ الْغَاصِبِ لِالْتِزَامِهِ لِلضَّمَانِ وَتَعَدِّيهِ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَابِضَ لَا يَضْمَنُ إلَّا مَا حَصَلَ لَهُ بِهِ نَفْعٌ فَيَضْمَنُهُ وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَرُجُوعِ الْمَغْرُورِ فِي بَابِ النِّكَاحِ بِالْمَهْرِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِالْمِلْكِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَفِي الرُّجُوعِ احْتِمَالَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي، وَقَدْ يُخَرَّجُ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمِلْكِ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ الْيَدُ، وَقَدْ بَانَ عُدْوَانُهَا‏.‏

‏(‏الْيَدُ السَّادِسَةُ‏)‏ الْقَابِضَةُ عِوَضًا مُسْتَحَقًّا بِغَيْرِ عَقْدِ الْبَيْعِ كَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْهُ أَوْ كَانَ الْقَبْضُ وَفَاءً كَدَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَصَدَاقٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ وَنَحْوِهِ فَإِذَا تَلِفَتْ هَذِهِ الْأَعْيَانُ فِي يَدِ مَنْ قَبَضَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَلِلْمُسْتَحِقِّ الرُّجُوعُ عَلَى الْقَابِضِ بِبَدَلِ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ، وَيَتَخَرَّجُ وَجْهًا آخَرَ أَنْ لَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى فِي الصَّدَاقِ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّضْمِينِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ لِتَغْرِيرِهِ إلَّا بِمَا انْتَفَعَ بِهِ فَإِنَّهُ مُخَرَّجٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ‏.‏

وَأَمَّا قِيَمُ الْأَعْيَانِ فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِيمَةُ الْمَضْمُونَةُ وَفْقَ حَقِّهِ أَوْ دُونَهُ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَيْعِ بِالرُّجُوعِ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ‏.‏

ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَبْضُ وَفَاءً عَنْ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ وَإِنْ كَانَ عِوَضًا مُتَعَيِّنًا فِي الْعَقْدِ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ هَاهُنَا بِاسْتِحْقَاقِهِ فِيهِ‏.‏

وَلَوْ قُلْنَا‏:‏ إنَّ النِّكَاحَ عَلَى الْمَغْصُوبِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِانْتِفَاءِ الصِّحَّةِ مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَيَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْمَنْصُوصِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ‏.‏

وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَمَّا عِوَضُ الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَفِيهَا وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ يَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهَا بِقِيمَةِ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تَنْفَسِخُ بِاسْتِحْقَاقِ أَعْوَاضِهَا فَيَجِبُ قِيمَةُ الْعِوَضِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَجِبُ قِيمَةُ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الدَّمِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قِيمَةٌ فِي نَفْسِهِ فَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْبُضْعِ وَالدَّمِ فَإِنَّ الْقِيمَةَ لِعِوَضِهِمَا لَا لَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي الْبُيُوعِ مِنْ خِلَافِهِ وَيُشْبِهُ قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا جَعَلَ عِتْقَ أَمَتِهِ صَدَاقَهَا وَقُلْنَا لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ عَلَيْهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا لَا قِيمَةَ مَهْرِ مِثْلِهَا وَعَلَى الْوَجْهِ الْمُخَرَّجِ فِي الْبَيْعِ أَنَّ الْمَغْرُورَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ عَلَى الْغَاصِبِ فَهَاهُنَا كَذَلِكَ‏.‏

‏(‏الْيَدُ السَّابِعَةُ‏)‏ الْقَابِضَةُ بِمُعَاوَضَةٍ عَنْ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَالَ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرُونَ إذَا ضَمِنَتْ الْمَنْفَعَةَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا وَلَوْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ عَلَى الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ فَفِيهِ مَا مَرَّ مِنْ زِيَادَةِ قِيمَةِ الْعَيْنِ عَلَى الثَّمَنِ وَإِذَا ضُمِنَتْ قِيمَةُ الْعَيْنِ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ لِتَغْرِيرِهِ وَفِي تَعْلِيقَةِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَلَى الْهِدَايَةِ وَيَتَخَرَّجُ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِحَالٍ لِقَوْلِ فَرَضِيتُ يَضْمَنُ الْعَيْنَ وَهَلْ الْقَرَارُ عَلَيْهِ‏؟‏ لَنَا وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ عَلَيْهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ عَلَى الْغَاصِبِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ انْتَهَى وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مُنَزَّلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَغْرُورَ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ابْتِدَاءً وَلَا اسْتِقْرَارًا وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي قَرَارِ ضَمَانِ الْعَيْنِ عَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي اسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَنَحْوِهِ بِتَلَفِ الْعَيْنِ تَحْتَ يَدِهِ‏.‏

‏(‏الْيَدُ الثَّامِنَةُ‏)‏ الْقَابِضَةُ لِلشَّرِكَةِ وَهِيَ الْمُتَصَرِّفَةُ فِي الْمَالِ بِمَا يُنَمِّيهِ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ كَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُزَارِعِ وَالْمُسَاقِي وَلَهُمْ جَرَّةٌ عَلَى الْغَاصِبِ لِعَمَلِهِمْ لَهُ بِعِوَضٍ لَمْ يَسْلَمْ، فَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالْمُزَارِعُ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ وَشَرِيكُ الْعَنَانِ فَقَدْ دَخَلُوا عَلَى أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِحَالٍ فَإِذَا ضَمِنُوا عَلَى الْمَشْهُورِ رَجَعُوا بِمَا ضَمِنُوا إلَّا حِصَّتَهُمْ مِنْ الرِّبْحِ فَلَا يَرْجِعُونَ بِضَمَانِهَا لِدُخُولِهِمْ عَلَى ضَمَانِهَا عَلَيْهِمْ بِالْعَمَلِ لِذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُسَاقِي وَالْمَزَارِعِ نَظِيرَهُ، وَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ شَيْءٍ بِدُونِ الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا مَلَكُوا الرِّبْحَ بِالظُّهُورِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُمْ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ وَلَيْسَ لَهُمْ الِانْفِرَادُ بِالْقِسْمَةِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ مَضْمُونٌ‏.‏

وَحَكَى الْأَصْحَابُ فِي الْمُضَارِبِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَجْهًا آخَرَ أَنْ لَا يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَهُ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ تَلِفَ الْمَالُ بِيَدِهِ، وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُمْ بِحَالٍ لِدُخُولِهِمْ عَلَى الْأَمَانَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حُكْمَ ضَمَانِ الشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ لِلْمَالِ وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ هَاهُنَا لِذِكْرِ النَّمَاءِ، وَأَمَّا الْمُسَاقِي إذَا ظَهَرَ الشَّجَرُ مُسْتَحِقًّا بَعْدَ تَكْمِلَةِ الْعَمَلِ فَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِعَمَلِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَأَمَّا الثَّمَرُ إذَا تَلِفَ فَلَهُ حَالَتَانِ‏:‏ إحْدَاهُمَا، أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ كُلٍّ مِنْ الْغَاصِبِ وَالْعَامِلِ مَا قَبَضَهُ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْكُلَّ لِلْغَاصِبِ فَإِذَا ضَمَّنَهُ الْكُلَّ رَجَعَ عَلَى الْعَامِلِ بِمَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ فَهُوَ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ، وَفِي الْمُغْنِي احْتِمَالٌ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِتَغْرِيرِهِ فَأَشْبَهَ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ‏:‏ كُلْ هَذَا فَإِنَّهُ طَعَامِي‏.‏

ثُمَّ بَانَ مُسْتَحِقًّا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْوَجْهِ السَّابِقِ بِاسْتِقْرَارِ ضَمَانِ الْمَبِيعِ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ حَالٍ‏.‏

وَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْعَامِلَ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ ذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ احْتِمَالَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ نَعَمْ؛ لِأَنَّ يَدَهُ تَثْبُتُ عَلَى الْكُلِّ مُشَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْ الثَّمَرِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِالْكُلِّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَابِضًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا كَانَ مُرَاعِيًا حَافِظًا وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُسَاقِي وَالْمَالِكُ فِي قَدْرِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ أَنَّهُ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَالْمَالِكُ هُوَ الدَّاخِلُ لِاتِّصَالِ الثَّمَرِ بِمِلْكِهِ، وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ شَجَرٍ شِرَاءً فَاسِدًا وَخَلَّى الْبَائِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلَى شَجَرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَحِلُّ وِفَاقٍ‏.‏

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَتْلَفَ الثَّمَرُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إمَّا عَلَى الشَّجَرِ أَوْ بَعْدَ جَدِّهِ فَفِي التَّلْخِيصِ فِي مُطَالَبَةِ الْعَامِلِ بِالْجَمِيعِ احْتِمَالَانِ وَكَذَا لَوْ تَلِفَ بَعْضُ الشَّجَرِ وَهُوَ مُلْتَفِتٌ إلَى أَنَّ يَدَ الْعَامِلِ هَلْ تَثْبُتُ عَلَى الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ الَّذِي عَلَيْهِ أَمْ لَا‏؟‏ وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَنَا لَا يَنْتَقِلُ فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَجَرَةٍ بِالتَّخْلِيَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَدُهُ هَاهُنَا عَلَى الثَّمَرِ حَصَلَتْ تَبَعًا لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى الشَّجَرِ فَيُقَالُ فِي ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى الشَّجَرِ ‏[‏هَاهُنَا‏]‏ تَرَدُّدٌ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا حَتَّى لَوْ تَلِفَ بَعْضُ الشَّجَرِ فَفِي تَضْمِينِهِ لِلْعَامِلِ الِاحْتِمَالَانِ صَرَّحَ بِهِ فِي التَّلْخِيصِ أَيْضًا وَلَوْ اشْتَرَى شَجَرَةً بِثَمَرِهَا فَهَلْ يَدْخُلُ الثَّمَرُ فِي ضَمَانِهَا تَبَعًا لِشَجَرِهِ قَالَ ابْن عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ‏:‏ لَا يَدْخُلُ وَالْمَذْهَبُ دُخُولُهُ تَبَعًا لِانْقِطَاعٍ عَلَّقَ الْبَائِعُ عَنْهُ مِنْ السَّقْيِ وَغَيْرِهِ وَبِكُلِّ حَالٍ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَضْمَنَ الْعَامِلُ الثَّمَرَ التَّالِفَ بَعْدَ جِدَادِهِ وَاسْتِحْفَاظِهِ بِخِلَافِ مَا عَلَى الشَّجَرِ‏.‏

‏(‏الْيَدُ التَّاسِعَةُ‏)‏ الْقَابِضَةُ تَمَلُّكًا لَا بِعِوَضٍ إمَّا لِلْعَيْنِ بِمَنَافِعِهَا بِالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ لِلْمَنْفَعَةِ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنَافِعِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَتْهُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ ضَامِنَةٍ لِشَيْءٍ فَهِيَ مَغْرُورَةٌ إلَّا مَا حَصَلَ لَهَا بِهِ نَفْعٌ فَفِي رُجُوعِهَا بِضَمَانِهِ الرِّوَايَتَانِ‏.‏

وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهَا لَا تَضْمَنُ ابْتِدَاءً مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ ضَمَانُهَا عَلَيْهِ‏.‏

وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةً أَنَّهُ لَا تَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَتْهُ بِحَالٍ وَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا كَمَا سَبَقَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي مَحِلِّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الرُّجُوعِ بِمَا انْتَفَعَتْ بِهِ عَلَى طُرُقٍ ثَلَاثَةٍ‏:‏ إحْدَاهُنَّ، أَنَّ مَحِلَّهُمَا إذَا لَمْ يَقُلْ الْغَاصِبُ‏:‏ هَذَا مِلْكِي أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَالْمَدَارُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ لِاعْتِرَافِهِ بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَنَفْيِهِ عَنْ الْقَابِضِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُغْنِي‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ إنْ ضَمِنَ الْمَالِكُ الْقَابِضَ ابْتِدَاءً فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الْغَاصِبِ الرِّوَايَتَانِ مُطْلَقًا وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ ابْتِدَاءً فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِيَّةِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْقَابِضِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ قُلْنَا‏:‏ إنَّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ يَسْتَقِرُّ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ بِالْمِلْكِ مُعْتَرَفٌ بِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ ظَالِمٌ لَهُ بِالتَّغْرِيمِ فَلَا يَرْجِعُ بِظُلْمِهِ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ فِي الْخِلَافِ مِنْ الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ‏.‏

‏(‏الْيَدُ الْعَاشِرَةُ‏)‏ الْمُتْلِفَةُ لِلْمَالِ نِيَابَةً عَنْ الْغَاصِبِ كَالذَّبْحِ لِلْحَيَوَانِ وَالطَّابِخِ لَهُ فَلَا قَرَارَ عَلَيْهَا بِحَالٍ وَإِنَّمَا الْقَرَارُ عَلَى الْغَاصِبِ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ لَهُ فَهُوَ كَالْمُبَاشِرِ كَذَا قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالْأَصْحَابُ وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ بِالْقَرَارِ عَلَيْهَا فِيمَا تَلِفَتْهُ كَالْمُودِعِ إذَا تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ وَأَوْلَى لِمُبَاشَرَتِهَا لِلْإِتْلَافِ، وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا بِحَالٍ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِيمَنْ حَفَرَ لِرَجُلٍ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، فَقَالَ الْحَافِرُ‏:‏ ظَنَنْتُ أَنَّهَا فِي مِلْكِهِ‏.‏

فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مَعَ اشْتَرَاكِ الْحَافِرِ وَالْآمِرِ فِي التَّسَبُّبِ وَانْفِرَادِ الْحَافِرِ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحَالِ وَهَاهُنَا أَوْلَى؛ لِاشْتِرَاكِهَا فِي ثُبُوتِ الْيَدِ وَلَوْ أَتْلَفَتْهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا عَالِمَةً بِتَحْرِيمِهِ كَالْقَاتِلَةِ لِلْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُحْرِقَةِ لِلْمَالِ بِإِذْنِ الْغَاصِبِ فَفِي التَّلْخِيصِ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهَا عَالِمَةٌ بِتَحْرِيمَةِ فَهِيَ كَالْعَالِمَةِ بِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ وَرَجَّحَ الْحَارِثِيُّ دُخُولَهَا فِي قِسْمِ الْمَغْرُورِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ عَالِمَةٍ بِالضَّمَانِ فَتَغْرِيرُ الْغَاصِبِ لَهَا حَاصِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالتِّسْعُونَ‏)‏‏:‏ قَبْضُ مَالِ الْغَيْرِ مِنْ يَدِ قَابِضِهِ بِحَقٍّ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ

إنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ إقْبَاضُهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الثَّانِي إنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَمِينًا وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ لَمْ يَكُ إقْبَاضُهُ جَائِزًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَلَّا يَضْمَنَ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلِكَ صُوَرٌ‏:‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ مُودِعُ الْمُودَعِ فَإِنْ كَانَ حَيْثُ يَجُوزُ الْإِيدَاعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ وَفِي الثَّانِي وَجْهَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ كَانَ حَيْثُ يَجُوزُ الْإِيجَارُ بِأَنْ كَانَ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الِانْتِفَاعِ فَلَا ضَمَانَ وَإِلَّا فَلَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ عَلَيْهَا وَقَرَارُهُ فِي الْعَيْنِ عَلَى الْأَوَّلِ وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الثَّانِي بِحَالٍ مِنْ الْمُودِعِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ مُضَارِبُ الْمُضَارِبِ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ فَهُوَ أَمِينٌ وَهَلْ الثَّانِي مُضَارِبٌ لِلْمَالِكِ وَالْأَوَّلُ وَكِيلٌ فِي الْعَقْدِ لَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ هُوَ مُضَارِبٌ لِلْأَوَّلِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا‏؟‏ عَلَى وَجْهَيْنِ جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ بِالْأَوَّلِ ثُمَّ اخْتَارَ الثَّانِي فِيمَا إذَا دَفَعَهُ مُضَارَبَةً وَقُلْنَا لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَحَيْثُ مُنِعَ مِنْ دَفْعِهِ مُضَارَبَةً فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَالِ لِدُخُولِهِ عَلَى الْأَمَانَةِ‏.‏

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَا يَرْجِعُ لِحُصُولِ التَّلَفِ تَحْتَ يَدِهِ وَقَدْ سَبَقَ أَصْلُهُ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَضْمَنَ الثَّانِي بِحَالٍ وَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ فَهَلْ هُوَ كَالْغَاصِبِ لَا أُجْرَةَ لَهُ أَوْ كَالْمُضَارِبِ الْمُتَعَدِّي لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ‏؟‏ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ قَالَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَحَكَاهُمَا صَاحِبُ الْكَافِي رِوَايَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِحَالَةِ الْعِلْمِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ وَكِيلُ الْوَكِيلِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فَهُوَ كَالْمُضَارِبِ فِي الضَّمَانِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِلْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ لِدُخُولِهِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى بَصِيرَةٍ فَإِذَا تَلِفَتْ عِنْدَ الثَّانِي ضَمِنَهُ الْمَالِكُ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُعِيرُ لَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْأَوَّلِ لِانْتِفَاءِ التَّغْرِيرِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فَلِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِضَمَانِ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمَدَارُ عَلَى الثَّانِي لِحُصُولِ التَّلَفِ فِي يَدِهِ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ وَمَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ ضَمَانُهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِتَغْرِيرِهِ، كَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ‏.‏

وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الثَّانِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَالِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ قَالَ فِي التَّلْخِيصِ هُوَ أَمِينٌ عَلَى الصَّحِيحِ لِقَبْضِهِ مِنْ يَدِ أَمِينٍ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ الْمُخَالِفِ مُخَالَفَةً يَفْسُدُ بِهَا الْبَيْعُ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ فَلِلْمُوَكِّلِ تَضْمِينُ الْقِيمَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا مِنْ الْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الْمَشْهُورِ، ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَلَفِهِ فِي يَدِهِ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالتِّسْعُونَ‏)‏‏:‏ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ يَظُنُّ لِنَفْسِهِ وِلَايَةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خَطَأَ ظَنِّهِ

فَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَأُ الْمُتَسَبِّبِ أَوْ أَقَرَّ بِتَعَمُّدِهِ لِلْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْمُتَسَبِّبُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إلَى اجْتِهَادٍ مُجَرَّدٍ كَمَنْ دَفَعَ مَالًا تَحْتَ يَدِهِ إلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مَالِكُهُ أَوْ أَنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ إلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، أَوْ دَفَعَ مَالَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ لِحَقِّ اللَّهِ إلَى مَنْ يَظُنُّهُ مُسْتَحِقًّا ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ، فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَنِدَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فَنَقَصَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَسَائِلُ‏.‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ بِمَوْتِ زَيْدٍ فَيُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ بِقُدُومِهِ حَيًّا فَنَصَّ ‏[‏أَحْمَدُ‏]‏ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْمَالَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْوَرَثَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ اسْتِقْرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ أَوْ اخْتِصَاصُهُمْ بِهِ وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ فِي تَقْرِيرِ الضَّمَانِ عَلَى الْغَارِّ كَمَا سَبَقَ وَقَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَغْرَمَ الْوَرَثَةَ وَرَجَعُوا بِذَلِكَ عَلَى الشُّهُودِ لِتَغْرِيرِهِمْ وَلَا ضَمَانَ هُنَا عَلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ مُلْجَأٌ إلَى الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ الشُّهُودِ وَنَقَلَ أَبُو النَّضْرِ الْعِجْلِيّ عَنْ أَحْمَدَ فِي حَاكِمٍ رَجَمَ رَجُلًا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ بِالزِّنَا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْحَاكِمِ وَلَعَلَّ تَضْمِينَهُ هَاهُنَا لِتَفْرِيطِهِ إذْ الْمَجْبُوبُ لَا يَخْفَى أَمْرُهُ غَالِبًا فَتَرْكُهُ الْفَحْصَ عَنْ حَالِهِ تَفْرِيطٌ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ وَصَرَّحُوا بِالْخَطَأِ أَوْ التَّعَمُّدِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ لِاعْتِرَافِهِمْ وَلَا يُنْتَقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ بَاعَ عَيْنًا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ أَقَرَّ بِهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِآخَرَ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ الثَّانِي‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِمَالٍ وَيَسْتَوْفِيَ ثُمَّ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ فُسَّاقٌ أَوْ كُفَّارٌ فَإِنَّ حُكْمَهُ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ نَافِذٍ بِالِاتِّفَاقِ نَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ‏.‏

وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ نَافِذٌ وَهَلْ يَجِبُ نَقْضُهُ‏؟‏ الْمَذْهَبُ وُجُوبُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي كَتَبَيُّنِ انْتِفَاءِ شَرْطِ الْحُكْمِ فَلَمْ يُصَادِفْ مَحِلًّا ثُمَّ يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ لِإِتْلَافِهِ لَهُ مُبَاشَرَةً قَالَ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ مُعْسِرًا فَلِلْمُسْتَحِقِّ مُطَالَبَةُ الْإِمَامِ قَرَارَ الضَّمَانِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُزَكِّينَ بِحَالٍ، وَلَوْ حُكِمَ لِآدَمِيٍّ بِإِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ فَطَرِيقَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ هُوَ كَالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ هُوَ الْمَحْكُومُ لَهُ وَالْإِمَامُ مُمَكَّنٌ لَا غَيْرُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُحَرَّرِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَضْمَنُهُ الْحَاكِمُ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَهُوَ وَفْقُ إطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ لَهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا فَنَسَبَ الْفِعْلَ إلَى خَطَأِ الْإِمَامِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَوْفِي حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ ضَمَانَهُ عَلَى الْإِمَامِ وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ إذَا بَانَ الشُّهُودُ فُسَّاقًا وَيَضْمَنُ الشُّهُودُ كَمَا لَوْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ مِنْ رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَتِلْكَ لَا فِسْقَ فِيهَا لِجَوَازِ الْعَدْلِيَّاتِ الشُّهُودِ وَإِنَّمَا ضَمِنُوا لِتَبَيُّنِ بُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ بِالْعِيَانِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الرُّجُوعِ وَلَا يُمْكِنُ بَقَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ تَبَيُّنِ فَسَادِ الْمَحْكُومِ بِهِ عِيَانًا وَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُ الْفِسْقِ فِي الضَّمَانِ بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعِينَ اعْتَرَفُوا بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ وَتَسَبُّبِهِمْ إلَى انْتِزَاعِ مَالِ الْمَعْصُومِ وَقَوْلُهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى نَقْضِ الْحُكْمِ فَتَعَيَّنَ تَغْرِيمُهُمْ، وَلَيْسَ هَاهُنَا اعْتِرَافٌ يُبْنَى عَلَيْهِ التَّغْرِيمُ فَلَا وَجْهَ لَهُ فَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْقَضُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ إذَا وَصَّى إلَى رَجُلٍ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ فَفَعَلَ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ فَفِي ضَمَانِهِ رِوَايَتَانِ وَلَكِنْ هُنَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي مِلْكِ الْغُرَمَاءِ بَلْ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ وَلَكِنَّهُ تَعَلُّقٌ قَوِيٌّ لَاسِيَّمَا إنْ قُلْنَا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْوَرَثَةِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي التَّرِكَةِ هِيَ لِلْغُرَمَاءِ لَا لِلْوَرَثَةِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَرَثَةُ التَّصَرُّفَ فِيهَا إلَّا بِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَخَرَّجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلَّ مَنْ تَصَرَّفَ بِوِلَايَةٍ فِي مَالٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ وَصَّى لِشَخْصٍ بِشَيْءٍ فَلَمْ يُعْرَفْ الْمُوصَى لَهُ صَرَفَهُ الْوَصِيُّ أَوْ الْحَاكِمُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ فَإِنْ جَاءَ الْمُوصَى لَهُ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فَهَلْ يَضْمَنُ الْمُفَرِّقُ مَا فَرَّقَهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ‏:‏ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَظْهَرُهُمَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الثَّانِي‏:‏ إنْ فَعَلَهُ الْوَصِيُّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ فَعَلَهُ بِدُونِ إذْنِهِ ضَمِنَ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ اشْتَرَى الْوَرَثَةُ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ وَأَعْتَقُوهُ تَنْفِيذًا لِوَصِيَّةِ مُورِثِهِمْ بِذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ لِلْغُرَمَاءِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِانْتِفَاءِ الضَّمَانِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَصِيِّ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِهِ صَحَّ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَضْمَنُهُ الْعَامِلُ‏؟‏ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ‏:‏ أَحَدُهَا يَضْمَنُ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ أَوْ جَاهِلًا قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَأَبُو الْخَطَّابِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا ضَمِنَ كَمَا لَوْ عَامَلَ فَاسِقًا أَوْ مُمَاطِلًا أَوْ سَافَرَ سَفَرًا مَخُوفًا أَوْ دَفَعَ الْوَصِيُّ أَوْ أَمِينُ الْحَاكِمِ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً إلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ وَالْقَاضِي فِي خِلَافِهِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ لَا ضَمَانَ بِكُلِّ حَالٍ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الضَّمَانِ هَلْ يَضْمَنُهُ بِالثَّمَنِ الْمُشْتَرَى أَوْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي الرِّبْحِ الزَّائِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ إذَا دَفَعَ الْقَصَّارُ ثَوْبَ رَجُلٍ إلَى غَيْرِهِ خَطَأً فَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بِقَطْعٍ أَوْ لُبْسٍ يَظُنُّهُ ثَوْبَهُ فَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَصَّارٍ أَبْدَلَ الثَّوْبَ فَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ فَقَطَعَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ ثَوْبُهُ، قَالَ‏:‏ عَلَى الْقَصَّارِ إذَا أَبْدَلَ، قِيلَ لَهُ‏:‏ فَإِنْ كَانَ مَالًا فَأَنْفَقَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ثَمَنُ هَذَا مِثْلُ الْمَالِ عَلَى الَّذِي أَنْفَقَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ تَلِفَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَالِ إذَا أُنْفِقَ وَتَلِفَ وَبَيْنَ الثَّوْبِ إذَا قُطِعَ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ هُنَا مَوْجُودَةٌ فَيُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَيَضْمَنُ نَقْصَهَا الْقَصَّارُ لِجِنَايَتِهِ خَطَأً‏.‏

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى ‏[‏الضَّمَانِ‏]‏‏.‏

أَمَّا إنْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ غَيْرِهِ يَظُنُّهُ صَاحِبُهَا فَأَنْفَقَهَا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُنْفِقِ وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا لِتَلَفِ الْمَالِ تَحْتَ يَدِهِ بِانْتِفَاعِهِ بِهِ وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ لِلضَّمَانِ مَعَ الْيَدِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ قَوْلَ مَالِكٍ لَا يَغْرَمُ الَّذِي لَبِسَهُ وَيَغْرَمُ الْغَسَّالُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ فَقَالَ لَا يُعْجِبُنِي مَا قَالَ‏:‏ وَلَكِنْ إذَا هُوَ لَمْ يَعْلَمْ فَلَبِسَهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ لَيْسَ عَلَى الْقَصَّارِ شَيْءٌ فَأَوْجَبَ هُنَا الضَّمَانَ عَلَى اللَّابِسِ لِاسْتِيفَائِهِ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الدَّافِعِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْجِنَايَةَ فَكَأَنَّ إحَالَةَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَوْفِي لِلنَّفْعِ أَوَّلًا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُوَافِقُ مَا قَبْلَهَا فِي تَقْرِيرِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُنْتَفِعِ لَاسِيَّمَا وَالدَّافِعُ هُنَا مَعْذُورٌ وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْقَصَّارُ الْقَطْعَ؛ لِأَنَّهُ تَلَفٌ لَمْ يَحْدُثْ مِنْ انْتِفَاعِ الْقَابِضِ، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَى الدَّافِعِ لِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ، فَالرِّوَايَتَانِ إذًا مُتَّفِقَتَانِ وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَهُمَا مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي أَنَّ الضَّمَانَ هَلْ هُوَ عَلَى الْقَصَّارِ أَوْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ رِوَايَةَ ضَمَانِ الْقَصَّارِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا فَيَضْمَنُ جِنَايَةَ يَدِهِ، وَرِوَايَةُ عَدَمِ ضَمَانِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا فَلَا يَضْمَنُ جِنَايَتَهُ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْهَا، وَأَشَارَ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ فِي الْمُجَرَّدِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ دَفَعَ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ إلَى وَاصِفِهَا ثُمَّ أَقَامَ غَيْرُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَوَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ لَا ضَمَانَ لِوُجُوبِ الدَّافِعِ عَلَيْهِ فَلَا يُنْسَبُ إلَى تَفْرِيطٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْوَاصِفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ بِالْمِلْكِ، أَمَّا لَوْ دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ يَظُنُّهُ صَاحِبُهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فَقَالَ الْأَصْحَابُ يَضْمَنُ لِتَفْرِيطِهِ‏.‏

وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ وَحْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَصَّارِ‏.‏

وَلَوْ قَتَلَ مَنْ يَظُنُّهُ قَاتِلَ أَبِيهِ لِاشْتِبَاهِهِ بِهِ فِي الصُّورَةِ قُتِلَ بِهِ لِتَفْرِيطِهِ فِي اجْتِهَادِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ‏.‏

وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ لَا قَوَدَ وَأَنَّهُ يَضْمَنُ بِالدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَسَارَ قَاطِعِ يَمِينِهِ ظَانًّا أَنَّهَا الْيَمِينُ فَإِنَّهُ لَا قَوَدَ وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَانِي عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ مَضَى عَلَى الْمَفْقُودِ زَمَنٌ تَجُوزُ فِيهِ قِسْمَةُ مَالِهِ فَقَسَمَ ثُمَّ قَدِمَ فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَكَى فِي ضَمَانِ مَا تَلِفَ فِي أَيْدِي الْوَرَثَةِ مِنْهُ رِوَايَتَيْنِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي دَاوُد عَدَمُ الضَّمَانِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ جَازَ اقْتِسَامُ الْمَالِ فِي الظَّاهِرِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلِهَذَا يُبَاحُ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ وَإِذَا قَدِمَ خُيِّرَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَهْرِ فَجَعَلَ التَّصَرُّفَ فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ مَالٍ وَبُضْعٍ مَوْقُوفًا عَلَى تَنْفِيذِهِ وَإِجَازَتِهِ مَا دَامَ مَوْجُودًا فَإِذَا تَلِفَ فَقَدْ مَضَى الْحُكْمُ فِيهِ وَنَفَذَ فَإِنَّ إجَازَتَهُ وَرَدَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ لَا بِالْمَفْقُودِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَدِمَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ زَوْجَتُهُ وَمَاتَتْ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا يَرِثُهَا، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ اللُّقَطَةُ إذَا قَدِمَ الْمَالِكُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَالتَّمَلُّكِ وَقَدْ تَلِفَتْ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُهَا لِلْمَالِكِ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ مَعَ التَّلَفِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الرَّدُّ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ قَبَضْت الْمُطَلَّقَةُ الْبَائِنُ النَّفَقَةَ يُظَنُّ أَنَّهَا حَامِلٌ ثُمَّ بَانَتْ حَامِلًا فَفِي الرُّجُوعِ عَلَيْهَا رِوَايَتَانِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ غَابَ الزَّوْجُ فَأَنْفَقَتْ الزَّوْجَةُ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ مَوْتُهُ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَتْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ دَفَعَ زَكَاتَهُ أَوْ كَفَّارَتَهُ إلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا أَنْ لَا ضَمَانَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الدَّافِعُ قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ‏.‏

وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ لَا يَضْمَنُ الْإِمَامُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَمْ يُفَرِّطْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَإِنْ بَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ هَاشِمِيًّا فَقِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي آخِرِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَّا أَنَّهُ خَرَّجَ الْخِلَافَ فِي الضَّمَانِ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ فِي الْمُغْنِي وَقِيلَ لَا يُجْزِئُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِظُهُورِ التَّفْرِيطِ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَا تَخْفَى بِخِلَافِ الْغَنِيِّ وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ بِسَبَبِ نَفْسِهِ فَطَرِيقَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ لَا يُجْزِئُهُ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا لَوْ بَانَ أَنَّهُ عِنْدَ نَفْسِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ هُوَ لَوْ بَانَ غَنِيًّا وَالْمَنْصُوصُ هَاهُنَا الْإِجْزَاءُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ خَشْيَةُ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ مَالُ الْفَيْءِ وَالْخُمْسِ، وَالْأَمْوَالُ الْمُوصَى بِهَا، وَالْمَوْقُوفَةُ إذَا ظَنَّ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا أَنَّ الْأَخْذَ مُسْتَحَقٌّ فَأَخْطَأَ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالتِّسْعُونَ‏)‏‏:‏ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ عَيْنِ مَالٍ فَأَدَّاهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ هَلْ تَقَعُ مَوْقِعَهُ وَيَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْ الْمُؤَدِّي‏؟‏

هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مِلْكًا لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَصَرِّفُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ وَقَعَ الْمَوْقِعَ وَلَا ضَمَانَ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ دَيْنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ مُتَمَيِّزَةً بِنَفْسِهَا فَلَا ضَمَانَ وَيُجْزِئُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَمَيِّزَةً مِنْ بَقِيَّةِ مَالِهِ ضَمِنَ وَلَمْ يُجْزِئْ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْمَالِكُ التَّصَرُّفَ فَنَقُولُ بِوَقْفِ عُقُودِ الْفُضُولِيِّ عَلَى الْإِجَازَةِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مَسَائِلُ‏:‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَلَهُ مَالٌ فَبَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَوَفَّاهُ عَنْهُ صَحَّ وَبَرِئَ مِنْهُ وَلَا ضَمَانَ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَأَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا فَإِنَّهُ تُجْزِئُ عَنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ وَهَذَا حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فَوَقَعَ مَوْقِعَهُ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِغَيْبَةٍ أَوْ حَبْسٍ فَأَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يُخْرِجُ عَنْهُمَا الزَّكَاةَ وَيُجْزِئُ كَمَا يُؤَدِّي عَنْهُمَا سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ النَّفَقَاتِ وَالْغَرَامَاتِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ إذَا عَيَّنَ أُضْحِيَّةً فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الذَّابِحُ شَيْئًا نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ لِلذَّبْحِ مَا لَمْ يُبَدِّلْهَا وَإِرَاقَةُ دَمِهَا وَاجِبٌ‏.‏

فَالذَّابِحُ قَدْ عَجَّلَ الْوَاجِبَ فَوَقَعَ مَوْقِعَهُ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً ابْتِدَاءً أَوْ عَنْ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ، وَفَرَّقَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ بَيْنَ مَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ الْمُعَيَّنَةُ عَنْهَا فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ لَهَا نِيَّةُ الْمَالِكِ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ‏:‏ فَلَا يُجْزِئُ ذَبْحُ غَيْرِهِ لَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَنُ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ صَيْدٌ فَأَطْلَقَهُ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَدَّى عَنْهُ دَيْنَهُ فِي هَذَا الْحَالِ وَفِي الْمُبْهِجِ لِلشِّيرَازِيِّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ وَإِرْسَالُ الْغَيْرِ إتْلَافٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَهُوَ كَقَتْلِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ حَاكِمًا أَوْ وَلِيَّ صَبِيٍّ فَلَا ضَمَانَ لِلْوِلَايَةِ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا يَجِبُ ‏[‏عَلَيْهِ‏]‏ إرْسَالُهُ وَإِلْحَاقُهُ بِالْوَحْشِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، أَمَّا إنْ قُلْنَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُ يَدِهِ إلَى غَيْرِهِ بِإِعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ بِغَيْرِ إشْكَالٍ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ لَوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ غَيْرُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ سَوَاءٌ قِيلَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ أَوْ امْتِنَاعِ الْإِبْدَالِ كَمَا ‏[‏لَوْ‏]‏ اخْتَارَهُ أَوْ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ وَجَوَازِ الْإِبْدَالِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ الْمَنْذُورَةِ وَبَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ ‏[‏فِي ذَلِكَ الثَّانِي‏:‏ الضَّمَانُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَيُشْكِلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ‏]‏‏.‏

لَاسِيَّمَا وَالْمَنْقُولُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْفَرْقِ‏:‏ إنَّ الْأُضْحِيَّةَ إنَّمَا يَجُوزُ إبْدَالُهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا وَالنُّقُودُ مُتَسَاوِيَةٌ غَالِبًا فَلَا مَعْنَى لِإِبْدَالِهَا، وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي إلَى الْفَرْقِ بِأَنَّ النَّذْرَ يَحْتَاجُ إخْرَاجُهُ إلَى نِيَّةٍ كَالزَّكَاةِ وَهَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ نَقُولُ فِي نَذْرِ الصَّدَقَةِ بِالْمُعَيَّنِ مَا نَقُولُ فِي الْأُضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا أَدَّى غَيْرُهُ زَكَاتَهُ الْوَاجِبَةَ مِنْ مَالِهِ أَوْ نَذْرَهُ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ كَفَّارَتَهُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَيْثُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ الْمَالِكِ لِفَوَاتِ النِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْهُ وَمِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَخَرَّجَ الْأَصْحَابُ نُفُوذَهُ بِالْإِجَازَةِ مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ ‏[‏بِهَا‏]‏‏.‏

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالزَّكَاةِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالنَّذْرِ إنَّمَا هُوَ إذَا نَوَاهُ الْمُخْرِجُ عَنْ الْمَالِكِ فَأَمَّا إنْ نَوَى عَنْ نَفْسِهِ وَكَانَ عَالَمًا بِالْحَالِ فَهُوَ غَاصِبٌ مَحْضٌ فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَلَا بِذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَلَا غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْ أَصْلِهِ تَعَدِّيًا وَذَلِكَ يُنَافِي التَّقَرُّبَ‏.‏

وَخَرَّجَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَجْهًا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ رِوَايَةً فِي الزَّكَاةِ وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَجْهًا فِي الْعِتْقِ لَكِنْ إذَا الْتَزَمَ ضَمَانَهُ فِي مَالِهِ وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، وَهَلْ يُجْزِئُ عَنْ الْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَمْ لَا، حَكَى الْقَاضِي فِي الْأُضْحِيَّةِ رِوَايَتَيْنِ وَالصَّوَابُ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ تَتَنَزَّلُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَتَيْنِ لَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فَإِنْ نَوَى الذَّابِحُ بِالذَّبْحِ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا أُضْحِيَّةُ الْغَيْرِ لَمْ يُجْزِئْ لِغَصْبِهِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلَافِهِ لَهُ عُدْوَانًا، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ الذَّابِحُ أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ لِاشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِ أَجْزَأَتْ عَنْ الْمَالِكِ‏.‏

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى الصُّورَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسِنْدِيٌّ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا مُصَرِّحًا بِالتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ وَكَذَلِكَ الْخَلَّالُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَعَقَدَ لَهُمَا بَابَيْنِ مُنْفَرِدَيْنِ فَلَا يَصِحُّ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَتَى قِيلَ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ فَعَلَى الذَّابِحِ الضَّمَانُ لَكِنْ هَلْ يَضْمَنُ أَرْشَ الذَّبْحِ أَوْ كَمَالَ الْقِيمَةِ‏؟‏ أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ الْغَاصِبِ فَضَمَانُ الْقِيمَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْحِلِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فَقَدْ يُقَالُ إنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ فَحُكْمُ هَذَا الذَّبْحِ حُكْمُ عَطَبِهَا وَإِذَا عَطِبَتْ فَهَلْ تَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فَإِنْ قِيلَ بِرُجُوعِهَا إلَى مِلْكِهِ فَعَلَى الذَّابِحِ أَرْشُ نَقْصِ الذَّبْحِ خَاصَّةً وَإِنْ قِيلَ لَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ فَالذَّبْحُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَيَضْمَنُ الْجَمِيعَ وَيَشْتَرِي الْمَالِكُ بِالْقِيمَةِ مَا يَذْبَحُهُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَيَصْرِفُ الْكُلَّ مَصْرِفَ الْأُضْحِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً ابْتِدَاءً أَوْ تَطَوُّعًا فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى الْمَالِكِ التَّقَرُّبَ بِهَا‏.‏

وَكَوْنُهَا أُضْحِيَّةً أَوْ هَدْيًا لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا كَالْعَاطِبِ دُونَ مَحِلِّهِ، وَيَأْخُذَ أَرْشَ الذَّبْحِ مِنْ الذَّابِحِ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهَا التَّقَرُّبَ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ كَإِتْلَافِهَا وَأَمَّا إذَا فَرَّقَ الْأَجْنَبِيُّ اللَّحْمَ فَقَالَ الْأَصْحَابُ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَا إذَا ذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ اللَّحْمَ قَالُوا وَإِنْ تَلِفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَأَبْدَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ احْتِمَالًا بِالْإِجْزَاءِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْمَالِكِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ ذَبَحَهَا فَسُرِقَتْ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ وَغَيْرِهِ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى لِقَوْمٍ نُسُكًا فَاشْتَرَى لِكُلِّ وَاحِدٍ شَاةً ثُمَّ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، قَالَ‏:‏ يَتَرَاضَيَانِ وَيَتَحَالَّانِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ شَاةً بَعْدَ التَّحْلِيلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ إذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَعَمُّدٍ أَنَّهُ يُجْزِئُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ التَّضْحِيَةُ بِهَذِهِ الْأُضْحِيَّةِ الْمُشْتَبِهَةِ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ يَتَرَادَّانِ اللَّحْمَ مَعَ بَقَائِهِ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ أَدَاؤُهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَأَدَّاهُ الْغَيْرُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهُ مُعَيَّنًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُ وَلَا ضَمَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَفِي الْإِجْزَاءِ خِلَافٌ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلِكَ مَسَائِلُ‏:‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ الْمَغْصُوبُ وَالْوَدَائِعُ إذَا أَدَّاهَا أَجْنَبِيٌّ إلَى الْمَالِكِ أَجْزَأَتْ وَلَا ضَمَانَ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ إذَا اصْطَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فِي إحْرَامِهِ فَأَرْسَلَهُ غَيْرُهُ مِنْ يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ ‏[‏إذَا‏]‏ دَفَعَ أَجْنَبِيٌّ عَيْنًا مُوصًى بِهَا إلَى مُسْتَحِقٍّ مُعَيَّنٍ لَمْ يَضْمَنْ وَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بَلْ مُقَدَّرٍ وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ بِيَدِهِ وَدِيعَةٌ وَصَّى بِهَا الْمُعَيَّنُ أَنَّ الْمُودِعَ يَدْفَعُهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةُ قِيلَ لَهُ‏:‏ فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ يَضْمَنُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَخَافُ، قِيلَ لَهُ‏:‏ فَيُعْطِيهِ الْقَاضِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَلَكِنْ يَدْفَعُهُ إلَيْهِمْ‏.‏

وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ضَمَانَهُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمُوصِي وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ الْوَصِيَّةُ ظَاهِرًا، وَصَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَوَصَّى بِهِ صَاحِبُهُ لِمُعَيَّنٍ كَانَ مُخَيَّرًا فِي دَفْعِهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَقًّا لَهُ فَهُوَ كَالْوَارِثِ الْمُعَيَّنِ وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ دَفْعُ مَالِ الْوَقْفِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ الْمُعَيَّنِ مَعَ وُجُودِ النَّاظِرِ فِيهِ‏.‏

‏(‏الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالتِّسْعُونَ‏)‏‏:‏ مَنْ بِيَدِهِ مَالٌ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ يَعْرِفُ مَالِكَهُ وَلَكِنَّهُ غَائِبٌ يُرْجَى قُدُومُهُ، فَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَافِهًا فَلَهُ الصَّدَقَةُ بِهِ عَنْهُ

نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ آيِسَ مِنْ قُدُومِهِ بِأَنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَجُوزُ فِيهَا أَنْ تُزَوَّجَ امْرَأَتُهُ وَيُقَسَّمَ مَالُهُ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ فَهَلْ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ‏؟‏ قَدْ يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصْلُهُمَا الرِّوَايَتَانِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ هَلْ تَتَزَوَّجُ بِدُونِ الْحَاكِمِ أَمْ لَا‏؟‏ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ حَاكِمًا‏.‏

وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ بَلْ جَهِلَ جَازَ التَّصَدُّقُ بِهِ عَنْهُ لِشَرْطِ الضَّمَانِ بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ وَعَلَى الثَّانِيَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمُجَرَّدِ وَجَزَمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ بِتَوَقُّفِ التَّصَرُّفِ عَلَى إذْنِ الْحَاكِمِ وَالْأُولَى أَصَحُّ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ‏.‏

‏(‏مِنْهَا‏)‏ اللُّقَطَةُ الَّتِي لَا تُمْلَكُ إذَا أَخَّرْنَا الصَّدَقَةَ بِهَا أَوْ الَّتِي يُخْشَى فَسَادُهَا إذَا أَرَادَ التَّصَدُّقَ بِهَا فَالْمَنْصُوصُ جَوَازُ الصَّدَقَةِ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَسِيرًا بَاعَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا رَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ وَقَالَ‏:‏ نَقَلَهَا مُهَنَّا، وَرِوَايَةُ مُهَنَّا إنَّمَا هِيَ فِيمَنْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِهِ وَخَشِيَ الْبَائِعُ فَسَادَهُ وَهَذَا مِمَّا لَهُ مَالِكٌ مَعْرُوفٌ وَيُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَعْرِفَةِ وَرَثَتِهِ فَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةَ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ اللَّقِيطُ إذَا وُجِدَ مَعَهُ مَالٌ فَإِنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ حَاكِمٍ ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَرَوَى عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ حَاكِمٍ، قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ‏:‏ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْمُودَعِ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَى زَوْجِهِ الْمُسْتَوْدِعَ وَأَهْلِهِ فِي غَيْبَتِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ هُنَا عَلَى مَعْرُوفٍ فَنَظِيرُهُ مَنْ وَجَدَ طِفْلًا مَعْرُوفَ النَّسَبِ أَبُوهُ غَائِبٌ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الرُّهُونُ الَّتِي لَا تُعْرَفُ أَهْلُهَا نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الصَّدَقَةِ بِهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي الْحَارِثِ وَغَيْرِهِمَا وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَذَّرَ إذْنُ الْحَاكِمِ لِمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ أَيْضًا إذَا كَانَ عِنْدَهُ رَهْنٌ وَصَاحِبُهُ غَائِبٌ وَخَافَ فَسَادَهُ يَأْتِي السُّلْطَانَ لِيَأْمُرَ بِبَيْعِهِ وَلَا يَبِيعُهُ بِغَيْرِ إذْنِ السُّلْطَانِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ وَأَقَرُّوا النُّصُوصَ عَلَى وُجُوهِهَا فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَعْرُوفًا لَكِنَّهُ غَائِبٌ رَفَعَ أَمْرَهُ إلَى السُّلْطَانِ وَإِنْ جَهِلَ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِدُونِ حَاكِمٍ وَإِنْ عَلِمَ صَاحِبُهُ لَكِنَّهُ آيِسٌ مِنْهُ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ‏.‏

نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الْوَدَائِعُ الَّتِي جُهِلَ مَالِكُهَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِدُونِ حَاكِمٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ فُقِدَ وَلَمْ يُطَّلَعْ عَلَى خَبَرِهِ وَلَيْسَ لَهُ وَرَثَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ نَصَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ حَاكِمًا قَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عِنْدَ تَعَذُّرِ إذْنِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ مَصْرِفُهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَتَفْرِقَةُ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَوْكُولَةٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ‏.‏

انْتَهَى وَالصَّحِيحُ الْإِطْلَاقُ وَبَيْتُ الْمَالِ لَيْسَ بِوَارِثٍ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ وَإِنَّمَا يُحْفَظُ فِيهِ الْمَالُ الضَّائِعُ فَإِذَا أَيِسَ مِنْ وُجُودِ صَاحِبِهِ فَلَا مَعْنَى لِلْحِفْظِ وَمَقْصُودُ الصَّرْفِ فِي مَصْلَحَةِ الْمَالِكِ تَحْصُلُ بِالصَّدَقَةِ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا صَرَفَ عَنْ فَسَادِ بَيْتِ الْمَالِ إلَى غَيْرِ مَصْرِفِهِ وَأَيْضًا فَالْفُقَرَاءُ مُسْتَحِقُّونَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَإِذَا وَصَلَ لَهُمْ هَذَا الْمَالُ عَلَى غَيْرِ يَدِ الْإِمَامِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَلِهَذَا قُلْنَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إذَا فَرَّقَ الْأَجْنَبِيُّ الْوَصِيَّةَ وَكَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ فَإِنَّهَا تَقَعُ الْمَوْقِعَ، وَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَتَخَرَّجُ جَوَازُ أَخْذِ الْفُقَرَاءِ الصَّدَقَةَ مِنْ يَدِ مَنْ مَالُهُ حَرَامٌ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَأَفْتَى الْقَاضِي بِجَوَازِهِ وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ فَوَكَّلَ فِي دَفْعِهَا ثُمَّ مَاتَ وَجُهِلَ رَبُّهَا وَأَيِسَ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُ الْوَكِيلُ وَوَرَثَةُ الْمُوَكِّلِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ صَاحِبُهَا فِيهِ حَيْثُ يَرَوْنَ أَنَّهُ كَانَ، وَهُمْ ضَامِنُونَ إذَا ظَهَرَ لَهُ وَارِثٌ، وَاعْتِبَارُ الصَّدَقَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَالِكِ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْغَصْبِ وَفِي مَالِ الشُّبْهَةِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ ‏(‏يَعْنِي إذَا جُهِلَ الْقَاتِلَ‏)‏ وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْهُ أَنَّ الْغُرْمَ لَمَّا اخْتَصَّ بِأَهْلِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَانِيَ أَوْ عَاقِلَتَهُ الْمُخْتَصَّيْنِ بِالْغُرْمِ لَا يَخْلُو الْمَكَانُ ‏[‏مِنْهُمْ‏]‏ فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ بِالْمَالِ الْمَجْهُولِ مَالِكُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِأَهْلِ مَكَانِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى وُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ وَيُرَاعَى فِي ذَلِكَ الْفُقَرَاءُ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ كَمَا يُرَاعَى فِي مَوْضِعِ الدِّيَةِ الْغَنِيُّ‏.‏

‏(‏وَمِنْهَا‏)‏ الْغُصُوبَ الَّتِي جُهِلَ رَبُّهَا فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَيْضًا وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ فِيهِ خِلَافًا وَطَرَدَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِ الْخِلَافَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِبَيْتِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَسْرُوقِ وَنَحْوِهِ نَصَّ عَلَيْهِ‏.‏

وَلَوْ مَاتَ الْمَالِكُ وَلَا وَارِثَ لَهُ يُعْلَمُ فَكَذَلِكَ يُتَصَدَّقُ بِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا‏.‏

تَنْبِيهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ الدُّيُونُ الْمُسْتَحَقَّةُ كَالْأَعْيَانِ يُتَصَدَّقُ بِهَا عَنْ مُسْتَحَقِّهَا نَصَّ عَلَيْهِ وَمَعَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَرِيمِهِ‏:‏ تَصَدَّقْ عَنِّي بِالدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ لَمْ يَبْرَأْ بِالصَّدَقَةِ عَنْهُ، وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي قَبْضِهِ مِنْ نَفْسِهِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمَدْفُوعُ مِلْكًا لَهُ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ مِلْكُهُ فِيهِ بِدُونِ قَبْضِهِ أَوْ قَبْضِ وَكِيلِهِ وَفَرَّقَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بَرِئَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ كَالْوَكِيلِ وَخَرَّجَ فِي الْمُجَرَّدِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى بَيْعِ الْوَكِيلِ مِنْ نَفْسِهِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْقَبْضُ مِنْ نَفْسِهِ حَيْثُ وَكَّلَهُ الْمَالِكُ فِي التَّعْيِينِ وَالْقَبْضِ، وَقَدْ أَطْلَقَ هَاهُنَا جَوَازَ الصَّدَقَةِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا رِوَايَةً ثَانِيَةً بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا أَوْ مَحْمُولًا عَلَى حَالَةِ تَعَذُّرِ وُجُودِ الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ نَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِيمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِرَجُلٍ قَدْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِلنَّاسِ فَقَضَى عَنْهُ دِينَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّهُ يَبْرَأُ بِهِ فِي الْبَاطِنِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إذَا أَرَادَ مَنْ بِيَدِهِ عَيْنٌ جُهِلَ رَبُّهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَتَصَدَّقَ، بِقِيمَتِهَا عَنْ مَالِكِهَا فَنَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ الْجَوَازَ فِيمَنْ اشْتَرَى آجُرًّا وَعَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُ وَلَا يَعْرِفُ لَهُ أَرْبَابًا أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ قِيمَةَ الْآجُرِّ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ إثْمِهِ، وَقَدْ يَتَخَرَّجُ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ جَوَازِ شِرَاءِ التَّوْكِيلِ مِنْ نَفْسِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِيمَنْ لَهُ دَيْنٌ وَعِنْدَهُ رَهْنٌ وَانْقَطَعَ خَبَرُ صَاحِبِهِ وَبَاعَهُ هَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَاضِلِ أَمْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ‏؟‏ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءً لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ مِنْ تَحْتَ يَدِهِ وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ جَوَازَهُ مُطْلَقًا وَخَرَّجَهُ مِنْ بَيْعِ الْوَكِيلِ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ‏.‏