فصل: باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان:

سبب مجيء المؤلف بهذا الباب لدحض حجة من يقول: إن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة، وأنكروا أن تكون عبادة القبور والأولياء من الشرك، لأن هذه الأمة معصومة منه، لقوله: «إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم».
والجواب عن هذا سبق عند الكلام على المسألة الثامنة عشرة من مسائل باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما.
قوله: (أن بعض هذه الأمة)، أي: لا كلها، لأن في هذه الأمة طائفة لا تزال منصورة على الحق إلى قيام الساعة، لكنه سيأتي في آخر الزمان ريح تقبض روح كل مسلم، فلا يبقى إلى شرار الناس.
وقوله: (تعبد)، بفتح التاء، وفي بعض النسخ: (يعبد)، بفتح الياء المثناة من تحت.
فعلى قراءة (يعبد) لا إشكال فيها، لأن (بعض) مذكر.
وعلى قراءة: (تعبد)، فإنه داخل في قول ابن مالك:
وربما أكسب ثان أولًا ** تأنيثًا أن كان لحذف موهلا

ومثلوا لذلك قولهم: قطعت بعض أصابعه، فالتأنيث هنا من أجل أصابعه لا من أجل بعض.
فإذا صحت النسخة (تعبد)، فهذا التأنيث اكتسبه المضاف من المضاف إليه.
قوله: (الأوثان)، جمع وثن، وهو: كل ما عبد من دون الله.
وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} [النساء: 51].
ذكر المؤلف في هذا الباب عدة آيات:
* الآية الأولى قوله تعالى: {ألم تر}، الاستفهام هنا للتقرير والتعجيب، والرؤية بصرية بدليل أنها عديت بإلى، وإذا عديت بإلى صارت بمعنى النظر.
والخطاب إما للنبي، أو لكل من يصح توجيه الخطاب إليه، أي: ألم تر أيها المخاطب؟
قوله: {إلى الذين أوتوا}، أي: أعطوا، ولم يعطوا كل الكتاب، لأنهم حرموا بسبب معصيتهم، فليس عندهم العلم الكامل بما في الكتاب.
قوله: {نصيبًا من الكتاب} المنزل.
والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل.
وقد ذكروا لذلك مثلًا، وهو كعب بن الأشرف حين جاء إلى مكة، فاجتمع إليه المشركون، وقالوا: ما تقول في هذا الرجل (أي: النبي) الذي سفه أحلامنا ورأى أنه خير منا؟ فقال لهم: أنتم خير من محمد، ولهذا جاء في أخر الآية: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} [النساء: 51].
قوله: {يؤمنون بالجبت والطاغوت}، أي: يصدقون بهما، ويقرونهما لا ينكرونهما، فإذا أقر الإنسان هذه الأوثان، فقد آمن بها.
والجب: قيل: السر، وقيل: هو الصنم، والأصح: أنه عام لكل صنم أو سحر أو كهانة أو ما أشبه ذلك.
والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
فالمعبود كالأصنام، والمتبوع كعلماء الضلال، والمطاع كالأمراء، فطاعتهم في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله تعد من عبادتهم.
والمراد من كان راضيًا بعبادتهم إياه، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابديه، لأنهم تجاوزوا به حده، حيث نزلوه فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادتهم لهذا المعبود طغيانًا، لمجاوزتهم الحد بذلك.
والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، فكل شيء يتعدى به الإنسان حده يعتبر طاغوتًا.
وجه المناسبة في الآية للباب لا يتبين إلا بالحديث، وهو: «لتركبن سنن من كان قبلكم»، فإذا كان الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، وأن من هذه الأمة من يرتكب سنن من كان قبله يلزم من هذا أن في هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت، فتكون الآية مطابقة للترجمة تمامًا.
وقوله تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنة الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} [المائدة: 60].
* الآية الثانية قوله تعالى: {قل هل أنبئكم}، الخطاب للنبي ردًا على هؤلاء اليهود الذي اتخذوا دين الإسلام هزوًا ولعبًا.
وقوله: {أنبئكم}، أي: أخبركم، والاستفهام هنا للتقرير والتشويق، أي: سأقرر عليكم هذا الخبر.
قوله: {بشر من ذلك}، شر: هنا اسم تفضيل، وأصلها أشر لكن حذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، ومثلها كلمة خير مخففة من أخير، والناس مخففة من الأناس، وكذا كلمة الله مخففة من الإله.
وقوله: {ذلك} المشار إليه ما كان عليه الرسول وأصحابه، فإن اليهود يزعمون أنهم هم الذي على الحق، وأنهم خير من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، وأن الرسول وأصحابه ليسوا على الحق، فقال الله تعالى: {قل هل أنبئكم}.
قوله: {مثوبة عند الله}، مثوبة: تمييز لشر، لأن شر اسم تفضيل، وما جاء بعد أفعل التفضيل مبينًا له يكون منصوبًا على التمييز.
قال ابن مالك:
اسم بمعنى من مبين نكرة ** ينصب تمييزًا بما قد فسره

إلى أن قال:
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا ** مفضلًا كأنت أعلى منزلا

والمثوبة: من ثاب يثوب إذا رجع، ويطلق على الجزاء، أي: بشر من ذلك جزاء عن الله.
قوله: {عند الله}، أي: في عمله وجزائه عقوبة أو ثوابًا.
قوله: {من لعنه الله}، من: اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو من لعنه الله، لأن الاستفهام انتهى عند قوله: {مثوبة عند الله}، وجواب الاستفهام: {من لعنه الله} ولعنه، أي: طرده وأبعده عن رحمته.
قوله: {وغضب عليه}، أي: أحل عليه غضبه، والغضب: صفة من صفات الله الحقيقية تقتضي الانتقام من المغضوب عليه، ولا يصح تحريفه إلى معنى الانتقام، وقد سبق الكلام عليه (ص 418).
والقاعدة العامة عند أهل السنة: أن آيات الصفات وأحاديثها تجرى على ظاهرها اللائق بالله- عز وجل-، فلا تجعل من جنس صفات المخلوقين، ولا تحرف فتنفى عن الله، فلا نغلو في الإثبات ولا في النفي.
قوله: {وجعل منهم القردة والخنازير}، القردة: جمع قرد، وهو حيوان معروف أقرب ما يكون شبهًا بالإنسان، والخنازير: جمع خنزير، وهو ذلك الحيوان الخبيث المعروف الذي وصفه الله بأنه رجس.
والإشارة هنا إلى اليهود، فإنهم لعنوا كما قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم} الآية [المائدة: 78].
وجعلوا قردة بقوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65]، وغضب الله عليهم بقوله: {فباؤوا بغضب على غضب} [البقرة: 90].
قوله: {وعبد الطاغوت}، فيها قراءتان في: {عبد} وفي: {الطاغوت}:
الأولى: بضم الباء: {عبد}، وعليها تكسر التاء في: {الطاغوت}، لأنه مجرور بالإضافة.
الثانية: بفتح الباء: {عبد} على أنه فعل ماض معطوف على قوله: {لعنه الله} صلة الموصول، أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد: {من} مع طول الفصل، لأن هذا ينطبق على موصوف واحد، فلو أعيدت مَنْ لأوهم أنهم جماعة آخرون وهم جماعة واحدة، فعلى هذه القراءة يكون: {عبد} فعلًا ماضيًا، والفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره هو يعود على (من) في قوله: {من لعنه الله}، {الطاغوت} بفتح التاء مفعولًا به.
وبهذا نعرف اختلاف الفاعل في صلة الموصول وما عطف عليه، لأن الفاعل في صلة الموصول هو: {الله}، والفاعل في عبد يعود على (من).
وعلى كل حال، فالمراد بها عابد الطاغوت.
فالفرق بين القراءتين بالباء فقط، فعلى قراءة الفعل مفتوحة، وعلى قراءة الاسم مضمومة.
والطاغوت على قراءة الفعل في: {عبد} تكون مفتوحة: {عبد الطاغوت}، وعلى قراءة الاسم تكون مكسورة بالإضافة: {عبد الطاغوت}.
وذكر في تركيب: {عبد} مع: {الطاغوت} أربع وعشرون قراءة، ولكنها قراءات شاذة غير القراءتين السبعيتين: {عَبَدَ} {عَبُدَ}.
وقوله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا} [الكهف: 21].
* الآية الثالثة قوله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا}، هذه الآية في سياق قصة أصحاب الكهف، وقصتهم عجيبة، كما قال تعالى: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في آياتنا عجبًا} [الكهف: 9]، وهم فتية آمنوا بالله وكانوا في بلاد شرك، فخرجوا منها إلى الله- عز وجل-، فيسر الله لهم غارًا، فدخلوا فيه، وناموا نومة طويلة بلغت: {ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعًا} [الكهف: 25] وهم نائمون لا يحتاجون إلى أكل وشرب، ومن حكمة الله أن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال حتى لا يترسب الدم في أحد الجانبين، ولما خرجوا بعثوا بأحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعامًا، وآخر الأمر أن أهل المدينة اطلعوا على أمرهم، وقالوا: لابد أن نبني على قبورهم مسجدًا.
وقوله: {قال الذين غلبوا على أمرهم}، المراد بهم: الحكام في ذات الوقت قالوا مقسمين مؤكدين: {لنتخذن عليهم مسجدًا}، وبناء المساجد على القبور من وسائل الشرك كما سبق.
* فوائد الآيات السابقة:
من فوائد الآية الأولى ما يلي:
1- أن من العجب أن يعطى الإنسان نصيبًا من الكتاب ثم يؤمن بالجبت والطاغوت.
2- أن العلم قد لا يعصم صاحبه من المعصية، لأن الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالكفر، والذي يؤمن بالكفر يؤمن بما دون من المعاصي.
3- وجوب إنكار الجبت والطاغوت، لأن الله تعالى ساق الإيمان بهما مساق العجب والذم، فلا يجوز إقرار الجبت والطاغوت.
4- ما ساقها المؤلف من أجله أن من هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت لقوله: «لتركبن سنن من كان من قبلكم»، فإذا وجد في بني إسرائيل من يؤمن بالجبت والطاغوت، فإنه سيوجد في هذه الأمة أيضًا من يؤمن بالجبت والطاغوت.
* ومن فوائد الآية الثانية ما يلي:
1- تقرير الخصم والاحتجاج عليه بما لا يستطيع إنكاره، بمعنى أنك تحتج على خصمك بأمر لا يستطيع إنكاره فإن اليهود يعرفون بأن فيهم قومًا غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، فإذا كانوا يقرون بذلك وهم يستهزئون بالمسلمين، فنقول لهم: أين محل الاستهزاء؟! الذين حلت عليهم هذه العقوبات أم الذين سلموا منها؟
والجواب: الذين حلت بهم العقوبة أحق بالاستهزاء.
2- اختلاف الناس بالمنزلة عند الله، لقوله: {بشر من ذلك مثوبة عند الله}، ولا شك أن الناس يختلفون بزيادة الإيمان ونقصه وما يترتب عليه من الجزاء.
3- سوء حال اليهود الذي حلت بهم هذه العقوبات من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.
4- إثبات أفعال الله الاختيارية، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء، لقوله: {لعنه الله}، فإن اللعن من صفات الأفعال.
5- إثبات الغضب لله، لقوله: {وغضب عليه}.
6- إثبات القدرة لله، لقوله: {وجعل منهم القردة والخنازير}.
وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة؟
والجواب: لا، لما ثبت في (صحيح مسلم) عن النبي: «أن كل أمة مسخت لا يبقى لها نسل»، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك، وعلى هذا، فليس هذا الموجود من القردة والخنازير هو بقية أولئك الممسوخين.
7- أن العقوبات من جنس العمل، لأن هؤلاء الذين مسخوا قردة، والقرد أشبه ما يكون شبهًا بالإنسان، فعلوا فعلًا ظاهره الإباحة والحل وهو محرم، وذلك أنه حرم عليهم الصيد يوم السبت ابتلاء من الله، فإذا جاء يوم السبت امتلأ البحر بالحيتان، وظهرت على سطح الماء، وفي غيره من الأيام تختفي ولا يأتي منها شيء، فلما طال عليهم الأمد صنعوا شباكًا، فصاروا ينصبونها في يوم الجمعة ويدعون الحيتان تدخل فيها يوم السبت، فإذا أتى يوم الأحد أخذوها، وهذه حيلة ظاهرها الحل، ولكن حقيقتها ومعناها الوقوع في الإثم تمامًا، ولهذا مسخوا إلى حيوان يشبه الإنسان وليس بإنسان، وهو القرد، قال تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65]، وهو يفيد أن الجزاء من جنس العمل، ويدل عليه صراحة قوله تعالى: {فكلا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40].
8- أن هؤلاء اليهود صاروا يعبدون الطاغوت، لقوله: {وعبد الطاغوت}، ولا شك أنهم حتى الآن يعبدونه، لأنه عبدوا الشيطان وأطاعوه وعصوا الله ورسوله.
9- وفي الآية نكت نحوية في قوله: {عليه} و: {منهم} في قوله تعالى: {من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير}، فالضمير في: {لعنه} الهاء، و: {غضب عليه} مفرد، و: {منهم} جمع، مع أن المرجع واحد، وهو: {من}.
والجواب: أنه روعي في الإفراد اللفظ، وفى الجمع المعنى، وذلك أن: {من} اسم موصول صالحه للمفرد وغيره، قال ابن مالك:
ومن وما وأل تساوي ما ذكر

لما ذكر الأسماء الموصولة من المفرد والمثنى والجمع من مذكر ومؤنث قال: ومن وما... إلخ.
وقال: {من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة}، ولم يقل: وجعلهم قردة، لان اللعن والغضب عام لهم جميعًا، والعقوبة بمسخهم إلى قردة وخنازير خاص ببعضهم، وليس شاملًا لبني إسرائيل.
* ومن فوائد الآية الثالثة ما يلي:
1- ما تضمن سياق هذه الآية من القصة العجيبة في أصحاب الكهف وما تضمنته من الآيات الدالة على كمال قدرة الله وحكمته.
2- أن من أسباب بناء المساجد على القبور الغلو في أصحاب القبور، لأن الذين غلبوا على أمرهم بنوا عليهم المساجد، لأنهم صاروا عندهم محل الاحترام والإكرام غلوا فيهم.
3- أن الغلو في القبور وإن قل قد يؤدي إلى ما هو أكبر منه، ولهذا قال النبي لعلي حين بعثه: «ألا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته».
عن أبي سعيد (رضي الله عنه)، أن رسول الله قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه». قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: «فمن». أخرجاه.
قوله في الحديث: «لتتبعن»، اللام موطئة للقسم، والنون للتوكيد، فالكلام مؤكد بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لتتبعن.
قوله: «سنن من كان قبلكم»، فيها روايتان: «سُنَن» و: «سَنَن».
أما: «سنن» بضم السين: جمع سنة، وهي الطريقة.
وأما: «سنن»، بالفتح: فهي مفرد بمعنى الطريق.
وفعل تأتي مفرده مثل: فنن جمعها أفنان، وسبب جمعها أسباب.
وقفوله: «من كان قبلكم»، أي: من الأمم.
وقوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ليس على ظاهره، بل هو عام مخصوص، لأننا لو أخذنا بظاهره كانت جميع هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، لكننا نقول: إنه عام مخصوص، لأن في هذه الأمة من لا يتبع كما أخبر النبي أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق، وقد يقال: إن الحديث على عمومه وأنه لا يلزم أن تتبع هذه الأمم الأمةُ السابقة في جميع سننها، بل بعض الأمة يتبعها في شيء وبعض الأمة يتبعها في شيء آخر، وحينئذ لا يقتضي خروج هذه الأمة من الإسلام، وهذا أوى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طرق من كان قبلنا ما لا يخرج من الملة، مثل: أكل الربا، والحسد، والبغي، والكذب.
ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان.
السنن: هي الطرائق، وهي متنوعة، منها ما هو اعتداء على حق الخالق، ومنها ما هو اعتداء على حق المخلوق، ولنستعرض شيئًا من هذه السنن.
فمن هذه السنن: عبادة القبور والصالحين، فإنها موجودة في الأمم السابقة وقد وجت في هذه الأمة، قال تعالى عن قوم نوح: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا} [نوح: 23].
ومن ذلك الغلو في الصالحين كما وجد في الأمم السابقة وجد في هذه الأمة.
ومنها: دعاء غير الله، وقد جاء في هذه الأمة.
ومنها: بناء المساجد على القبور موجود في السابقين، وقد وجد في هذه الأمة.
ومنها: وصف الله بالنقائص والعيوب، فقد قالت اليهود: {يد الله مغلولة} [المائدة: 64]، وقالوا: {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181]، وقالوا: إن الله تعب من خلق السماوات والأرض، وقد وجد في هذه الأمة من قال بذلك أو أشد منه، فقد وجد من قال: ليس له يد، ومن قال: لا يستطيع أن يفعل ما يريد فلم يستو على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا ولا يتكلم، بل وجد في هذه الأمة من يقول: بإنه ليس داخلًا في العالم، وليس خارجًا عنه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، فوصفوه بما لا يمكن وجوده، ومنهم من قال: لا تجوز الإشارة الحسية إليه، ولا يفعل، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، وهذا مذهب الأشاعرة.
ومنها أكسل السحت، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: أكل الربا، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: التحيل على محارم الله، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: إقامة الحدود على الضعفاء ورفعها عن الشرفاء، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: تحريف كلام الله عن مواضعه لفظًا ومعنى، كاليهود حين قيل لهم: {ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة} [البقرة: 58]، فدخلوا على قفاهم، وقالوا: حنطة ولم يقولوا حطة، ووجد في هذه الأمة من فعل كذلك، فحرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، وقالوا هم: الرحمن على العرش استولى.
قال ابن القيم: إن اللام في استولى مزيدة زادها أهل التحريف كما زاد اليهود في (حطة) فقالوا: (حنطة).
نون اليهود ولام جهمي هما ** في وحي رب العرش زائدتان

أمر اليهود بأن يقولوا حطة ** فأبوا وقالوا حنطة لهوان

وكذلك الجهمي قيل له استوى ** فأبى وزاد الحرف للنقصان

ووجد في الأمم السابقة من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، ووجد في هذه الأمة من يعارض قول النبي بقول شيخه.
فإذا تأملت كلام النبي وجدته مطابقًا للواقع: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، ولكن يبقى النظر: هل هذا الحديث للتحذير أو للإقرار؟
الجواب: لا شك أنه للتحذير وليس للإقرار، فلا يقول أحد سأحسد وسآكل الربا، وساعتدى على الخلق، لأن الرسول قال ذلك، فمن قال ذلك، فإننا نقول له: أخطأت، لأن قول النبي لا شك أنه للتحذير، ولهذا قال الصحابة: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟».
ثم نقول لهم أيضًا: إن الرسول أخبر بأشياء ستقع، ومع ذلك أخبر بأنها حرام بنص القرآن.
فمن ذلك أنه أخبر أن الرجل يكرم زوجته ويعق أمه، وأخبر أن الإنسان يعصي أباه ويدني صديقه، وهذا ليس بجائز بنص القرآن، لكن قصد التحذير من هذا العمل.
ووجد في الأمم السابقة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون، ووجد في هذه الأمة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لرجعيون.
فالمعاصي لها أصل في الأمم على حسب ما سبق، ولكن من وفقه الله للهداية اهتدى.
والحاصل: أنك لا تكاد تجد معصية في هذه الأمة إلا وجدت لها أصلًا في الأمم السابقة.
ولا تجد معصية في الأمم السابقة إلا وجدت لها وارثًا في هذه الأمة.
* أما مناسبة الحديث للباب:
فلأنه لما عبدت الأمم السابقة الأصنام والأوثان فسيكون في هذه الأمة من يعبد الأصنام والأوثان.
قوله: «حذو القذة بالقذة»، حذو بمعنى: محاذيًا، وهي منصوبة على الحال من فاعل تتبعن، أي: حال كونكم محاذين لهم حذو القذة بالقذة.
والقذة: هي ريشة السهم، والسهم له ريش لابد أن تكون متساوية تمامًا، وإلا، صار الرمي به مختلًا.
قوله: «حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، هذه الجملة تأكيد منه للمتابعة.
وجحر الضب من اصغر الجحور، ولو دخلوا جحر أسد من باب أولى أن ندخله، فالنبي قال ذلك على سبيل المبالغة، كقوله: «من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين»، ومن اقتطع ذراعًا، فمن باب أولى.
قوله: (قالوا اليهود والنصارى) يجوز فيها وجهان:
الأول: نصب اليهود والنصارى على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: أتعني اليهود والنصارى؟
الثاني: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أهم اليهود والنصارى؟
وعلى كل تقدير، فالجملة إنشائية لأنهم يسألون النبي، فهي استفهامية، والاستفهام من باب الإنشاء.
واليهود: أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وسموا يهودًا نسبة إلى يهوذا من أحفاد إسحاق، أو لأنهم هادوا إلى الله، أي: رجعوا إليه بالتوبة من عبادة العجل.
والنصارى: هم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، وسموا بذلك نسبة إلى بلدة تسمى الناصر، وقيل: من النصرة، كما قال تعالى: {من أنصاري إلى الله} [الصف: 14].
قوله: {قال فمن}، من هنا: اسم استفهام، والمراد به التقرير، أي: فمن أعني غير هؤلاء، أو فمن هم غير هؤلاء؟ فالصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم بهذا الحديث كأنه حصل في نفوسهم بعض الغرابة، فلما سألوا قرر النبي أنهم اليهود والنصارى.
* من فوائد الحديث:
1- ما أراده المؤلف بسياقه، وهو أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، لأنه من سنن من قبلنا، وقد أخبر أننا سنتبعهم.
2- ويستفاد أيضًا من فحوى الكلام التحذير من متابعة من قبلنا في معصية الله.
3- أنه ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره، وغالب ذلك- ولله الحمد- موجود في القرآن والسنة.
4- استعظام هذا الأمر عند الصحابة، لقولهم اليهود والنصارى، فإن الاستفهام للاستعظام، أي: استعظام الأمر أن نتبع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى من النبي.
5- أنه كلما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة، فإنه يكون أبعد من الحق، لأنه أخبر عن مستقبل ولم يخبر عن الحاضر، وأن من سنن من قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 16].
فإذا كان طول الأمد سببًا لقسوة القلب فيمن قبلنا، فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في (البخاري) من حديث أنس رضي الله عنه، أنه قال: سمعت النبي يقول: «لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شره منه، حتى تلقوا ربكم»، ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد، لحديث أنس رضي الله عنه حديث صحيح سندًا ومتنًا، فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في (البخاري)، والمراد به من حيث الجملة، ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين، فلا تيأسوا، فتقولوا: إذًا لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا مثل من سبق، لأننا نقول: إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة، وإذا شئتم أن يتضح الأمر، فأنظرو إلى جنس الرجال وجنس النساء، أيهما خير؟
والجواب: جنس الرجال خير، قال تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228]، لكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال، فيجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد.
فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد ولا باعتبار مكان دون مكان، فقد تكون أمة في بعض الجهات يرتفع الناس فيها من حسن إلى أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم، فإنهم يكونون أحسن ممن سبقهم.
أما الصحابة، فلا أحد يساويهم في فضل الصحبة، حتى أفرادهم لا يمكن لأحد من التابعين أن يساويهم فيها مهما بلغ من الفضل، لأنه لم يدرك الصحبة.
مسألة: ما هي الحكمة من ابتلاء الأمة بهذا الأمر: «لتتبعن سنن...» إلخ، وأن يكون فيها من كل مساوئ من سبقها؟
الجواب: الحكمة ليتبين بذلك كمال الدين، فإن لدين يعارض كل هذه الأخلاق، فإذا كان يعارضها دل هذا على أن كل نقص في الأمم السابقة، فإن هذه الشريعة جاءت بتكميله، لأن الأشياء لا تتبين إلا بضدها، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
* (تنبيه):
قوله: «حذو القذة بالقذة» لم أجده في مظانه في (الصحيحين)، فليحرر.
ولمسلم عن ثوبان (رضي الله عنه)، أن رسول الله قال: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض».
قوله: «زوى لي»، بمعنى جمع وضم، أي: جمع له الأرض وضمها.
قوله: «فرأيت»، أي: بعيني، فهي رؤية عينية، ويحتمل أن تكون رؤية منامية.
قوله: «مشارقها ومغاربها»، وهذا ليس على الله بعزيز، لأنه على كل شيء قدير، فمن قدرته أن يجمع الأرض حتى يشاهد النبي ما سيبلغ ملك أمته منها.
وهل المراد هنا بالزوي أن الأرض جمعت، أو أن الرسول قوي نظره حتى رأى البعيد؟
الأقرب إلى ظاهر اللفظ: أن الأرض جمعت، لا أن بصره قوي حتى رأى البعيد؟
وقال بعض العلماء: المراد قوة بصر النبي: أي أن الله أعطاه قوة بصر حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها، لكن الأقرب الأول، ونحن إذا أردنا تقريب هذا الأمر نجد أن صورة الكرة الأرضية الآن مجموعة يشاهد الإنسان فيها مشارق الأرض ومغاربها، فالله على كل شيء قدير، فهو قادر على أن يجمع له الأرض حتى تكون صغيرة فيدركها من مشارقها إلى مغاربها.
* اعتراض وجوابه:
فإن قيل: هذا إن حمل على الواقع، فليس بموافق للواقع، لأنه لو حصرت الأرض بحيث يدركها بصر النبي المجرد، فأين يذهب الناس والبحار والجبال والصحارى؟
والجواب: بأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز أن تورد عليها كيف ولم، بل نقول: إن الله على كل شيء قدير، إذ قوة الله- سبحانه- أعظم من قوتنا وأعظم من أن نحيط بها، ولهذا أخبر النبي أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فلا يجوز أن نقول: كيف يجري مجرى الدم؟ فالله أعلم بذلك.
وهذه المسائل التي لا ندركها يجب التسليم المحض لها، ولهذا نقول في باب الأسماء والصفات: تجرى على ظاهرها مع التنزيه عن التكييف والتمثيل وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة.
وقوله: «فرأيت مشارقها ومغاربها»، أي أماكن الشرق والغرب منها.
قوله: «وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»، والمراد: أمة الإجابة التي آمنت بالرسول سيبلغ ملكها ما زوي للرسول منها، وهذا هو الواقع، فإن ملك هذه الأمة اتسع من المشرق ومن المغرب اتساعًا بالغًا، لكنه من الشمال والجنوب أقل بكثير، والأمة الإسلامية وصلت من المشرق إلى السند والهند وما وراء ذلك، ومن المغرب إلى ما وراء المحيط، وهذا يحقق ما رآه النبي.
قوله: «وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض»، الذي أعطاه هو الله.
والكنزان: هما الذهب والفضة كنوز كسرى وقيصر، فالذهب عند قيصر، والفضة عند كسرى، وكل منهما عنده ذهب وفضة، لكن الأغلب على كنوز قيصر الذهب، وعلى كنوز كسرى الفضة.
وقوله: «أعطيت» هل النبي أعطيها في حياته، أم بعد موته؟
الجواب: بعد موته أعطيت أمته ذلك، لكن ما أعطيت أمته، فهو كالمعطى له، لأن امتداد ملك الأمة لا لأنها أمة عربية كما يقوله الجهال، بل لأنها أمة إسلامية أخذت بما كان عليه الرسول.
«وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا».
قوله: «وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة»، هكذا في الأصل: (بعامة)، والمعنى بمهلكة عامة، وفي رواية في بعض النسخ: (بسنة عامة).
السنة: الجدب والقحط، وهو يهلك ويدمر، قال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، وقال تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} [الأعراف: 130]، ويحتمل أن يكون المعنى بعام واحد، فتكون الباء للظرفية.
وعامة، أي: عمومًا تعمهم، هذه دعوة.
قوله: «وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم» أي لا يسلط عليهم عدوًا. والعدو: ضد الولي، وهو: المعادي المبغض الحاقد، وأعداء المسلمين هنا: هم الكفار، ولهذا قال: «من سوى أنفسهم».
ومعنى: «يستبيح»: يستحل، والبيضة: ما يجعل على الرأس وقاية من السهام.
والمراد: يظهر عليهم ويغلبهم.
قوله: «إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد».
اعلم أن قضاء الله نوعان:
1- قضاء شرعي قد يرد، فقد يريده الله ولا يقبلونه.
2- قضاء كوني لا يرد، ولابد أن ينفذ.
وكلا القضاءين قضاء بالحق، وقد جمعهما قوله تعالى: {والله يقضى بالحق} [غافر: 20].
ومثال القضاء الشرعي: قوله تعالى: {وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23]، لأنه لو كان كونيًّا، لكان كل الناس لا يعبدون إلا الله.
ومثال القضاء الكوني: قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوًّا كبيرًا} [الإسراء: 4]، لأن الله تعالى لا يقضي شرعًا بالفساد، لكنه يقضي به كونًا وإن كان يكرهه سبحانه، فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، لكنه يقضي بذلك لحكمة بالغة، كما قسم خلقه إلى مؤمنين وكافرين، لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة.
والمراد بالقضاء في هذا الحديث: القضاء الكوني، فلا أحد يستطيع رده مهما كان من الكفر والفسوق، فقضاء الله نافذ على أكبر الناس عتوًّا واستكبارًا، فقد نفذ على فرعون وأغرق بالماء الذي كان يفتخر به، وعلى طواغيت بني آدم فأهلكهم الله ودمرهم.
وفي قوله: «إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد» من كمال سلطان الله وقدرته وربوبيته ما هو ظاهر، لأنه ما من ملك سوى الله إلا يمكن أن يرد ما قضى به.
واعلم أن قضاء الله كمشيئته بالحكمة، فهو لا يقضي قضاء إلا والحكمة تقتضيه، كما لا يشاء شيئًا إلا والحكمة تقتضيه، ويدل عليه قوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيمًا} [الإنسان: 30]، فتبين أنه لا يشاء شيئًا إلا عن علم وحكمة، وليس لمجرد المشيئة.
خلافًا لما أنكر حكمة الله من الجهمية وغيرهم، فقالوا: إنه لا يفعل الأشياء إلا لمجرد المشيئة، فجعلوا على زعمهم المخلوقين أكمل تصرفًا من الله، لأن كل عاقل من المخلوقين لا يتصرف إلا لحكمة، ولهذا كان الذي يتصرف بسفه يحجر عليه، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا} [النساء: 5].
فنحن نقول: إن الله- جل وعلا- لا يفعل شيئًا ولا يحكم بشيء إلا لحكمة، ولكن هل يلزم من الحكمة أن نحيط بها علمًا؟
الجواب: لا يلزم، لأننا أقصر من أن نحيط علمًا بحكم الله كلها، صحيح أن بعض الأشياء نعرف حكمتها، لكن بعض الأشياء تعجز العقول عن إدراكها.
والمقصود من قوله: «إذا قضيت قضاء، فإن لا يرد» بيان أن من الأشياء التي سألها النبي ما لم يعطها، لأنه الله قضى بعلمه وحكمته ذلك، ولا يمكن أن يرد ما قضاه الله- عز وجل-.
والقضاء قد يتوقف على الدعاء، بل إن كل القضاء أو أكثر القضاء له أسباب إما معلومة أو مجهولة، فدخول الجنة لا يمكن إلا بسبب يترتب دخول الجنة عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح.
كذلك حصول المطلوب، قد يكون الله- عز وجل- منعه حتى نسأل لكن من الأشياء ما لا تقتفي الحكمة وجوده وحينئذ يجازى الداعي بما هو أكمل أو يؤخر له ويدخر له عند الله عز وجل، أو يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، والدعاء إذا تمت فيه شروط القبول ولم يجب، فإننا نجزم بأنه ادخر له.
وقوله: «وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة» هذه واحدة.
والثانية: قوله: «أن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا».
وهذه الإجابة قيدت بقوله: «حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا» إذا وقع ذلك منهم، فقد يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، فكأن إجابة الله لرسوله في الجملة الأولى بدون استثناء، وفى الجملة الثانية باستثناء: «حتى يكون بعضهم...».
وهذه هي الحكمة من تقديم قوله: «إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد»، فصارت إجابة الله لرسوله مقيدة.
ومن نعمة الله أن هذه الأمة لن تهلك بسنة بعامة أبدًا، فكل من يدين بدين الرسول، فإنه لن يهلك، وإن هلك قوم في جهة بسنة، فإنه لا يهلك الآخرون.
فإذا صار بعضهم يقتل بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، فإنه يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، وهذا هو الواقع، فالأمة الإسلامية حين كانت أمة واحدة عونًا في الحق ضد الباطل كانت أمة مهيبة، ولما تفرقت وصار بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، سلط الله عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، وأعظم من سلط عليهم فيما أعلم التتار، فقد سلطوا على المسلمين تسليطًا لا نظير له، فيقال: إنهم قتلوا في بغداد وحدها أكثر من خمسمائة عالم في يوم واحد، وهذا شيء عظيم، وقتلوا الخليفة، وجعلوا الكتب الإسلامية جسرًا على نهر دجلة يطؤونها بأقدامهم ويفسدونها، وكانوا يأتون إلى الحوامل ويبقرون بطونهن ويخرجون أولادهن يتحركون أمامهم فيقتلونه، وهي حية تشاهد ثم تموت.
قال ابن الأثير في (الكامل): (لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها فأنا أقدم رجلًا وأوخر أخرى، فمن الذين يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ‍ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكن نسيًا منسيًّا إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ذلك لا يجدي...)، وذكر كلامًا طويلًا ووقائع مفجعة، ومن أراد مزيدًا من ذلك، فليرجع إلى حوادث سنة 617 من الكتاب المذكور.
وفي الحديث دليل على تحريم القتال بين المسلمين، وإهلاك بعضهم بعضًا، وسبي بعضهم بعضًا، وأنه يجب أن يكونوا أمة واحدة حتى تبقى هيبتهم بين الناس وتخشاهم الأمم.
ورواه البرقاني في (صحيحه)، وزاد: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف، لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم...».
قوله: «إنما أخاف على أمتي الأثمة المضلين»، بين الرسول أنه لا يخاف على الأمة إلا الأئمة المضلين.
والأئمة: جمع إمام، والإمام قد يكون إمامًا في الخير أو الشر، قال تعالى في أئمة الخير: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة، 24].
وقال تعالى عن آل فرعون أئمة: {وجعلناهم أئمة يدعو إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} [القصص: 41].
والذي في حديث الباب: (الأئمة المضلين)، أئمة الشر، وصدق النبي، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون، كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم.
والمراد بقوله: (الأئمة المضلين): الذين يقودون الناس باسم الشرع، والذين يأخذون الناس بالقهر والسلطان، فيشمل الحكام الفاسدين، والعلماء المضلين، الذين يدعون أن ما هم عليه شرع الله، وهم أشد الناس عداوة له.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لو كان لي دعوة متسجابة، لصرفتها للسلطان، فإن بصلاحه صلاح الأمة.
قوله: «إذا وقع عليهم السيف...» إلخ، هذا من آيات النبي، وهذا حق واقع، فإنه لما وقع السيف في هذه الأمة لم يرفع، فما زال بينهم القتال منذ قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وصارت الأمة يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا.
قوله: «ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين»، الحي: بمعنى القبيلة.
وهل المراد باللحوق هنا اللحوق البدني، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم، أو اللحوق الحكمي، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين، أو الأمران معًا؟
الظاهر أن المراد جميع ذلك.
وأما الحي، فالظاهر أن المراد به الجنس، وليس واحد الأحياء، وإن قيل: إن المراد واحد الأحياء، فلا بد أن يكون لهذا الحي أثره وقيمته في الأمة الإسلامية، بحيث يتبين ويظهر، وربما يكون لهذا الحي إمام يزيغ- والعياذ بالله- ويفسد، فيتبعه كل الحي، ويتبين ويظهر أمره.
قوله: «وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان»، الفئام، أي: الجماعات، وهذا وقع، ففي كل جهة من جهات المسلمين من يعبدون القبور ويعظمون أصحابها ويسألونهم الحاجات والرغبات ويلتجئون إليهم، وفئام، أي: ليسوا أحياء، فقد يكون بعضهم من قبيلة، والبعض الآخر من قبيلة، فيجتمعون.
قوله: «وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون»، حصرهم النبي بعدد، وكلهم يزعم أنه نبي أوحي إليه، وهم كذابون، لأن النبي خاتما النبيين ولا نبي بعده، فمن زعم أنه نبي بعد الرسول، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال، ومن صدقه في ذلك، فهو كافر حلال الدم والمال، وليس من المسلمين ولا من أمة محمد، ومن زعم أنه أفضل من محمد، وأنه يتلقى من الله مباشرة ومحمد يتلقى منه بواسطة الملك، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال.
وقوله: «كذابون ثلاثون» هل ظهروا أم لا؟
الجواب: ظهر بعضهم، وبعضهم ينتظر، لأن النبي لم يحصرهم في زمن معين، وما دامت الساعة لم تقم، فهم ينتظرون.
«يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».
قوله: «كلهم يزعم»، أي: يدعي.
قوله: «وأنا خاتم النبيين»، أي: آخرهم، وأكد ذلك بقوله: «لا نبي بعدي»، فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، فالجواب: إن نبوته سابقة لنبوة محمد، وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، فليس تشريعًا جديدًا ينسخ قبول الجزية، بل هو تشريع من محمد، لأنه أخبر به مقررًا له.
قوله: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة»، المعنى: أنهم يبقون إلى آخر وجودهم منصورين.
هذا من نعمة الله، فلما ذكر أن حيًّا من الأحياء يلتحقون بالمشركين، وأن فئامًا يعبدون الأصنام، وأن أناسًا يدعون النبوة، فيكون هنا الإخلال بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك، وأن محمدًا رسول الله بادعاء النبوة، وذلك أصل التوحيد، بل أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
فلما بين ذلك لم يجعل الناس ييأسون، فقال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة».
والطائفة: الجماعة.
وقوله: «على الحق»، جار ومجرور خبر تزال.
قوله: «منصورة»، خبر ثان، ويجوز أن يكون حالًا، والمعنى: لا تزال على الحق، وهي كذلك أيضًا منصورة.
قوله: «لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم»، خذلهم، أي: لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه، وفي هذا دليل على أنه سيوجد من يخذلهم، لكنه لا يضرهم، لأن الأمور بيد الله، وقد قال: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك»، وكذلك لا يضرهم من خالفهم، لأنهم منصورون بنصر الله، فالله- عز وجل- إذا نصر أحدًا فلن يستطيع أحد أن يذله.
قوله: «حتى يأتي أمر الله»، أي: الكوني، وذلك عند قيام الساعة عندما يأتي أمره سبحانه وتعالى بأن تقبض نفس كل مؤمن، حتى لا يبقى إلى شرار الخلق، فعليهم تقوم الساعة.
الشاهد من هذا الحديث: قوله في رواية البرقاني: «حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ويعبد فئام من أمتي الأوثان».
وقوله: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة»، هذه لم يحدد مكانها، فتشمل جميع بقاع الأرض في الحرمين والعراق وغيرهما.
فالمهم أن هذه الطائفة مهما نأت بهم الديار، فهي طائفة واحد منصورة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم حتى يأتي أمر الله.
مسألة: قال بعض السلف: إن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث، فما مدى صحة هذا القول؟
الجواب: هذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لا بد من التفصيل، فإن أريد بذلك أهل الحديث المصطلح عليه، الذين يأخذون الحديث رواية ودراية وأخرج منهم الفقهاء وعلماء التفسير وما اشبه ذلك، فهذا ليس بصحيح، لأن علماء التفسير والفقهاء الذين يتحرون البناء على الدليل هم في الحقيقة من أهل الحديث، ولا يختص بأهل الحديث صناعة، لأن العلوم الشرعية تفسير، وحديث، وفقه... إلخ.
فالمقصود: إن كل من تحاكم إلى الكتاب والسنة، فهو من أهل الحديث بالمعنى العام.
وأهل الحديث هم: كل من يتحرى العمل بسنة رسول الله، فيشمل الفقهاء الذين يتحرون العمل بالسنة، وإن لم يكونوا من أهل الحديث اصطلاحًا.
فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلًا لا يعتبر اصطلاحًا، من المحدثين، ومع ذلك، فهو رافع لراية الحديث.
والإمام أحمد رحمه الله تنازعه طائفتان: أهل الفقه قالوا: إنه فقيه، وأهل الحديث قالوا: إنه محدث.
وهو إمام في الفقه والحديث والتفسير، ولا شك أن أقرب الناس تمسكًا بالحديث هم الذين يعتنون به.
ويخشى من التعبير بأن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث أن يظن أنهم أهل الحديث الذين يعتنون به اصطلاحًا، فيخرج غيرهم.
فإذا قيل: أهل الحديث بالمعنى الأعم الذين يأخذون بالحديث، سواء انتسبوا إليه اصطلاحًا واعتنوا به أو لم يعتنوا، لكنهم أخذوا به، فيحنئذ يكون صحيحًا.
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء. الثانية: تفسير آية المائدة. الثالثة: تفسير آية الكهف.
فيه مسائل:
* الأولى: تفسير آية النساء، وهي قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت}، وقد سبق ذلك.
* الثانية: تفسير آية المائدة، وهي قوله تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت}، وقد سبق تفسيرها، والشاهد منها هنا قوله: {وعبد الطاغوت}.
* الثالثة: تفسير آية الكهف، يعني: قوله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لتتخذن عليهم مسجدًا}، وقد سبق بيان معناها.
الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد قلب؟ أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين. السادسة: وهي المقصود بالترجمة: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد. السابعة: تصريحه بوقوعها- أعني: عبادة الأوثان-.
* الرابعة:- وهي أهمها-: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
أما إيمان القلب واعتقاده، فهذا لا شك في دخوله في الآية.
وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها، فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة فهذا كفر وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة، فإنه لا يكفر، لكنه لا شك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله.
* الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين، يعني: إن هذا القول كفر وردة، لأن من زعم أن الكفار الذين يعرف كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين، فإنه كافر لتقديمه الكفر على الإيمان.
* السادسة- وهي المقصودة بالترجمة-: أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.
* السابعة: تصريحه بوقوعها، أعني: عبادة الأوثان، والترجمة التي أشار إليها رحمه الله هي قوله: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)، وحديث أبي سعيد هو قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟». أخرجاه.
وهذا يتضمن التحذير من أن تقع هذه الأمة في مثل ما وقع فيه من سبقها.
الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدًا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
* الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدًا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي، خرج وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير رضي الله عنه، وأظهر محبة آل البيت، ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين، فتتبعهم، وقتل كثيرًا ممن باشر ذلك أو أعان عليه، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه.
ولا شك أن هذه المسألة من العجب العجاب أن يدي النبوة وهو يؤمن أن القرآن حق، وفى القرآن أن محمدًا خاتم النبيين، فكيف صادقًا، وكيف يصدق من هذا التناقض؟ ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة. الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة.
* التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة، يعني: من هذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة.
يؤخذ هذا من آخر الحديث: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».
* العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وهذه آية عظمى: أن الكثرة الكاثرة من بني آدم على خلاف ذلك، ومع ذلك لا يضرونهم، {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249].
* الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة، وقد سبق.
* الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، أي: ما في هذا الحديث من الآيات العظيمة، والآيات: جمع آية، وهي العلامة، والآيات التي يؤيد الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام هي العلامات الدالة على صدقهم.
منها إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال. وإخباره بأنه أعطي الكنزين. وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين. وإخباره بأنه منع الثالثة. وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بإهلاك بعضهم بعضًا، وسبى بعضهم بعضا. وخوفه على أمته من الأئمة المضلين. وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول.
فمما في هذا الحديث: إخباره بأن الله- سبحانه وتعالى- زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك، فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال، فإن رسالة النبي امتدت نحو الشرق والغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب والشمال، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله عليه.
ومنها: إخباره أنه أعطي الكنزين، وهما كنزا كسرى وقيصر.
ومنها: إخباره بإجابة دعوته لأمته في الإثنتين، وهما ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا... إلخ، ومنع الثالثة، وهي ألا يجعل بأس هذه الأمة بينها، فإن هذا سوف يكون كما صرح به حديث عامر بن سعد عن أبيه: «إن النبي أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل، فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا دعاء طويلًا، وانصرف إلينا، فقال: سألت ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها»، أي: منعني إياها.
ومن هذه الآيات التي تضمنها هذا الحديث: إخباره بوقوع السيف في أمته، وأنه إذا وقع، فإنه لا يرفع حتى تقوم الساعة، وقد كان الأمر كذلك، فإنه منذ سلت السيوف على المسلمين من بعضهم على بعض بقي هذا إلى يومنا هذا.
ومنها: إخباره بإهلاك بعضهم بعضًا وسبي بعضهم بعضًا، هذا أيضًا واقع.
ومنها: خوفه على أمته من الأئمة المضلين، والأئمة: جمع إمام، والإمام: هو من يقتدى به، إما لعلمه، وإما لسلطته، وإما لعبادته.
ومنها: إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وأنهم ثلاثون، قال ابن حجر: (هذا الحصر بالثلاثين لا يعني انحصار المتنبئين بذلك، لأنهم أكثر من ذلك).
قلت: فيكون ذكر الثلاثين لبيان الحد الأدنى، أي أنهم لا ينقصون عن ذلك العدد، وإنما عدلنا عن ظاهر اللفظ للأمر الواقع، وهذا- والله أعلم- هو السر في ترك المؤلف رحمه الله العدد في مسائل الباب مع أنه صريح في الحديث.
ومنها: إخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وهذا كله وقع كما أخبر.
قال الشيخ- رحمه الله-: (مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول).
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
* الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين، ووجه هذا الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام: أمراء وعلماء وعباد، فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنه متبوعون، فالأمراء لهم السلطة والتنفيذ، والعلماء له التوجيه والإرشاد، والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم، فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم، فيخاف على الأمة منهم، لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
* الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان، يعني أن عبادة الأوثان لا تختص بالركوع والسجود لها، بل تشمل اتباع المضلين الذين يحلون ما حرم الله فيحله الناس، ويحرمون ما أحله الله فيحرمه الناس.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.