فصل: حرب فارع بسبب الغلامى القضاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.حرب الحصين بن الأسلت:

ثم كانت حرب بين بني وائل بن زيد الأوسيين وبين بني مازن بن النجار الخزرجيين.
وكان سببها أن الحصين بن الأسلت الأوسي الوائلي نازع رجلاً من بني مازن، فقتله الوائلي ثم انصرف إلى أهله، فتبعه نفر من بني مازن فقتلوه. فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وأرسل إلى بني مازن يعلمهم أنه على حربهم. فتهيأوا للقتال، ولم يتخلف من الأوس والخزرج أحد، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعاً، وقتل أبو قيس بن الأسلت الذين قتلوا أخاه ثم انهزمت الأوس، فلام وحوح بن الأسلت أخاه أبا قيس وقال: لا يزال منهزمٌ من الخزرج، فقال أبو قيس لأخيه، ويكنى أبا حصين:
أبلغ أبا حصنٍ وبع ** ض القول عندي ذو كباره

أنّ ابن أمّ لي ** س من الحديد ولا الحجارة

ماذا عليكم أن يكو ** ن لكم بها رحلاً عماره

يحمي ذماركم وبع ** ض القوم لا يحمي ذماره

يبني لكم خيراً وبنيا ** ن الكريم له اثاره

في أبيات.

.حرب ربيع الظفري:

ثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبين بني مالك بن النيجار من الخزرج.
وكان سببها أن ربيعاً الظفري كان يمر في مال لرجلٍ من بني النجار إلى ملك له، فمنعه النجاري، فتنازعا، فقتله ربيع، فجمع قومهما فاقتتلوا قتالاً شديداً كان أشد قتال بينهم، فانهزمت بنو مالك بن النجار؛ فقال قيس بن الخطيم الأوسي في ذلك:
أجدّ بعمرة غنيانها ** فتهجر أم شأننا شأنها

فإن تمس شطّت بها دارها ** وباح لك اليوم هجرانها

فما روضةٌ من رياض القطا ** كأنّ المصابيح حوذانها

بأحسن منها ولا نزهة ** ولوج تكشّف أدجانها

وعمرة من سروات النسا ** ء ينفح بالمسك أردانها

منها:
ونحن الفوارس يومالربي ** ع قد علموا كيف أبدانها

جنونا لحربي وراء الصري ** خ حتّى تقصّد مرّانها

تراهنّ يخلجن خلج الدّلا ** يبادر بالنّزع أشطانها

هي طويلة. فأجابه حسان بن ثابت الخزرجي بقصيدة أولها:
لقد هاج نفسك أشجانها ** وغادرها اليوم أديانها

ومنها:
ويثرب تعلم أنّا بها ** إذا التبس الحقّ ميزانها

ويثرب تعلم أنّا بها ** إذا أقحط القطر نوآنها

ويثرب تعلم إذ حاربت ** بأنّا لدى الحرب فرسانها

ويثرب تعلم أنّ النّبي ** ت عند الهزاهز ذلاّنها

ومنها:
متى ترنا الأوس في بيضنا ** نهزّ القنا تخب نيرانها

وتعط القياد على رغمها ** وتنزل ملهام عقبانها

فلا تفخرن التمس ملجأً ** فقد عاود الأوس أديانها

.حرب فارع بسبب الغلامى القضاعي:

ومن أيامهم يوم فارع. وسببه أن رجلاً من بني النجار أصاب غلاماً من قضاعة ثم من بلي، وكان عم الغلام جاراً لمعاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأوسي والد سعد بن معاذ، فأتى الغلام عمه يزوره فقتله النجاري. فأرسل معاذ إلى بني النجار: أن أدفعوا إلي دية جاري أو ابعثوا إي بقاتله أرى فيه رأيي. فأبوا أن يفعلوا. فقال رجل من بني عبد الأشهل: والله إن لم تفعلوا لا نقتل به إلا عامر بن الإطنابة، وعامر من أشراف الخزرج؛ فبلغ ذلك عامراً فقال:
ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ** وقد تهدى النصيحة للنصيح

فإنّكم وما ترجون شطري ** من القول امزجّى والصريح

سيندم بعضكم عجلاً عليه ** وما أثر اللسان إلى الجروح

أبت لي عزّتي وأبى بلائي ** وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإعطائي على المكروه مالي ** وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلّما جشأت وجاشت: ** مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ** وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح

بذي شطبٍ كلون الملح صافٍ ** ونفسٍ لا تقرّ على القبيح

فقال الربيع بن أبي الحقيق اليهودي في عراض قول عامر بن الإطنابة:
ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ** فلا ظلمٌ لديّ ولا افتراء

فلست بغائظ الأكفاء ظلماً ** وعندي للملامات اجتزاء

فلم أر مثل من يدنو لخسفٍ ** له في الأرض سير واستواء

وما بعض الإقامة في ديار ** يهان بها الفتى إلاّ عناء

وبعض القول ليس له عناجٌ ** كمحض الماء ليسى له إناء

وبعض خلائق الأقوام داءٌ ** كداء الشّحّ ليس له دواء

وبعض الداء ملتمسٌ شفاءً ** وداء النّوك ليس له شفاء

يحبّ المرء أن يلقى نعيماً ** ويأبى الله إلاّ ما يشاء

ومن يك عاقلاً لم يلق بؤساً ** ينخ يوماً بساحته القضاء

تعاوره بنات الدهر حتّى ** تثلّمه كما ثلم الإناء

وكلّ شدائدٍ نزلت بحيٍّ ** سيأتي بعد شدّتها رخاء

فقل للمتّقي عرض المنايا: ** توقّ فليس ينفعك اتّقاء

فما يعطى الحريص غنىً بحرصٍ ** وقد ينمي لدى الجود الثراء

وليس بنافعٍ ذا البخل مالٌ ** ولا مزرٍ بصاحبه الحباء

غنيّ النفس ما استغنى بشيء ** وفقر النفس ما عمرت شقاء

يودّ المرء ما تفد ** كأنّ فناءهنّ له فناء

فلما رأى معاذ بن النعمان امتناع بني النجار من الدية أو تسليم القاتل إليه تهيأ للحرب وتجهز هو وقومه واقتلوا عند فارغ، وهو أطم حسان بن ثابت، واشتد القتال بينهم ولم تزل الحرب بينهم حتى حمل ديته عامر بن الإطنابة. فلما فعل صلح الذي كان بينهم وعادوا إلى أحسن ما كانوا عليه، فقال عامر بن الإطنابة في ذلك.
صرمت ظليمة خلّتي ومراسلي ** وتباعدت ضنّاً بزاد الراحل

جهلاً وما تدري ظليمة أنّني ** قد أستقلّ بصرم غير الواصل

ذللٌ ركابي حيث شئت مشيّعي ** أنّي أروع قطا المكان الغافل

أظليم ما يدريك ربّة خلّةٍ ** حسنٌ ترغّمها كظبي الحائل

قد بتّ مالكها وشارب قهوةٍ ** درياقةٍ روّيت منها وآغلي

بيضاء صافية يرى من دونها ** قعر الإناء يضيء وجه الناهل

وسراب هاجرةٍ قطعت إذا جرى ** فوق الإكام بذات لونٍ باذل

أجدٌ مراحلها كأنّ عفاءها ** سقطان من كتفي ظليمٍ جافل

فلنأكلنّ بناجزٍ من مالنا ** ولنشربنّ بدين عامٍ قابل

إنّي من القوم الذين إذا انتدوا ** بدأوا ببرّ الله ثمّ النائل

المانعين من الخنا جيرانهم ** والحاشدين على طعام النازل

والخاطلين غنيّهم بفقيرهم ** والباذلين عطاءهم للسائل

والضاربين الكبش يبرق بيضة ** ضرب المهنّد عن حياض الناهل

والعاطفين على المصاف خيولهم ** والملحقين رماحهم بالقاتل

والمدركين عدوّهم بذحولهم ** والنازلين لضرب كلّ منازل

والقائلين معاً خذوا اقرانكم ** إنّ المنيّة من وراء الوائل

خزرٍ عيونهم إلى أعدائهم ** يمشون مشي الأسد تحت الوابل

ليسوا بأنكاسٍ ولا ميلٍ إذا ** ما الحرب شبّت أشعلوا بالشاعل

لا يطبعون وهم على أحسابهم ** يشفون بالأحلام داء الجاهل

والقائلين فلا يعاب خطيبهم ** يوم المقالة بالكلام الفاصل

وإنما أثبتنا هذه الأبيات وليس فيها ذكر الوقعة لجودتها وحسنها.

.حرب حاطب:

ثم كانت الوقعة المعروفة بحاطب. وهو حاطب بن قيس من بني أمية ابن زيد بن مالك بن عوف الأوسي، وبينها وبين حرب سمير نحو مائة سنة. وكان بينهما أيام ذكرنا المشهور منها وتركنا ما ليس بمشهور. وحرب حاطب آخر وقعة كانت بينهم إلا يوم بعاث حتى جاء الله بالإسلام.
وكان سبب هذه الحرب أن حاطباً كان رجلاً شريفاً سيداً، فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه، ثم إنه غدا يوماً إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد بن الحارث المعروف بابن فسحم، وهي أمه. وهو من بني الحارث بن الخزرج. فقال يزيد لرجل يهودي: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي. فأخذ رداءه وكسعه كسعةً سمعها من بالسوق. فنادى الثعلبي: يا آل حاطب كسع ضيفك وفضح! وأخبر حاطب بذلك، فجاء إليه فسأله من كسعه، فأشار إلى اليهودي، فضربه حاطب بالسيف فلق هامته، فأخبر ابن فسحم الخبر، وقيل له: قتل اليهودي، قتله حاطب، فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله، فلقي رجلاً من بني معاوية فقتله. فثارت الحرب بين الأوس والخزرج واحتشدوا واجتمعوا والتقوا على جسر ردم بني الحارث بن الخزرج. وكان على الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي، وعلى الأوس حضير بن سماك الأشهلي. وقد كان ذهب ذكر ما وقع بينهم من الحروب فيمن حولهم من العرب، فسار إليهم عببنه بنى حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري وخيار بنى مالك بن حماد الفزاري فقدما المدينة وتحدثا مع الأوس والخزرج في الصلح وضمنا أن يتحملا كل ما يدعي بعضهم على بعض، فأبوا، ووقعت الحرب عند الجسر، وشهدها عيينة وخيار. فشاهدا من قتالهم وشدتها ما أيسا معه من الإصلاح بينهم، فكان الظفر يومئذ للخزرج. وهذا اليوم من أشهر أيامهم، وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب، فمنها:

.يوم الربيع:

ثم التقت الأنصار بعد يوم الجسر بالربيع، وهو حائط في ناحية السفح، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد يفني بعضهم بعضاً، فانهزمت الأوس وتبعها الخزرج حتى بلغوا دورهم، وكانوا قبل ذلك إذا انهزمت إحدى الطائفتين فدخلت دورهم كفت الأخرى عن اتباعهم. فلما تبع الخزرج الأوس إلى دورهم طلبت الأوس الصلح، فامتنعت بنو التجار من الخزرج عن إجابتهم. فحصنت الأوس النساء والذراري في الآطام، وهي الحصون، ثم كفت عنهم الخزرج؛ فقال صخر بن سلمان البياضي:
ألا أبلغا عنّي سويد بن صامتٍ ** ورهط سويدٍ بلّغا وابن الاسلت

بأنّا قتلن بالربيع سراتكم ** وأفلت مجروحاً به كلّ مفلت

فلولا حقوق في العشيرة إنّها ** أدلّت بحقٍ واجب إن أدلّت

لنالهم منّا كما كان نالهم ** مقانب خيل أهلكت حين حلّت

فأجابه سويد بن الصامت:
ألا أبلغا عنّي صخيراً رسالةً ** فقد ذقت حرب الأوس فيها ابن الاسلت

قتلنا سراياكم بقتلى سراتنا ** وليس الذي ينجو إليكم بمفلت

ومنها:

.يوم البقيع:

ثم التقت الأوس والخزرج ببقيع الغرقد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكان الظفر يومئذ للأوس؛ فقال عبيد بن ناقد الأوسي:
لّما رأيت بني عوفٍ وجمعهم ** جاءوا وجمع بني النجّار قد حفلوا

دعوت قومي وسهّلت الطريق لهم ** إلى المكان الذي أصحابه حللوا

جادت بأنفسها من مالك عصبٌ ** يوم اللقاء فما خافوا ولا فشلوا

وعاوروكم كؤوس الموت إذ برزوا ** شطر النهار وحتّى أدبر الأصل

حتى استقاموا وقد طال المراس بهم ** فكلّهم من دماء القوم قد نهلوا

تكشّف البيض عن قتلى أولى رحمٍ ** لولا المسالم والأرحام ما نقولا

تقول كلّ فتاةٍ غاب قيّمها: ** أكلّ من خلفنا من قومنا قتلوا

لقد قتلتم كريماً ذا محافظة ** قد كان حالفه القينات والحلل

جزلٌ نوافله حلوٌ شمائله ** ريّان واغله تشقى به الإبل

الواغل: الذي يدخل على القوم وهم يشربون.
فأجابه عبد الله بن رواحة الحارثي الخزرجي:
لّما رأيت بني عوفٍ وإخوتهم ** كعباً وجمع بني النجّار قد حفلوا

قدماّ أباحوا حماكم بالسيوف ولم ** يفعل بكم أحدٌ مثل الذي فعلوا

وكان رئيس الأوس يومئذ في حرب حاطب أبو قيس بن الأسلت الوائلي، فقام في حربهم وهجر الراحة، فشحب وتغير. وجاء يوماً إلى امرأته فأنكرته حتى عرفته بكلامه، فقالت له: لقد أنكرتك حتى تكلمت! فقال:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا: ** مهلاً فقد أبلغت أسماعي

واستنكرت لوناً له شاحباً ** والحرب غولٌ ذات أوجاع

من يذق الحرب يجد طعمها ** مرّاً وتتركه بجعجاع

قد حصّتّ البيضة رأسي فما ** أطعم نوماً غير نهجاع

أسعى على جلّ بني مالك ** كلّ امرئ في شأنه ساعي

أعددت للأعداء موضونةً ** فضفاضةً كالنّهي بالقاع

أحفزها عنّي بذي رونق ** مهنّدٍ كاللمع قطّاع

صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدّه ** ومنحنٍ أسمر قرّاع

وهي طويلة ثم إن أبا قيس بن الأسلت جمع الأوس وقال لهم: ما كنت رئيس قوم قط إلا هزموا، فرئسوا عليكم من أحببتم؛ فرأسوا عليهم حضير الكتائب بن السماك الأشهلي، وهو والد أسيد بن حضير لولده صحبةٌ، وهو بدريّ، فصار حضير يلي أمورهم في حروبهم. فالتقى الأوس والخزرج بمكان يقال له الغرس، فكان الظفر للأوس، ثم تراسلوا في الصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى فمن كان عليه الفضل أعطى الدية، فأفضلت الأوس على الخزرج ثلاثة نفر، فدفعت الخزرج ثلاثة غلمة منهم رهناً بالديات، فغدرت الأوس فقتلت الغلمان.

.يوم الفجار الأول للأنصار:

وليس بفجار كنانة وقيس. فلما قتلت الأوس الغلمان جمع الخزرج وحشدوا والتقوا بالحدائق؛ وعلى الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول، وعلى الأوس أبو قيس بن الأسلت، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد بعضهم يفنى بعضاً. وسمى ذلك اليوم يوم الفجار لغدرهم بالغمان، وهو الفجار الأول، فكان قيس بن الخطيم في حائط له فانصرف فوافق قومه قد برزوا للقتال فعجز عن أخذ سلاحه إلا السيف ثم خرج معهم، فعظم مقامه يومئذ وأبلى بلاء حسناً وجرح جراحة شديدة، فمكث حيناً يتداوى منها، وأمر أن يحتمي عن الماء، فلذلك يقول عبد الله بن رواحة:
رميناك أيّام الفجار فلم تزل ** حميّاً فمن يشرب فلست بشارب

.يوم معبس ومضرس:

ثم التقوا عند معبس ومضرس، وهما جداران، فكانت الخزرج وراء مضرس، وكانت الأوس وراء معبس، فأقاموا أياماً يقتتلون قتالاً شديداً، ثم انهزمت الأوس حتى دخلت البيوت والآطام، وكانت هزيمة قبيحة لم ينهزموا مثلها. ثم إن بني عمرو بن عوف وبني أوس مناة من الأوس وادعوا الخزرج فامتنع من الموادعة بنو عبد الأشهل وبنو ظفر وغيرهم من الأوس وقالوا: لا نصالح حتى ندرك ثأرنا من الخزرج. فألحت الخزرج عليهم بالأذى والغارة حين وادعهم بنو عمرو بن عوف وأوس مناة، فعزمت الأوس إلا من ذكرنا على الانتقال من المدينة، فأغارت بنو سلمة على مال لبني عبد الأشهل يقال له الرعل، فقاتلوهم عليه، فجرح سعد بن معاذ الأشهلي جراحة شديدة، واحتمله بنو سلمة إلى عمرو بن الجموح الخزرجي، فأجاره وأجار الرعل من الحريق وقطع الأشجار، فلما كان يوم بعاث جازاه سعد على نذكره إن شاء الله.
ثم سارت الأوس إلى مكة لتحالف قريشاً على الخزرج وأظهروا أنهم يريدون العمرة. وكانت عادتهم أنه إذا أراد أحدهم العمرة أو الحج لم يعرض إليه خصمه ويعلق المعتمر على بيته كرانيف النخل. ففعلوا ذلك وساروا إلى مكة فقدموها وحالفوا قريشاً وأبو جهل غائبٌ. فلما قدم أنكر ذلك وقال لقريش: أما سمعتم قول الأول: ويل للأهل من النازل! إنهم لأهل عدد وجلد ولقل ما نزل قوم على قوم إلا أخرجوهم من بلدهم وغلبوهم عليه. قالوا: فما المخرج من حلفهم؟ قال: أنا أكفيكموهم، ثم خرج حتى جاء الأوس فقال: إنكم حالفتم قومي وأنا غائب فجئت لأحالفكم وأذكر لكم من أمرنا ما تكونون بعده علظ على رأس أمركم. إنا قوم تخرج إماؤنا إلى أسواقنا ولا يزال الرجل منا يدرك الأمة فيضرب عجيزتها، فإن طابت أنفسكم أن تفعل نساؤكم مثل ما تفعل نساؤنا خالفناكم، وإن كرهتم ذلك فردوا إلينا حلفنا. فقالوا: لا نقر بهذا. وكانت الأنصار بأسرها فيهم غيرة شديدة، فردوا إليهم حلفهم وساروا إلى بلادهم؛ فقال حسان بن ثابت يفتخر بما أصاب قومه من الأوس:
ألا أبلغ أبا قيس رسولا ** إذا ألقى لها سمعاً تبين

فلست لحاصنٍ إن لم تزركم ** خلال الدار مسبلةٌ طحون

يدين لها العزيز إذا رآها ** ويهرب من مخافتها القطين

تشيب الناهد العذراء منها ** ويسقط من مخافتها الجنين

يطوف بكم من النجّار أسدٌ ** كأسد الغيل مسكنها العرين

يظلّ الليث فيها مستكيناً ** تله في كلّ ملتفت أنين

كأنّ بهاءها للناظريها ** من الأثلات والبيض الفتين

كأنّهم من الماذي عليهم ** جمالٌ حين يجتلدون جون

فقد لاقاك قبل بعاث قتلٌ ** وبعد بعاث ذلٌّ مستكين

وهي طويلة أيضاً.

.يوم الفجار الثاني للأنصار:

كانت الأوس قد طلبت من قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يؤذنونهم بالحرب، فقالت اليهود: إنا لا نريد ذلك، فأخذت الخزرج رهنهم وعلى الوفاء، وهم أربعون غلاماً من فريظة والنضير، ثم إن يزيد بن فسحم شرب يوماً فسكر فتغنى بشعر يذكر فيه ذلك:
هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم ** وإذ أصلحوا مالاً لجذمان ضائعا

إذا ما امرؤٌ منهم أساء عمارة ** بعثنا عليهم من بني العير جادعا

فأمّا الصريخ منهم فتحمّلوا ** وأمّا اليهود فاتخذنا بضائعا

أخذنا من الأولى اليهود عصابةً ** لغدرهم كانوا لدينا ودائعا

فذلّوا لرهنٍ عندنا في حبالنا ** مصانعة يخشون منّا القوارعا

وذاك بأنّا حين نلقى عدوّنا ** نصول بضربٍ يترك العز خاشعا

فبلغ قوله قريظة والنضير فغضبوا. وقال كعب بن أسد: نحن كما قال: إن لم نغر فخالف الأوس على الخزرج. فلما سمعت الخزرج بذلك قتلوا كل من عندهم من الرهن من أولاد قريظة والنضير، فأطلقوا نفراً، منهم: سليم ابن أسد القرظي جد محمد بن كعب بن سليم. واجتمعت الأوس وقريظة والنضير على حرب الخزرج فاقتتلوا قتالاً شديداً، وسمي ذلك الفجار الثاني لقتل الغلمان من اليهود.
وقد قيل في قتل الغلمان غير هذا، وهو: إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي قال لقومه بني بياضة: إن أباكم أنزلكم منزلة سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير أو أقتل رهنهم! وكانت منازل قريظة والنضير خير البقاع، فأرسل إلى قريظة والنضير: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم، وإما أن نقتل الرهن. فهموا بأن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان، ما هي إلا ليلةٌ يصيب فيها أحدكم امرأة حتى يولد له مثل أحدهم. فأرسلوا إليهم، إنا لا ننتقل عن ديارنا فانظروا في رهننا فعوا لنا. فعدا عمرو ابن النعمان على رهنهم فقتلهم، وخالفه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: هذا بغي وإثم، ونهاه عن قتلهم وقتال قومه من الأوس وقال له: كأني بك وقد حملت قتيلاً في عباءة يحملك أربعة رجال. فلم يقتل هو ومن أطاعه أحداً من الغلمان وأطلقوهم؛ ومنهم: سليم بن أسد جد محمد بن كعب. وحالفت حينئذ قريظة والنضير الأوس على الخزرج، وجرى بينهم قتال سمي ذلك اليوم يوم الفجار الثاني. وهذا القول أشبه بأن يسمى اليوم فجاراً، وأما على القول الأول فإنما قتلوا الرهن جزاء للغدر من اليهود فليس بفجار من الخزرج إلا أن يسمى فجاراً لغدر اليهود.