فصل: ذكر مقتل كليب والأيام بين بكر وتغلب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مقتل حجر أبي امرئ القيس والحروب الحادثة بمقتله إلى أن مات امرؤ القيس:

نذكر أولاً سبب ملكهم العرب بنجد ونسوق الحادث إلى قتله وما يتصل به فنقول: كان سفهاء بكر قد غلبوا على عقلائها وغلبوهم على الأمر وأكل القوي الضعيف، فنظر العقلاء في أمرهم فرأوا أن يملكوا عليهم ملكاً يأخذ للضعيف من القوي. فنهاهم العرب وعلموا أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم لأنه يطيعه قوم ويخالفه آخرون، فساروا إلى بعض تبايعة اليمن، وكانوا للعرب بمنزلة الخلفاء للمسلمين، وطبوا منه أن يملك عليهم ملكاً، فملك عليهم حجر بن عمرو آكل المرار، فقدم عليهم ونزل ببطن عاقل وأغار ببكر فانتزع عامة ما كان بأيدي اللخميين من أرض بكر وبقي كذلك إلى أن مات فدفن ببطن عاقل.
فلما مات صار عمرو بن حجر آكل المرار، وهو المقصور، ملكاً بعد أبيه، وإنما قيل له المقصور لأنه قصر على ملك أبيه، وكان أخوه معاوية، وهو الجون، على اليمامة، فلما مات عمرو ملك بعده ابنه الحارث، وكان شديد الملك بعيد الصوت، فلما ملك قباذ بن فيروز الفرس خرج في أيامه مزدك فدعا الناس إلى الزندقة، كما ذكرناه، فأجابه قباذ إلى ذلك، وكان المنذر بن ماء السماء عاملاً للأكاسرة على الحيرة ونواحيها، فدعاه قباذ إلى الدخول معه، فامتنع، فدعا الحارث بن عمرو إلى ذلك فأجابه، فاستعمله على الحيرة وطرد المنذر عن مملكته.
وقيل في تمليكه غير ذلك، وقد ذكرناه أيام قباذ.
فبقوا كذلك إلى أن ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بعد أبيه فقتل مزدك وأصحابه وأعاد المنذر بن ماء السماء إلى ولاية الحيرة وطلب الحارث بن عمرو، وكان بالأنباء، وبها منزله، فهرب بأولاده وماله وهجانته، وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء فلحق بأرض كلب فنجا وانتهبوا ماله وهجانته، وأخذت تغلب ثمانية وأربعين نفساً من بني آكل المرار، فيهم عمرو ومالك ابنا الحارث، فقدموا بهم على المنذر، فقتلهم في ديار بني مرينا، وفيهم يقول عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنّهاب وبالسبايا ** وأبنا بالملوك مصفّدينا

وفيهم يقول امرؤ القيس:
ملوكٌ من بني حجر بن عمروٍ ** يساقون العشيّة يقتلونا

فلو في يوم معركة أصيبوا ** ولكن في ديار بني مرينا

ولم تغسل جماجمهم بغسلٍ ** ولكن في الدماء مرمّلينا

تظلّ الطّير عاكفة عليهم ** وتنتزع الحواجب والعيونا

وأقام الحارث بديار كلب، فتزعم كلب أنهم قتلوه، وعلماء كندة تزعم أنه خرج يتصيد فتبع تيساً من الظباء فأعجزه فأقسم أن لا يأكل شيئاً إلا من كبده، فطلبته الخيل، فأتى به بعد ثلاثة، وقد كاد يهلك جوعاً، فشوي له بطنه فأكل فلذةً من كبده حارة فمات.
ولما كان الحارث بالحيرة أتاه أشراف عدة قبائل من نزار فقالوا: إنا في طاعتك وقد وقع بيننا من الشر بالقتل ما تعلم وتخاف الفناء فوجه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفون بعضنا عن بعض. ففرق أولاده في قبائل العرب، فملك ابنه حجراً على بني أسد بن خزيمة وغطفان، ومد لك ابنه شرحبيل، وهو الذي قتل يوم الكلاب، على بكر بن وائل بأسرها وعلى غيرها، وملك ابنه معدي كرب، وهو غلفاء، وإنما قيل له غلفاء لأنه كان يغلف رأسه بالطيب، على قييس عيلان وطوائف غيرهم، وملك ابنه سلمة على تغلب والنمر بن قاسط وبني سعد بن زيد مناة من تميم.
فبقي حجر في بني أسد وله عليهم جائزة وإتاوة كل سنة لما يحتاج إليه، فبقي كذلك دهراً، ثم بعثإليهم من يجبي ذلك منهم، وكانوا بتهامة، وطردوا رسله وضربوهم، فبلغ ذلك حجراً، فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة، فأتاهم فأخذ سرواتهم وخيارهم وجعل يقتلهم بالعصا وأباح الأموال وسيره إلى تهامة وحبس منهم جماعة من أشرافهم، منهم عبيد بن الأبرص الشاعر، فقال شعراً يستعطفه لهم، فرق لهم وأرسل من يردهم، فلما صاروا على يوم منه تكهن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة ابن عامر الأسدي، فقال لهم: من الملك الصلهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، هذا دمه يتثعب، وهو غداً أول من يستلب؟ قالوا: ومن هو؟ قال: لولا تجيش نفسٍ خاشيه، لأخبرتكم أنه حجر ضاحيه، فركبوا كل صعب وذلول حتى بلغوا إلى عسكر حجر فهجموا عليه في قبته فقتلوه، طعنه علياء بن الحارث الكاهلي فقتله، وكان حجر قتل أباه، فلما قتل قالت بنو أسد: يا معشر كنانة وقيس أنتم إخواننا وبنو عمنا والرجل بعيد النسب منا ومنكم وقد رأيتم سيرته وما كان يصنع بكم هو وقومه فانتهبوهم. فشدوا على هجانته فانتهبوها ولفوه في ريطة بيضاء وألقوه على الطريق، فلما رأته قيس وكنانة انتهبوا أسلابه وأجار عمرو بن مسعود عياله.
وقيل: إن حجراً لما رأى اجتماع بني أسد عليه خافهم فاستجار عويمر ابن شجنة أحد بني عطارد بن كعب بن زيد مناة بن تميم لبنته هند بنت حجر وعياله، وقال لبني أسد: إن كان هذا شأنكم فإني مرتحلٍ عنكم ومخليكم وشأنكم. فوادعوه على ذلك وسار عنهم وأقام في قومه مدةً ثم جمع لهم جمعاً عظيماً وأقبل إليهم مدلاً بمن معه، فتآمرت بنو أسد وقالوا: والله لئن قهركم ليحكمن عليكم حكم الصبي فما خير العيش حينئذ فموتوا كراماً. فاجتمعوا وساروا إلى حجر فلقوه فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان صاحب أمرهم علباء ابن الحارث، فحمل على حجر فطعنه فقتله، وانهزمت كندة ومن معهم، وأسر بنو أسد من أهل بيت حجر وغنموا حتى ملأوا أيديهم من الغنائم، وأخذوا جواريه ونساءه وما معهم فاقتسموه بينهم.
وقيل: إن حجراً أخذ أسيراً في المعركة وجعل في قبة، فوثب عليه ابن أخت علباء فضربه بحديدة كانت معه لأن حجراً كان قتل أباه، فلما جرحه لم يقض عليه، فأوصى حجر ودفع كتابه إلى رجل وقال له: انطلق إلى ابني نافع، وكان أكبر أولاده، فإن بكى وجزع فاتركه واستقرهم واحداً واحداً حتى تأتي امرأ القيس، وكان أصغرهم، فأيهم لم يجزع فادفع إليه خيلي وسلاحي ووصيتي. وقد كان بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره.
فانطلق الرجل بوصيته إلى ابنه نافع فوضع التراب على رأسه ثم أتاهم كلهم، ففعلوا مثله حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلعب معه بالنرد، فقال: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد دستك، ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره، فقال له: الخمر والنساء علي حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأطلق مائة.
وكان حجر قد طرد امرأ القيس لقوله الشعر، وكان يأنف منه، وكانت أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب بن وائل، وكان يسير في أحياء العرب يشرب الخمر على الغدران ويتصيد، فأتاه خبر قتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن، فلما سمع الخبر قال:
تطاول الليل علينا دمّون

دمّون إنّا معشرٌ يمانون

وإنّنا لقومنا محبّون

ثم قال: ضيعني صغيراً وحمّلني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ. فذهبت مثلاً. ثم ارتحل حتى نزل ببكر وتغلب فسألهم النصر على بني أسد، فأجابوه. فبعث العيون إلى بني أسد، فنذروا به، فلجأوا إلى بني كنانة، وعيون امرئ القيس معهم، فقال لهم علباء بن الحارث: اعلموا أن عيون امرئ القيس قد عادوا إليه بخبركم وأنكم عند بني كنانة، فارحلوا بليل ولا تعلموا بني كنانة. فارتحلوا. وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب وغيرهم حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يظنهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهمام! فقيل له: أبيت اللعن! لسنا لك بثأر، نحن بنو كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد، ففاتوه ليلتهم، فقال في ذلك:
ألا يا لهف هندٍ إثر قوم ** هم كانوا الشفاء فلم يصابوا

وقاهم جدّهم ببني أبيهم ** وبالأشقين ما كان العقاب

وأفلتهّنّ علباءٌ جريضاً ** ولو أدركته صفر الوطاب

يعني ببني أبيهم كنانة، فإن أسداً وكنانة ابني خزيمة هما أخوان. وقوله: ولو أدركته صفر الوطاب، قيل: كانوا قتلوه واستاقوا إبله فصفرت وطابه من اللبن، أي خلت، وقيل: كانوا قتلوه فخلا جلده، وهو وطابه، من دمه بقتله.
فسار امرؤ القيس في آثار بني أسد فأدركهم ظهراً وقد تقطعت خيله وهلكوا عطشاً وبنو أسد نازلون على الماء، فقاتلهم حتى كثرت القتلى بينهم وهربت بنو أسد. فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم وقالوا: قد أصبت ثأرك. فقال: لا والله. فقالوا: بلى ولكنك رجل مشؤوم، وكرهوا قتلهم بني كنانة فانصرفوا عنه، ومضى إلى أزد شنوءة يستنصرهم، فأبوا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيراننا. فسار عنهم ونزل بقيل يدعى مرثد الخير بن ذي جدن الحميري، وكان بينهما قرابة، فاستنصره على بني أسد، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس، وملك بعده رجل من حمير يقال له قرمل، فزود امرأ القيس ثم سير معه ذلك الجيش وتبعه شذاذ من العرب واستأجر غيرهم من قبائل اليمن، فسار بهم إلى بني أسد وظفر بهم.
ثم إن المنذر طلب امرأ القيس ولج في طلبه ووجه الجيوش إليه، فلم يكن لامرئ القيس بهم طاقة وتفرق عنهم من كان معه من حمير وغيرهم، فنجا في جماعة من أهله ونزل بالحارث بن شهاب اليبروعي، وهو أبو عتيبة ابن الحارث، فأرسل إليه المنذر يتوعده بالقتال إن لم يسلمهم إليه، فسلمهم، ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحارث وابنته هند ابنة امرئ القيس وأدراعه وسلاحه وماله، فخرج ونزل على سعد بن الضباب الإيادي سيد قومه، فأجاره، ومدحه امرؤ القيس ثم تحول عنه ونزل على المعلى بن تيم الطائي فأقام عنده واتخذ إبلاً هناك، فعدا قوم من جديلة يقال لهم بنو زيد عليها فأخذوها، فأعطاه بنو نبهان معزىً يحلبها فقال:
إذا ما لم يكن إبلٌ فمعزىً ** كأنّ قرون جلّتها العصيّ

الأبيات.
ثم رحل عنهم ونزل بعامر بن جوين، فأراد أن يغلب امرأ القيس على ماله وأهله، فعلم امرؤ القيس بذلك فانتقل إلى رجل من بني ثعلٍ يقال له حارثة بن مر فاستجاره، فأجاره. فوقعت بين عامر بن جوين والثعلي حرب، وكانت أمور كبيرة، فلما رأى امرؤ القيس أن الحرب قد وقعت بين طيئ بسببه خرج من عندهم فقصد السموأل بن عادياء اليهودي، فأكرمه وأنزله، فأقام عنده امرؤ القيس ما شاء الله ثم طلب منه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ليوصله إلى قيصر، ففعل ذلك، وسار إلى الحارث وأودع أهله وأدراعه عند السموأل، فلما وصل إلى قيصر أكرمه.
فبلغ ذلك بني أسد فأرسلوا رجلاً منهم يقال له الطماح، كان امرؤ القيس قتل أخاً له، فوصل الأسدي، وقد سير قيصر مع امرئ القيس جيشاً كثيفاً فيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما سار امرؤ القيس، قال الطماح لقيصر: إن امرأو القيس غوي عاهر، وقد ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها وقال فيها أشعاراً أشهرها بها في العرب، فبعث إليه قيصر بحلة وشي منسوجة بالذهب، مسمومة، وكتب إليه: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمةً لك فالبسها واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلبسها امرؤ القيس وسر بذلك، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمي ذا القروح؛ فقال امرؤ القيس في ذلك:
لقد طمح الطمّاح من نحو أرضه ** ليلبسني ممّا يلبّس ابؤسا

فلو أنّها نفس تموت سويّةً ** ولكنّها نفس تساقط أنفسا

فلما وصل إلى موضع من بلاد الروم يقال له أنقرة احتضر بها، فقال: رب خطبة مسحنفره، وطعنة مثعنجره، وجفنة متحيره، حلت بأرض أنقره.
ربّ خطبة مسحنفره، ** وطعنةٍ مثعنجره

وجفنةٍ متحيّره ** حلّت بأرض أنقره

ورأى قبر أمراةً من بنات ملوك الروم وقد دفنت بجنب عسيب، وهو جبل، فقال:
أجارتنا إنّ الخطوب تنوب ** وإنّي مقيمٌ ما أقام عسيب

أجارتنا إنّا غريبان ها هنا ** وكلّ غريبٍ للغريب نسيب

ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك.
ولما مات امرؤ القيس سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموأل بن عادياء وطالبه بأدراع امرئ القيس، وكانت مائة درع، وبما له عنده، فلم يعطه، فأخذ الحارث ابناً للسموأل، فقال: إما أن تسلم الأدراع وإما قتلت ابنك. فأبى السموأل أن يسلم إليه شيئاً، فقتل ابنه، فقال السموأل في ذلك:
وفيت بأدرع الكنديّ إنّي ** إذا ما ذمّ أقوامٌ وفيت

وأوصى عاديا يوماً بأن لا ** تهدّم يا سموأل ما بنيت

بنى لي عاديا حصناً حصيناً ** وماءً كلّما شئت استقيت

وقد ذكر الأعشى هذه الحادثة، فقال:
كن كالسموأل إذا طاف الهمام به ** في جحفلٍ كسواد اللّيل جرّار

إذ سامه خطّتي خسفٍ فقال له ** قل ما تشاء فإنّي سامعٌ حار

فقال: غدرٌ وثكلٌ أنت بينهما ** فاختر فما فيهما حظّ لمختار

فشك غير طويلٍ ثم قال له: اقتل أسيرك إني مانعٌ جاري وهي أكثر من هذا.

.يوم خزاز:

وكان من حديثه أن ملكاً من ملوك اليمن كان في يديه أسرى من مضر وربيعة وقضاعة، فوفد عليه وفدٌ من وجوه بني معدّ، منهم: سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعوف ابن عمرو بن جشم بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر اضحيان، وجشم بن ذهل بن هلال بن ربيعة بن زيد ابن عامر الضحيان، فلقيهم رجل من بهراء يقال له عبيد بن قراد، وكان في الأسرى، وكان شاعراً، فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون فيه، فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، فقال عبيد بن قراد البهراوي:
نفسي الفداء لعوف الفعال ** وعوف ولاّبن هلالٍ جشم

تداركني بعدما قد هوي ** ت مستمسكاً بعراقي الوذم

ولولا سدوسٌ وقد شمّرت ** بي الحرب زلّت بنعلي القدم

وناديت بهراء كي يسمعوا ** وليس بآذانهم من صمم

ومن قبلا عصمت قاسطٌ ** معدّاً إذا ما عزيزٌ أزم

فاحتبس الملك عنده بعض الوفد رهينةً وقال للباقين: ايتوني برؤساء قومكم لآخذ عليهم المواثيق بالطاعة لي وإلا قتلت أصحابكم. فرجعوا إلى قومهم فأخروهم الخبر، فبعث كليب وائلإلى ربيعة فجمعهم، واجتمعت عليه معد، وهو أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد، على ما نذكره في مقتل كليب. فلما اجتمعوا عليه سار بهم وجعل على مقدمته السفاح التغلبي، وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر ابن حبيب بن تغلب، وأمرهم أن يوقدوا على خزاز ناراً ليهتدوا بها، وخزاز جبل بطخفة ما بين البصرة إلى مكة، وهو قريب من سالع، وهو جبل أيضاً؛ وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. فبلغ مذحجاً اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبلوا بجموعهم واستنفروا من يليهم من قبائل اليمن وساروا إليهم، فلما سمع أهل تهامة بمسير مذحج انضموا إلى ربيعة، ووصلت مذحج إلى خزام ليلاً، فرفع السفاح نارين. فلما رأى كليب النارين اقبل إليهم بالجموع فصبحهم، فالتقوا بخراز فاقتتلوا قتالاً شديداً أكثروا فيه القتل، فانهزمت مذحج وانفضت جموعها، فقال السفاح في ذلك:
وليلة بتّ أقود في خزاز ** هديت كتائباً متحيّرات

ضللن من السّهاد وكنّ لولا ** سهاد القوم أحسب هاديات

وقال الفرزدق يخاطب جريراً ويهجوه:
لولا فوارس تغلب ابنة وائل ** دخل العدوّ عليك كلّ مكانٍ

ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا ** نارين أشرفتا على النيران

وقيل: إنه لم يعلم أحد من كان الرئيس يوم خزاز لأن عمرو بن كلثوم، وهو ابن ابنة كليب، يقول:
ونحن غداة أوقد في خزاز ** رفدنا فوق رفد الرافدينا

فلو كان جده الرئيس لذكره ولم يفتخر بأنه رفد، ثم جعل من شهد خزازاً متساندين فقال:
فكنّا الأيمنين إذا التقينا ** وكان الأيسرين بنو أبينا

فصالوا صولةً فيمن يليهم ** وصلنا صولةً فيمن يلينا

فقالوا له: استأثرت على إخوتك، يعني مضر، ولما ذكر جده في القصيدة قال:
ومنّا قبله الساعي كليبٌ ** فأيّ المجد إلاّ وقد ولينا

فلم يدع له الرياسة يوم خزاز، وهي أشرف ما كان يفتخر له به.
حبيب بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وآخره باء أخرى موحدة.

.ذكر مقتل كليب والأيام بين بكر وتغلب:

وكان من حديث الحرب التي وقعت بين بكر وتغلب ابني وائل بن هنب ابن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بسبب قتل كليب، واسمه وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وإنما لقب كليباً لأنه كان إذا سار أخذ معه جرو كلب، فإذا مر بروضة أو موضع يعجبه ضربه ثم ألقاه في ذلك المكان وهو يصيح ويعوي فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنبه ولم يقربه، وكان يقال له كليب وائل، ثم اختصروا فقالوا كليب، فغلب عليه. وكان لواء ربيعة بن نزال للأكبر فالأكبر من ولده، فكان اللواء في عنزة بن أسد بن ربيعة، وكانت سنتهم أنهم يصفرون لحاهم ويقصون شواربهم، فلا يفعل ذلك من ربيعة إلا من يخالفهم ويريد حربهم، ثم تحول اللواء في عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن اسد بن ربيعة بن نزال، وكانت سنتهم إذا شتموا لطموا من شتمهم، وإذا لطموا قتلوا من لطمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من لطمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء إلى بكر بن وائل فساءوا غيرهم في فرخ طائر، كانوا يوثقون الفرخ بقارعة الطريق، فإذا علم بمكانه لم يسلك أحد ذلك الطريق ويسلك من يريد الذهاب والمجيء عن يمينه ويساره، ثم تحول اللواء إلى تغلب، فوليه وائل بن ربيعة، وكانت سنته ما ذكرناه من جرو الكلب.
ولم تجتمع معد إلا على ثلاثة نفر، وهم: عامر بن الظرب بن عمرو ابن بكر بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وهو الناس بن مضر، بالنون، وهو أخو إليا بن مضر، وكان قائد معد حين تمذحجت مذحج وسارت إلى تهامة، وهي أول وقعة كانت بين تهامة واليمن؛ والثاني ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر ابن حبيب بن كلب، وكان قائد معد يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن؛ والثالث وائل بن ربيعة، وكان قائد معد يوم خزاز ففض جموع اليمن وهزمهم وجعلت له معد قسم الملك وتاجه وطاعته وبقي زماناً من الدهر، ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، وكان يقول: وحش أرض كذا في جواري، فلا يصاد، ولا يورد أحد مع إبله ولا يوقد ناراً مع ناره، ولا يمر أحد بين بيوته ولا يجتبي في مجلسه.
وكانت بنو جشم وبنو شيبان أخلاطاً في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة، وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن شيبان بن ثعلبة، وهي أخت جساس بن مرة، وحمى كليب أرضاً من العالية في أو الربيع، وكان لا يقربها إلا محارب، ثم إن رجلاً يقال له سعد بن شميسٍ بن طوق الجرمي نزل بالبسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة. وكان للجرمي ناقة اسمها سراب ترعى مع نوق جساس، وهي التي ضربت العرب بها المثل فقالوا: أشأم من سراب وأشأ من البسوس.
فخرج كليب يوماً يتعهد الإبل ومراعيها فأتاها وتردد فيها، وكانت إبله وإبل جساس مختلطة، فنظر كليب إلى سراب فأنكرها، فقال له جساس، وهو معه: هذه ناقة جارنا الجرمي. فقال: لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحمى. فقال جساس: لا ترعى إبلي مرعىً إلا وهذه معها، معها فقال كليب: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها. فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن سنان رمحي في لبتك! ثم تفرقا، وقال كليب لأمرأته: أترين أن في العرب رجلاً مانعاً مني جاره؟ قالت: لا أعلمه إلا جساساً، فحدثها الحديث. وكان بعدذ لك إذا أراد الخروج إلى الحمى منعته وناشتدته الله أن لا يقطع رحمه، وكانت تنهى أخاها جساساً أن يسرح إبله.
ثم إن كليباً خرج إلى الحمى وجعل يتصفح الإبل، فرأى ناقة الجرمي فرمى ضرعها فأنقذه، ولها عجيج حتى بركت بفناء صاحبها. فلما رأى ما بها صرخ بالذل، وسمعت البسوس صراخ جارها، فخرجت إليه. فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها ثم صاحت: واذلاه؟! وجساس يراها ويسمع، فخرج إليها فقال لها: اسكتي ولا تراعي، وسكن الجرمي، وقال لهما: إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً، وكان غلال فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً. وكان لكليب عين يسمع ما يقولون، فأعاد الكلام على كليب، فقال: لقد اقتصر من يمينه على غلال. ولم يزل جساس يطلب غرة كليب، فخرج كليب يوماً آمناً فلما بعد عن البيوت ركب جساس فرسه وأخذ رمحه وأدرك كليباً، فوقف كليب. فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك؟! فقال: إن كنت صادقاً فأقبل إلي من أمامي، ولم يلتفت إليه، فطعنه فأرداه عن فرسه، فقال: يا جساس أغثني بشربة من ماء، فلم يأته بشيء، وقضى كليب نحبه. فأمر جساس رجلاً كان معه اسمه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان فجعل عليه أحجاراً لئلا تأكله السباع. وفي ذلك يقول مهلهل بن ربيعة، أخو كليب:
قتيلٌ ما قتيل المرء عمروٍ ** وجسّاس بن مرّة ذي صريم

أصاب فؤاده بأصمّ لدنٍ ** فلم يعطف هناك على حميم

فإنّ غداً وبع غدٍ لرهنٌ ** لأمر ما يقام له عظيم

جسيماً ما بكيت به كليباً ** إذا ذكر الفعال من الجسيم

سأشرب كأسها صرفاً وأسقى ** بكأسٍ غير منطقة مليم

ولما قتل جساس كليباً انصرف على فرسه يركضه وقد بدت ركبتاه، فلما نظر أبوه مرة إلى ذلك قال: لقد أتاكم جساس بداهيةٍ، ما رأيته قط بادي الركبتين إلى اليوم! فلما وقف على أبيه قال: ما لك يا جساس؟ قال: طعنت طعنة يجتمع بنو وائل غداً لها رقصاً. قال: ومن طعنت؟ لأمك الثكل! قال: قتلت كليباً. قال: أفعلت؟ قال: نعم. قال: بئس والله ما جئت به قومك! فقال جساس:
تأهّب عنك أهبة ذي امتناع ** فإنّ الأمر جلّ عن التلاحي

فإنّي قد جنيت عليك حرباً ** تغصّ الشيخ بالماء القراح

فلما سمع أبوه قوله خاف خذلان قومه لما كان من لائمته إياه، فقال يجيبه:
فإن تك قد جنيت عليّ حرباً ** تغصّ الشيخ بالماء القراح

جمعت بها يديك على كليبٍ ** فلا وكلٌ ولا رثّ السلاح

سألبس ثوبها وأذود عني ** بها عار المذلة والفضاح

ثم إن مرة دعا قومه إلى نصرته، فأجابوه وجلوا الأسنة وشحذوا السيوف وقوموا الرماح وتيأوا للرحلة إلى جماعة قومهم.
وكان همام بن مرة أخو جساس، ومهلهل أخو كليب في ذلك الوقت يشربان، فبعث جساس إلى همام جارية لهم تخبره الخير، فانتهت إليهما وأشارت إلى همام، فقام إليها، فأخبرته، فقال له مهلهل: ما قالت لك الجارية؟ وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئاً، فذكر له ما قالت الجارية، وأحب أن يعلمه ذلك في مداعبة وهزل، فقال له مهلهل: است أخيك أضيق من ذلك! فأقبلا على شربهما، فقال له مهلهل: اشرب، فاليوم خمرٌ وغداً أمرٌز فشرب همام وهو حذر خائف، فلما سكر مهلهل عاد همام إلى أهله، فساروا من ساعتهم إلى جماعة قومهم، وظهر أمر كليب، فذهبوا إليه فدفنوه، فلما دفن شقت الجيوب وخمشت الوجوه وخرج الأبكار وذوات الخدور العواتق إليه وفمن للمأتم، فقال النساء لأخت كليب: أخرجي جليلة أخت جساس عنا فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا، وكانت امرأة كليب، كما ذكرنا، فقالت لها أخت كليب: اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت قاتلنا وشقيقة واترنا، فخرجت تجر عطافها، فلقيها أبوها مرة فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد؛ وفقد خليل، وقتل أخ عن قليل؛ وبين هذين غرس الأحقاد، وتفتت الأكباد. فقال لها: أويكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات؟ فقالت أمنية مخدوع ورب الكعبة! ألبدنٍ تدع لك تغلب دم ربّها! ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويلٌ غداً لآل مرة من الكرة بعد الكرة. فبلغ قولها جليلة، فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها! أسعد الله أختي ألا قالت: نفرة الحياء وخوف الأعداء! ثم أنشأت تقول:
يا ابنة الأقوام إن لمت فلا ** تعجلي باللوم حتّى تسألي

فإذا أنت تبيّنت الذي ** يوجب اللوم، فلومي واعذلي

إن تكن أخت امرئٍ ليمت على ** شفقٍ منها عليه فافعلي

جلّ عندي فعل جسّاسٍ فيا ** حسرتا عمّا انجلى أو ينجلي

فعل جسّاسٍ على وجدي به ** قاطعٌ ظهري ومدنٍ أجلي

لو بعينٍ فقئت عينٌ سوى ** أختها فانفقأت لم أحفل

تحمل العين قذى العين كما ** تحمل الأمّ أذى ما تفتلي

يا قتيلاً قوّض الدهر به ** سقف بيتّي جميعاً من عل

هدم البيت الذي استحدثته ** وسعى في هدم بيتي الأوّل

ورماني قتله من كثبٍ ** رمية المصمى به المستأصل

يا نسائي دونكنّ اليوم قد ** خصّني الدهر برزءٍ معضلٍ

خصّني قتل كليبٍ بلظىً ** من ورائي ولظىً مستقبل

ليس من يبكي ليوميه كمن ** إنّما يبكي ليومٍ مقبل

يشتفي المدرك بالثأر وفي ** دركي ثأري ثكل المثكل

ليته كان دماً فاحتلبوا ** درراً منه دمي من أكحلي

إنّني قاتلةٌ مقتولةٌ ** ولعلّ الله أن يرتاح لي

وأما مهلهل، واسمه عدي، وقيل: امرؤ القيس، وهو خال امرؤ القيس بن حجر الكندي، وإنما لقب مهلهلاً لأنه أول من هلهل الشعر وقصد القصائد، وأول من كذب في شعره، فإنه لما صحا لم يرعه إلا النساء يصرخن: ألا إن كليباً قتل، فقال، وهو أول شعر قيل في هذه الحادثة:
كنّا نغار على العواتق أن ترى ** بالأمس خارجةً عن الأوطان

فخرجن حين ثوى كليبٌ جسّراً ** مستيقناتٍ بعده بهوان

فترى الكواعب كالظّباء عواطلاً ** إذ حان مصرعه من الأكفان

يخمشن من أدم الوجوه حواسراً ** من بعده ويعدن بالأزمان

متسلّباتٍ نكدهنّ وقد ورى ** أجوافهنّ بحرقة ووراني

ويقلن من للمستضيف إذا دعا ** أم من لخضب عوالي المرّان

أم لاتّسارٍ بالجزور إذا غدا ** ريحٌ يقطع معقد الأشطان

أمّن لإسباق الديات وجمعها ** ولفادحات نوائب الحدثان

كان الذخيرة للزمان فقد أتى ** فقدانه وأخلّ ركن مكاني

يا لهف نفسي من زمانٍ فاجعٍ ** ألقى عليّ بكلكلٍ وجران

بمصيبةٍ لا تستقال جليلةٍ ** غلبت عزاء القوم والنّسوان

هدّت حصوناً كنّ قبل ملاوذاً ** لذوي الكهول معاً وللشّبان

أضحت وأضحى سورها من بعده ** متهدّم الأركان والبنيان

فابكين سيّد قومه واندبنه ** شدّت عليه قباطي الأكفان

وأبكين للأيتام لّما أقحطوا ** وابكين عند تخاذل الجيران

وابكين مصرع جيده متزمّلاً ** بدمائه فلذاك ما أبكاني

فلأتركنّ به قبائل تغلبٍ ** قتلى بكلّ قرارة ومكان

قتلى تعاورها النّسور أكفّهاً ** ينهشها وحواجل الغربان

ثم انطلق إلى المكان الذي قتل فيه كليب فرأى دمه، وأتى قبره فوقف عليه ثم قال:
إنّ تحت التراب حزماً وعزماً ** وخصيماً ألدّ ذا معلاق

حيّةً في الوجار أربد لا ين ** فع منه السليم نفث الراقي

ثم جز شعره وقصر ثوبه وهجر النساء وترك الغزل وحرم القمار والشراب وجمع إليه قومه وأرسل رجالاً منهم إلى بني شيبان، فأتوا مرة بن ذهل ابن شيبان وهو في نادي قومه فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناقة وقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا نعرض عليك خلالا أربعاً لكم فيها مخرج ولنا فيها مقنع، إما أن تحيي لنا كليباً أو تدفع إلينا قاتله جساساً فنقتله به، أو هماماً فإنه كفؤ له، أو تمكننا من نفسك، فإن فيك وفاء لدمه.
فقال لهم: أما إحيائي كليباً فلست قادراً عليه، وأما دفعي جساساً إليكم فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره، وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل فما أتعجل الموت، ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداها فهؤلاء أبنائي الباقون، فخذوا أيهم شئتم فاقتلوه بصاحبكم، وأما الأخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر.
فغضب القوم وقالوا: قد أسأت ببذل هؤلاء وتسومنا اللبن من دم كليب؟ ونشبت الحرب بينهم. ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها، واعتزلت قبائل بكر الحرب وكرهوا مساعدة بني شيبان على القتال وأعظموا قتل كليب، فتحولت لجيم ويشكر، وكف الحارث بن عباد عن نصرهم ومعه أهل بيته، وقال مهلهل عدة قصائد يرثي كليباً منها:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ** إذ أنت خلّيتها فيمن يخلّيها

كليب أيّ فتى عزٍّ ومكرمة ** تحت السقائف إذ يعلوك سافيها

نعى النّعاة كليباً لي فقلت لهم: ** مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها

الحزم والعزم كانا من صنيعته ** ما كل آلائه يا قوم أحصيها

القائد الخيل تردي في أعنّتها ** رهوداً إذا الخيل لجّت في تعاديها

من خيل تغلب ما تلقى أسنّتها ** إلاّ وقد خضبوها من أعاديها

يهزهزون من الخطّيّ مدمجةً ** صماً أنابيبها زرقاً عواليها

ليت السماء على من تحتها وقعت ** وانشقّت الأرض فانجابت بمن فيها

لا أصلح الله منّا من يصالحكم ** ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها

فالتقوا أول قتال كان بينهم في قولٍ يوم عنيزة، وهي عند فلجة، وكانا على السواء، فقال مهلهل:
كأنّا غدوةً وبني أبينا ** بجنب عنيزةٍ رحيا مدير

ولولا الريح أسمع أهل حجر ** صليل البيض تقرع بالذكور

فتفرقوا ثم بقوا زماناً، ثم إنهم التقوا بماء يقال له النهي، كانت بنو شيبان نازلة عليه، ويروى أنها أول وقعة كانت بينهم، وكان رئيس تغلب مهلهل، ورئيس شيبان الحارث بن مرة، وكانت الدائة لبني تغلب، وكانت الشوكة في بني شيبان، واستحر القتال فيهم إلا أنه لم يقتل ذلك اليوم أحد من بني مرة.
ثم التقوا بالذنائب، وهي أعظم وقعة كانت لهم، فظفرت بنو تغلب وقتلت بكراً مقتلة عظيمة، وقتل فيها شراحيل بن مرة بن همان بن ذهل ابن شيبان، وهو جد الحوفزان وجد معن بن زائدة، وقتل الحارث بن مرة بن ذهل بن شيبان، وقتل من بني ذهل بن ثعلبة عمرة بن سدوس ابن شيبان بن ذهل وغيرهم من رؤساء بكر.
ثم التقوا يوم واردات فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت تغلب أيضاً، وكثر القتل في بكر، فقتل همام بن مرة بن ذهل بن شيبان أخو جساس لأبيه وأمه، فمر مهلهل، فلما رآه قتيلاً قال: والله ما قتل بعد كليب أعز علي منك، وتالله لا تجتمع بكر بعدكما على خير أبداً. وقيل: إنما قتل يوم القصيبات، قبل يوم قضة، قتله ناشرة، وكان همام قد التقطه ورباه وسماه ناشرة، وكان عنده. فلما شب علم أنه تغلبي، فلما كان هذا اليوم جعل همام يقاتل فإذا عطش جاء إلى قربة له يشرب منها فتغفله ناشرة فقتله ولحق بقومه تغلب، وكاد جساس يؤخذ فسلم، فقال مهلهل:
لو أنّ خيلي أدركتك وجدتهم ** مثل الليوث بسترغبّ عرين

ويقول فيها:
ولأوردنّ الخيل بطن أراكة ** ولأقضينّ بفعل ذاك ديوني

ولأقتلنّ جحاجحاً من بكركم ** ولأبكينّ بها جفون عيون

حتّى تظلّ الحاملات مخافةً ** من وقعنا يقذفن كلّ جنين

وقيل في ترتيب الأيام غير ما ذكرنا، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وكان أبو نويرة التغلبي وغيره طلائع قومه، وكان جساس وغيره طلائع قومهم، والتقى بعض الليالي جساس وأبو نويرة، فقال له أبو نويرة: اختر إما الصراع أو الطعان أو المسايفة. فاختار جساس الصراع، فاصطرعا وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه، وطلبوهما فأصابوهما وهما يصطرعان، وقد كاد جساس يصرعه، ففرقوا بينهما.
وجعلت تغلب تطلب جساساً أشد الطلب، فقال له أبوه مرة: الحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبو فسيره سراً في خمسة نفر. وبلغ الخبر إلى مهلهل، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلاً من شجعان أصحابه فساروا مجدين، فأدركوا جساساً، فقاتلهم فقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق منهم غير رجلين، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً، فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه. فلما سمع مرة قتل ابنه جساس قال: إنما يحزنني أن كان لم يقتل منهم أحداً. فقيل له: إنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم وقتل معه خمسة عشر رجلاً ما شركه منا أحد في قتلهم وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس.
وقيل: إن جساساً آخر من قتل في حرب بكر وتغلب، وكان سبب قتله أن أخته جليلة كانت تحت كليب وائل. فلما قتل كليب عادت إلى أبيها وهي حامل ووقعت الحرب، وكان من الفريقين ما كان، ثم عادوا إلى الموادعة بعدما كادت الفئتان تتفانيان، فولدت أخت جساس غلاماً فسمته هجرساً، ورباه جساس، وكان لا يعرف أباً غيره، فزوجه ابنته، فوقع بين هجرس وبين رجل من بكر كلام، فقال له البكري: ما أنت بمنتهٍ حتى نلحقك بأبيك. فأمسك عنه ودخل إلى أمه كثيباً حزيناً فأخبرها الخبر. فلما نام إلى جنب امرأته رأت من همه وفكره ما أنكرته، فقصت على أبيها جساس قصته، فقال: ثائر ورب الكعبة! وبات على مثل الرضف حتى أصبح، فأحضر الهجرس فقال له: إنما أنت ولدي وأنت مني بالمكان الذي تعلم، وزوجتك ابنتي، وقد كانت الحرب في أبيك زماناً طويلاً، وقد اصطلحنا وتحاجزنا، وقد رأيت أن تدخل في ما دخل فيه الناس من الصلح وأن تنطلق معي حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا. فقال الهجرس: أنا فاعلٌ. فحمله جساس على فرس فركبه ولبس لأمته وقال: مثلي لا يأتي أهله بغير سلاحه، فخرجا حتى أتيا جماعةً من قومهما، فقص عليهم جساس القصة وأعلمهم أن الهجرس يدخل في الذي دخل فيه جماعتهم وقد حضر ليعقد ما عقدتم. فلما قربوا الدم وقاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه ثم قال: وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه، ثم طعن جساساً فقتله ولحق بقومه، وكان آخر قتيل في بكر. والأول أكثر.
ونرجع إلى سياقه الحديث.
فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً، فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف وأصلح ذات البين فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم، فلم يجب إلى ذلك. وكان الحارث ابن عباد قد اعتزل الحرب، فلم يشهدها، فلما قتل جساس وهمام ابنا مرة حمل ابنه بجيراً، وهو ابن عمرو بن عباد أخي الحارث بن عباد، فلما حمله على الناقة كتب معه إلى مهلهل: إنك قد أسرفت في القتل وأدركت ثأرك سوى ما قتلت من بكر، وقد أرسلت ابني إليك فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيراً لنا ولكم. فلما وقف على كتابه أخذ بجيراً فقتله وقال: بؤبشسع نعل كليب. فلما سمع أبوه بقتله ظن أنه قد قتله بأخيه ليصلح بين الحيين، فقال: نعم القتيل قتيلاً أصلح بين ابني وائل! فقيل: إنه قال: بؤبشسع نعل كليب، فغضب عند ذلك الحارث بن عباد وقال:
قرّبا مربط النعامة منّي ** لقحت حرب وائل عن حيال

قرّبا مربط النعامة منّي ** شاب رأسي وأنكرتني رجالي

لم أكن من جناتها علم الل ** ه وإنّي بحرّها اليوم صالي

فأتوه بفرسه النعامة، ولم يكن في زمانها مثلها، فركبها وولي أمر بكر وشهد حربهم، وكان أول يوم شهده يوم قضة، وهو يوم تحلاق اللمم، وإنما قيل له تحلاق اللمم لأن بكراً حلقوا رؤوسهم ليعرف بعضهم بعضاً إلا جحدر بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة فقال لهم: أنا قصير فلا تشينوني، وأنا اشتري لمتي منكم بأول فارس يطلع عليكم. فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله، وكان يرتجز ذلك اليوم ويقول:
ردّوا عليّ الخيل إن ألّمت ** إن لم أقاتلهم فجزّوا لّمتي

وقاتل يومئذ الحارث بن عباد قتالاً شديداً، فقتل في تغلب مقتلة عظيمة، وفيه يقول طرفة:
سائلوا عنّا الذي يعرفنا ** بقوانا يوم تحلاق اللمم

يوم تبدي البيض عن أسوقها ** وتلفّ الخيل أفواج النّعم

وفي هذا اليوم أسر الحارث بن عباد مهلهلاً، واسمه عدي، وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على عدي وأنا أخلي عنك. فقال له المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي؛ فجز ناصيته وتركه، وقال في ذلك:
لهف نفسي على عديٍّ ** ولم أعرف عديّاً إذ أمكنتني اليدان

وكانت الأيام التي اشتدت فيها الحرب بين الطائفتين خمسة أيام: يوم عنيزة تكافأوا فيه وتناصفوا؛ ثم اليوم الثاني يوم واردات، كان لتغلب على بكر؛ ثم اليوم الثالث الحنو، كان لبكر على تغلب؛ ثم اليوم الرابع يوم القصيبات، أصيب بكر حتى ظنوا أنهم لن يستقيلوا؛ ثم اليوم الخامس يوم قضة، وهو يوم التحالق، وشهده الحارث بن عباد؛ ثم كان بعد ذلك أيام دون هذه، منها: يوم النقية، ويوم الفصيل لبكر على تغلب، ثم لم يكن بينهما مزاحفة إنما كان مغاورات، ودامت الحرب بينهما أربعين سنة.
ثم إن مهلهلاً قال لقومه: قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم، وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي، ودموع لا ترفأ، وأجسادٌ لا تدفن، وسيوف مشهورة، ورماح مشرعة؟! وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواسوا في قبال النعل، فكان كما قال: ثم قال مهلهل: أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر إلى اليمن، وفارقهم وسار إلى اليمن ونزل في جنب، وهي حي من مذحج، فخطبوا إليه ابنته، فمنعهم، فاجبروه على تزويجها وساقوا إليه صداقها جلوداً من أدم، فقال في ذلك:
أعزز على تغلب بما لقيت ** أخت بني الأكرمين من جشّم

أنكحها فقدها الأراقم في ** جنبٍ وكان الحباء من أدم

لو بأبانين جاء يخطبها ** ضرّج ما أنف خاطبٍ بدم

الأراقم بطن من جشم بن تغلب، يعني حيث فقدت الأراقم، وهم عشيرتها، تزوجها رجل من جنب بأدم.
ثم إن مهلهلاً عاد إلى ديار قومه، فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة البكري أسيراً بنواحي هجر فأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر، وكان صديقاً لمهلهل، فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكراً وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له عمرو. فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بما كان يقوله من الشعر وينوح به على أخيه كليب، فسمع منه عمرو ذلك فقال: إنه لريان، والله لا يشرب عندي ماء حتى يرد زبيب، وهو فحل كان له لا يرد إلا خمساً في حمارة القيظ، فطلب بنو مالك زبيباً وهو حراصٌ على أن لا يهلك مهلهل، فلم يقدروا عليه حتى مات مهلهل عطشاً.
وقي: إن ابنة خال المهلهل، وهي ابنة المجلل التغلبي، كانت امرأة عمرو، وأرادت أن تأتي مهلهلاً وهو أسير، فقال يذكرها:
طفلةٌ ما ابنة المجلّل بيضا ** ء لعوبٌ لذيذةٌ في العناق

فاذهبي ما إليك غير بعيدٍ ** لا يؤاتي العناق من في الوثاق

ضربت نحرها إليّ وقالت: ** يا عديّ لقد وقتك الأواقي

وهي أبيات ذوات عدد، فنقل شعره إلى عمرو بن مالك، فحلف عمرو أن لا يسقيه الماء حتى يرد زبيب، فسأله الناس أن يورد زبيباً قبل وروده، ففعل وأورده وسقاه حتى يتحلل من يمينه، ثم إنه سقى مهلهلاً من ماء هناك هو أوخم المياه، فمات مهلهل.
عباد بضم العين، وفتح الباء الموحدة وتخفيفها.