فصل: ذكر من قتل من بني أمية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر هزيمة مروان بالزاب:

قد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور، وأنه قتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل، وأن مروان ابن محمد سار إليه من حران حتى بلغ الزاب وحفر خندقاً وكان في عشرين ومائة ألف، وسار أبو عون إلى الزاب، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى، والمنهال بن فتان، وإسحاق بن طلحة، كل واحد في ثلاثة آلاف.
فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين، وعبد الله الطائي في ألف وخمسائة، وعبد الحيمد بن ربعي الطائي في ألفين، ووداس بن نضلة في خمسائة إلى أبي عون، ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال: عبد الله بن علي: أنا. فسيره إلى أبي عون، فقدم عليه، فتحول أبو عون عن سرادقة وخلاه له وما فيه.
فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنممة اثنتين ومائة سأل عبد الله بن علي عن مخاضة فدل عليها بالزاب، فامر عيينه بن موسى، فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورجع إلى عبد الله بن علي.
وأصبح مروان فعقد الجسر وعبر عليه، فنهاه وزراؤه عن ذلك، فلم يقبل وسير ابنه عبد الله، فنزل أسفل من عسكر علد الله بن علي، فبعث عبد الله ابن علي المخارق في أربعة آلاف نحو عبد الله بن مروان، فسرح إليه ابن موران الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فالتقيا، فانهزم أصحاب المخارق وثبت هو فأسر هو وجماعة وسيرهم إلى مروان مع رؤوس القتلى، فقال مروان: أدخلوا علي رجلاً من الأسرى. فاتوه بالمخارق، وكان نحيفاً. فقال: أنت المخارق؟ قال: لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر. قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم. قال: فنظر هل تراه في هذه الرؤوس. فنظر إلى رأس منها فقال: هو هذا. فخلى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم.
وقيل: إن المخارق لما نظر إلى الرؤوس قال: ما أرى رأسه فيها ولا أراه إلا قد ذهب. فخلى سبيله.
ولما بلغت الهزيمة عبد الله بن علي أرسل إلى طريق المنهزمين من يمنعهم من دخول العسكر لئلا ينكر قومهم،وأشار عليه أبو عون أن يبادر مروان بالقتال قبل أن يظهر أمر المخارق فيفت ذلك في أعضاد الناس، فنادى فيهم بلبس السلاح والخروج إلى الحرب، فركبوا، واستخلف على عسكره محمد ابن صول وسار نحو مروان، وجعل على ميمنته أبا عون، وعلى ميسرته الوليد ابن معاوية، وكان عسكره عشرين ألفاً، وقيل: اثني عشر ألفاً وقيل غير ذلك.
فلما التقى العسكران قال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: عن زالت اليوم الشمس ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى المسيح، عليه السلام، وإن قاتلونا فأقبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأرسل مروان إلى عبد الله يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. فقال مروان لأهل الشام: قفوا لا نبدأهم بالقتال، وجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، وهو ختن مروان بن محمد على ابنته، فغضب وشتمه، وقاتل ابن معاوية أبا عون، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال لموسى ابن كعب: يا عبد الله مر الناس فلينزلوا. فنودي: الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون، ومشى عبد الله بن علي قدماً وهو يقول: يار رب حتى متى نقتل فيك؟ ونادى: يا أهل خراسان! يال لثارات إبراهيم! يا محمد! يا منصور! واشتد بينهم القتال. فقال مروان لقضاعة: انزلوا. فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا. فأرسل إلى السكاسك أن احملوا. فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا. فأرسل إلى السكون أن احملوا، فالوا: قل لغطفان فليحملوا. فقال لصاحب شرطته: انزل. فقال: والله ما كنت لأحعل نفسي غرضاً. قال: أما والله لأسؤنك! فقال: وددت والله أنك قدرت على ذلك.
وكان مروان ذلك اليوم لا يدبر شيئاً إلا كان فيه الخلل، فأمر بالأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم. فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك، فقيل له: إن الناس قد مالوا على هذا المال ولا نأمنهم أن يذهبوا به. فأرسل إلى ابنه عبد الله: أن سر في أصحابك إلى قوم عسكرك فاقتل من أخذ من المال وامنعهم.
فكان ممن غرق يومئذ: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن المخلوع، فاستخرجوه في الغرقى، فقرأ عبد الله: {وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} وقيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام.
وقتل في هذه الوقعة يعيد بن هشام بن عبد الملك. وقيل: بل قتله عبد الله بالشام.
وأقام عبد الله بن علي غي عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد اب العاص يعير مروان:
لج الفرار بمروان فقلت له: ** عاد الظلوم ظليماً همه الهرب

أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ** عنك الهوينا فلا دين ولا حسب

فراشة الحلم فرعون العقاب وإن ** تطلب نداه فكلب دونه كلب

وكتب يومئذ عبد الله بن علي إلى السفاح بالفتح، وحوى عسكر مروان بما فيه فوجد سلاحاً كثيراً وأموالاً، ولم يجد فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد الله بن مروان.
فلما أتى الكتاب السفاح صلى ركعتين وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة دينار، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة؛ وكان فيمن قتل معه يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وهو أخو عبد الرحمن صاحب الأندلس، فلما تقدم إلى القتال رأى عبد الله ابن علي فتى عليه أبهة الشرف ياقتل مستقتلاً فناداه: يا فتى لك المان ولو كنت مروان بن محمد! فقال: إن لم أكنه فلست بدونه. قال: فلك الأمان ولو كنت من كنت. فأطرق ثم قال:
أذل الحياة وكره الممات ** وكلا أراه طعاماً وبيلا

فإن لم يكن غير إحداهما ** فسير إلى الموت سيراً جميلا

ثم قاتل حتى قتل؛ فإذا هو مسلمة بن عبد الملك.

.ذكر قتل إبراهيم بن محمد بن علي الإمام:

قد ذكرنا سبب حبسه. واختلف الناس في موته، فقيل: إن مروان حبسه بحران، وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، والعباس بن الوليد بن عبد الملكل، وأبا محمد السفياني، هلك منهم في وباء وقع بحران العابس بن الوليد، وإبارهيم بن محمد ابن علي الإمام، وعبد الله بن عمر.
فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب بجمعة خرج سعيد بن هشام وابن عمه ومن معه من المحبوسين فقتلوا صاحب السجن وخرجوا، فقتلهم أهل حران ومن فيها من الغوغاء، وكان فيمن قتله أهل حران شراحيل بن مسلمة ابن عبد الملك، وعبد الملك بن بشر التغلبي، وبطريق أرمينية الرابعة واسمه كوشان، وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس فلم يخرج فيمن خرج ومعه غيره لم يستحلوا الخروج من الحبس، فقدم مروان منهزماً من الزاب فجاء فخلى عنهم.
وقيل: إن مروان هدم على إبراهيم بيتاً فقتله.
وقد قيل: إن شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك كان محبوساً مع إبارهيم فكانا يتزاوران، فصار بينهما مودة، فأتى رسول من شراحيل إلى إبراهيم يوماً بلبن فقال: يقول لك أخوك إني شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه؛ فشرب منه فتكسر جسده من ساعته، وكان يوماً يزور في شراحيل فأبطأ عليه فأرسل إليه شراحيل: إنك قد أبطأت فما حبسك؟ فأعاد إبراهيم: إني لما شربت اللبن الذي أرسلت به قد أسهلني. فاتاه شراحيل فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما شربت اليوم لبناً ولا أرسلت به إليك! فإنا لله وإنا إليه راجعون! احتيل والله عليك. فبات أبراهيم ليلته وأصبح ميتاً؛ فقال إبراهيم ابن هرثمة يرثيه يرثيه:
قد كنت أحسبني جلداً فضعضعني ** قبر بحران فيه عصمة الدين

فيه الإمام وخير الناس كلهم ** بين الصفائح والأحجار والطين

فيه الإمام الذي عمت مصيبته ** وعيلت كل ذي مالٍ ومسكين

فلا عفا الله عن مروان مظلمةً ** لكن عفا الله عمن قال آمين

وكان إبراهيم خيرأ فاضلاً كريماً، قدم المدينة مرةً ففرق في أهلها مالاً جليلاً، وبعث إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بخمسمائة دينار، وبعث إلى جعفر بن محمد بألف دينار، فبعث إلى جماعة العلويين بمال كثير، فأتاه الحسين بن زيد بن علي وهو صغير فأجلسه في حجرة قال: من أنت؟ قال: أنا الحسين بن زيد بن علي. فبكى حتى بل رداءه وأمر وكيله بإحضار ما بقي من المال، فأحضر أربعمائة دينار، فسلمها إليه وقال: لو كان عندنا شيء آخر لسلمته إليك، وسير معه بعض مواليه إلى أمه رابطة بنت عبد الملك بن محمد بن الحنفية يعتذر إليها.
وكان مولده سنة اثنتين وثمانين، وأمه أم ولد بربرية اسمها سلمى.
وكان ينبغي أن يقدم ذكر قتله على هزيمة مروان، وإنما قدمنا ذلك لتتبع الحادثة بعضها بعضاً.

.ذكر قتل مروان بن محمد بن الحكم:

وفي هذه السنة قتل مروان بن محمد، وكان قتله ببوصير، من أعمال مصر، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان مروان لما هزمه عبد الله بن علي بالزاب أتى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي فقطعا الجسر! فناداهم أهل الشام: هذا أمير المؤمنين مروان! فقالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفر! وسبه أهل الموصل، وقالوا: ياجعدي! يا معطل الحمد لله الذي أزال سلطانكم وذهب بدولتكم! الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا! فلما سمع ذلك سار إلى بلد فعبر دجلة وأتى حران، وبها ابن أخيه أبان بن يزيد بن محمد بن مروان عامله عليها، فأقام بها نيفاً وعشرين يوماً.
وسار عبد الله بن علي حتى أتى الموصل فدخلها وعزل عنها هشاماً واستعمل عليها محمد بن صول، ثم سار في أثر مروان بن محمد، فلما دنا منه عبد الله حمل مروان أهله وعياله ومضى منهزماً وخلف بمدينة حران ابن أخيه أبان بن يويد وتحته أم عثمان ابنة مروان.
وقدم عبد الله بن علي حران، فلقيه أبان مسوداً مبايعاً له، فبايعه ودخل في طاعته، فآمنه ومن كان بحران والجزيرة.
ومضى مروان إلى حمص، فلقيه أهلها بالسمع والطاعة، فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم سار منها. فلما رأوا قلة ممن معه طمعوا فيه وقالوا: مرعوب منهزم؛ فاتبعوه بعدما رحل عنهم فلحقوه على أميال. فلما رأى غبرة الخيل كمن لهم، فلما جاوزوا الكمين صافهم مروان فيمن معه وناشدهم، فأبوا إلا قتاله، فقاتلهم وأتاهم الكمين من خلفهم، فانهزم أهل حمص وقتلوا حتى انتهوا إلى قريب المدينة.
وأتى مروان دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان، فخلفه بها وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشام. ومضى مروان حتى أتى فلسطيم فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره، وكان بيت المال في يد الحكم.
وكان السفاح قد كتب إلى عبد الله بن علي يأمره باتباع مروان، فسار حتى أتى الموصل، فتلقاه من بها مسودين وفتحوا له المدينة؛ ثم سار إلى حران، فتلقاه أبان بن يزيد مسوداً، كما تقدم، فآمنه وهدم عبد الله الدار التي حبس فيها إبراهيم. ثم سار من حران إلى منبج، وقد سودوا، فأقام بها، أياماً، ثم سار إلى بعلبك فأقام يومين، ثم سار فنزل مزة دمشق، وهي قرية من قرى الغوطة؛ وقدم عليه أخوه صالح بن علي مدداً فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف؛ ثم تقدم بعبد الله فنزل على الباب الشرقي، ونزل صالح على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب كيسان، ونزل بسام بن إبراهيم على باب الصغير، ونزل حميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، وفي دمشق الوليد بن معاوية، فحصروه ودخلوها عنوة يوم الأربعاء لخمس مضين من رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان أول من صعد سور المدينة من باب شرقي عبد الله الطائي، ومن ناحية باب الصغير بسام بن إبراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وقتل الوليد ابن معاوية فيمن قتل.
وأقام عبد الله بن علي في دمشق خمسة عشر يوماً، ثم سار يريد فلسطين، فلقيه أهل الأردن وقد سودوا، وأتى أبي فطرس وقد ذهب مروان، فأقام عبد الله بفلسطين، ونزل بالمدينة يحيى بن جعفر الهاشمي، فأتاه كتاب السفاح يأمره بإرسال صالح بن علي في طلب مروان. فسار صالح من نهر أي فطرس في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ومعه ابن فتان وعامر بن إسماعيل، فقدم صالح أبا عون وعامر بن إسماعيل الحارثي، فساروا حتى بلغوا العريش. فأحرق مروان ما كان حوله من علف وطعام.
وسار صالح فنزل النيل، ثم سار حتى أتى الصعيد، وبلغه أن خيلاً لمروان يحرقون الأعلاف فوجه إليهم فأخذوا وقدم بهم على صالح وهو بالفسطاط، وسار فنزل موضعاً يقال له ذات السلاسل، وقدم أبو عون عامر ابن إسماعيل الحارثي وشعبة بن كثير المازني في خيل أهل الموصل فلقوا خيلاً لمروان فهزمهم وأسروا منهم رجالاً فقتلوابعضاً واستحيوا بعضاً، فسألوهم عن مروان فأخبروهم بمكانه على أن يؤمنوهم، وساروا فوجدوه نازلاً في كنيسة في بوصير، فوافوه ليلاً، وكان أصحاب أبي عون قليلين، فقال لهم عامر بن إسماعيل: إن أصبحنا وأوا قلتنا أهلكونا ولم ينج منا أحد. وكسر جفن سيفه وفعل أصحابه مثله وحملوا على أصحاب مروان فانهزموا، وحمل رجل من أهل الكحوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه، فأخذه عامر فبعث به إلى أبي عون، وبعثه أبو عون إلى صالح.
فلما وصل إليه أمر أن يقص لسانه، فانقطع لسانه، فأخذه هر، فقال صالح: ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر! هذا لسان مروان قد أخذه هر؛ وقال شاعر:
قد فتح الله مصراً عنوةً لكم ** وأهلك الفاجر الجعدي إذ ظلما

فلاك مقوله هر يجرره ** وكان ربك من ذي الكفر منتقما

وسيره صالح إلى أبي العباس السفاح.
وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة، ورجع صالح إلى الشام وخلف أبا عون بمصر وسلم إليه السلاح والأموال والرقيق.
ولما وصل الرأس إلى السفاح كان بالكوفة، فلما رآه سجد ثم رفع رأسه فقال: الحمد الله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين! وتمثل:
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ** ولا دماؤهم للغيظ ترويني

ولما قتل مروان هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء، قاتلهم الحبشة فقتل عبيد الله ونجا عبد الله وعدة ممن معه، فبقي إلى خلافة المهدي، فاخذه نصر بن محمد بن الشعث، عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي.
ولما قتل مروان قصد عامر الكنيسة التي فيها حرم مروان، وكان قد وكل بهن خادماً وأمره أن يقتلهن بعده، فأخذه عامر وأخذ نساء مروان وبناته فسيرهن إلى صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين! حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمكفليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا.
قال: والله لا استبقي منكم واحداً! ألم يقتل أبوك ابن أخي إبراهيم الإمام؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين وصلبه في الكوفة؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟ أل يقتل ابن زياد الدعي مسلم بن عقيل؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي وأهل بيته؟ ألم يخرج إليه بحرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا فوقفهن موقف السبي؟ ألم يحمل رأس الحسين وقد قرع دماغه؟ فما الذي يحملني على الإبقاء عليكن؟! قالت: فليسعنا عفوكم! فقال: أما هذا فنعم، وإن أحببت زوجتك ابني الفضل! فقالت: وأي عز خير من هذا! بل تلحقنا بحران. فحملهن إليها، فلما دخلنها ورأين منازل مروان رفعن أصواتهن بالبكاء.
قيل: كان يوماً بكير بن ما هان مع أصحابه قبل أني قتل مروان يتحدث إذ مر به عامر بن إسماعيل وهو لا يعرفه فأتى دجلة واستقى من مائها ثم رجع، فدعاه بكير فقال: ما اسمك يا فتى؟ قال: عامر بن إسماعيل بن الحارث. قال: فكن من بني مسلية. قال: فأنا منهم. قال: أنت والله تقتل مروان! فكان هذا القول هو الذي قوى طوع عامر في قتل مروان.
ولما قتل مروان كان عمره اثنتين وستين سنة، وقيل: تسعاً وستين سنة؛ وكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوماً؛ وكان يكنى أبا عبد الملك؛ وكانت أمه أم ولد كردية، كانت لإبراهيم بن الأشتر، أخذها محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم فولدت مروان فلهذا قال عبد الله بن عياش المشرف للسفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن عبد المطلب.
وكان مروان يلقب بالحمار والجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك، وقيل: إن الجعد كان زنديقاً، وعظمه ميمون بن مهران فقال: لشاه قباذ أحب إلي مما تدين به. فقال له: قتلك الله، وهو قاتلك، وشهد عليه ميمون، وطلبه هشام فظفر به وسيره إلى خالد القسري فقتله، فكان الناس يذمون مروان بنسبته إليه.
وكان مروان أبيض أشهل شديد الشهلة، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها، ربعة؛ وكان شجاعاً حازماً إلا أن مدته انقضت فلم ينفعه حزمه ولا شجاعته.
عياش بالياء تحتها نقطتان، والشين المعجمة.

.ذكر من قتل من بني أمية:

دخل سديف على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه، فقال سديف:
لا يغرنك ما ترى من الرجال ** إن تحت الضلوع داء دوياً

فضع السيف وارفع السوط حتى ** لا ترى فوق ظهرها أمويا

فقال سليمان: قتلتني يا شيخ! ودخل السفاح، وأخذ سليمان فقتل.
ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلاً على الطعام، فأقبل عليه شبل فقال:
أصبح الملك ثابت الآساس ** بالبهاليل من بني العابس

طلبوا وتر هاشم فشفوها ** بعد ميلٍ من الزمان وياس

لا تقيلن عبد شمسٍ عثاراً ** واقطعن كل رقلةٍ وغراس

ذلها أظهر التودد منها ** وبها منكم كحر المواسي

ولقد غاظني وغاظ سوائي ** قربهم من تنمارقٍ وكراسي

أنزلوها بحيث أنزلها الل ** ه بدار الهوان والإتعاس

والقتل الذي بحران أضحى ** ثاوياً بين غربةٍ وتناس

فأمر بها عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعهم حتى ماتوا جيمعاً، وأمر عبد الله ابن علي بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونبش قبر عبد الملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح.
وتتبع بني امية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم، ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس، فقتلهم بنهر أبي فطرس، وكان فيمن قتل: محمد بن عبد الملك بن مروان، والغمر بن يزيد بن عبد الملك، وعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وسعيد بن عبد الملك، وقيل: غنه مات قبل ذلك، وأبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك، وقيل: إن إبراهيم بن يزيد المخلوع قتل معهم، واستصفى كل شيء لهم من مال وغي ذلك؛ فلما فرغ منهم قال:
بني أمية قد أفنيت جمعكم ** فكيف لي منكم بالأول الماضي

يطيب النفس أن النار تجمعكم ** عوضتم منم لظاها شر معتاض

منيتم، لا أقال الله عثرتكم، ** بليث غاب إلى الأعداء نهاض

إن كان غيظي منكم لفوتٍ فلقد ** منيت منكم بما ربي به راض

وقيل: إن سديفاً أنشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة، هو الذي قتلهم.
وقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة أيضاً جماعةً من بني أمية عليهم الثياب الموشية المرتفعة وأمر بهم فجروا بأرجلهم فألقوا على الطريق فأكلتهم الكلاب.
فلما رأى بنو أمية ذلك اشتد خوفهم وتشتت شملهم واختفى من قدر على الاختفاء وكان ممن اختفى منهم عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان بن عتبة بن أبي سفيان. قال: وكنت لا اتي مكاناً إلا عرفت فيه،فضاقت على الأرض، فقدمت على سليمان بن علي، وهو لا يعرفني، فقلت: لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فإما قتلتني فاسترحت، وإما رددتني سالماً فامنت. فقال: ومن أنت؟ فعرفته نفسي، فقال: مرحباً بك، ما حاجتك؟ فقتل: إن الحرم اللواتي أنت أولى الناس بهن وأقربهم إليهن قد خفن لخوفنا ومن خاف خيف عليه. قال: فبكى كثيراً ثم قال: يحقن الله دمك ويوفر مالك ويحفظ حرمك. ثم كتب إلى السفاح: يا أمير الؤمنين إنه قد وفد وافد من بني أمية علينا، وإنا قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف والرحم تبل ولا تقتل وترفع ولا توضع، فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لي فليفعل، وإن فعل فليجعل كتاباً عاماً إلى البلدان نشكر الله تعالى على نعمه عندنا وإحسانه إلينا. فأجابه إلى ما سأل، فكان هذا أول أمان بني أمية.