فصل: ذكر يوشع بن نون عليه السلام وفتح مدينة الجبارين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر أمر بني إسرائيل في التيه ووفاة هارون عليه السلام:

ثم إنّ الله تعالى أمر موسى، عليه السلام، أن يسير ببني اسرائيل إلى أريحا بلد الجبّارين، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتى كانوا قريباً منهم، فبعث موسى اثني عشر نقيباً من سائر أسباط بني اسرائيل، فساروا ليأتوا بخبر الجبّارين، فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: عوج بن عناق فأخذ الاثني عشر فحملهم وانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنّهم يريدون أن يقاتلونا، وأراد أن يطأهم برجله؛ فمنعته امرأته وقالت: أطلقهم ليرجعوا ويخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: إنّكم إن أخبرتم بني اسرائيل بخبر هؤلاء لا يقدموا عليهم، فاكتموا الأمر عنهم؛ وتعاهدوا على ذلك ورجعوا، فنكث عشرة منهم العهد وأخبروا بما رأوا، وكتم رجلان منهم، وهما: يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا ختن موسى، ولم يخبروا إلاّ موسى وهارون، فلمّا سمع بنو اسرائيل الخبر عن الجبّارين امتنعوا عن المسير إليهم، فقال لهم موسى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسي إنّ فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان} وهما يوشع وكالب {من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} المائدة: 21- 23، {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} المائدة: 24.
فغضب موسي فدعا عليهم فقال: {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} المائدة: 25، وكانت علجة من موسى، فقال الله تعالى: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض} المائدة: 26، فندم موسي حينئذ، فقالوا له: فكيف لنا بالطعام؟ فأنزل الله المنّ والسلوى، فأمّا المنّ فقيل هو كالصمغ وطعمه كالشهد يقع على الأشجار، وقيل: هو الترنجبين، وقيل: هو الخبز الرقاق، وقيل: هو عسل كان ينزل لكل إنسان صاع، وأمّا السلوى فهو طائر يشبه السّماني، فقالوا: أين الشراب؟ فزمر موسي فضرب بعصاه الحجر {فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً} البقرة: 60، لكلّ سبط عين، فقالوا: أين الظلّ؟ فظلّل عليهم الغمام، فقالوا: أين اللبّاس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم ولا يتمزّق لهم ثوب، ثمّ قالوا: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} البقرة: 61، فلما خرجوا من التيه رفع عنهم المنّ والسلوى.
ثم إن موسي التقي هو وعوج بن عناق، فوثب موسي عشرة أذرع، وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، وقيل: عاش عوج ثلاثة آلاف سنة.
ثمّ إنّ الله أوحى إلى موسى: إني متوفٍّ هارون فأت به جبل كذا وكذا، فانطلقا نحوه فإذا هم فيه بشجرة لم يروا مثلها وفيه بيت مبني وسرير عليه فرش وريح طيّبة، فلما رآه هارون أعجبه، قال: يا موسى إني أريد أن أنام على هذا السرير، فقال له موسى: نم، قال: إني أخاف ربّ هذا البيت أن يأتي فيغضب عليّ، قال موسى: لا تخف أنا أكفيك، قال: فنم معي، فلمّا ناما أخذ هارون الموت، فلمّا وجد حسّه قال: يا موسى خدعتني فتوفّي ورفع على السرير إلى السماء، ورجع موسى إلى بني اسرائيل، فقال له بنو اسرائيل: إنك قتلت هارون لحبّنا إيّاه، فقال: ويحكم أفترون أني أقتل أخي فلمّا أكثروا عليه صلى ودعا الله، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه ما بين السماء والأرض، فأخبرهم أنه مات وأن موسى لم يقتله، فصدّقوه، وكان موته في التيه.

.ذكر وفاة موسى عليه السلام:

قيل: بينما موسى، عليه السلام، يمشي ومعه يوشع بن نون فتاه إذ أقبلت ريح سوداء، فلمّا نظر إليها يوشع ظنّ أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: لا تقوم الساعة وأنا ملتزم نبيّ الله، فاستلّ موسي من تحت القميص وبقي القميص في يدي يوشع، فلمّا جاء يوشع بالقميص أخذه بنو اسرائيل وقالوا: قتلت نبيّ الله فقال: ما قتلته ولكنه استلّ مني، فلم يصدّقوه، قال: فإذا لم تصدّقوني فأخروني ثلاثة أيام، فوكّلوا به من يحفظه، فدعا الله، فأتي كلّ رجل كان يحرسه في المنام فأُخبر أنّ يوشع لم يقتل موسى، وأنّا قد رفعناه إلينا، فتركوه.
وقيل: إنّ موسى كره الموت فأراد الله أن يحبّب إليه الموت، فأوحى الله إلى يوشع بن نون، وكان يغدو عليه ويروح، ويقول له موسى: يا نبيّ الله ما أحدث الله إليك؟ فقال له يوشع بن نون: يا نبيّ الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله لك؟ ولا يذكر له شيئاً، فلمّا رأى موسى ذلك كره الحياة وأحبّ الموت، وقيل: إنه مرّ منفرداً برهط من المالذكة يحفرون قبراً، فعرفهم فوقف عليهم، فلم يرَ أحسن منه ولم يَر مثل ما فيه من الخضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: نحفره لعبد كريم على ربّه، فقال: إنّ هذا العبد له منزلٌ كريم ما رأيتُ مضجعاً ولا مدخلاً مثله، فقالوا: أتحبّ أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجّه إلى ربك وتنفّس أسهل تنفس تتنفسّه، فنزل فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس، فقبض الله روحه ثمّ سوت الملائكة عليه التراب.
وكان، صلى الله عليه وسلم، زاهداً في الدنيا راغباً فيما عند الله، إنما كان يستظل في عريش ويأكل ويشرب من نقير من حجر تواضعاً إلى الله تعالى.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إنّ الله أرسل ملك الموت ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه، فعاد وقال: يا ربّ أرسلتني إلى عبد لا يحبّ الموت، قال الله: رجع له وقل له يضع يده على ظهر ثور وله بكلّ شعرة تحت يده سنة، وخيّره بين ذلك وبين أن يموت الآن، فأتاه ملك الموت وخيّره، فقال له: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن إذن، فقبض روحه، وهذا القول صحيح قد صحّ النقل به عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، فكان موته في التيه أيضاً.
وقيل: بل هو الذي فتح مدينة الجبّارين على ما نذكره.
وكان جميع عمر موسى مائة وعشرين سنة، من ذلك في ملك أفريدون عشرون، وفي ملك منوجهر مائة سنة، وكان ابتداء أمره منذ بعثه الله إلي أن قبضه في ملك منوجهر.
ثمّ نبّئ بعده يوشع بن نون فكان في زمن منوجهر عشرين سنة، وفي زمن أفراسياب سبع سنين.

.ذكر يوشع بن نون عليه السلام وفتح مدينة الجبارين:

لما توفي موسى بعث الله يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم الخليل، عليه السلام، نبيّاً إلى بني اسرائيل وأمره بالمسير إلى أريحا مدينة الجبّارين، واختلف العلماء في فتحها على يد من كان، فقال ابن عبّاس: إنّ موسي وهارون توفيّا في التيه وتوفّي فيه كل من دخله، وقد جاوز العشرين سنة، غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فلما انقضى أربعون سنة أوحى الله إلى يوشع بن نون فزمره بالمسير إليها وفتحها، ففتحها؛ ومثله قال قتادة والسّدّيّ وعكرمة.
وقال آخرون: إنّ موسى عاش حتى خرج من التيه وسار إلى مدينة الجبّارين وعلى مقدمته يوشع بن نون ففتحها؛ وهو قول ابن اسحاق، قال ابن اسحاق: سار موسى بن عمران إلى أرض كنعان لقتال الجبّارين، فقدّم يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا، وهو صهره على أخته مريم بنت عمران، فلمّا بلغوها اجتمع الجبّارون إلى بلعم بن باعور، وهو من ولد لوط، فقالوا له: رن موسي قد جاء ليقتلنا ويخرجنا من ديارنا فادع الله عليهم، وكان بعلم يعرف اسم الله الأعظم، فقال لهم: كيف أدعو على نبيّ الله والمؤمنين ومعهم الملائكة فراجعوه في ذلك وهو يمتنع عليهم، فأتوا امرأته وأهدوا لها هديّة، فقبلتها، وطلبوا إليها أن تحسّن لزوجها أن يدعو على بني اسرائيل، فقالت له في ذلك، فامتنع، فلم تزل به حتى قال: أستخير الله، فاستخار الله تعالى، فنهاه في المنام، فأخبرها بذلك، فقالت: راجع ربّك، فعاود الاستخارة فلم يرد إليه جواب، فقالت: لو أراد ربّك لنهاك، ولم تزل تخدعه حتى أجابهم، فركب حماراً له متوجّهاً إلى جبل مشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم، فما سار عليه إلاّ قليلاً حتى ربض الحمار، فنزل عنه وضربه حتى قام فركبه فسار به قليلاً فبرك، فعل ذلك ثلاث مرّات، فلمّا اشتدّ ضربه في الثالثة أنطقه الله فقال له: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة ترى تردّني؟ فلم يرجع، فأطلق الله الحمار حينئذ، فسار عليه حتى أشرف على بني اسرائيل، فكان كلّما أراد أن يدعو عليهم ينصرف لسانه إلى الدعاء لهم، وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاؤه عليهم، فقالوا له في ذلك، فقال: هذا شيء غلبنا الله عليه، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال: الآن قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبقَ غير المكر والحيلة، وأمرهم أن يزيّنوا نساءهم ويعطوهنّ السلع للبيع ويرسلوهنّ إلى العسكر ولا تمنع امرأة نفسها ممن يريدها، وقال: إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم، ففعلوا ذلك، ودخل النساء عسكر بني اسرائيل، فأخذ زمرى بن شلوم، وهو رأس سبط شمعون بن يعقوب، امرأة وأتى بها موسى فقال له: أظنك تقول هذا حرام فوالله لا نطيعك، ثمّ أدخلها خيمته فوقع عليها، فأنزل الله عليهم الطاعون، وكان فنحاص بن العزار بن هارون صاحب أمر عمّه موسى غائباً، فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني اسرائيل، وأُخبر الخبر، وكان ذا قوّة وبطش، فقصد زمرى فرآه وهو مضاجع المرأة، فطعنهما بحربة في يده فانتظمهما، ورفع الطاعون، وقد هلك في تلك الساعة عشرون ألفاً، وقيل: سبعون ألفاً، فأنزل الله في بلعم: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين}.
ثم إن موسى قدّم يوشع إلى أريحا في بني اسرائيل فدخلها وقتل بها الجبارين، وبقيت منهم بقيّة، وقد قاربت الشمس الغروب، فخشي أن يدركهم الليل فيعجزوه، فدعا الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس، ففعل وحبسها حتى استأصلهم، ودخلها موسى فأقام بها ما شاء الله أن يقيم، وقبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلق.
وأما من زعم أن موسى كان قد توفّي قبل ذلك فقال: إنّ الله أمر يوشع بالمسير إلى مدينة الجبارين، فسار ببني اسرائيل، ففارقه رجل يقال له بلعم بن باعور، وكان يعرف الاسم الأعظم، وساق من حديثه نحو ما تقدّم، فلمّا ظفر يوشع بالجبارين أدركه المساء ليلة السبت فدعا الله فردّ الشمس عليه وزاد في النهار ساعة فهزم الجبارين ودخل مدينتهم وجمع غنائمهم ليأخذها القربان، فلم تأتِ النّار، فقال يوشع: فيكم غلول فبايعوني، فبايعوه، فلصقت يده في يد من غلّ، فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت فجعله في القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلتهما.
وقيل: بل حصرها ستّة أشهر، فلما كان السابع تقدّموا إلى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور، فدخلوها وهزموا الجبارين وقتلوا فيهم فأكثروا، ثمّ اجتمع جماعة من ملوك الشام وقصدوا يوشع فقاتلهم وهزمهم وهرب الملوك إلى غار، فأمر بهم يوشع بن نون فقتلوا وصلبوا، ثمّ ملك الشام جميعه فصار لبني اسرائيل وفرّق عمّاله فيه، ثمّ توفّاه الله فاستخلف على بني اسرائيل كالب بن يوفنّا، وكان عمر يوشع مائة وستّاً وعشرين سنة، وكان قيامه بالأمر بعد موسى سبعاً وعشرين سنة.
وأما من بقي من الجبارين فإن إفريقش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مال بهم متوجهاً إلى افريقية فاحتملهم من سواحل الشام فقدم بهم افريقية فافتتحها وقتل ملكها جرجير وأسكنهم إياها، فهم البرابرة، وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة، فهم فيهم إلى اليوم.

.ذكر أمر قارون:

وكان قارون بن يصهر بن قاهث، وهو ابن عمّ موسى بن عمران بن قاهث، وقيل: كان عمّ موسى؛ والأوّل أصحّ، وكان عظيم المال كثير الكنوز، قيل: إن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلاً، فبغى على قومه بكثرة ماله، فوعظوه ونهوه وقالوا له ما قصّ الله تعالى في كتابه: {لا تفرح إن الله لا يحبّ الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} القصص: 76- 77؛ فأجابهم جواب مغترّ لحلم الله عنه فقال: إنما أوتيته، يعني المال والخزائن، على علم عندي، قيل على خبر ومعرفة مني، وقيل: لولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا، فلم يرجع عن غيّه ولكنّه تمادى في طغيانه حتى {خرج على قومه في زينته} القصص: 79، وهي أنه ركب برذوناً أبيض بمراكب الأرجوان المذهبّة وعليه الثياب المعصفرة وقد حمل معه ثلاثمائة جارية على مثل برذونه وأربعة آلاف من أصحابه، وبنى داره وضرب عليها صفائح الذهب وعمل لها باباً من ذهب، فتمنى أهل الغفلة والجهل مثل ماله، فنهاهم أهل العلم بالله.
وأمره الله تعالى بالزكاة، فجاء إي موسى من كلّ ألف دينار دينار، وعلى هذا من كلّ ألف شيء شيء، فلمّا عاد إلى بيته وجده كثيراً، فجمع نفراً يثق بهم من بني اسرائيل فقال: إنّ موسى أمركم بكلّ شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيّدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تحضروا فلانة البغيّ فتجعلوا لها جُعلاً فتقذفه بنفسها، ففعلوا ذلك، فأجابتهم إليه.
ثمّ أتى موسى فقال: إنّ قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم فقال: من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة، وإن كان له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ فقال: نعم، قال: فإنّ بني اسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت.
فلما جاءت قال لها موسى: أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت: أنا فعلتُ بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، كذبوا، ولكن جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك، فسجد ودعا عليهم، فأوحى الله إليه: مُرِ الأرض بما شئت تطعك، فقال: يا أرض خديهم.
وقيل: إنّ هذا الأمر بلغ موسى، فدعا الله تعالى عليه، فأوحى الله إليه: مُر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى إلى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجهه فقال له: يا موسى ارحمني، فقال موسى: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسي ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، فلم يزل يستعطفه وهو يقول: يا أرض خذيهم، حتى خسف بهم، فأوحى الله إلى موسى: ما أفظّك أما وعزّتي لو إيّاي نادى لأجبته، ولا أعيد الأرض تُطيع أحداً أبداً بعدك، فهو يخسف به كلّ يوم، فلما أنزل الله نقمته حمد المؤمنون الله، وعرف الذين تمنّوا مكانه بالأمس خطأ أنفسهم واستغفروا وتابوا.

.ذكر من ملك من الفرس بعد منوجهر:

لما هلك منوجهر ملك فارس سار أفراسياب بن فشنج بن رستم ملك الترك إلى مملكة الفرس واستولى عليهم وسار إلى أرض بابل وأكثر المقام بها وبمهرجا نقذق وأكثر الفساد في مملكة فارس، وعظم ظلمه، وأخرب ما كان عامراً، ودفن الأنهار والقنى، وقحط النّاس سنة خمس من ملكه، إلي زن خرج عن مملكة فارس، ولم يزل النّاس منه في أعظم البليّة إلى أن ملك زوّ بن طهماسب، وكان منوجهر قد سخط على ولده طهماسب ونفاه عن بلاده، فأقام في بلاد الترك عن ملك لهم يقال له وامن وتزوّج ابنته، فولدت له زوّ بن طهماسب، وكان المنجّمون قد قالوا لأبيها: إن ابنته تلد ولداً يقتله، فسجنها، فلمّا تزوّجها طهماسب وولدت منه كتمت أمرها وولدها، ثمّ إنّ منوجهر رضي عن طهماسب وأحضره إليه، فاحتال في إخراج زوجته وابنه زوّ من محبسهما، فوصلت إليه، ثمّ إنّ زوّاً فيما ذكر قتل جدّه وأمّن في بعض الحروب الترك وطرد أفراسياب التركي عن مملكة فارس حتى ردّه إلى الترك بعد حروب جرت بينهما، فكانت غلبة أفراسياب على أقاليم بابل ومملكة الفرس اثنتي عشرة سنة من لدن توفّي منوجهر إلى أن أخرجه عنها زوّ، وكان إخراجه عنها في روزابن من شهر ابان ماه، فاتخذه لهم هذا اليوم عيداً وجعلوه الثالث لعيديهم النوروز والمهرجان.
وكان زوّ محموداً في ملكه محسناً إلى رعيّته فأمر بإصلاح ما كان أفراسياب أفسده من مملكتهم، وبعمارة الحصون، وإخراج المياه اليت غوّر طرقها، حتى عادت البلادُ إلى أحسن ما كانت، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين، فعمرت البلاد في ملكه وكثرت المعايش، واستخرج بالسواد نهراً وسمّاه الزاب، وبنى عليه مدينة، وهي التي تسمّى العتيقة، وجعل لها طسّوج الزاب الأعلي وسسّوج الزاب الأوسط وطسوج الزاب الأسفل، وكان أوهل من اتخذ ألوان الطبيخ أمر بها وبأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده ما غنم من الترك وغيرهم.
وكان جميع ملكه إلى أن انقضت مدّته ثلاث سنين، وكان كرشاسب بن أنوط وزيره في ملكه ومعينه فيه، وقيل: كان شريكه في الملك؛ والزوّل أصحّ، وكان عظيم الشأن في فارس إلا أنّه لم يملك.

.ذكر ملك كيقباذ:

ثمّ ملك بعد زوّ كيقباذ بن راع بن ميسرة بن نوذر بن منوجهر وقدّر مياه الأنهار والعيون لشرب الأرض، وسمى البلاد بأسمائها وحدّها بحدودها، وكوّر الكور وبيّن حيّز كلّ كورة، وأخذ العشر من غلاّتها لأرزاق الجند، وكان- فيما ذكر كيقباذ حريصاً علي عمارة البلاد، ومنعها من العدوّ، كثير الكنوز؛ وقيل: إنّ الملوك الكيانيّة وأبناءهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة، فكان مقيماً بالقرب من نهر بلخ، وهو جيحون، لمنع الترك من تطرّق شيء من بلاده، وكان ملكه مائة سنة.

.ذكر الأحداث في بني إسرائيل في عهد زوّ وكيقباذ ونبوة حزقيل:

لما توفي يوشع بن نون قام بأمر بني اسرائيل بعده كالب بن يوفنّا، ثمّ حزقيل بن نورى، وهو الذي يقال له ابن العجوز، وإنما قيل له ذلك لأنّ أمّه سألت الله الولد وقد كبرت، فوهبه الله لها، وهو الذي دعا للقوم الموتى فأحياهم الله.
وكان سبب ذلك: أنّ قرية يقال لها راوردارة، وقع بها الطاعون، فهرب عامّة أهلها ونزلوا ناحية، فهلك أكثر من بقي بالقرية وسلم الآخرون، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منّا ولو صنعنا كما صنعوا بقينا، فوقع الطاعون من قابل، فهرب عامّة أهلها، وهم بضعة وثلاثون ألفاً، وقيل: ثلاثة آلاف، وقيل: أربعة آلاف، وقيل غير ذلك، حتي نزلوا ذلك المكان، فصاح بهم ملك فماتوا ونخرت عظامهم، فمرّ بهم حزقيل فلمّا رآهم جعل يتفكر في بعثهم، فأوحى الله إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، فقيل: ناد، فنادى: يا أيتها العظام البالية إنّ الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام تطير بعضها إلى بعض حتى صارت أجساداً من عظام، ثم نادى: يا أيتها العظام إن الله أمرك أن تكتسي فألبست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها، ثم نادى: يا أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك فعادت،وقامت الأجساد أحياء؛ وقالوا: حين أحيوا سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد كفنا دسما ثم ماتوا ثم مات حزقيل ولم تذكر مدته في بني اسرائيل، وقيل: كانوا قوم حزقيل فلما أن ماتوا بكى حزقيل وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيدا فقال الله أتحب أن أحييهم؟ قال: نعم قال: فإني قد جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: أحيوا بإذن الله تعالى فعاشوا.

.ذكر إلياس عليه السلام:

لما توفي حزقيل كثرت الأحداث في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله وعبدوا الأوثان فبعث اللهم إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العزار بن هرون بن عمران نبياً، وكان الأنبياء في بني إسرائيل بعر موسى بن عمران يبعثون بتجديد ما نسوا من التوراة، وكان إلياس مع ملك من ملوكهم يقال له أخاب وكان يسمع منه ويصدقه وكان إلياس يقيم له أمره، وكان بنو إسرائيل قد اتخذوا صنماً يعبدونه يقال له: بعل، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله وهم لا يسمعون إلا من ذلك الملك، وكان ملوك بني إسرائيل متفرقة كل ملك قد تغلب على ناحية يأكلها، فقال ذلك الملك الؤي كان إلياس معه والله ما أرى الذي تدعو إليه إلا باطلاً لأني فلانا وفلانا يعد ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان، فلم يضرهم ذلك شيئاً يأكلون ويشربون ويتمتعون ما ينقص ذلك من ديارهم وما نري لنا عليهم من فضل؟ ففارقه إلياس وهو يسترجع، فعبد ذلك الملك الأوثان أيضاً.
وكان للملك جار صالح مؤمن يكتم إيمانه، وله بستان إلى جانب دار الملك، والملك يحسن جواره، وللمك زوجة عظيمة الشر والكفر، فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل، فكانت تخلف زوجها عئيمة الشر والكفر، فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل، فكانت تخلف زوجها إذا سار عن بلده وتظهر للناس، فغاب مرة فوضعت امرأته على صاحب البستان من شهد عليه أنه سب الملك، فقتلته، وأخذت بستانه، فلما عاد الملك غضب من ذلك واستعظمه وأنكره، فقالت: فات أمره فأوحى الله إلى إلياس يأمره أن يقول للملك وامرأته أن يرد البستان على ورثة صاحبه فإن لم يفعلا غضب عليهما وأهلكهما في البستان ولم يتمتعا به إلا قليلا، فأخبرهما إلياس بذلك فلم يراجعا الحق.
فلما رأى إلياس أن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر والظلم دعا عليهم، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، فهلكت الماشية والطيور والهوامّ والشجر وجهد الناس جهداً شديداً واستخفى إلياس خوفاً من بني إسرائيل، فكان يأتيه رزقه، ثم أنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب- به ضر شديد فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به واتبع إلياس، وكان معه وصحبه وصدقه، وكان إلياس قد كبر، فأوحى الله إليه إنك قد أهلكت كثيراً من الخلق من البهائم والدواب والطير وغيرها، ولم يعص سوى بني إسرائيل، فقال إلياس: أي رب: دعني أكن أنا الذي أدعو لهم وأبتهج بالفرج لعلهم يرجعون، فجاء إلياس إليهم، وقال لهم: إنكم قد هلكتم وهلكت الدواب بخطاياكم، فإن أحببتم أن تعلموا أن الله ساخط عليكم بفعلكم، وأن الذي أدعوكم إليه هو الحق، فاخرجوا بأصنامكم وادعوها، فان استجابت لكم فذلك الحق كما تقولون، وان هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرّج عنكم، قالوا أنصفت فخرجوا بأصنامهم فدعوها فلم يستجب لهم ولم يفرح عنهم، فقالوا لإلياس: إنا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم بالفرج وان يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس وعظمت وهم ينظرون، ثم أرسل الله منها المطر فحييت بلادهم، وفرج الله عنهم ما كانوا فيه من البلاء فلم ينزعوا ولم يراجعوا الحق، فلما رأى ذلك إلياس سأل الله أن يقبضه فيريحه منهم، فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فصار ملكياً إنسياً سماوياً أرضياً، وسلط الله على الملك وقومه عدواً فظفر بهم وقتل الملك وزوجته بذلك البستان وألقاهما فيه حتى بليت لحومهما.

.ذكر نبوّة اليسوع عليه السلام وأخذ التابوت من بني إسرائيل:

فلمّا انقطع إلياس عن بني اسرائيل بعث الله اليسع، فكان فيهم ما شاء اللّه، ثمّ قبضه الله وعظمت فيهم الأحداث وعندهم التابوت يتوارثونه فيه السكينة وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت إلاّ هزم الله العدوّ، وكانت السكينة شبه رأس هر، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح، ثمّ خلف فيها ملك يقال له إيلاف، وكان الله يمنعهم ويحميهم، فلمّا عظمت أحداثهم نزل بهم عدوّ فخرجوا إليه وأحرجوا التابوت، فاقتتلوا فغلبهم عدوّهم على التابوت وأخذه منهم وانهزموا، فلمّا علم ملكهم أن التابوت أخذ مات كَمَداً، ودخل العدوّ أرضهم ونهب وسبى وعاد، فمكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف، وكانوا يتمادون أحياناً في غيّهم فيسلّط الله عليهم من ينتقم منهم، فإذا راجعوا التوبة كفّ الله عنهم شرّ عدوهم، فكان هذا حالهم من لَدُن توفي يوشع بن نون إلى أن بعث الله اشمويل وملكهم طالوت وردّ عليهم التابوت.
وكانت مدّة ما بين وفاة يوشع، الذي كان يلي أمر بني إسرائيل بعضها القضاة وبعضها الملوك وبعضها المتغلّبون إلى أن ثبت الملك فيهم ورجعت النبوّة إلى اشمويل، أربعمائة سنة وستّين سنة. فكان أوّل من سُلّط عليهم رجل من نسل لوط يقال له كوشان فقهرهم وأذلّهم ثماني سنين، ثمّ أنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل، فقال بأمرهم أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم ملك يقال له عجلون فملكهم ثماني عشرة سنة، ثم استنقذهم منه رجل من سبط بنيامين يقال له أهوذ، وقام بزمرهم ثمانين سنة. ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيّين يقال له يابين، فملكهم عشرين سنة، واستنقذهم منه امرأة من بين أنبيائهم يقال لها دبورا، ودبّر الأمر رجل من قبلها يقال له باراق أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم قوم من نسل لوط فملكوهم سبع سنين، واستنقذهم رجل يقال له جدعون ابن يواش من ولد نفتالي بن يعقوب، فدبّر أمرهم أربعين سنة وتوفيّ، ودبّر أمرهم بعده ابنه ابيمالخ ثلاث سنين، ثمّ دبّرهم بعده فولع بن فوّا ابن خال ابيمالخ، ويقال إنّه ابن عمّه، ثلاثاً وعشرين سنة، ثمّ دبّر أمرهم بعده رجل يقال له يائير اثنتين وعشرين سنة.
ثمّ ملكهم قوم من أهل فلسطين بني عمون ثماني عشرة سنة، ثمّ قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبّرهم بعده يبحسون سبع سنين، ثمّ بعده آلون عشر سنين، ثم بعده لترون، ويسميه بعضهم عكرون، ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملكوهم أربعين سنة، ثمّ وليهم شمسون عشرين سنة، ثمّ بقوا بعده عشر سنين بغير مدبّر ولا رئيس، ثمّ قام بأمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل فلسطين على التابوت في قول، فلمّا مضى من وقت قيامه أربعون سنة بعث اشمويل نبياً فدبرهم عشر سنين، ثمّ سألوا اشمويل أن يبعث لهم ملكاً يقاتل بهم أعداءهم.

.ذكر حال اشمويل وطالوت:

كان من خبر اشمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وطمع فيهم الأعداء، وأخذ التابوت منهم، فصاروا بعده لا يلقون ملكاً إلا خائفين، فقصدهم جالوت ملك الكنعانيين، وكان ملكه ما بين مصر وفلسطين، فظفر بهم، فضرب عليهم الجزية، وأخذ منهم التوراة، فدعوا الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم غير امرأة حبلى، فحبسوها في بيت خيفة أن تلد جارية فتبدّلها بغلام لما ترى من رغبة بني اسرائيل في ولدها، فولدت غلاماً سمّته اشمويل، ومعناه: سمع الله دعائي.
وسبب هذه التسمية أنها كانت عاقراً، وكان لزوجها امرأة أخرى قد ولدت له عشرة أولاد فبغت عليها بكثرة الأولاد، فانكسرت العجوز ودعت الله أن يرزقها ولداً، فرحم الله انكسارها وحاضت لوقتها وقرب منها زوجها، فحملت، فلما انقضت مدة الحمل ولدت غلاماً فسمّته اشمويل، فلما كبر أسلمته في بيت المقدس يتعلم التوراة، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه.
فلمّا بلغ أن يبعثه الله نبياً أتاه جبرائيل وهو يصلي فناداه بصوت يشبه صوت الشيخ، فجاء إليه، فقال: ما تريد؟ فكره أن يقول لم أدعك فيفزع، فقال: ارجع فنم، فرجع، فعاد جبرائيل لمثلها، فجاء إلى الشيخ، فقال له: يا بنيّ عُدْ فإذا دعوتك فلا تجبني، فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرائيل وأمره بإنذار قومه وأعلمه أن الله بعثه رسولاً، فدعاهم، فكذبوه، ثم أطاعوه، وأقام يدبّر زمرهم عشر سنين، وقيل: أربعين سنة.
وكان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني اسرائيل حتى كادوا يُهلكونهم، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا: {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} البقرة: 246.
فدعا الله فأرسل إليه عصاً وقرناً فيه دهن، وقيل له: إنّ صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، وإذا دخل عليك رجل فنشّ الدّهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه به وملّكه عليهم، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها، وكان طالوت دبّاغاً، وقيل: كان سقّاء يسقي الماء ويبيعه، فضلّ حماره فانطلق يطلبه، فلمّا اجتاز بالمكان الذي فيه اشمويل دخل يسأله أن يدعو له ليردّ الله حماره، فلما دخل نشّ الدهن، فقاسوه بالعصا فكان مثلها، ف {قال لهم نبيهم إن الله قد بعثه لكم طالوت ملكاً} البقرة: 247، وهو بالسريانية شاول بن قيس بن أنمار بن ضرار بن يحرف ابن يفتح بن ايش بن بنيامين بن يعقوب بن اسحاق، فقالوا له: ما كنت قط أكذب منك الساعة ونحن من سبط المملكة ولم يؤت طالوت سعة من المال فنتبعه.
فقال اشمويل: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} البقرة: 247، فقالوا: إن كنت صادقاً فأتِ بآية، فقال: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة} البقرة: 248، والسكينة رأس هرّ، وقيل طشت من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء، وقيل غير ذلك، وفيه الألواح وهي من درّ وياقوت وزبرجد، وأما البقية فهي عصا موسى ورضاضة الألواح، فحملته الملائكة وأتت به إلى طالوت نهاراً بين السماء والأرض والناس ينظرون، فأخرجه طالوت إليهم، فأقروا بملكه ساخطين وخرجوا معه كارهين، وهم ثمانون ألفاً، فلمّا خرجوا قال لهم طالوت: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} البقرة: 249، وهو نهر فلسطين، وقيل: الأردن، فشربوا منه إلا قليلاً، وهم أربعة آلاف، فمن شرب منه عطش ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي، {فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه} لقيهم جالوت، وكان ذا بأس شديد، فلما رأوه رجع أكثرهم و{قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} ولم يبق معه غير ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر، فلمّا رجع من رجع قالوا: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} البقرة: 249.
وكان فيهم إيشى أبو داود ومعه من أولاده ثلاثة عشر ابناً، وكان داود أصغر بنيه، وقد خلفه يرعى لهم ويحمل لهم الطعام، وكان قد قال لأبيه ذات يوم: يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً إلاّ صرعته، ثم قال له: لقد دخلتُ بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبتُ عليه وأخذت بأذنيه فلم أخفه، ثمّ أتاه يوماً آخر فقال: إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبّح معي، قال له: أبشر فإنّ هذا خير أعطاكه الله.
فأرسل الله إلى النبيّ الذي مع طالوت قرناً فيه دهن وتنّور من حديد، فبعث به إلى طالوت وقال له: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا الذهن على رأسه فيغلي حتى يسيل من القرن، ولا يجاوز رأسه إلى وجهه ويبقي على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنّور فيملأه، فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم، فلم يوافقه منهم أحد، فأحضر داود من رعيه، فمرّ في طريقه بثلاثة أحجار، فكلّمته وقلن: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، فأخذهن فجعلهنّ في مخلاته، وكان طالوت قد قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في مملكتي.
فلمّا جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادّهن منه ولبس التنّور فملأه، وكان داود مسقاماً أزرق مصفاراً، فلمّا دخل في التنور تضايق عليه حتى ملأه، وفرح اشمويل وطالوت وبنو إسرائيل بذلك وتقدّموا إلى جالوت وتصافّوا للقتال، وخرج داود نحو جالوت وأخذ الأحجار ووضعها في قذافته ورمى بها جالوت، فوقع الحجر بين عينيه فنقب رأسه فقتله، ولم يزل الحجر يقتل كلّ من أصابه ينفذ منه إلى غيره، فانهزم عسكر جالوت بإذن الله ورجع طالوت فأنكح ابنته داود وأجرى خاتمه في ملكه، فمال النّاس إلى داود وأحبّوه.
فحسده طالوت وأراد قتله غِيلةً، فعلم ذلك داود ففارقه وجعل في مضجعه زقّ خمر وسجّاه، ودخل طالوت إلى منام داود، وقد هرب داود، فضرب الزقّ ضربة خرقه، فوقعت قطرة من الخمر في فيه، فقال: يرحم الله داود ما كان أكثر شربه الخمر فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئاً، فخاف داود أن يغتاله فشدّد حجابه وحرّاسه.
ثمّ إنّ داود أتاه من المقابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه، فما استيقظ طالوت بصر بالسهام فقال: يرحم الله داود هو خير مني، ظفرتُ به وأردتُ قتله وظفر بي فكف عني، وأذكى عليه العيون فلم يظفروا به.
وركب طالوت يوماً فرأى داود فركض في أثره، فهرب داود منه واختفى في غار في الجبل، فعمّى الله أثره على طالوت، ثمّ إن طالوت قتل العلماء حتى لم يبق أحد إلا امرأة كانت تعرف اسم الله الأعظم فسلمها إلى رجل يقتلها، فرحمها وتركها وأخفى أمرها.
ثم إنّ طالوت ندم وأراد التوبة وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، فكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور فيبكي ويقول: أنشد الله عبداً علم لي توبة إلا أخبرني بها، فلما أكثر ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما رضيت قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتاً فازداد بكاء وحزناً، فرحمه الرجل الذي أمره بقتل تلك المرأة فقال له: إن دللتك علي عالم لعلك تقتله قال: لا، فأخذ عليه العهود والمواثيق ثمّ أخبره بتلك المرأة فقال: سلها هل لي من توبة؟ فحضر عندها وسألها هل به من توبة؟ فقالت: ما أعلم له من توبة، ولكن هل تعلمون قبر نبيّ؟ قالوا: نعم، قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهم معها فدعت، فخرج يوشع، فلمّا رآهم قال: مالكم؟ قالوا: جئنا نسألك هل لطالوت من توبة؟ قال: ما أعلم له توبة إلا أن يتخلى من ملكه ويخرج هو وولده فيقاتلوا في سبيل الله حتى تقتل أولاده ثمّ يقاتل هو حتي يقتل، فعسى أن يكون له توبة، ثم سقط ميتاً، ورجع طالوت أحزن مما كان يخاف أن لا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه، فسأله بنوه عن حاله، فأخبرهم، فتجهزوا للغزو فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا، ثم قاتل هو بعدهم حتى قتل.
وقيل: إن النبيّ الذي بعث لطالوت حتى أخبره بتوبته أليسع، وقيل: اشمويل، والله أعلم.
وكانت مدّة ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة.