فصل: يوم الجفار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.يوم النسار:

النسار: أجبل متجاورة، وعندها كانت الوقعة، وهو موضع معروف عندهم. وكان سبب ذلك اليوم أن بني تميم بن مر بن أد كانوا يأكلون عمومتهم ضبة بن أد وبني عبد مناة بن أد، فأصابت ضبة رهطاً من تميم. فطلبتهم تميم فانزاحت جماعة الرباب، وهو تيم وعدي وثور أطحل وعكل بنو عبد مناة بن أد وضبة بن أد وإنما سموا الرباب لأنهم غمسوا أيديهم في الرب حين تحالفوا، فلحقت ببني أسد، وهم يومئذحلفاء لبني ذبيان بن بغيض. فنادى صارخ بني ضبة: يا آل خندف! فأصرختهم بنو أسد، وهو أول يوم تخندقت فيه ضبة واستمدوا حليفهم ظبياً وغطفان، فكان رئيس أسد يوم النسار عوف بن عبد الله بن عامر بن جذيمة بن نصر بن قعين، وقيل: خالد بن نضلة، وكان رئيس الرباب الأسود بن المنذر أخو النعمان، وليس بصحيح، وكان على الجماعة كلهم حصن بن حذيفة بن بدر؛ وفيه يقول زهير بن أبي سلمى:
ومن مثل حصن في الحروب ومثله ** لإنداد ضيمٍ أو لأمرٍ يحاوله

إذا حلّ أحياء الأحاليف حوله ** بذي نجب لجّاته وصواهله

فلما بلغ بني تميم ذلك استمدوا بني عامر بن صعصعة، فأمدوهم. وكان حاجب بن زرارة على بني تميم، وكان عامر بن صعصعة جواباً، وهو لقب مالك بن كعب من بني أبي بكر بن كلاب، لأن بني جعفر كان جواب قد أخرجهم إلى بني الحارث بن كعب فحالفوهم، وقيل: كان رئيس عامر شريح بن مالك القشيري. وسار الجمعان فالتقوا بالنسار واقتتلوا، فصبرت عامر واستحر بهم القتل، وانفضت تميم فنجت ولم يصب منهم كثير، وقتل شريح القشيري رأس بني عامر، وقتل عبيد بن معاوية بن عبد الله بن كلاب وغيرهما، وأخذ عدة من أشراف نساء بني عامر، منهن سلمى بنت المخلف، والعنقاء بنت همام وغيرهما، فقالت سلمى تعير جواباً والطفيل:
لحى الإله أبا ليلى بفرّته ** يوم النّسار وقنب العير جّوابا

كيف الفخار وقد كانت بمعترك ** يوم النّسار بنو ذبيان أربابا

لم تمنعوا القوم إن أشلوا سوامكم ** ولا النساء وكان القوم أحرابا

وقال رجل يعير جواباً والطفيل بفراره عن امرأتيه:
وفرّ عن ضرّتيه وجه خارئةٍ ** ومالكٌ فرّ قنب العير جوّاب

القنب: غلاف الذّكر، وجوّاب لقب لأنّه كان يجوب الآثار، واسمه مالك، وقال بشر بن أبي خازم في هزيمة حاجب:
وأفلت حاجب جوب العوالي ** على شقراء تلمع في السراب

ولو أدركن رأس بني تميم ** عفرن الوجه منه بالتراب

وكان يوم النساء بعد يوم جبلة وقتل لقيط بن زرارة.
جواب بفتح الجيم، وتشديد الواو، وآخره باء موحدة؛ وخازم بالخاء المعجمة، والزاي.

.يوم الجفار:

لما كان على رأس الحول من يوم النسار اجتمع من العرب من كان شهد النسار، وكان رؤساؤهم بالجفار الرؤساء الذين كانوا يوم النسار، إلا أن بني عامر قيل كان رئيسهم بالجفار عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة، فالتقوا بالجفار واقتتلوا، وصبرت تميم، فعظم فيها القتل وخاصة في بني عمرو ابن تميم، وكان يوم الجفار يسمى الصيلم لكثرة من قتل به؛ وقال بشر ابن أبي خازم في عصبة تميم لبني عامر:
عصبت تميمٌ أن يقتل عامر ** يوم النسار فأعقبوا بالصّيلم

كنّا إذا نفروا لحربٍ نفرةً ** نشفي صداعهم برأس صلدم

نعلو الفوارس بالسيوف ونعتزي ** والخيل مشعلة النحور من الدم

يخرجن من خلل الغبار عوابساً ** خبب السباع بكلّ ليث ضيغم

وهي عدة أبيات، وقال أيضاً:
يوم الجفار ويوم النّسا ** ركانا عذاباً وكان غراما

فأمّا تميمٌ تميم بن مرٍّ ** فألفاهم القوم روبى نياما

وأمّا بنو عامر بالجفار ** ويوم النّسار فكانوا نعاما

فلما أكثر بشر على بني تميم، قيل له: ما لك ولتميم وهم أقرب الناس منك أرحاماً؟ فقال: إذا فرغت منهم فرغت من الناس ولم يبق أحد.

.يوم الصفقية والكلاب الثاني:

أما يوم الصفقة وسببه فإن باذان، نائب كسرى أبرويز بن هرمز باليمن، أرسل إليه حملاً من اليمن. فلما بلغ الحمل إلى نطاع من أرض نجد أغارت تميم عليه وانتهبوه وسلبوا رسل كسرى وأساورته. فقدموا على هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة مسلوبين، فأحسن إليهم وكساهم. وقد كان قبل هذا إذا أرسل كسرى لطيمة تباع باليمن يجهز رسله ويخفرهم ويحسن جوارهم، وكان كسرى يشتهي أن يراه ليجازيه على فعله. فلما أحسن أخيراً إلى هؤلاء الرسل الذين أخذتهم تميم قالوا له: إن الملك لا يزال يذكرك ويؤثر أن تقدم عليه، فسار معهم إليه. فلما قدم عليه أكرمه وأحسن إليه وجعل يحادثه لينظر عقله، فرأى ما سره، فأمر له بمال كثير، وتوجه بتاج من تيجانه وأقطعه أموالاً بهجر.
وكان هوذة نصرانياً، وأمره كسرى أن يغزوه هو والمكعبر مع عساكر كسرى بني تميم، فساروا إلى هجر ونزلوا بالمشقر. وخاف المكعبر وهوذة أن يدخلا بلاد تميم لأنها لا تحتملها العجم وأهلها بها ممتنعون، فبعثا رجالاً من بني تميم يدعونهم إلى الميرة، وكانت شديدة، فأقبلوا على كل صعب وذلول، فجعل المكعبر يدخلهم الحصن خمسة خمسة وعشرة عشرة وأقل وأكثر، يدخلهم من باب على أنه يخرجهم من آخر، فكل من دخل ضرب عنقه. فلما طال ذلك عليهم ورأوا أن الناس يدخلون ولا يخرجون بعثوا رجالاً يستعلمون الخبر، فشد رجل من عبس فضرب السلسلة فقطعها وخرج من كان بالباب. فأمر المكعبر بغلق الباب وقتل كل من كان بالمدينة، وكان يوم الفصح، فاستوهب هوذة منه مائة رجل فكساهم وأطلقهم يوم الفصح. فقال الأعشى من قصيدة يمدح هوذة:
بهم يقرّب يوم الفصح ضاحيةً ** يرجو الإله بما أسدى وما صنعا

فصار يوم المشقر مثلاً، وهو يوم الصفقة لإصفاق الباب، وهو إغلاقه. وكان يوم الصفقة وقد بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة بعد لم يهاجر.
وأما يوم الكلاب الثاني فإن رجلاً من بني قيس بن ثعلبة قدم أرض نجران على بني الحارث بن كعب، وهم أخواله، فسألوه عن الناس خلفه فحدثهم أنه أصفق على بني تميم باب المشقر وقتلت المقاتلة وبقيت أموالهم وذراريهم في مساكنهم لا مانع لها. فاجتمعت بنو الحارث من مذحج، وأحلافها من نهد وجرم بن ربان، فاجتمعوا في عسكر عظيم بلغوا ثمانية آلاف، ولا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه ومن جيش كسرى بذي قار ومن يوم جبلة، وساروا يريدون بني تميم، فحذرهم كاهن كان مع بني الحارث واسمه سلمة بن المغفل وقال: إنكم تسيرون أعياناً، وتغزون أحياناً، سعداً ورياناً، وتردون مياهها جياباً، فتلقون عليها ضراباً، وتكون غنيمتكم تراباً، فأطيعوا أمري ولا تغزوا تميماً. فعصوه وساروا إلى عروة، فبلغ الخبر تميماً فاجتمع ذوو الرأي منهم إلى أكثر بن صيفي، وله يومئذ مائة وتسعون سنة، فقالوا له: يا أبا جيدة حقق هذا الأمر فإنا قد رضيناك رئيساً. فقال لهم:
وإنّ امرأ قد عاش تسعين حجّةً ** إلى مائة لم يسأل العيش جاهل

مضت مائتان غير عشرٍ وفاؤها ** وذلك من عدّ اليالي قلائل

ثم قال لهم: لا حاجة لي في الرياسة ولكني أشير عليكم لينزل حنظلة ابن مالك بالدهناء، ولينزل سعد بن زيد مناة والرباب وهم ضبة بن أد وثور وعكل وعدي بنو عبد مناة بن أد الكلاب، فأي الطريقين أخذ القوم كفى أحدهما صاحبه، ثم قال لهم: احفظوا وصيتي لا تحضروا النساء الصفوف فإن نجاة اللئيم في نفسه ترك الحريم، وأقلوا الخلاف على أمرائكم، ودعوا كثرة الصياح في الحرب فإنه من الفشل، والمرء يعجز لا محالة، فإن أحمق الحمق الفجور، وأكيس الكيس التقى، كونوا جميعاً في الرأي، فإن الجميع معزز للجميع، وإياكم والخلاف فإنه لا جماعة لمن اختلف، ولا تلبثوا ولا تسرعوا فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تهب ريثاً، وإذا عز أخوك فهن البسوا جلود النمور وابرزوا للحرب، وادرعوا الليل واتخذوه جملاً، فإن الليل أخفى للويل، والثبات أفضل من القوة وأهنأ الظفر كثرة الأسرى، وخير الغنيمة المال، ولا ترهبوا الموت عند الحرب، فإن الموت من ورائكم، وحب الحياة لدى الحرب زللٌ، ومن خير أمرائكم النعمان بن مالك بن حارث بن جساس، وهو من بني تميم ابن عبد مناة بن أد. فقبلوا مشورته، النعمان بن مالك بن حارث بن جساس، وهو من بني تميم ابن عبد مناة بن أد. فقبلوا مشورته، ونزلت عمرو بن حنظلة الدهناء، ونزلت سعد والرباب الكلاب، وأقبلت مذحج ومن معها من قضاعة فقصدوا الكلاب، وبلغ سعداً والرباب الخبر. فلما دنت مذحج نذرهم شميت ابن زنباع اليربوعي فركب جمله وقصد سعداً ونادى: يا آل تميم يا صباحاه! فثار الناس، وانتهت مذحج إلى النعم فانتهبها الناس، وراجزهم يقول:
في كلّ عام نغمٌ ننتابه

على الكلاب غيّبت أصحابه

يسقط في آثاره غلاّبه

فلحق قيس بن عاصم المنقري والنعمان بن جساس ومالك بن المنتفق في سرعان الناس، فأجابه قيس يقول.
عمّا قليل تلتحق أربابه ** مثل النجوم حسّراً سحابه

ليمنعنّ النّعم اغتصابه ** سعدٌ وفرسان الوفى أربابه

ثم حمل عليهم قيس وهو يقول:
في كلّ عام نعمٌ تحوونه ** يلقحه قومٌ وتنتجونه

أربابه نوكى فلا يحمونه ** ولا يلاقون طعاناً دونه

أنعم الأبناء تحسبونه ** هيهات هيهات لما ترجونه

فاقتتل القوم قتالاً شديداً يومهم أجمع. فحمل يزيد بن شداد بن قنان الحارثي على النعمان بن مالك بن جساس فرماه بسهم فقتله، وصارت الرياسة لقيس بن عاصم، واقتتلوا حتى حجر بينهم الليل، وباتوا يتحارسون. فلما أصبحوا غدوا على القتال، وركب قيس بن عاصم وركبت مذحج واقتتلوا أشد من القتال الأول، فكان أول من انهزم من مذحج مدرج الرياح. وهو عامر بن المجون بن عبد الله الجرمي، وكان صاحب لوائهم، فألقى اللواء وهرب، فلحقه رجل من بني سعد فعقر به دابته، فنزل يهرب ماشياً، ونادى قيس بن عاصم: يا آل تميم عليكم الفرسان ودعوا الرجالة فإنها لكم، وجعل يلتقط الأسرى، وأسر عبد يغوث بن الحارث بن وقاص الحارثي رئيس مذحج فقتل بالنعمان بن مالك بن جساس، وكان عبد يغوث شاعراً، فشدوا لسانه قبل قتله لئلا يهجوهم، فأشار إليهم ليحلوا لسانه ولا يهجوهم، فحلوه، فقال شعراً:
ألا لا تلوماني، كفى اللوم ما بيا ** فما لكما في اللوم نفعٌ ولا ليا

ألم تعلما أنّ الملامة نفعها ** قليلٌ وما لومي أخاً من شماليا

فيا راكباً إمّا عرضت فبلّغن ** نداماي من نجران ألاّ تلاقيا

أبا كرب والأيهمين كليهما ** وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا

أقول وقد شدّوا لساني بنسعةٍ ** معاشر ثيم أطلقوا من لسانيا

كأنّي لم أركب جواداً ولم أقل ** لخيلي كرّي كرّةً من ورائيا

ولم أسبإ الزقّ الرّويّ ولم أقل ** لأيسار صدقٍ عظّموا ضوء ناريا

وقد علمت عرسي مليكة أنّني ** أنا الليث معدوّاً عليه وعاديا

لحى الله قوماً بالكلاب شهدتهم ** صميمهم والتابعين المواليا

ولو شئت نجّتني من القوم شطبةٌ ** ترى خلفها الكمت العتاق تواليا

وكنت إذا ما الخيل شمّصها القنا ** لبيقاً بتصريف القناة بنانيا

فيا عاص فكّ القيد عنّي فإنّني ** صبورٌ على مرّ الحوادث ناكيا

فإن تقتلوني تقتلوا بي سيّداً ** وإن تطلقوني تحربوني ماليا

أبو كرب بشر بن علقمة بن الحارث، والأيهمان الأسود بن علقمة بن الحارث، والعاقب وهو عبد المسيح بن الأبيض، وقيس بن معدي كرب، فزعموا أن قيساً قال: لو جعلني أول القوم لافتديته بكل ما أملك. ثم قتل ولم يقبل له فدية.
ربان بالراء والباء الموحدة.

.يوم ظهر الدهناء وهو يوم بين طيء وأسد بن خزيمة:

وسبب ذلك أن أوس بن حارثة بن لأم الطائي كان سيداً مطاعاً في قومه وجواداً مقداماً، فوفد هو وحاتم الطائي على عمرو بن هند، فدعا عمرو أوساً فقال له: أنت أفضل أم حاتم؟ فقال: أبيت اللعن! إن حاتماً أوحدها وأنا أحدها، ولو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة. ثم دعا عمرو حاتماً فقال له: أنت أفضل أم أوس؟ فقال: أبيت اللعن! إنما ذكرت أوساً ولأحد ولده أفضل مني. فاستحسن ذلك منهما وحباهما وأكرمهما.
ثم إن وفود العرب من كل حي اجتمعت عند النعمان بن المنذر وفيهم أوس، فدعا بحلة من حلل الملوك وقال للوفود: احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم. فلما كان الغد حضر القوم جميعاً إلا أوساً، فقيل له: لم تتخلف؟ فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء بي ألا أكون حاضراً، وإن كنت المراد فسأطلب. فلما جلس النعمان ولم ير أوساً قال: اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمناً مما خفت. فحضر فألبس الحلة، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة. فقال: كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا منه، ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفكّ صالحةٌ ** من أهل لأم بظهر الغيب تأتيني

فقال لهم بشر بن أبي خازم: أنا اهجوه لكم، فأعطوه النوق، وهجاه فأفحش في هجائه وذكر أمه سعدى. فلما عرف أوس ذلك أغار على النوق فاكتسحها، وطلبه فهرب منه والتجأ إلى بني أسد عشيرته، فمنعوه منه ورأوه تسليمه إليه عاراً. فجمع أوسجديلة طيء وسار بهم إلى أسد، فالتقوا بظهر الدهناء تلقاء تيماء فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو أسد وقتلوا قتلاً ذريعاً، وهرب بشر فجعل لا يأتي حياً يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس. ثم نزل على جندب بن حصن الكلابي بأعلى الصمان، فأرسل إليه أوس يطلب منه بشراً، فأرسله إليه. فلما قدم به على أوس أشار عليه قومه بقتله، فدخل على أمه سعدى فاستشارها، فأشارت أن يرد عليه ماله ويعفو عنه ويحبوه فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه. فقبل ما أشارت به وخرج إليه وقال: يا بشر ما ترى أني أصنع بك؟ فقال:
إنّي لأرجو منك يا أوس نعمةً ** وإنّي لأخرى منك يا أوس راهب

وإنّي لأمحو بالذي أنا صادق ** به كلّ ما قد قلت إذ أنا كاذب

فهل ينفعنّي اليوم عندك أنّني ** سأشكر إن أنعمت والشكر واجب

فدىً لابن سعدى اليوم كلّ عشيرتي ** بني أسد أقصاهم والأقارب

تداركني أوس بن سعدى بنعمة ** وقد أمكنته من يديّ العواقب

فمن عليه أوس وحمله على فرس جواد ورد عليه ما كان أخذ منه وأعطاه من ماله مائةً من الإبل، فقال بشر: لا جرم لا مدحت أحداً، حتى أموت، غيرك، ومدحه بقصيدته المشهورة التي أولها:
أتعرف من هنيدة رسم دارٍ ** بحرجي ذروةٍ فإلى لواها

ومنها منزل ببراق خبتٍ ** عفت حقباً وغيّرها بلاها

وهي طويلة.

.يوم الوقيط:

وكان من حديثه أن اللهازم تجمعت، وهي قيس وتيم اللات ابنا ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ومعها عجل بن لجيم وعنزة ابن أسد بن ربيعة بن نزار لتغير على بني تميم وهم غارون. فرأى ذلك الأعور وهو ناشب بن بشامة العنبري، وكان أسيراً في قيس بن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رجلاً أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له: ترسله ونحن حضور؟ قال: نعم. فأتوه بغلام مولد، فقال: أتيتموني بأحمق؟! فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق! فقال: إني أراك مجنوناً! قال: والله ما بي جنون! قال: أتعقل؟ قال: نعم إني لعاقل. قال: فالنيران أكثر أم الكواكب؟ قال: الكواكب، وكلٌّ كثيرة، فملأ كفه رملاً وقال: كم في كفي؟ قال: لا أدري فإنه لكثير. فأومأ إلى الشمس بيده وقال: ما تلك؟ قال: الشمس. قال: ما أراك إلا عاقلاً، اذهب إلى قومي فأبلغهم السلام وقل لهم ليحسنوا إلى أسيرهم فإني عند قوم يحسنون إلي ويكرموني، وقل لهم فليعروا جملي الأحمر ويركبوا ناقتي العيسار بآية ما أكلنا منهم حيساً وليرعوا حاجتي في بني مالك، وأخبرهم أن العوسج قد أورق، وأن النساء قد اشتكت، وليعصوا همام بن بشامة فإنه مشؤوم مجدودٌ، وليطيعوا هذيل بن الأخنس، فإنه حازم ميمون، واسألوا الحارث عن خبري.
وسار الرسول فأتى قومه فأبلغهم، فلم يدروا ما أراد، فأحضروا الحارث وقصوا عليه خبر الرسول. فقال للرسول. اقصص علي أول قصتك. فقص عليه أول ما كلمه حتى أتى على آخره. فقال: أبلغه التحية والسلام وأخبره أنا نستوصي به. فعاد الرسول؛ ثم قال لبني العنبر: إن صاحبكم قد بين لكم، أما الرمل الذي جعل في كفه فإنه يخبركم أنه قد أتاكم عددٌ لا يحصى، وأما الشمس التي أومأ إليها فإنه يقول ذلك أوضح من الشمس، وأما جمله الأحمر فالصمان فإنه يأمركم أن تعروه، يعني ترتحلوا عنه، وأما ناقته العيساء فإنه يأمركم أن تحترزوا في الدهناء، وأما بنو مالك فإنه يأمركم أن تنذروهم معكم، وأما إيراق العوسج فإن القوم قد لبسوا السلاح، وأما اشتكاء النساء فإنه يريد أن النساء قد خرزن الشكاء، وهي أسقية الماء للغزو.
فحذر بنو العنبر وركبوا الدهناء وأنذروا بني مالك، فلم يقبلوا منهم.
ثم إن اللهازم وعجلاً وعنزة أتوا بني حنظلة فوجدوا عمراً قد أجلت، فأوقعوا ببني دارم بالوقيط فاقتتلوا قتالاً شديداً وعظمت الحرب بينهم فأسرت ربيعة جماعةً من رؤساء بني تميم، منهم ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة فجزوا ناصيته وأطلقوه، وأسروا عثجل بن المأمون بن زرارة، وجويرة بن بدر بن عبد الله بن دارم، ولم يزل في الوثاق حتى رآهم يوماً يشربون، فأنشأ يتغنى يسمعهم ما يقول:
وقائلةٍ ما غاله أن يزورنا ** وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل

وقد أدركتني والحوادث جمّةٌ ** مخالب قومٍ لا ضعافٍ ولا عزل

سراعٍ إلى الجّلى بطاءٍ عن الخنا ** رزانٍ لدى الباذين في غير ما جهل

لعلّهم أن يمطروني بنعمةٍ ** كما صاب ماء المزن في البلد المحل

فقد ينعش الله الفتى بعد ذلّةٍ ** وقد تبتني الحسنى سراة بني عجل

فلما سمعوا الأبيات أطلقوه. وأسر أيضاً نعيم وعوف ابنا القعقاع بن معبد بن زرارة وغيرهما من سادات بني تميم، وقتل حكيم بن جذيمة بن الأصيلع النهشلي، ولم يشهدها من نهشل غيره. وعادت بكر فمرت بطريقها بعد الوقعة بثلاثة نفر من بني العنبر لم يكونوا ارتحلوا مع قومهم، فلما رأوهم طردوا إبلهم فأحرزوها من بكر.
وأكثر الشعراء في هذا اليوم، فمن ذلك قول أبي مهوش الفقعسي يعير تميماً بيوم الوقيط:
فما قاتلت يوم الوقيطين نهشل ** ولا الأنكد الشؤمى فقيم بن دارم

ولا قضبت عوفٌ رجال مجاشعٍ ** ولا قشر الأستاه غير البراجم

وقال أبو الطفيل عمرو بن خالد بن محمود بن عمرو بن مرثد:
حكّت تميمٌ بركها لّما التقت ** راياتنا ككواسر العقبان

دهموا الوقيط بجحفلٍ جمّ الوغى ** ورماحها كنوازع الأشطان

.يوم المروت:

وهو يوم بين تميم وعامر بن صعصعة. وكان سببه أنه التقى قعنب بن عتاب الرياحي وبحير بن عبد الله بن سلمة العامري بعكاظ، فقال بحير لقعنب: ما فعلت فرسك البيضاء؟ قال: هي عندي، وماسؤالك عنها؟ قال: لأنها نجتك مني يوم كذا وكذا، فأنكر قعنب ذلك وتلاعنا وتداعيا أن يجعل الله ميتة الكاذب بيد الصادق، فمكثا ما شاء الله. وجمع بحير بني عامر وسار بهم فأغار على بني العنبر بن عمرو بن تميم بإرم الكلبة وهم خلوفٌ، فاستاق السبي والنعم ولم يلق قتالاً شديداً، وأتى الصريخ بني العنبر بن عمرو بن تميم وبني مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني يربوع بن حنظلة، فركبوا في الطلب، فتقدمت عمرو ابن تميم. فلما انتهى بحير إلى المروت قال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً؟ قالوا: نرى خيلاً عارضةً رماحها على كواهل خيلها. قال: هذه عمرو بن تميم وليست بشيء، فلحق بهم بنو عمرو فقاتلوهم شيئاً من قتال ثم صدروا عنهم، ومضى بحير، ثم قال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً؟ قالوا: نرى خيلاً ناصبةً رماحها. قال: هذه مالك بن حنظلة وليست بشيء، فلحقوا فقاتلوا شيئاً من قتال ثم صدروا عنهم، ومضى بحير وقال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً؟ قالوا: نرى خيلاً ليست معها رماح وكأنما عليها الصبيان. قال: هذه يربوع رماحها بين آذان خيلها، إياكم والموت الزؤام، فاصبروا ولا أرى أن تنجوا.
فكان أول من لحق من بني يربوع الواقعة وهو نعيم بن عتاب، وكان يسمى الواقعة لبليته، فحمل على المثلم القشيري فأسره، وحملت قشير على دوكس بن واقد بن حوط فقتلوه، وأسر نعيم المصفى القشيري فقتله، وحمل كدام بن بجيلة المازني على بحير فعانقه، ولم يكن لقعنب همة إلا بحير، فنظر إليه وإلى كدام قد تانقا فأقبل نحوهما، فقال كدام: يا قعنب أسيري. فقال قعنب: ماز رأسك والسيف، يريد: يا مازني. فخلى عنه كدام وشد عليه قعنب فضربه فقتله، وحمل قعنب أيضاً على صهبان، وأم صهبان مازنية، فأسره، فقالت بنو مازن: يا قعنب قتلت أسيرنا فأعطنا ابن أخينا مكانه، فدفع إليهم صهبان في بحير، فرضوا بذلك، واستنقذت بنو يربوع أموال بني العنبر وسبيهم من بني عامر وعادوا.
بحير بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء المهملة.