فصل: يوم الزويرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.يوم لشيبان على بني تميم:

قال أبو عبيدة: خرج الأقرع بن حابس وأخوه فراس التميميان، وهما الأقرعان، في بني مجاشع من تميم وهما يريدان الغارة على بكر بن وائل ومعهما البروك أبو جعل، فلقيهم بسطام بن قيس الشيباني وعمران ابن مرة في بني بكر بن وائل بزبالة فاقتتلوا قتالاً شديداً ظفرت فيه بكر وانهزمت تميم وأسر الأقرعان وأبو جعل وناس كثير، وافتدى الأقرعان نفسيهما من بسطام وعاهداه على إرسال الفداء، فأطلقهما، فبعدا ولم يرسلا شيئاً. وكان في الأسرى إنسان من يربوع فسمعه بسطام من قيس في الليل يقول:
فدىً بوالدةٍ عليّ شفيقةً ** فكأنّها حرضٌ على الأسقام

لو أنّها علمت فيسكن جأشها ** أنّي سقطت على الفتى المنعام

سقط العشاء به على متنعّم ** سمح اليدين معاود الإقدام

فلما سمع بسطام ذلك منه قال له: وأبيك لا يخبر أمك عنك غيرك! وأطلقه، وقال ابن رميض العنزي:
جاءت هدايا من الرحمان مرسلة ** حتّى أنيخت لدى أبيات بسطام

جيش الهذيل وجيش الأقرعين معاً ** وكبّة الخيل والأذواد في عام

مسوّم خيله تعدو مقانبه ** على الذوائب من أولاد همّام

وقال أوس بن حجر:
وصبّحنا عارٌ طويلٌ بناؤه ** نسب به ما لاح في الأفق كوكب

فلم أر يوماً كان أكثر باكياً ** ووجهاً ترى فيه الكآبة تجنب

أصابوا البروك وابن حابس عنوةً ** فظلّ لهم بالقاع يومٌ عصبصب

وإنّ أبا الصهباء في حومة الوغى ** إذا ازورّت الأبطال ليثٌ مجرّب

وأبو الصهباء هو بسطام بن قيس. وأكثر الشعراء في هذا اليوم في مدح بسطام بن قيس، تركنا ذكره اختصاراً.
حجر بفتح الحاء والجيم.

.يوم مبايض:

وهو لشيبان على بني تميم. قال أبو عبيدة: حج طرف بن تميم العنبري التميمي، وكان رجلاً جسيماً يلقب مجدعاً، وهو فارس قومه، ولقيه حمصيصة بن جندل الشيباني من بني أبي ربيعة، وهو شاب قوي شجاع، وهو يطوف بالبيت، فأطال النظر إليه، فقال له طريف: لم تشد نظرك إلي؟ قال حمصيصة: أريد أن أثبتك لعلي أن ألقاك في جيش فأقتلك. فقال طريف: اللهم لا تحول الحول حتى ألقاه! ودعا حمصيصة مثله، فقال طريف:
أوكلّما وردت عكاظ قبيلةٌ ** بعقوا إليّ عريفهم يتوسّم

لا تنكروني إنّني أنا ذاكم ** شاكي السلاح وفي الحوادث معلم

حولي فوارس من أسيد جمّةٌ ** ومن الهجيم وحول بيتي خصّم

تحتي الأغرّ وفوق جلدي نثرةٌ ** زغفٌ تردّ السيف وهو مثلّم

في أبيات.
ثم إن بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وبني مرة بن ذهل بن شيبان كان بينهم شر وخصام فاقتتلوا شيئاً من قتال ولم يكن بينهم دم. فقال هانئ بن مسعود، رئيس بني أبي ربيعة، لقومه: إني أكره أن يتفاقم الشر بيننا، فارتحل بهم فنزل على ماء يقال له بمائض، وهو قريب من مياه بني تميم، فأقاموا عليه أشهراً، وبلغ خبرهم بني تميم، فأرسل بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا حي منفرد وإن اصطلمتموهم أوهنتم بكر بن وائل. واجتمعوا وساروا على ثلاثة رؤساء: أبو الجدعاء الطهوي على بني حنظلة، وابن فدكى المنقري على بني سعد، وطريف بن تميم على بني عمرو بن تميم. فلما قاربوا بني أبي ربيعة بلغهم الخبر فاستعدوا للقتال، فخطبهم هانئ بن مسعود وحثهم على القتال، فقال: إذا أتوكم فقاتلوهم شيئاً من قتال ثم انحازوا عنهم، فإذا اشتغلوا بالنهب فعودوا إليهم فإنكم تصيبون منهم حاجتكم.
وصبحهم بنو تميم والقوم حذرون فاقتتلوا قتالاً شديداً وفعلت بنو شيبان ما أمرهم هانئ. فاشتغلت تميم بالغنيمة، ومر رجل منهم بابنٍ لهانئ بن مسعود صبي فأخذه وقال: حسبي هذا من الغنيمة، وسار به وبقيت تميم مع الغنيمة والسبي. فعادت شيبان عليهم فهزموهم وقتلوهم وأسروهم كيف شاءوا، ولم تصب تميم بمثلها؛ لم يفلت منهم إلا القليل، ولم يلو أحد على أحد، وانهزم طريف فاتبعه حمصيصة فقتله. واستردت شيبان الأهل والمال وأخذوا مع ذلك ما كان معهم، وفادى هانئ بن مسعود ابنه بمائة بعير، وقال بعض شيبان في هذا اليوم:
ولقد دعوت طرف دعوة جاهلٍ ** غرٍّ وأنت بمنظر لا تعلم

وأتيت حيّاً في الحروب محلّهم ** والجيش باسم أبيهم يستهزم

فوجدتهم يرعون حول ديارهم ** بسلاً إذا حام الفوارس أقدموا

وإذا اعتزوا بأبي ربيعة أقبلوا ** بكتيبة مثل النجوم تلملم

ساموك درعك والأغرّ كليهما ** وبنو أسيدٍ أسلموك وخصّم

وقال عمرو بن سواد يرثي طريفاً:
لا تبعدن يا خير عمرو بن جندب ** لعمري لمن زار القبور ليبعدا

عظيم رماد النار لا متعبّساً ** ولا مؤيساً منها إذا هو أوقدا

وما كان وقّافاً إذا الخيل أحجمت ** وما كان مبطاناً إذا ما تجرّدا

.يوم الزويرين:

قال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل قد أجدبت بلادهم فانتجعوا بلاد تميم بين ليمامة وهجر، فلما تدانوا جعلوا لا يلقى بكري تميمياً إلا قتله، ولا يلقى تميمي بكرياً إلا قتله، إذا أصاب أحدهما مال الآخر أخذه، حتى تفاقم الشر وعظم.فخرج الحوفزان بن شريك والوادك بن الحارث الشيبانيان ليغيرا على بني دارم، فاتفق أن تميماً في تلك الحال اجتمعت في جمع كثير من عمرو بن حنظلة والرباب وسعد وغيرها وسارت إلى بكر بن وائل، وعلى تميم أبو الرئيس الحنظلي. فبلغ خبرهم بكر بن وائل فتقدموا وعليهم الأصم عمرو بن قيس بن مسعود أبو مفروق وحنظلة بن سيار العجلي وحمران ابن عبد عمرو العبسي، فلما التقوا جعلت تميم والرباب بعيرين وجللوهما وجعلوا عندهما من يحفظهما وتركوهما بين الصفين معقولين وسموهما زويرين، يعني: إلهين، وقالوا: لا نفر حتى يفر هذان البعيران. فلما رأى أبو مفروق البعيرين سأل عنهما فأعلم حالهما، فقال: أنا زويركم، وبرك بين الصفين وقال: قاتلوا عني ولا تفروا حتى أفر. فاقتتل الناس قتالاً شديداً، فوصلت شيبان إلى البعيرين فأخذوهما فذبحوهما. واشتد القتال عليهما، فانهزمت تميم وقتل أبو الرئيس مقدمهم ومعه بشر كثير، واجترفت بكر أموالهم ونساءهم وأسروا أسرى كثيرة، ووصل الحوفزان إلى النساء والأموال، وقد سار الرجال عنها للقتال، فأخذ جميع ما خلفوه من النساء والأموال وعاد إلى أصحابه سالماً؛ وقال الأعشى في ذلك اليوم:
يا سلم لا تسألي عنّا فلاً كشفت ** عند اللقاء ولا سود مقاريف

نحن الذين هزمنا يوم صبّحنا ** يوم الزّويرين في جمع الأحاليف

ظلّوا وظلّت تكرّ الخيل وسطهم ** بالشيّب منّا والمرد الغطاريف

تستأنس الشرف الأعلى بأعينها ** لمح الصقور علت فوق الأظاليف

انسلّ عنها بسيل الصّيل فانجردت ** تحت اللّبود متونٌ كالزحاليف

وقد أكثر الشعراء في هذا اليوم، لا سيما الأغلب العجلي، فمن ذلك أرجوزته التي أولها:
إن سرّك العزّ ** فجحجح بحشم

يقول فيها:
جاؤوا بزويريهم وجئنا بالأصمّ ** شيخ لنا كالليث من باقي إرم

شيخٌ لنا معاودٌ ضرب البهم ** يضرب بالسيف إذا الرمح انقصم

هل غير غارٍ ** صكّ غاراً فانهزم

الغاران: بكر وتميم. وله الأرجوزة التي أولها:
يا ربّ حربٍ ** ثرّة الأخلاف

يذكر فيها هذا اليوم.

.ذكر أسر حاتم طيء:

قال أبو عبيدة: أغار حاتم طيء بجيش من قومه على بكر بن وائل فقاتلوهم، وانهزمت طيء وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة، وكان في الأسرى حاتم ابن عبد الله الطائي، فبقي موثقاً عند رجل من عنيزة، فأتته امرأة منهم اسمها عالية بناقة فقالت له: افصد هذه، فنحرها، فلما رأتها منحورة صرخت، فقال حاتم:
عالي لا تلتدّ من عاليه ** إنّ الذي أهلكت من ماليه

إنّ ابن أسماء لكم ضامن ** حتّى يؤدّي آنسٌ ناويه

لا أفصد الناقة في أنفها ** لكنّني أوجرها العاليه

إنّي عن الفصد لفي مفخر ** يكره منّي المفصد الآليه

والخيل إن شمّص فرسانها ** تذكر عند الموت أمثاليه

وقال رميض العنزي يفتخر:
ونحن أسرنا حاتماً وابن ظالم ** فكلٌّ ثوى في قيدنا وهو يخشع

وكعبّ إياد قد أسرنا وبعده ** أسرنا أبا حسّان والخيل تطمع

وريّان غادرنا بوجٍّ كأنّه ** وأشياعه فيها صريمٌ مصرّع

وقال يحيى بن منصور الذهلي قصيدةً يفتخر بأيام قومه، وهي طويلة، وفيها آداب حسنة، تركناها كراهية التطويل، وأولها:
أمن عرفان منزلةٌ ودارٌ ** تعاورها البوارح والسواري

وقال أبو عبيدة: جاء الإسلام وليس في العرب أحدٌ أعز داراً ولا أمنع جاراً ولا أكثر حليفاً من شيبان. كانت عنينة من لخم في الأحلاف، وكانت درمكة بن كندة في بني هند، وكانت عكرمة من طيء، وحوتكة من عذرة، وبنانة كل هؤلاء في بني الحارث بن همام، وكانت عائذة من قريش، وضبة وحواس من كندة، هؤلاء في بني أبي ربيعة، وكانت سليمة من بني عبد القيس في بني أسعد بن همام، وكانت وثيلة من ثعلبة، وبنو خيبري من طيء في بني تميم بن شيبان، وكانت عوف بن حارث من كندة في بني محلم. كل هذه قبائل وبطون جاورت شيبان فعزت بها وكثرت.

.يوم مسحلان:

قال أبو عبيدة: غزا ربيعة بن زياد الكلبي في جيش من قومه فلقي جيشاً لبني شيبان عامتهم بنو أبي ربيعة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت بهم بنو شيبان وهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وذلك يوم مسحلان، وأسروا ناساً كثيراً، وأخذوا ما كان معهم. وكان رئيس شيبان يومئذ حيان بن عبد الله بن قيس المحلمي، وقيل: كان رئيسهم زياد بن مرثد من بني أبي ربيعة، فقال شاعرهم:
سائل ربيعة حيث حلّ بجيشه ** مع الحيّ كلبٌ حيث لبّت فوارسه

عشيّة ولّى جمعهم فتتابعوا ** فصار إلينا نهبه وعوانسه

ثم إن الربيع بن زياد الكلبي نافر قومه وحاربهم فهزموه. فاعتزلهم وسار حتى حل ببني شيبان، فاستجار برجل اسمه زياد من بني أبي ربيعة، فقتله بنو أسعد بن همام، ثم إن شيبان حملوا ديته إلى كلب مائتي بعير فرضوا.

.حرب لسليم وشيبان:

قال أبو عبيدة: خرج جيش لبني سليم عليهم النصيب السلمي وهم يريدون الغارة على بكر بن وائل. فلقيهم رجلٌ من بني شيبان اسمه صليع ابن عبد غنم وهو محرم على فرس له يسمى البحراء، فقال لهم: أين تذهبون؟ قالوا: نريد الغارة على بني شبان. فقال لهم: مهلاً فإني لكم ناصح، إياكم وبني شيبان، فإني أقسم لكم بالله لتأتينكم على ثلاثمائة فرس خصي سوى الفحول والإناث. فأبوا إلا الغارة عليهم، فدفع صليع فرسه ركضاً حتى أتى قومه فأنذرهم. فركبت شيبان واستعدوا، فأتاهم بنو سليم وهم معدون فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت شيبان وانهزمت سليم وقتل منهم مقتلة كثيرة وأسر منهم ناس كثير، ولم ينج إلا القليل، وأسر النصيب رئيسهم، أسره عمران بن مرة الشيبان فضرب رقبته، فقال صليع:
نهيت بني زعل غداة لقيتهم ** وجيش نصيب والظنون تطاع

وقلت لهم: إنّ الحريب وراكساً ** به نعم ترعى المرار رتاع

ولكنّ فيه الموت يرتع سربه ** وحقّ لهم أن يقبلوا ويطاعوا

متى تأته تلقى على الماء حارثاً ** وجيشاً له يوفي بكلّ بقاع

.يوم جَدود:

وهو يوم بين بكر بن وائل وبني منقر من تميم. وكان من حديثه أن الحوفزان، واسمه الحارث بن شريك الشيباني، كانت بينه وبين بني سليط ابن يربوع موادعة، فهم بالغدر بهم وجمع بني شيبان وذهلاً واللهازم، وعليهم حمران بن عبد عمرو بن بشر بن عمرو. ثم غزا وهو يرجو أن يصيب غرة من بني يربوع. فلما انتهى إلى بني يربوع نذر به عتيبة بن الحارث بن شهاب فنادى في قومه، فحالوا بين الحوفزان وبين الماء، وقال لعتيبة: إني لا أرى معك إلا رهطك وأنا في طوائف من بني بكر، فلئن ظفرت بكم قل عددكم وطمع فيكم عدوكم، ولئن ظفرتم بي ما تقتلون إلا أقاصي عشيرتي، وما إياكم أردت، فهل لكم أن تسالمونا وتأخذوا ما معنا من التمر، ووالله لا نروح يربوعاً أبداً. فأخذ ما معهم من التمر وخلى سبيلهم. فسارت بكر حتى أغاروا على بني ربيع بن الحارث، وهو مقاعس، بجدود، وإنما سمي مقاعساً لأنه تقاعس عن حلف بني سعد، فأغار عليهم وهم خلوفٌ فأصاب سبياً ونعماً، فبعث بنو ربيع صريخهم إلى بني كليب، فلم يجيبوهم، فأتى الصريخ بني منقر بن عبيد فركبوا في الطلب فلحقوا بكر بن وائل وهم مقاتلون، فما شعر الحوفزان وهو في ظل شجرة إلا بالأهتم بن سمي بن سنان المنقري واقفاً على رأسه، فركب فرسه، فنادى الأهتم: يا آل سعد! ونادى الحوفزان: يا آل وائل! ولحق بنو منقر فقاتلوا قتالاً شديداً، فهزمت بكر وخلوا السبي والأموال، وتبعتهم منقر، فمن قتيل وأسير، وأسر الأهتم حمران بن عبد عمرو، ولم يكن لقيس بن عاصم المنقري همة إلا الحوفزان، فتبعه على مهر، والحوفزان على فرس فارج فلم يحلقه وقد قاربه. فلما خاف أن يفوته حفزه بالرمح في ظهره فاحتفز بالطعنة ونجا، فسمي يومئذ الحوفزان، وقيل غير هذا. وقال الأهتم في أسره حمران:
نيطت بحمران المنّية بعدما ** حشاه سنان من شراعة أزرق

دعا يال قيسٍ واعتزيت لمنقر ** وكنت إذا لاقيت في الخيل أصدق

وقال سوار بن حيان المنقري يفتخر على رجل من بكر:
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنةٍ ** كسته نجيعاً من دم البطن أشكلا

وحمران قسراً أنزلته رماحنا ** فعالج غلاًّ في ذراعيه مثقلا

فيا لك من أيّام صدقٍ نعدّها ** كيوم جواثا والنّباج وثيتلا

قضى الله أنّا يبوم تقتسم العلى ** أحقّ بها منكم فأعطى فأجّزلا

فلست بمسطيع السماء ولم تجد ** لعزٍّ بناه الله فوقك منقلا

منقر بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف؛ وربيع بضم الراء، وفتح الباء الموحدة.

.يوم الإياد وهو يوم أعشاش ويوم العظالى:

وإنما سمي يوم العظالى لأن بسطام بن قيس وهانئ بن قبيصة ومفروق ابن عمرو تعاظلوا على الرياسة، وكانت بكر تحت يد كسرى وفارس، وكانوا يقرونهم ويجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عين التمر في ثلاثمائة متساندين وهم يتوقعون انحدار بني يربوع في الحزن، فاجتمع بنو عتيبة وبنو عبيد وبنو زبيد في الحزن. فحلت بنو زبيد الحديقة، وحلت بنو عتيبة وبنو عبيد روضة الثمد، فأقبل جيش بكر حتى نزلوا حضبة الحصى، فرأى بسطام السواد بالحديقة، وثم غلامٌ عرفه بسطام، وكان قد عرف غلمان بني ثعلبة حين أسره عتيبة. فسأله بسطام عن السواد الذي بالحديقة، فقال: هم بنو زبيد. قال: كم هم من بيت؟ قال: خمسون بيتاً. قال: فأين بنو عتيبة وبنو عبيد؟ قال: هم بروضة الثمد وسائر الناس بخفاف، وهو موضع. فقال بسطام: أتطيعونني يا بني بكر؟ قالوا: نعم. قال: أرى لكم أن تغنموا هذا الحي المتفرد بني زبيد وتعودوا سالمين. قالوا: وما يغني بنو زبيد عنا؟ قال: إن في السلامة إحدى الغنيمتين. قالوا: إن عتيبة بن الحارث قد مات. وقال مفروق: قد انتفخ سحرك يا أبا الصهباء! وقال هانئ: اخسأ! فقال: إن أسيد بن جباة لا يفارق فرسه الشقراء ليلاً ونهاراً، فإذا أحس بكم ركبها حتى يشرف على مليحة فينادي: يا آل ثعلبة، فيلقاكم طعنٌ ينسيكم الغنيمة ولم يبصر أحد منكم مصرع صاحبه، وقد عصيتموني وأنا تابعكم وستعلمون.
فأغاروا على بني زبيد وأقبلوا نحو بني عتيبة وبني عبيد، فأحست الشقراء فرس أسيد بوقع الحوافر فنخست بحافرها، فركبها أسيد وتوجه نحو بني يربوع بمليحة ونادى: يا سوء صباحاه! يا آل ثعلبة بن يربوع! فما ارتفع الضحى حتى تلاحقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت شيبان بعد أن قتلت من تميم جماعةً من فرسانهم، وقتل من شيبان أيضاً وأسر جماعة، منهم: هانئ بن قبيصة، ففدى نفسه ونجا، فقال متمم بن نويرة في هذا اليوم:
لعمري لنعم الحيّ أسمع غدوةً ** أسيدٌ وقد جدّ الصراخ المصدّق

وأسمع فتياناً كجّنة عبقر ** لهم ريّقٌ عند الطّعان ومصدق

أخذن بهم جنبي أفاقٍ وبطنها ** فما رجعوا حتّى أرقّوا وأعتقوا

وقال العوام في هذا اليوم:
قبح الإله عصابةً من وائلٍ ** يوم الأفاقة أسلموا بسطاما

ورأى أبو الصهباء دون سوامهم ** طعناً يسلّي نفسه وزحاما

كنتم أسوداً في الوغى فوجدتم ** يوم الأفاقة في الغبيط نعاما

وأكثر العوام الشعر في هذا اليوم. فلما ألح فيه أخذ بسطام إبله، فقالت أمه:
أرى كلّ ذي شعرٍ أصاب بشعره ** خلا أنّ عوّاماً بما قال عيّلا

فلا ينطقن شعراً يكون جوازه ** كما شعر عوّام أعام وأرجلا

.يوم الشقيقة وقتل بسطام بن قيس:

هذا يوم بين بني شيبان وضبة بن أد، قتل فيه بسطام بن قيس سيد شيبان.
وكان سببه أن بسطام بن قيس بن مسعود بن خالد بن عبد الله ذي الجدين غزا بني ضبة ومعه أخوه السليل بن قيس ومعه رجل يزجر الطير من بني أسد ابن خزيمة يسمى نقيداً. فلما كان بسطام في بعض الطريق رأى في منامه كأن آتياً أتاه، فقال له: الدلو تأتي الغرب المزلة؛ فقص رؤياه على نقيد، فتطير وقال: ألا قلت: ثم تعود بادياً مبتلة؛ فتفرط عنك النحوس. ومضى بسطام على وجهه، فلما دنا من نقاً يقال له الحسن في بلاد ضبة صعده ليرى، فإذا هو بنعم قد ملأ الأرض فيه ألف ناقة لمالك بن المنتفق الضبي من بني ثعلبة بن سعد بن ضبة قد فقأ عين فحلها، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية إذا بلغت إبل أحدهم ألف بعير فقأوا عين فحلها لترد عنها العين، وهي إبل مرتبعةٌ، ومالك بن المنتفق فيها على فرس له جواد.
فلما أشرف بسطام على النقا تخوف أن يروه فينذروا به فاضطجع وتدهدى حتى بلغ الأرض وقال: يا بني شيبان لم أر كاليوم قط في الغرة وكثرة النعم. ونظر نقيد إلى لحية بسطام معفرة بالتراب لما تدهدى فتطير له أيضاً وقال: إن صدقت الطير فهو أول من يقتل. وعزم الأسدي على فراقه، فأخذته رعدة تهيّباً لفراقه والانصراف عنه وقال له: ارجع يا أبا الصهباء، فإني أتخوف عليك أن تقتل، فعصاه ففارقه نقيد.
وركب بسطام وأصحابه وأغاروا على الإبل واطردوها، وفيها فحل لمالك يقال له أبو شاعر، وكان أعور، فنجا مالك على فرسه إلى قومه من ضبة حتى إذا أشرف على تعشار نادى: يا صباحاه! وعاد راجعاً. وأدرك الفوارس القوم وهم يطردون النعم، فجعل فحله أبو شاعر يشذ من النعم ليرجع وتتبعه الإبل، فكلما تبعته ناقة عقرها بسطام. فلما رأى مالك ما يصنع بسطام وأصحابه قال: ما ذا السفه يا بسطام؟ لا تعقرها فإما لنا وإما لك. فأبى بسطام، وكان في أخريات الناس على فرس أدهم يقال له الزعفران يحمي أصحابه، فلما لحقت خيل ضبة قال لهم مالك: ارموا روايا القوم. فجعلوا يرمونها فيشقونها. فلحقت بنو ثعلبة وفي أوائلهم عاصم بن خليفة الصباحي، وكان ضعيف العقل، وكان قبل ذلك يعقب قناة له فيقال له: ما تصنع بها يا عاصم؟ فيقول: أقتل عليها بسطاماً، فيهزأون منه. فلما جاء الصريخ ركب فرس أبيه بغير أمره ولحق الخيل، فقال لرجل من ضبة: أيهم الرئيس؟ قال: صاحب الفرس الأدهم. فعارضه عاصم حتى حاذاه، ثم حمل عليه فطعنه بالرمح في صماخ أذنه أنفذ الطعنة إلى الجانب الآخر، وخر بسطام على شجرة يقال لها الألاءة. فلما رأت ذلك شيبان خلوا سبيل النعم وولوا الأدبار، فمن قتيل وأسير. وأسر بنو ثعلبة نجاد بن قيس أخا بسطام في سبعين من بني شبان، وكان عبد الله بن عنمة الضبي مجاوراً في شيبان، فخاف أن يقتل فقال يرثي بسطاماً:
لأمّ الأرض ويلٌ ما أجنّت ** غداة أضرّ بالحسن السبيل

يقسّم ماله فينا وندعو ** أبا الصهباء إذ جنح الأصيل

أجدّك لن تريه ولن نراه ** تخبّ به عذافرةٌ ذمول

حقيبةٌ بطنها بدنٌ وسرجٌ ** تعارضها مزبّبةٌ زؤول

إلى ميعاد أرعن مكفهّرٍ ** تضمّر في جوانبه الخيول

لك المرباع منها والصّفايا ** وحكمك والنّشيطة والفضول

لقد صمّت بنو زيد بن عمرو ** ولا يوفي ببسطامٍ قتيل

فخرّ على الألاءة لم يوسّد ** كأنّ جبينه سيفٌ صقيل

فإن يجزع عليه بنو أبيه ** فقد فجعوا وفاتهم جليل

بمطعام إذا الأشوال راحت ** إلى الحجرات ليس لها فصيل

فلم يبق في بكر بن وائل بيت إلا وألقي لقتله لعلو محله؛ وقال شمعلة ابن الأخضر بن هبيرة بن المنذر بن ضرار الضبي يذكره:
فيوم شقيقة الحسنين لاقت ** بنو شيبان آجالاً قصارا

شككنا بالرماح، وهنّ زورٌ، ** صماخي كبشهم حتّى استدارا

وأوجرناه أسمر ذا كعوب ** يشبّه طوله مسداً مغارا

الشقيقة: أرض صلبة بين جبلي رمل. والحسنان: نقوا رملٍ كانت الوقعة عندهما. وقالت أم بسطام بن قيس ترثيه:
ليبك ابن ذي الجدّين بكر بن وائل ** فقد بان منها زينها وجمالها

إذا ما غدا فيهم غدوا وكأنّهم ** نجوم سماء بينهنّ هلالها

فلله عينا من رأى مثله فتىً ** إذا الخيل يوم الروع هبّ نزالها

عزيزٌ المكرّ لا يهدّ جناحه ** وليثٌ إذا الفتيان زلّت نعالها

وحمّال أثقالٍ وعائد محجر ** تحلّ إليه كلّ ذاك رحالها

سيبكيك عانٍ لم يجد من يفكّه ** ويبكيك فرسان الوغى ورجالها

وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم ** وأرملةٌ ضاعت وضاع عيالها

مفرّج حومات الخطوب ومدرك ال ** حروب إذا صالت وعزّ صيالها

تغشى بها حيناً كذاك ففجّعت ** تميمٌ به أرماحها ونبالها

فقد ظفرت منّا تميمٌ بعثرةٍ ** وتلك لعمري عثرةٌ لا تقالها

أصيبت به شيبان والحيّ يشكر ** وطير يرى إرسالها وحبالها

عنمة بفتح العين المهملة، والنون.