فصل: يوم ذي نجب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.يوم شعب جبلة:

كان لقيط بن زرارة قد عزم على غزو بني عامر بن صعصعة للأخذ بثأر أخيه معبد بن زرارة، وقد ذكرنا موته عندهم أسيراً. فبينما هو يتجهز أتاه الخبر يحلف بني عبس وبني عامر، فلم يطمع في القوم وأرسل إلى كل من كان بيته وبين عبس ذحل يسأله الحلف والتظافر على غزو عبس وعامر. فاجتمعت إليه أسد وغطفان وعمرو بن الجون ومعاوية بن الجون واستوثقوا واستكثروا وساروا، فعقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون، وعقد لعمرو بن تميم مع حاجب بن زرارة، وعقد للرباب مع حسان بن همام، وعقد لجماعة من بطون تميم مع عمرو ابن عدس، وعقد لحنظلة بأسرها مع لقيط بن زرارة، وكان مع لقيط ابنته دخنتوس، وكان يغزو بها معه ويرجع إلى رأيها.
وساروا في جمع عظيم لا يشكون في قتل عبس وعامر وإدراك ثأرهم، فلقي لقيط في طريقه كرب بن صفوان بن الحباب السعدي، وكان شريفاً، فقال: ما منعك أن تسير معنا في غزاتنا؟ قال: أنا مشغول في طلب إبل لي. قال: لا بل تريد أن تنذر بنا القوم، ولا أتركك حتى تحلف أنك لا تخبرهم، فحلف له، ثم سار عنه وهو مغضب. فلما دنا من عامر أخذ خرقة فصر فيها حنظلةً وشوكاً وتراباً وخرقتين يمانيتين وخرقة حمراء وعشرة أحجار سود ثم رمى بها حيث يسقون ولم يتكلم. فأخذها معاوية بن قشير، فأتى بها الأحوص بن جعفر وأخبره أن رجلاً ألقاها وهم يسقون. فقال الأحوص لقيس بن زهير العبسي: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: هذا من صنع الله لنا، هذا رجل قد أخذ عليه عهدٌ على أن لا يكلمكم فأخبركم أن أعداءكم قد غزوكم عدد التراب، وأن شوكتهم شديدة، وأما الحنظلة فهي رؤساء القوم، وأما الخرقتان اليمانيتان فهما حيان من اليمن معهم، وأما الخرقة الحمراء فهي حاجب بن زرارة، وأما الأحجار فهي عشر ليال يأتيكم القوم إليها، قد أنذرتكم فكونوا أحراراً فاصبروا كما يصبر الأحرار الكرام.
قال الأحوص: فإنا فاعلون وآخذون برأيك، فإنه لم تنزل بك شدة إلا رأيت المخرج منها. قال: فإذا قد رجعتم إلى رأيي فأدخلوا نعمكم شعب جبلة ثم اظمئوها هذه الأيام ولا توردوها الماء، فإذا جاء القوم أخرجوا عليهم الإبل وانخسوها بالسيوف والرماح فتخرج مذاعير عطاشاً فتشغلهم وتفرق جمعهم واخرجوا أنتم في آثارها واشفوا نفوسكم. ففعلوا ما أشار به.
وعاد كرب بن صفوان فلقي لقيطاً فقال له: أنذرت القوم؟ فأعاد الحلف له أنه لم يكلم أحداً منهم، فخلى عنه. فقالت دخنتوس ابنة لقيط لأبيها: ردني إلى أهلي ولا تعرضني لعبس وعامر فقد أنذرهم لا محالة. فاستحمقها وساءه كلامها وردها. وسار حتى نزل على فم الشعب بعساكر جرارة كثيرة الصواهل وليس لهم هم إلا الماء، فقصدوه. فقال لهم قيس: أخرجوا عليهم الآن الإبل، ففعلوا ذلك، فخرجت الإبل مذاعير عطاشاً وهم في أعراضها وأدبارها، فخبطت تميماً ومن معها وقطعتهم، وكانوا في الشعب، وأبرزتهم إلى الصحراء على غير تعبية. وشغلوا عن الاجتماع إلى ألويتهم، وحملت عيهم عبس وعامر فاقتتلوا قتالاً شديداً وكثرت القتلى في تميم، وكان أول من قتل من رؤسائهم عمرو بن الجون، وأسر معاوية بن الجون وعمرو بن عمرو بن عدس زوج دخنتوس بنت لقيط، وأسر حاجب ابن زرارة، وانحاز لقيط بن زرارة، فدعا قومه وقد تفرقوا عنه، فاجتمع إليه نفر يسير، فتحرز برايته فوق جرف ثم حمل فقتل فيهم ورجع وصاح: أنا لقيط، وحمل ثانيةً فقتل وجرح وعاد، فكثر جمعه، فانحط الجرف بفرسه، وحمل عليه عنترة فطعنه طعنة قصم بها صلبه، وضربه قيس بالسيف فألقاه متشحطاً في دمه، فذكر ابنته دخنتوس فقال:
يا ليت شعري عنك دخنتوس ** إذا أتاها الخبر المرموس

أتحلق القرون أم تميس ** لا بل تمس إنّها عروس

ثم مات وتمت الهزيمة على تميم وغطفان، ثم فدوا حاجباً بخمسمائة من الإبل، وفدوا عمرو بن عمرو بمائتين من الإبل، وعاد من سلم إلى أهله. وقالت دختنوس ترثي أباها قصائد، منها:
عثر الأغرّ بخير خن ** دف كهلها وشبابها

وأضرّها لعدوّها ** وأفكّها لرقابها

وقريعها ونجيبها ** في المطبقات ونابها

ورئيسها عند الملو ** ك وزين يوم خطابها

وأتّمها نسباً إذا ** رجعت إلى أنسابها

فرعى عموداً للعشي ** رة رافعاً لنصابها

ويعولها ويحوطها ** ويذبّ عن أحسابها

ويطا مواطن للعد ** وفكان لا يمشى بها

فعل المدلّ من الأسو ** د لحينها وتبابها

كالكوكب الدّرّيّ في ** سماء لا يخفى بها

عبث الأغرّ به وك ** لّ منيّة لكتابها

فرّت بنو أسد فرا ** ر الطير عن أربابها

وهوازنٌ أصحابهم ** كالفأر في أذنابها

وذكر محمد بن إسحاق في يوم جبلة غير ما ذكرنا، قال: كان سببه أن بني خندف كان لهم على قيس أكلٌ تأكله القعدد من خندف، فكان ينتقل فيهم حتى انتهى إلى تميم، ثم من تميم إلى بني عمرو بن تميم، وهم أقل بطن منهم وأذله، فأبت قيس أن تعطي الأكل وامتنعت منه، فجمعت تميم وحالفت غيرها من العرب وساروا إلى قيس، فذكر القصة نحو ما تقدم وخالف في البعض فلا حاجة إلى ذكره.
وفي هذا اليوم ولد عامر بن الطفيل العامري.
وقد قال بعض العلماء إن المجوسية كان يدين بها بعض العرب بالبحرين، وكان زرارة عدس وابناه حاجب ولقيط والأقرع بن حابس وغيرهم مجوساً، وإن لقيطاً تزوج ابنته دختنوس وسماها بهذا الاسم الفارسي، وإنه قتل وهي تحته، فقال في ذلك: يا ليت شعري عنك دختنوس الأبيات. والأول أصح، والله أعلم.

.يوم ذات نكيف:

كان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة مبغضين لقريش مضطغنين عليهم ما كان من قصي حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة حين قسمها رباعاً وخططاً بين قريش. فلما كانوا على عهد عبد المطلب هموا بإخراج قريش من الحرم وأن يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت بنو بكر على نعمٍ لبني الهون بن خزيمة فاطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش جموعهم واستعدت، وعقد عبد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، وهم بنو الحارث بن عبد مناة وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة وبنو المصطلق من خزاعة، فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم، وعلى الناس عبد المطلب، فاقتتلوا بذات نكيف، فانهزم بنو بكر وقتلوا قتلاً ذريعاً، فلم يعودوا لحرب قريش، قال ابن شعلة الفهري:
فللّه عينا من رأى من عصابة ** غوت غيّ بكر يوم ذات نكيف

أناخوا إلى أبياتنا ونسائنا ** فكانوا لنا ضيفاً بشرّ مضيف

فقتل يومئذ عبد بن السفاح القاري من القارة قتادة بن قيس أخا بلعاء ابن قيس، واسم بلعاء مساحق. ويومئذ قيل: قد أنصف القارة من راماها؛ والقارة من ولد الهون بن خزيمة، وهو من ولد عضل بن الدّيش؛ قال رجل منهم:
دعونا قارةً لا تنفرونا ** فنجفل مثل إجفال الظليم

وقيل: بهذا البيت سموا قارةً، وكان يقال للقارة رماة الحدق.

.ذكر الفجار الأول والثاني:

أما الفجار الأول فلم يكن فيه كثير أمرٍ ليذكر، وإنما ذكرناه لئلا يرى ذكر الفجار الثاني وما كان فيه من الأمور العظيمة فيظن أن الأول مثله وقد أهملناه، فلهذا ذكرناه.
قال ابن إسحاق: كان الفجار الأول بين قريش ومن معها من كنانة كلها وبين قيس عيلان. وسببه أن رجلاً من كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأعدم الكناني، فوافى النصري سوق عكاظ بقرد وقال: من يبيعني مثل هذا بما لي على فلان الكناني؟ فعل ذلك تعييراً للكناني وقومه؛ فمر به رجلٌ من كنانة فضرب القرد بالسيف فقتله أنفةً مما قال النصري، فصرخ النصري في قيس، وصرخ الكناني في كنانة، فاجتمع الناس وتحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال ثم اصطلحوا.
وقيل: كان سببه أن فتيةً من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر وهي وضيئة عيها برقع، فقالوا لها: اسفري لننظر إلى وجهك: فلم تفعل. فقال غلام منهم فشك ذيك درعها إلى ظهرها ولم تشعر، فلما قامت انكشفت دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك. فصاحت المرأة: يا بني عامر فضحت! فأتاها الناس واشتجروا حتى كاد يكون قتال، ثم رأوا أن الأمر يسير فاصطلحوا. وقيل: بل قعد رجل من بني غفار يقال له أبو معشر بن مكرز، وكان عازماً منيعاً في نفسه، وكان بسوق عكاظ، فمد رجله ثم قال:
نحن بنو مدركة بن خندف ** من يطعنوا في عينه لا يطرف

ومن يكونوا قومه يغطرف ** كأنّه لجّة بحر مسرف

أنا والله أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فقام رجل من قيس يقال له أحمر بن مازن فضربها بالسف فخرشها خرشاً غير كثير، فاختصم الناس ثم اصطلحوا. بنو نصر بالنون.
وأما الفجار الثاني، وكان بعد الفيل بعشرين سنة، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة، ولم يكن في أيام العرب أشهر منه ولا أعظم، فإنما سمي الفجار لما استحل الحيان كنانة وقيس فيه من المحارم، وكان قبله يوم جبلة، وهو مذكور من أيام العرب، والفجار أعظم منه. وكان سببه أن البراض بن قيس بن رافع الكناني ثم الضمري كان رجلاً فاتكاً خليعاً قد خلعه قومه لكثرة شره، وكان يضرب المثل بفتكه فيقال: أفتك من البراض. قال بعضهم:
والفتى من تعرّفته الليلة ** فهو فيها كالحّية النضناض

كلّ يوم له بصرف الليالي ** فتكةٌ مثل فتكة البرّاض

فخرج حتى قدم على النعمان بن المنذر، وكان النعمان يبعث كل عام بلطيمة للتجارة إلى عكاظ تباع له هناك، وكان عكاظ وذو المجاز ومجنة أسواقاً تجتمع بها العرب كل عام إذا حضر الموسم فيأمن بعضهم بعضاً حتى تنقضي أيامها، وكانت مجنة بالظهران، وكانت عكاظ بين نخلة والطائف، وكان ذو المجاز بالجانب الأيسر إذا وقفت على الموقف، فقال النعمان، وعنده البراض وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب المعروف بالرحال، وإنما قيل له ذلك لكثرة رحلته إلى الملوك: من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال البراض: أنا أجيزها، أبيت اللعن، على كنانة. فقال النعمان: إنما أريد من يجيزها على كنانة وقيس! فقال عروة: أكلبٌ خليع يجيزها لك، أبيت اللعن! أنا أجيزها على أهل الشيح والقيصوم من أهل تهامة وأهل نجد. فقال البراض، وغضب: وعلى كنانة تجيزها يا عروة؟ قال عروة: وعلى الناس كلهم.
فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة الرحال وأمره بالمسير بها، وخرج البراض يتبع أثره، وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه، حتى إذا كان عروة بين ظهري قومه بوادٍ يقال له تيمن ينواحي فدك أدركه البراض بن قيس فأخرج قداحه يستقسم بها في قتل عروة، فمر به عروة فقال: ما تصنع يا براض؟ فقال: أستقسم في قتلك أيؤذن لي أم لا. فقال عروة: استك أضيق من ذلك! فوثب إليه البراض بالسف فقتله. فلما رآه الذين يقومون على العير والأحمار قتيلاً انهزموا، فاستاق البراض العير وسار على وجهه إلى خيبر، وتبعه رجلان من قيس ليأخذاه، أحدهما غنوي والآخر غطفاني، اسم الغنوي أسد ابن جوين، واسم الغطفاني مساور بن مالك، فلقيهما البراض بخيبر أول الناس فقال لهما: من الرجلان؟ قالا: من قيس قدمنا لنقتل البراض. فأنزلهما وعقل راحلتيهما، ثم قال: أيكما أجرأ عليه وأجود سيفاً؟ قال الغطفاني: أنا. فأخذه ومشى معه ليدله بزعمه على البراض، فقال للغنوي: احفظ راحلتيكما، ففعل، وانطلق البراض بالغطفاني حتى أخرجه إلى خربة في جانب خيبر خارجاً من البيوت، فقال للغطفاني: هو في هذه الخربة إليها يأوي فأمهلني حتى أنظر أهو فيها. فوقف ودخل البراض ثم خرج فقال: هو فيها وهو نائم، فأرني سيفك حتى أنظر إليه أضاربٌ هو أم لا، فأعطاه سيفه، فضربه به حتى قتله ثم أخفى السيف وعاد إلى الغنوي فقال له: لم أر رجلاً أجبن من صاحبك، تركته في البيت الذي فيه البراض وهو نائم فلم يقدم عليه. فقال: انظر لي من يحفظ الراحلتين حتى أمضي إليه فأقتله. فقال: دعهما وهما علي، ثم انطلقا إلى الخربة، فقتله وسار بالعير إلى مكة، فلقي رجلاً من بني أسد بن خزيمة، فقال له البراض: هل لك إلى أن أجعل لك جعلاً أن تنطلق إلى حرب بن أمية وقومي فإنهم قومي وقومك، لأن أسد بن خزيمة من خندف أيضاً، فتخبرهم أن البراض بن قيس قتل عروة الرحال، فليحذروا قيساً! وجعل له عشراً من الإبل. فخرج الأسدي حتى أتى عكاظ، وبها جماعة من الناس، فأتى حرب بن أمية فأخبره الخبر، فبعث إلى عبد الله بن جدعان التيمي وإلى هشام بن المغيرة المخومي، وهو والد أبي جهل، وهما من أشراف قريش وذوي السن منهم، وإلى كل قبيلة من قريش أحضر منها رجلاً، وإلى الحليس بن يزيد الحارثي، وهو سيد الأحابيش، فأخبرهم أيضاً. فتشاوروا وقالوا: نخشى من قيس أن يطلبوا ثأر صاحبهم منا فإنهم لا يرضون أن يقتلوا به خليعاً من بني ضمرة. فاتفق رأيهم على أن يأتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة، وهو يومئذ سيد قيس وشريفها، فيقولوا له: إنه قد كان حدث بين نجد وتهامة وإنه لم يأتنا علمه فأجز بين الناس حتى تعلم وتعلم.
فأتوه وقالوا له ذلك، فأجاز بين الناس وأعلم قومه ما قيل له، ثم قام نفر من قريش فقالوا: يا أهل عكاظ إنه قد حدث في قومنا بمكة حدثٌ أتانا خبره ونخشى إن تخلفنا عنهم أن يتفاقم الشر فلا يروعنكم تحملنا. ثم ركبوا على الصعب والذلول إلى مكة. فلما كان آخر اليوم أتى عامر بن مالك ملاعب الأسنة الخبر فقال: غدرت قريش وخدعني حرب بن أمية، والله لا تنزل كنانة عكاظ أبداً. ثم ركبوا في طلبهم حتى أدركوهم بنخلة، فاقتتل القول، فاشتعلت قيس، فكادت قريش تنهزم إلا أنها على حاميتها تبادر دخول الحرم ليأمنوا به. فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا الحرم مع الليل، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معهم، وعمره عشرون سنة.
وقال الزهري: لم يكن معهم، ولو كان معهم لم ينهزموا، وهذه العلة ليست بشيء لأنه قد كان بعد الوحي والرسالة ينهزم أصحابه ويقتلون، وإذا كان في جمع قبل الرسالة وانهزموا فغير بعيد. ولما دخلت قريش الحرم عادت عنهم قيس وقالوا لهم: يا معشر قريش إنا لا نترك دم عروة وميعادنا عكاظ في العام المقبل، وانصرفت إلى بلادها يحرض بعضها بعضاً ويبكون عروة الرحال. يوم شمطة ثم إن قيساً جمعت جموعها ومعها ثقيف غيرها، وجمعت قريش جموعها، منهم كنانة جميعها والأحابيش وأسد بن خزيمة، وفرقت قريش السلاح في الناس، فأعطى عبد الله بن جدعان مائة رجل سلاحاً تاماً، وفعل الباقون مثله.
وخرجت قريش للموعد على كل بطن منها رئيس، فكان على بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإخوته أبو طالب وحمزة والعباس بنو عبد المطلب، وعلى بني أمية وأحلافها حرب ابن أمية، وعلى بني عبد الدار عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعلى بني أسد بن عبد العزى خويلد بن أسد، وعلى بني مخزوم هشام بن المغيرة أبو أبي جهل، وعلى بني تيم عبد الله بن جدعان، وعلى بني جمح معمر ابن حبيب بن وهب، وعلى بني سهم العاصب بن وائل، وعلى بني عدي زيد ابن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد، وعلى بني عامر بن لؤي عمرة بن عبد شمس والد سهيل بن عمرو، وعلى بني فهر عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة، وعلى الأحابيش الحليس بن يزيد وسفيان بن عويف هما قائداهم، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة كنانة وعضل والقارة الديش من بني الهون بن خزيمة والمصطلق بن خزاعة، سموا بذلك لحلفهم بني الحارث، والتحبش التجمع، وعلى بني بكر بلعاء بن قيس، وعلى بني فراس بن غنم من كنانة عمير بن قيس جذل الطعان، وعلى بني أسد بن خزيمة بشر بن أبي محازم، وكان على جماعة الناس حرب بن أمية لمكانة من عبد مناف سناً ومنزلةً.
وكانت قيس قد تقدمت إلى عكاظ قبل قريش، فعلى بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء، وعلى بني نصر وسعد وثقيف سبيع بن ربيع بن معاوية، وعلى بني جشم الصمة والد دريد، وعلى غطفان عوف بن أبي حارثة المري،وعلى بني سليم عباس بن زعل بن هني بن أنس، وعلى فهم وعدوان كدام بن عمرو. وسارت قريش حتى نزلت عكاظ وبها قيس. وكان مع حرب بن أمية إخوته سفيان وأبو سفيان والعاص وأبو العاص بنو أمية، فعقل حربٌ نفسه وقيد سفيان وأبو العاص نفسيهما وقالوا: لن يبرح رجل منا مكانه حتى نموت أو نظفر، فيومئذ سموا العنابس، والعنبس الأسد. واقتتل الناس قتالاً شديداً، فكان الظفر أول النهار لقيس، وانهزم كثير من بني كنانة وقريش، فانهزم بنو زهرة وبنو عدي، وقتل معمر بن حبيب الجمحي، وانهزمت طائفة من بني فراس، وثبت حرب بن أمية وبنو عبد مناف وسائر قبائل قريش، ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار. ثم عاد الظفر لقريش وكنانة فقتلوا من قيس فأكثروا، وحمي القتال واشتد الأمر فقتل يومئذ تحت راية بني الحاث بن عبد مناة بن كنانة مائة رجل وهم صابرون، فانهزمت قيس، وقتل من أشرافهم عباس ابن زعل السلمي وغيره. فلما رأى أبو السيد عم مالك بن عوف النصري ما تصنع كنانة من القتل نادى: يا معشر بني كنانة أسرفتم في القتل. فقال ابن جدعان: إنا معشر يسرف.
ولما رأى سبيع بن ربيع بن معاوية هزيمة قبائل قيس عقل نفسه واضطجع وقال: يا معشر بني نصر قاتلوا عني أو ذروا. فعطفت عليه بنو نصر وجشم وسعد بن بكر وفهم وعدوان وانهزم باقي قبائل قيس، فقاتل هؤلاء أشد قتال رآه الناس. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح فاصطلحوا على أن يعدوا القتلى فأي الفريقين فضل له قتلى أخذ ديتهم من الفريق الآخر، فتعادوا القتلى فوجدوا قريشاً وبني كنانة قد أفضلوا على قيس عشرين رجلاً، فوهن حرب بن أمية يومئذ ابنه أبا سفيان في ديات القوم حتى يؤديها، ورهن غيره من الرؤساء، وانصرف الناس بعضهم عن بعض ووضعوا الحرب وهدموا ما بينهم من العداوة والشر وتعاهدوا على أن لا يؤذي بعضهم بعضاً فيما كان من أمر البراض وعروة.

.يوم ذي نجب:

وكان من حديث يوم ذي نجب أن بني عامر لما أصابوا من تميم ما أصابوا يوم جبلة رجوا أن يستأصلوهم، فكاتبوا حسان بن كبشة الكندي، وكان ملكاً من ملوك كندة، وهو حسان بن معاوية بن حجر، فدعوه إلى أن يغزو معهم بني حنظلة من تميم، فأخبروه أنهم قد قتلوا فرسانهم ورؤساءهم، فأقبل معهم بصنائعه ومن كان معه. فلما أتى بني حنظلة خبر مسيرهم قال لهم عمرو بن عمرو: يا بني مالك إنه لا طاقة لكم بهذا الملك وما معه من العدد فانتقلوا من مكانكم، وكانوا في أعالي الوادي مما يلي مجيء القوم، وكانت بنو يربوع بأسفله، فتحولت بنو مالك حتى نزلت خلف بني يربوع، وصارت بنو يربوع تلي الملك.
فلما رأوا ما صنع بنو مالك استعدوا وتقدموا إلى طريق الملك. فلما كان وجه الصبح وصل ابن كبشة فيمن معه وقد استعد القوم فاقتتلوا. فلما رآهم بنو مالك وصبرهم في القتال ساروا إليهم وشهدوا معهم القتال فاقتتلوا ملياً، فضرب حشيش بن نمران الرياحي ابن كبشة الملك على رأسه فصرعه، فمات، وقتل عبيدة بن مالك بن جعفر، وانهزم طفيل بن مالك على فرسه قرزل، وقتل عمرو بن الأحوص بن جعفر، وكان رئيس عامر، وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبشة. قال جرير في الإسلام يذكر اليوم بذي نجب:
بذي نجبٍ ذدنا وواكل مالك ** أخاً لم يكن عند الطّعان بواكل

وكان يوم ذي نجب بعد يوم جبلة بسنة. وبقي الأحوص بعد ابنه عمرو يسيراً وهلك أسفاً عليه.

.يوم نعف قشاوة:

وهو يوم لشيبان على تميم: قال أبو عبيدة: أغار بسطام بن قيس على بني يربوع من تميم وهم بنعف قشاوة، فاهم ضحىً، وهو يوم ريح ومطر، فوافق النعم حين سرح، فأخذه كله ثم كر راجعاً، وتداعت عيله بنو يربوع فلحقوه وفيهم عمارة بن عتيبة بن الحارث بن شهاب، فكر عليه بسطام فقتله، ولحقهم مالك بن حطان اليربوعي فقتله، وأتاهم أيضاً بجير بن أبي مليل فقتله بسطام، وقتلوا من يربوع جمعاً وأسروا آخرين، منهم: مليل بن أبي مليل، وسلموا وعادوا غانمين. فقال بعض الأسرى لبسطام: أيسرك أن أبا مليل مكاني؟ قال: نعم. قال: فإن دللتك عليه أتطلقني الآن؟ قال: نعم. قال: فإن ابنه بجيراً كان أحب خلق الله إليه وستجده الآن مكباً عليه يقبله فخذه أسيراً. فعاد بسطام فرآه كما قال، فأخذه أسيراً وأطلق اليربوعي. فقال له أبو مليل: قتلت بجيراً وأسرتني وابني مليلاً! والله لا أطعم الطعام أبداً وأنا موثق. فخشي بسطام أن يموت فأطلقه بغير فداء على أن يفادي مليلاً وعلى أن لا يتبعه بدم ابنه بجير ولا يبغيه غائلة ولا يدل له على عورة ولا يغير عليه ولا على قومه أبداً، وعاهده على ذلك، فأطلقه وجز ناصيته، فرجع إلى قومه وأراد الغدر ببسطام والنكث به، فأرسل بعض بني يربوع إلى بسطام بخبره، فحذره؛ وقال متمم بن نويرة:
أبلغ شهاب بني بكرٍ وسيّدها ** عنيّ بذاك الصّهباء بسطاما

أروي الأسنّة من قومي فأنهلها ** فأصبحوا في بقيع الأرض نوّاما

لا يطبقون إذا هبّ النيام ولا ** في مرقدٍ يحلمون الدهر أحلاما

أشجي تميم بن مرّ لا مكايدةً ** حتّى استعادوا له أسرى وأنعاما

هلاّ أسيراً فدتك النفس تطعمه ** ممّا أراد وقدماً كنت مطعاما

وهي أبيات عدة.

.يوم الغبيط:

وهو يوم كانت الحرب فيه بين بني شيبان وتميم، أسر فيه بسطام بن قيس الشيباني.
وسبب ذلك أن بسطام بن قيس والحوفزان بن شريك ومفروق بن عمرو ساروا فيجمع من بني شيبان إلى بلاد تميم فأغاروا على ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبة وثعلبة بن عدي بن فزارة وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فلج، فاقتتلوا، فانهزمت الثعالبة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغنم بنو شيبان أموالهم، ومروا على بني مالك بن حنظلة من تميم، وهم بين صحراء فلج وغبيط المدرة فاستاقوا إبلهم. فركبت إليهم بنو مالك يقدمهم عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي وفرسان بني يربوع، وساروا في أثر بني شيبان ومعه من رؤساء تميم الأحيمر بن عبد الله وأسيد بن جباة وحر بن سعد ومالك بن نويرة فأدركوهم بغبيط المدرة فقاتلوهم. وصبر الفريقان، ثم انهزمت شيبان واستعادت تميم ما كانوا غنموه من أموالهم، وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ربيعة بن حصية، وألح عتيبة بن الحارث على بسطام بن قيس فأدركه فقال له: استأسر أبا الصهباء فأنا خير لك من الفلاة والعطش. فاستأسر له بسطام بن قيس. فقال بنو ثعلبة لعتيبة: إن أبا مرحب قد قتل وقد أسرت بسطاماً وهو قاتل مليل وبجير ابني أبي مليل ومالك بن حطان وغيرهم فاقتله. قال: إني معيل وأنا أحب اللبن. قالوا: إنك تفاديه فيعود فيحربنا مالنا، فأبى عليهم وسار به إلى بني عامر بن صعصعة لئلا يؤخذ فيقتل، وإنما قصد عامراً لأن عمته خولة بنت شهاب كانت ناكحاً فيهم؛ فقال مالك بن نويرة في ذلك:
لله عتّاب بن ميّة إذا رأى ** إلى ثأرنا في كفّه يتلدّد

أتحيي امرأً أردى بجيراً ومالكاً ** وأتوى حريثاً بعدما كان يقصد

ونحن ثأرنا قبل ذاك ابن أمّه ** غداة الكلابيّين والجمع يشهد

ونحن توسط عتيبة بيوت بني عامر صاح بسطام: واشيباناه! ولا شيبان لي اليوم! فبعث إليه عامر بن الطفيل: إن استطعت أن تلجأ إلى قبتي فافعل فإني سأمنعك، وإن لم تستطع فاقذف نفسك في الركي. فأتى عتيبة تابعه من الجن فأخبره بذلك، فأمر ببيته فقوض. فركب فرسه وأخذ سلاحه ثم أتى ملجس بني جعفر، وفيه عامر بن الطفيل الغنوي، فحياهم وقال: يا عامر قد بلغني الذي أسلت به إلى بسطام فأنا مخيرك فيه خصالاً ثلاثاً. فقال عامر: وما هي؟ قال: إن شئت فأعطني خلعتك وخلعة أهل بيتك حتى أطلقه لك، فليست خلعتك وخلعة أهل بيتك بشر من خلعته وخلعة أهل بيته. فقال عامر: هذا لا سبيل إليه. قال عتيبة: ضع رجلك مكان رجله فلست عندي بشر منه. فقال: ما كنت لأفعل قال عتيبة: تتبعني إذا جاوزت هذه الرابية فتقارعني عنه على الموت. فقال عامر: هذه أبغضهن إلي. فانصرف به عتيبة إلى بني عبيد بن ثعلبة فرأى بسطام مركب أم عتيبة رثاً فقال: يا عتيبة هذا رحل أمك؟ قال: نعم. قال: ما رأيت رحل أم سيدٍ قط مثل هذا. فقال عتيبة: واللات والعزى لا أطلقك حتى تأتيني أمك بحدجها، وكان كبيراً ذا ثمن كثيرٍ، وهذا الذي أراد بسطام ليرغب فيه فلا يقتله. فأرسل بسطام فأحضر حدج أمه وفادى نفسه بأربعمائة بعير، وقيل: بألف بعير، وثلاثين فرساً وهودج أمه وحدجها وخلص من الأسر. فلما خلص من الأسر أذكى العيون على عتيبة وإبله، فعادت إليه عيونه فأخبروه أنها على أرباب، فأغار عليها وأخذ الإبل كلها وما لهم معها.
عتيبة بالتاء فوقها نقطتان، والياء تحتها نقطتان ساكنة، وفي آخرها باء موحدة.