فصل: ذكر الوقعة بين البساسيري وقريش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الوقعة بين البساسيري وقريش:

في هذه السنة، سلخ شوال، كانت وقعة بين البساسيري ومعه نور الدولة دبيس بن مزيد، وبين قريش بن بدران، صاحب الموصل، ومعه قتلمش، وهو ابن عم السلطان طغرلبك، وهو جد هؤلاء الملوك أولاد قلج أرسلان، ومعه أيضاً سهم الدولة أبو الفتح بن عمرو، وكانت الحرب عند سنجار، فاقتتلوا، فاشتد القتال بينهم، فانهزم قريش وقتلمش، وقتل من أصحابهما الكثير.
ولقي قتلمش من أهل سنجار العنت، وبالغوا في أذاه وأذى أصحابه، وجرح بن بدران، وأتى إلى نور الدولة جريحاً، فأعطاه خلعة كانت قد نقذت من مصر، فلبسها وصار في جملتهم، وساروا إلى الموصل، وخطبوا لخليفة مصر بها، وهو المستنصر بالله، وكانوا قد كانبوا الخليفة المصري بطاعتهم، فأرسل إليهم الخلع من مصر للبساسيري، ولنور الدولة دبيس بن مزيد، ولجابر بن ناشب، ولمقبل بن بدران أخي قريش، ولأبي الفتح بن ورام، ونصير بن عمر، وأبي الحسن بن عبد الرحيم، ومحمد بن حماد، وانضاف إليهم قريش بن بدران.

.ذكر مسير السلطان طغرلبك إلى الموصل:

لما طال مقام السلطان طغرلبك ببغداد، وعم الخلق ضرر عسكره، وضاقت عليهم مساكنهم، فإن العساكر نزلوا فيها، وغلبوهم على أقواتهم، وارتكبوا منهم كل محظور، أمر الخليفة القائم بأمر الله وزيره رئيس الرؤساء أن يكتب إلى عميد الملك الكندري، وزير السلطان طغرلبك، يستحضره، فإذا حضر قال له عن الخليفة ليعرف السلطان ما الناس فيه من الجور والظلم، ويعظه، ويذكره، فإن أزال ذلك، وفعل ما أمر الله به، وإلا فيساعد الخليفة الانتزاح عن بغداد ليبعد عن المنكرات.
فكتب رئيس الرؤساء إلى الكندري يستدعيه، فحضر، فأبلغه ما أمر به الخليفة، وخرج توقيع من الخليفة إلى السلطان فيه مواعظ، فمضى إلى السلطان وعرفه الحال، فاعتذر بكثرة العساكر، وعزه عن تهذيبهم وضبطهم، وأمر عميد الملك أن يبكر بالجواب إلى رئيس الرؤساء، ويعتذر بما ذكره.
فلما كان تلك الليلة رأى السلطان في منامه النبي، صلى الله عليه وسلم، عند الكعبة وكأنه يسلم على النبي وهو معرض عنه لم يلتفت إليه، وقال له: يحكمك الله في بلاده وعباده، فلا تراقبه ولا تستحي من جلاله، عز وجل، في سوء معاملتهم، وتغير بإهماله عند الجوار عليهم! فاستيقظ فزعاً، وأحضر عميد الملك، وحدثه ما رأى، وأرسله إلى الخليفة يعرفه أنه يقابل ما رسم به بالسمع والطاعة، وأخرج الجند من دور العامة، وأمر أن يظهر من كان مختفياً، وأزال التوكيل عمن كان وكل به.
فبينما هو على ذلك، وقد عزم على الرحيل عن بغداد للتخفيف عن أهلها، وهو يتردد فيه، إذ أتاه الخبر بهذه الوقعة المتقدمة، فتجهز وسار عن بغداد عاشر ذي القعدة، ومعه خزائن السلاح، والمنجنيقات، وكان مقامه ببغداد ثلاثة عشر شهراً وأياماً لم يلق الخليفة فيها، فلما بلغوا أوانا نهبها العسكر، ونهبوا عكبرا وغيرهما.
ووصل إلى تكريت فحصرها، وبها صاحبها نصر بن علي بن خميس فنصب على القلعة علماً أسود، وبذل مالاً، فقبله السلطان، ورحل عنه إلى البوازيج ينتظر جمع العساكر ليسير إلى الموصل، فلما رحل عن تكريت توفي صاحبها، وكانت أمه أميرة بنت غريب بن مقن، فخافت أن يملك البلدة أخوه أبو الغشام، فقتلته وسارت إلى الموصل، فنزلت على دبيس بن مزيد، فتزوجها قريش بن بدران، ولما رحلت عن تكريت استخلفت بها أبا الغنائم ابن المحلبان، فراسل رئيس الرؤساء واستعطفه، فصلح ما بينهما، وسلم تكريت إلى السلطان ورحل إلى بغداد.
وأقام السلطان بالبوازيج إلى أن دخلت سنة تسع وأربعين فأتاه أخوه ياقوتي في العساكر، فسار بهم إلى الموصل، وأقطع مدينة بلد هزارسب بن بنكير، فأحفل أهل البلاد إلى بلد، فأراد العسكر نهبهم، فمنعهم السلطان وقال: لا يجوز أن تعرضوا إلى بلد هزارسب، فلجوا وقالوا: نريد الإقامة، فقال السلطان لهزارسب: إن هؤلاء قد احتجوا بالإقامة، فأخرج أهل البلد إلى معسكرك لتحفظ نفوسهم. ففعل ذلك، وأخرجهم إليه، فصار البلد بعد ساعة قفراً، وفرق فيهم هزارسب مالاً، وأركب من يعجز عن المشي، وسيرهم إلى الموصل ليأمنوا.
وتوجه السلطان إلى نصيبين، فقال له هزارسب: قد تمادت الأيام وأرى أن أختار من العسكر ألف فارس أسير بهم إلى البرية، فلعلي أنال من العرب غرضاً، فأذن له في ذلك، فسار إليهم، فلما قاربهم كمن لهم كمينين، وتقدم إلى الحلل، فلما رأوه قاتلوه، فصبر لهم ساعة، ثم انزاح بين أيديهم كالمنهزم، فتبعوه، فخرج عليهم الكمينان، فانهزمت العرب، وكثر فيهم القتل وحمل الأسرى إلى السلطان، فلما أحضروا بين يديه قال لهم: هل وطئت لكم أرضاً، وأخذت لكم بلداً؟ قالوا: لا! قال: فلم أتيتم بحربي؟ وأحضر الفيل فقتلهم، إلا صبياً أمرد، فلما امتنع الفيل من قتله عفا عنه السلطان.

.ذكر عود نور الدولة دبيس بن مزيد وقريش ابن بدران إلى طاعة طغرلبك:

لما ظفر هزارسب بالعرب وعاد إلى السلطان طغرلبك، أرسل إليه نور الدولة وقريش يسألانه أن يتوسط حالهما عند السلطان، ويصلح أمرهما معه، فسعى في ذلك، واستعطف السلطان عليهما، فقال: أما هما فقد عفوت عنهما، وأما البساسيري فذنبه إلى الخليفة، ونحن متبعون أمر الخليفة فيه، فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة، وتبعه الأتراك البغداديون، ومقبل بن المقلد وجماعة من عقيل.
وطلب دبيس وقريش أن يرسل طغرلبك إليهما أبا الفتح بن ورام، فأرسله، فعاد من عندهما وأخبر بطاعتهما، وأنهما يطلبان أن يمضي هزارسب إليهما ليحلفهما، فأمره السلطان بالمضي إليهما، فسار واجتمع بهما، وأشار عليهما بالحضور عند السلطان، فخافا وامتنعا، فأنفذ قريش أبا السداد هبة الله بن جعفر، وأنفذ دبيس ابنه بهاء الدولة منصوراً، فأنزلهما السلطان وأكرمهما وكتب لهما بأعمالهما، وكان لقريش نهر الملك، وبادوريا، والأنبار، وهيت، ودجيل، ونهر بيطر، وعكبرا، وأوانا، وتكريت، والموصل، ونصيبين، وأعاد الرسل إلى أصحابهم.

.ذكر قصد السلطان ديار بكر وما فعله بسنجار:

لما فرغ طغرلبك من العرب سار إلى ديار بكر التي هي لابن مروان، وكان ابن مروان يرسل إليه كل يوم الهدايا والثلج، فسار السلطان إلى جزيرة ابن عمر فحصرها، وهي لابن مروان، فأرسل إليه ابن مروان يبذل له مالاً يصلح حاله به، ويذكر له ما هو بصدده من حفظ ثغور المسلمين، وما يعانيه من جهاد الكفار، ولما كان السلطان يحاصر الجزيرة سار جماعة من الجيش إلى عمر أكمن، وفيه أربعمائة راهب، فذبحوا منهم مائة وعشرين راهباً، وافتدى الباقون أنفسهم بستة مكاكيك ذهباً وفضة.
ووصل إبراهيم ينال أخو السلطان إليه، فلقيه الأمراء والناس كلهم، وحملوا إليه الهدايا، وقال لعميد الملك الوزير: من هؤلاء العرب حتى تجعلهم نظراء السلطان، وتصلح بينهم؟ فقال: مع حضورك يكون ما تريد، فأنت نائب السلطان.
ولما وصل إبراهيم ينال أرسل هزارسب إلى نور الدولة بن مزيد وقريش يعرفهما وصوله، ويحذرهما منه، فسارا من جبل سنجار إلى الرحبة، فلم يلتفت البساسيري إليهما، فانحدر، نور الدولة إلى بلدة بالعراق، وأقام قريش عند البساسيري بالرحبة ومعه ابنه مسلم بن قريش.
وشكا قتلمش ابن عم السلطان إليه ما لقي من أهل سنجار في العام الماضي لما انهزم، وأنهم قتلوا رجالاً، فسير العساكر إليهم، فأحاطت بهم، وصعد أهلها على السور وسبوا، وأخرجوا جماجم من كانوا قتلوا، وقلانسهم، وتركوها على رؤوس القصب، ففتحها السلطان عنوة، وقتل أميرها مجلى بن مرجا وخلقاً كثيراً من رجالها، وسبى نساءهم، وخربت، وسأل إبراهيم ينال في الباقين فتركهم، فسلمها هي والموصل والبلاد إلى إبراهيم ينال، ونادى في عسكره: من تعرض لنهب صلبته، فكفوا عنهم.
وعاد السلطان إلى بغداد، على ما نذكره، كان ينبغي أن نذكر هذه الحادثة سنة تسع وأربعين وإنما ذكرناها هذه السنة لأن الابتداء بها كان فيها، فأتبعنا بعضها بعضاً، وذكرنا أنها كانت سنة تسع وأربعين.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة انقطعت الطرق عن العراق لخوف النهب، فغلت الأسعار، وكثر الغلاء، وتعذرت الأقوات وغيرها من كل شيء، وأكل الناس الميتة، ولحقهم وباء عظيم، فكثر الموت حتى دفن الموتى بغير غسل ولا تكفين، فبيع رطل لحم بقيراط، وأربع دجاجات بدينار، ورطلا شراب بدينار، وسفرجلة بدينار، ورمانة بدينار، وكل شيء كذلك.
وكان بمصر أيضاً وباء شديد، فكان يموت في اليوم ألف نفس، ثم عم ذلك سائر البلاد من الشام، والجزيرة، والموصل، والحجاز، واليمن وغيرها.
وفيها، في جمادى الأولى، ولدت جارية ذخيرة الدين بن الخليفة، الذي ذكرنا وفاته قبل، ولداً ذكراً، ويسمى عبد الله، وكني أبا القاسم، وهو المقتدي.
وفيها، في العشر الثاني من جمادى الآخرة، ظهر وقت السحر في السماء ذؤابة بيضاء طولها نحو عشرة أذرع في رأي العين، وعرضها ذراع، وبقيت كذلك إلى نصف رجب واضمحلت.
وفيها أمر الخليفة بأن يؤذن بالكرخ والمشهد وغيرهما: الصلاة خير من النوم، وأن يتركوا: حي على خير العمل، ففعلوا ما أمرهم به خوف السلطنة وقوتها.
وفيها توفي علي بن أحمد بن علي أبو الحسن المؤدب المعروف بالفالي، من أهل مدينة فالة بالقرب من إيذج، روى الحديث والأدب، وله شعر حسن، فمنه قوله:
تصدر لتدريس كل مهوس ** بليد تسمى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ** ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت، حتى بدا من هزالها ** كلاها، وحتى سامها كل مفلس

وفي هذه السنة توفي محمد بن الحسين بن محمد بن سعدون أبو طاهر البزاز الموصلي، ولد بالموصل، ونشأ ببغداد، وروى عن ابن حبابة، والدارقطني، وابن بطة وغيرهم، وكان موته بمصر، وفيها توفي أميرك الكاتب البيهقي في شوال وكان من رجال الدنيا، ومحمد بن عبد الواحد بن عمر بن الميمون الدارمي الفقيه الشافعي. ثم دخلت:

.سنة تسع وأربعين وأربعمائة:

.ذكر عود السلطان طغرلبك إلى بغداد:

لما سلم السلطان طغرلبك الموصل وأعمالها إلى أخيه إبراهيم ينال عاد إلى بغداد، فلما وصل إلى القفص خرج رئيس الرؤساء إلى لقائه، فلما قارب القفص لقيه عميد الملك، وزير السلطان، في جماعة من الأمراء، وجاء رئيس الرؤساء إلى السلطان فأبلغه سلام الخليفة واستيحاشه، فقبل الأرض، وقدم رئيس الرؤساء جاماً من ذهب فيه جواهر وألبسة فرجية جاءت معه من عند الخليفة، ووضع العمامة على مخدته، فخدم السلطان، وقبل الأرض، ووصل إلى بغداد، ولم يمكن أحداً من النزول في دور الناس، وطلب السلطان الاجتماع بالخليفة، فأذن له في ذلك.
وجلس الخليفة يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة جلوساً عاماً، وحضر وجوه عسكر السلطان وأعيان بغداد، وحضر السلطان في الماء، وأصحابه حوله في السميريات، فلما خرج من السميرية ركب فرساً من مراكب الخليفة، فحضر عند الخليفة، والخليفة على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع، وعليه بردة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبيده القضيب الخيزران، فقبل السلطان الأرض، وقبل يده، وأجلس على كرسي، فقال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك، حامد لفعلك، مستأنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده، ورد عليك مراعاة عباده، فاتق الله فيما ولاك، وأعرف نعمته عليك في ذلك، واجتهد في نشر العدل، وكف الظلم، وإصلاح الرعية.
فقبل الأرض، وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه، فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه، وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأعطي العهد، وخرج، وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسون ألف دينار، وخمسون مملوكاً أتراكاً من أجود ما يكون، ومعهم خيولهم وسلاحهم، إلى غير ذلك من الثياب وغيرها.

.ذكر الحرب بين هزارسب وفولاذ:

كان السلطان قد ضمن هزارسب بن بنكير بن عياض البصرة، وأرجان، وخوزستان، وشيراز، فتجرد رسولتكين ابن عم السلطان ومعه فولاذ لهزارسب، وقصدا أرجان ونهباها.
وكان هزارسب مع طغرلبك بالموصل والجزيرة، فلما فرغ السلطان من تلك الناحية رد هزارسب إلى بلاده، وأمره بقتال رسولتكين وفولاذ، فسار إلى البصرة وصادر بها تاج الدين بن سخطة العلوي وابن سمحا اليهودي بمائة ألف وعشرين ألف دينار، وسار منها إلى قتال فولاذ ورسولتكين فلقيهما، وقاتلهما قتالاً شديداً، فقتل فولاذ، وأسر رسولتكين ابن عم السلطان، فأبقى عليه هزارسب، فسأل رسولتكين هزارسب ليرسله إلى دار الخلافة ليشفع فيه الخليفة، ففعل ذلك.
ووصل بغداد مع أصحاب هزارسب، فاجتاز بدار رئيس الرؤساء، فهجم ودخلها، واستدعى طعاماً إيجازاً للحرمة، فأمر الخليفة بإحضار عميد الملك وإعلامه بحال رسولتكين ليخاطب السلطان في أمره، فلما حضر عميد الملك وقيل له ذلك قال: إن السلطان يقول إن هذا لا حرمة له يستحق بها المراعاة، وقد قابل إحساني بالعصيان، ويجب تسليمه ليتحقق الناس منزلتي، وتتضاعف هيبتي، فاستقر الأمر، بعد مراجعة، على أن يقيده، وخرج توقيع الخليفة: إن منزلة ركن الدين، يعني طغرلبك، عندنا اقتضت ما لم نفعله مع غيره لأنه لم تجر العادة بتقييد أحد في الدار العزيز، ولا بد أن يكون الرضا في جواب ما فعل، فراسله رئيس الرؤساء حتى رضي.
وقد كانت دار الخلافة أيام بني بويه ملجأ لكل خائف منهم، من وزير وعميد وغير ذلك، ففي الأيام السلجوقية سلك غير ذلك، وكان أول شيء فعلوه هذا.

.ذكر القبض على الوزير اليازوري بمصر:

في هذه السنة، في ذي الحجة، قبض بمصر على الوزير أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري، وقرر عليه أموال عظيمة منه ومن أصحابه، ووجد له مكاتبات إلى بغداد.
وكان في ابتداء أمره قد حج، فلما قضى حجه أتى المدينة، وزار مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسقط على منكبيه قطعة من الخلوق الذي على حائط الحجرة، فقال له أحد القوام: أيها الشيخ! إني أبشرك، ولي الحباء والكرامة إذ بلغته، أنك تلي ولاية عظيمة، وهذا الخلوق دليل على ذلك، فلم يحل عليه الحول حتى ولي الوزارة، وأحسن إلى ذلك الرجل وراعاه.
وكان يتفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان قاضياً بالرملة، يكرم العلماء، ويحسن إليهم ويجالسهم، وكان ابتداء أمره كابتداء أمر رئيس الرؤساء: الشهادة، والقضاء، وكانت سعادتهما متفقة، ونهايتهما متقاربة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة زاد الغلاء ببغداد والعراق حتى بيعت كارة الدقيق السميد بثلاثة عشر ديناراً، والكارة من الشعير والذرة بثمانية دنانير، وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها، وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، الأديب، وله نحو ست وثمانين سنة، وعلمه أشهر من أن يذكر، إلا أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة، وفي شعره ما يدل على ذلك، حكي أنه قال يوماً لأبي يوسف القزويني: ما هجوت أحداً، فقال له القزويني: هجوت الأنبياء، فتغير وجهه وقال: ما أخاف أحداً سواك.
وحكى عنه القزويني أنه قال: ما رأيت شعراً في مرثية الحسين بن علي يساوي أن يحفظ، فقال القزويني: بلى، قد قال بعض أهل سوادانا:
رأس ابن بنت محمد ووصيه ** للمسلمين على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع، ** لا جازع منهم، ولا متفجع

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى، ** وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع

كحلت بمصرعك العيون عماية، ** وأصم نعيك كل أذن تسمع

ما روضة إلا تمنت أنها ** لك مضجع ولخط قبرك موضع

وفيها أصلح دبيس بن علي بن مزيد ومحمود بن الأخرم الخفاجي حالهما مع السلطان، فعاد دبيس إلى بلاده فوجدها خراباً لكثرة من مات بها من الوباء الجارف، ليس بها أحد.
وفيها كثر الوباء ببخارى حتى قيل إنه مات في يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان من أعمال بخارى، وهلك في هذه الولاية في مدة الوباء ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألفاً، وكان بسمرقند مثل ذلك، ووجد ميت، وقد دخل تركي يأخذ لحافاً عليه، فمات التركي وطرف اللحاف بيده، وبقيت أموال الناس سائبة.
وفيها نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ، وهو فقيه الإمامية، وأخذ ما فيها، وكان قد فارقها إلى المشهد الغربي.
وفيها، في صفر، توفي أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، مقدم أصحاب الحديث بخراسان، وكان فقيهاً، خطيباً، إماماً، في عدة علوم.
وفيها، في ربيع الأول، توفي اياز بن ايماق أبو النجم غلام محمود بن سبكتكين، وأخباره معه مشهورة.
وفيها مات أبو أحمد عدنان ابن الشريف الرضي نقيب العلويين.
وفيها توفي أبو الحسن عبد الوهاب بن أحمد بن هارون الغساني، المعروف بابن الجندي. ثم دخلت:

.سنة خمسين وأربعمائة:

.ذكر مفارقة إبراهيم ينال الموصل واستيلاء البساسيري عليها وأخذها منه:

في هذه السنة فارق إبراهيم ينال الموصل نحو بلاد الجبل، فنسب السلطان طغرلبك رحيله إلى العصيان، فأرسل إليه رسولاً يستدعيه، وصحبته الفرجية التي خلعها عليه الخليفة، وكتب الخليفة إليه أيضاً كتاباً في المعنى، فرجع إبراهيم إلى السلطان، وهو ببغداد، فخرج الوزير الكندري لاستقباله، وأرسل الخليفة إليه الخلع.
ولما فارق إبراهيم الموصل قصدها البساسيري، وقريش بن بدران، وحاصراها، فملكا البلد ليومه، وبقيت القلعة، وبها الخازن، وأردم، وجماعة من العسكر، فحاصراها أربعة أشهر حتى أكل من فيها دوابهم، فخاطب ابن موسك صاحب إربل قريشاً حتى أمنهم فخرجوا، فهدم البساسيري القلعة، وعفى أثرها.
وكان السلطان قد فرق عسكره في النوروز، وبقي جريدة في ألفي فارس حين بلغه الخبر، فسار إلى الموصل فلم يجد بها أحداً، وكان قريش والبساسيري قد فارقاها، فسار السلطان إلى نصيبين ليتتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد، ففارقه أخوه إبراهيم ينال، وسار نحو همذان، فوصلها في السادس والعشرين من رمضان سنة خمسين، وكان قد قيل إن المصريين كاتبوه والبساسيري قد استماله وأطمعه في السلطنة والبلاد، فلما عاد إلى همذان سار السلطان في أثره.

.ذكر الخطبة بالعراق للعلوي المصري وما كان إلى قتل البساسيري:

لما عاد إبراهيم ينال إلى همذان سار طغرلبك خلفه، ورد وزيره عميد الملك الكندري وزوجته إلى بغداد.
وكان مسيره من نصيبين في منتصف شهر رمضان، ووصل إلى همذان، وتحصن بالبلد، وقاتل أهلها بين يديه، وأرسل إلى الخاتون زوجته وعميد الملك الكندري يأمرهما باللحاق به، فمنعهما الخليفة من ذلك تمسكاً بهما، وفرق غلالاً كثيرة في الناس، وسار من كان ببغداد من الأتراك إلى السلطان بهمذان، وسار عميد الملك إلى دبيس بن مزيد فاحترمه وعظمه، ثم سار من عنده إلى هزارسب، وسارت خاتون إلى السلطان بهمذان، فأرسل الخليفة إلى نور الدولة دبيس بن مزيد يأمره بالوصول إلى بغداد، فورد إليها مائة فارس، ونزل في النجمي ثم عبر إلى الأتانين.
وقوي الإرجاف بوصول البساسيري، فلما تحقق الخليفة وصوله إلى هيت أمر الناس بالعبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فأرسل دبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء يقول: الرأي عندي خروجكما من البلد معي، فإنني أجتمع أنا وهزارسب فإنه بواسط على دفع عدوكما.
فأجيب ابن مزيد بأن يقيم حتى يقع الفكر في ذلك، فقال: العرب لا تطيعني على المقام، وأنا أتقدم إلى ديالى! فإذا انحدرتم سرت في خدمتكم. وسار وأقام بديالى ينتظرهما، فلم ير لذلك أثراً، فسار إلى بلاده.
ثم إن البساسيري وصل إلى بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة، ومعه أربعمائة غلام على غاية الضر والفقر، وكان معه أبو الحسن بن عبد الرحيم الوزير، فنزل البساسيري بمشرعة الروايا، ونزل قريش بن بدران، وهو في مائتي فارس، عند مشرعة باب البصرة، وركب عميد العراق، ومعه العسكر والعوام، وأقاموا بإزاء عسكر البساسيري، وعادوا، وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، وأمر فأذن بحي على خير العمل، وعقد الجسر، وعبر عسكره إلى الزاهر وخيموا فيه، وخطب في الجمعة من وصوله بجامع الرصافة للمصري، وجرى بين الطائفتين حروب في أثناء الأسبوع.
وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء بالتوقف عن المناجزة، ويرى المحاجزة ومطاولة الأيام انتظاراً لما يكون من السلطان، ولما يراه من المصلحة بسبب ميل العامة إلى البساسيري، أما الشيعة فللمذهب، وأما السنة فلما فعل بهم الأتراك.
وكان رئيس الرؤساء لقلة معرفته بالحرب ولما عنده من البساسيري يرى المبادرة إلى الحرب، فاتفق أن في بعض الأيام حضر القاضي الهمذاني عند رئيس الرؤساء واستأذنه في الحرب، وضمن به قتل البساسيري، فأذن له من غير علم عميد العراق، فخرج ومعه الخدم، والهاشميون، والعجم، والعوام، إلى الحلبة وأبعدوا، البساسيري يستجرهم، فلما أبعدوا حمل عليهم فعادوا منهزمين، وقتل منهم جماعة، ومات في الزحمة جماعة من الأعيان، ونهب باب الأزج، وكان رئيس الرؤساء واقفاً دون الباب، فدخل الدار، وهرب كل من في الحريم.
ولما بلغ عميد العراق فعل رئيس الرؤساء لطم على وجهه كيف استبد برأيه ولا معرفة له بالحرب. ورجع البساسيري إلى معسكره، واستدعى الخليفة عميد العراق، وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرعهم إلا الزعقات، وقد نهب الحريم، وقد دخلوا بباب النوبي، فركب الخليفة لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة، وبيده السيف، وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة، فرأى النهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه، ومضى نحو عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش، فعاد وصعد المنظرة، صاح رئيس الرؤساء: يا علم الدين! يعني قريشاً، أمير المؤمنين يستدنيك، فدنا منه، فقال له رئيس الرؤساء: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذم منك على نفسه، وأهله، وأصحابه بذمام الله، وذمام رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذمام العربية.
فقال: قد أذم الله تعالى له، فقال: ولي؟ ولمن معه؟ قال: نعم، وخلع قلنسوته فأعطاها الخليفة، وأعطى مخصرته رئيس الرؤساء ذماماً، فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء من الباب المقابل لباب الحلبة، وصارا معه.
فأرسل إليه البساسيري: أتخالف ما استقر بيننا، وتنقض ما تعاهدنا عليه؟ فقال قريش: لا، وكانا قد تعاهدا على المشاركة في الذي يحصل لهما، وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر بشيء، فاتفقا على أن يسلم قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري لأنه عدوه، ويترك الخليفة عنده، فأرسل قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري، فلما رآه قال: مرحباً بمهلك الدول، ومخرب البلاد! فقال: العفو عند المقدرة. فقال البساسيري: فقد قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان، وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي، فكيف أعفو أنا، وأنا صاحب سيف؟ وأما الخليفة فإنه حمله قريش راكباً إلى معسكره، وعليه السواد والبردة، وبيده السيف، وعلى رأسه اللواء، وأنزله في خيمة، وأخذ أرسلان خاتون زوجة الخليفة، وهي ابنة أخي السلطان طغرلبك، فسلمها إلى أبي عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها.
ونهبت دار الخلافة وحريمها أياماً، وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارش بن المجلي، وهو رجل فيه دين، وله مروءة، فحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة فتركه بها، وسار من كان مع الخليفة من خدمه وأصحابه إلى السلطان طغرلبك مستنفرين.
فلما وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد، فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه ما يلبسه، فأرسل له جبة فيها قطن ولحافاً.
وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر، وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقي، وعلى رأسه الألوية المصرية، فأحسن إلى الناس، وأجرى الجرايات على المتفقهة، ولم يتعصب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة القائم بأمر الله داراً، وكانت قد قاربت تسعين سنة، وأعطاها جاريتين من جواريها للخدمة، وأجرى لها الجراية، وأخرج محمود بن الأخرم إلى الكوفة وسقى الفرات أميراً.
وأما رئيس الرؤساء فأخرجه البساسيري، آخر ذي الحجة، من محبسه بالحريم الطاهري مقيداً، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة جلود بعير، وهو يقرأ: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}.
وبصق أهل الكرخ في وجهه عند اجتيازه بهم، لأنه كان يتعصب عليهم، وشهر إلى حد النجمي، وأعيد إلى معسكر البساسيري، وقد نصبت له خشبة، وأنزل عن الجمل، وألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه، وجعل في فكيه كلابان من حديد، وصلب فبقي يضطرب إلى آخر النهار ومات.
وكان مولده في شعبان سنة سبعين وثلاثمائة، وكانت شهادته عند ابن ماكولا سنة أربع عشرة وأربعمائة، وكان حسن التلاوة للقرآن، جيد المعرفة بالنحو.
وأما عميد العراق فقتله البساسيري، وكان فيه شجاعة، وله فتوة، وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ.
ولما خطب البساسيري للمستنصر العلوي بالعراق أرسل إليه بمصر يعرفه ما فعل، وكان الوزير هناك أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب من البساسيري وفي نفسه ما فيها، فوقع فيه، وبرد فعله، وخوف عاقبته، فتركت أجوبته مدة، ثم عادت بغير الذي أمله ورجاه.
وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكهما، وأراد قصد الأهواز، فأنفذ صاحبها هزارسب بن بنكير إلى دبيس بن مزيد يطلب منه أن يصلح الأمر على مال يحمله إليه، فلم يجب إلى ذلك، وقال: لا بد من الخطبة للمستنصر، والسكة باسمه، فلم يفعل هزارسب ذلك ورأى البساسيري أن طغرلبك يمد هزارسب بالعساكر، فصالحه، وأصعد إلى واسط في مستهل شعبان من سنة إحدى وخمسين، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي، ولحق بهزارسب، وكان قد ولي بعد أبيه على ما نذكره.
وأما أحوال السلطان طغرلبك، وإبراهيم ينال، فإن السلطان كان في قلة من العسكر، كما ذكرناه، وكان إبراهيم قد اجتمع معه كثير من الأتراك، وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك، ولا يكلفهم المسير إلى العراق، وكانوا يكرهونه لطول مقامهم وكثرة إخراجاتهم، فلم يقو به طغرلبك، وأتى إلى إبراهيم محمد وأحمد ابنا أخيه أرتاش في خلق كثير، فازداد بهم قوة، وازداد طغرلبك ضعفاً، فانزاح من بين يديه إلى الري، وكاتب ألب أرسلان، وياقوتي، وقاروت بك، أولاد أخيه داود، وكان داود قد مات، على ما نذكره سنة إحدة وخمسين إن شاء الله تعالى، وملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان إليهم طغرلبك يستدعيهم إليه، فجاؤوا بالعساكر الكثيرة، فلقي إبراهيم بالقرب من الري، فانهزم إبراهيم ومن معه وأخذ أسيراً هو ومحمد وأحمد ولدا أخيه، فأمر به فخنق بوتر قوسه تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين، وقتل ولدا أخيه معه.
وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك مراراً، فعفا عنه، وإنما قتله في هذه الدفعة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه، فلهذا لم يعف عنه، ولما قتل إبراهيم أرسل طغرلبك إلى هزارسب بالأهواز يعرفه ذلك، وعنده عميد الملك الكندري، فسار إلى السلطان، فجهزه هزارسب تجهيز مثله.