فصل: ثم دخلت سنة إحدى وأربعين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر مدة خلافته ومقدار عمره

وقد قال بعضهم‏:‏ كانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر وكان عمره ثلاثًا وستين سنة وقيل‏:‏ كان عمره تسعًا وخمسين وقيل‏:‏ خمسًا وستين وقيل‏:‏ ثمانيًا وخمسين‏.‏ والأول أصح‏.‏

ولما قتل دفن عند مسجد الجماعة وقيل‏:‏ في القصر وقيل غير ذلك‏.‏

والأصح أن قبره هو الموضع الذي يزار ويتبرك به‏.‏

 ذكر نسبه وصفته ونسائه وأولاده

كان آدم شديد الأدمة ثقيل العينين عظيمهما ذا بطن أصلع عظيم اللحية كثير شعر الصدر هو إلى القصر أقرب وقيل‏:‏ كان فوق الربعة وكان ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها وكان من أحسن الناس وجهًا ولا يغير شيبه كثير التبسم‏.‏

وأما نسبه فهو علي بن أبي طالب واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم وأما فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف‏.‏

وهو أول خليفة أبواه هاشميان ولم يل الخلافة إلى وقتنا هذا من أبواه هاشميان غيره وغير الحسن ولده ومحمد الأمين فإن أباه هارون الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور‏.‏

وأما أزواجه فأول زوجة تزوجها فاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتزوج عليها حتى توفيت عنده وكان له منها الحسن والحسين وقد ذكر أنه كان له منها ابن آخر يقال له محسن وأنه توفي صغيرًا وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى‏.‏

ثم تزوج بعدها أم البنين بنت حرام الكلابية فولدت له العباس وجعفرًا وعبد الله وعثمان قتلوا مع الحسين بالطف ولا بقية لهم غير العباس وتزوج ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية فولدت له عبيد الله وأبا بكر قتلا مع الحسين وقيل‏:‏ إن عبيد الله قتله المختار بالمذار وقيل‏:‏ لا بقية لهما‏.‏

وتزوج أسماء بنت عميس الخثعمية فولدت له محمدًا الأصغر ويحيى ولا عقب لهما وقيل‏:‏ إن محمدًا لأم ولد وقتل مع الحسين وقيل‏:‏ إنها ولدت له عونًا وله من الصهباء بنت ربيعة التغلبية وهي من السبي الذي أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر وولدت له عمر بن علي ورقية بنت علي فعمر عمر حتى بلغ خمسًا وثمانين سنة فحاز نصف ميراث علي ومات بينبع‏.‏

وتزوج علي أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس وأمها زينب بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فولدت له محمدًا الأوسط وله محمد ابن علي الأكبر الذي يقال له ابن الحنفية أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة‏.‏وتزوج علي أيضًا أم سعيد ابنة عروة بن مسعود الثقفية فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى وأم كلثوم وكان له بنات من أمهات شتى لم يذكرن لنا منهن أم هانىء وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة كلهن من أمهات أولاد‏.‏

وتزوج أيضًا مخباة بنت امرىء القيس بن عدي الكلبية فولدت له جارية هلكت صغيرة كانت تخرج إلى المسجد فيقال لها‏:‏ من أخوالك فتقول‏:‏ وه وه تعني كلبًا‏.‏

فجميع ولده أربعة عشر ذكرًا وسبع عشرة امرأة وكان النسل منهن للحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابية وعمر بن التغلبية‏.‏

 ذكر عماله

وكان عامله على البصرة هذه السنة عبد الله بن عباس وقد ذكرنا الاختلاف في أمره وكان إليه الصدقات والجند والمعاون أيام ولايته كلها وكان على قضائها من قبل علي أبو الأسود الدئلي وكان على فارس زياد وقد ذكرنا مسيره إليها وكان على اليمن عبيد الله بن عباس حتى كان من أمره وأم بسر بن أبي أرطأة ما ذكر وكان على الطائف ومكة وما اتصل بذلك قثم ابن عباس وكان على المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل‏:‏ سهل بن حنيف وكان عند قدوم بسر عليه من أمره ما كان وذكر‏.‏

 ذكر بعض سيرته

كان أبو رافع مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خازنًا لعلي على بيت المال فدخل علي يومًا وقد زينت ابنته فرأى عليها لؤلؤة كان عرفها لبيت المال فقال‏:‏ من أين لها هذه لأقطعن يدها‏!‏ فلما رأى أبو رافع جده في ذلك قال‏:‏ أنا والله يا أمير المؤمنين زينتها بها‏.‏

فقال علي‏:‏ لقد تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار وما لي خادم غيرها‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ قسم علم الناس خمسة أجزاء فكان لعلي منها أربعة أجزاء ولسائر الناس جزء شاركهم علي فيه فكان أعلمهم به‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ ما جاء لأحد من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جاء لعلي‏.‏

وقال عمرو بن ميمون‏:‏ لما ضرب عمر بن الخطاب وجعل الخلافة في الستة من الصحابة فلما خرجوا من عنده قال‏:‏ إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق فقال له ابنه عبد الله‏:‏ فما يمنعك يا

وقال عاصم بن كليب عن أبيه‏:‏ قدم على علي مال من أصبهان فقسمه على سبعة أسهم فوجد فيه رغيفًا فقسمه على سبعة ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولًا‏.‏

وقال هارون بن عنترة عن أبيه‏:‏ دخلت على علي بالخورنق وهو فصل شتاء وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبًا وأنت تفعل هذا بنفسك فقال‏:‏ والله ما أرزأكم شيئًا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة‏.‏

وقال يحيى بن سلمة‏:‏ استعمل علي عمرو بن سلمة على أصبهان فقدم ومعه مال وزقاق فيها عسل وسمن فأرسلت أم كلثوم بنت علي إلى عمرو تطلب منه سمنًا وعسلًا فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن‏.‏

فلما كان الغد خرج علي وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم فعد الزقاق فنقصت زقين فسأل عنهما فكتمه وقال‏:‏ نحن نحضرهما فعزم عليه إلا ذكرها له فأخبره فأرسل إلى أم كثلوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما فكان ثلاثة دراهم فأرسل إليها فأخذها منها ثم قسم الجميع‏.‏

قيل‏:‏ وخرج من همذان فرأى رجلين يقتتلان ففرق بينها ثم مضى فسمع صوتًا‏:‏ يا غوثاه بالله‏!‏ يحضر نحوه وهو يقول‏:‏ أتاك الغوث‏.‏

فإذا رجل يلازم رجلًا‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين بعت هذا ثوبًا بسبعة دراهم وشرطت أن لا يعطيني مغموزًا ولا مقطوعًا وكان شرطهم يومئذ فأتاني بهذه الدراهم فأتيت ولزمته فلطمني‏.‏

فقال للاطم‏:‏ ما تقول فقال‏:‏ صدق يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ أعطه شرطه‏.‏

فأعطاه‏.‏

وقال للملطوم‏:‏ اقتص‏.‏

قال‏:‏ أو أعفو يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ذلك إليك‏.‏

ثم قال‏:‏ يا معشر المسلمين خذوه فأخذوه فحمل على ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب ثم ضربه خمس عشرة درة وقال‏:‏ هذا نكالٌ لما انتهكت من حرمته‏.‏

ولما قتل كرم الله وجهه قام ابنه الحسن خطيبًا فقال‏:‏ لقد قتلتم الليلة رجلًا في ليلة نزل فيها القرآن وفيها رفع عيسى وفيها قتل يوشع بن نون والله ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده والله إن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبعثه في السرية وجبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة أو سبعمائة أرصدها لجارية‏.‏

وقال سفيان‏:‏ إن عليًا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنةً على لبنة ولا قصبةً على قصبة وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أخرج سيفًا له إلى السوق فباعه وقال‏:‏ لو كان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه‏.‏

وكان لا يشتري ممن يعرفه وإذا اشترى قميصًا قدر كمه على طول يده وقطع الباقي‏.‏

وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول‏:‏ لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ وجد علي درعًا له عند نصراني فأقبل به إلى شريح وجلس إلى جانبه وقال‏:‏ لو

كان خصمي مسلمًا لساويته وقال‏:‏ هذه درعي‏!‏ فقال النصراني‏:‏ ما هي إلا درعي ولم يكذب أمير المؤمنين فقال شريح لعلي‏:‏ ألك بنية قال‏:‏ لا وهو يضحك فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيرًا ثم عاد وقال‏:‏ أشهد أن هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه‏.‏

ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إلى صفين ففرح علي بإسلامه ووهب له الدرع وفرسًا وشهد معه قتال الخوارج‏.‏

وقيل‏:‏ إن عليًا رؤي وهو يحمل في ملحفته تمرًا قد اشتراه بدرهم فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك فقال‏:‏ أبو العيال أحق بحمله‏.‏

وقال الحسن بن صالح‏:‏ تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال عمر‏:‏ أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب‏.‏

وقال المدائني‏:‏ نظر علي إلى قوم ببابه فقال لقنبر مولاه‏:‏ من هؤلاء قال‏:‏ شيعتك يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ وما لي لا أرى فيهم سيما الشيعة قال‏:‏ وما سيماهم قال‏:‏ خمص البطون من الطوى يبس الشفاه من الظمإ عمش العيون من البكاء‏.‏

ومناقبه لا تحصى وقد جمع قضاياه في كتاب مفرد‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة أربعين بويع الحسن بن علي بعد قتل أبيه‏.‏

وأول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري وقال له‏:‏ ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المحلين‏.‏

فقال الحسن‏:‏ على كتاب الله وسنة رسوله فإنهما يأتيان على كل شرط‏.‏

فبايعه الناس‏.‏

وكان الحسن يشترط عليهم‏:‏ إنكم مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت‏.‏

فارتابوا بذلك وقالوا‏:‏ ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا إلا القتال‏.‏

 ذكر عدة حوادث

حج بالناس هذه السنة المغيرة بن شعبة وافتعل كتابًا على لسان معاوية فيقال‏:‏ إنه عرف يوم التروية ونحر يوم عرفة خوفًا أن يفطن لفعله وقيل‏:‏ فعل ذلك لأنه بلغه أن عتبة بن أبي سفيان مصبحه واليًا على الموسم‏.‏

وفيها بويع معاوية بالخلافة ببيت المقدس وكان قبل ذلك يدعى بالأمير في بلاد الشام فلما قتل علي دعي بأمير المؤمنين هكذا قال بعضهم وقد تقدم أنه بويع بالخلافة بعد اجتماع الحكمين والله أعلم‏.‏

وكانت خلافة الحسن ستة أشهر‏.‏

وفيها مات الأشعث بن قيس الكندي بعد قتل علي بأربعين ليلة وصلى عليه الحسن بن علي‏.‏

وفيها مات حسان بن ثابت وأبو رافع مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهما من الصحابة وفيها مات شرحبيل بن السمط الكندي وهو من أصحاب معاوية قيل له صحبة وقيل لا صحبة له‏.‏

وفي أول خلافة علي مات جهجاه الغفاري له صحبة‏.‏

وفيها مات الحارث بن خزمة الأنصاري شهد بدرًا وأحدًا وغيرهما‏.‏

وفيها مات خوات بن جبير الأنصاري بالمدينة وكان قد خرج مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بدر فرجع لعذر فضرب له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسهمه وهو صاحب ذات النحيين‏.‏

وفي خلافة علي مات قرظة بن كعب الأنصاري بالكوفة وقيل‏:‏ بل مات في إمارة المغيرة على الكوفة لمعاوية شهد أحدًا وغيرها وشهد سائر المشاهد مع علي‏.‏

ومات معاذ بن عفراء الأنصاري في أول خلافة علي وهو بدري شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي خلافته مات أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري وكان نقيبًا شهد بدرًا وقيل‏:‏ بل استخلفه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المدينة ورده من طريق بدر وضرب له بسهمه‏.‏

وفيها توفي معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي له صحبة قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وكان على خاتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان مجذومًا واستعمله أبو بكر وعمر على بيت المال وكان معه الخاتم أيام عثمان فمن يده وقع الخاتم وقيل‏:‏ إنه توفي آخر خلافة عثمان‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وأربعين

 ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية

كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفًا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام فبينما هو يتجهز للمسير قتل كرم الله وجهه وإذا أراد الله أمرًا فلا مرد له‏.‏

فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليًا وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية وكان قد نزل مسكن فوصل الحسن إلى المدائن وجعل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مقدمته في اثني عشر ألفًا وقيل بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد الله بن عباس فجعل عبد الله على مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة‏.‏

فلما نزل الحسن المدائن نادى مناد في العسكر‏:‏ ألا إن قيس بن سعد قتل فانفروا‏.‏

فنفروا بسرادق الحسن فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطًا كان تحته فازداد لهم بغضًا ومنهم ذعرًا ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن وكان الأمير على المدائن سعد بن مسعود الثقفي

عم المختار بن أبي عبيد فقال له المختار وهو شاب‏:‏ هل لك في الغنى والشرف‏.‏

قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ تستوثق من الحسن وتستأمن به إلى معاوية‏.‏

فقال له عمه‏:‏ عليك لعنة الله‏!‏ أثب على ابن بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوثقه بئس الرجل أنت‏!‏ فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه كتب إلى معاوية وذكر شروطًا وقال له‏:‏ إن أنت أعطيتني هذا فأنا سامعٌ مطيعٌ وعليك أن تفي لي به‏.‏

وقال لأخيه الحسين وعبد الله بن جعفر‏:‏ إنني قد راسلت معاوية في الصلح‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ أنشدك الله أن تصدق أحدوثة معاوية وتكذب أحدوثة أبيك‏!‏ فقال له الحسن‏:‏ اسكت أنا أعلم بالأمر منك‏.‏

فلما انتهى كتاب الحسن إلى معاوية أمسكه وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس إلى الحسن قبل وصول الكتاب ومعهما صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها وكتب إليه‏:‏ أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك‏.‏

فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التي سأل معاوية قبل ذلك وأمسكها عنده فلما سلم الحسن الأمر إلى معاوية طلب أن يعطيه الشروط التي في الصحيفة التي ختم عليها معاوية فأبى ذلك معاوية وقال له‏:‏ قد أعطيتك ما كنت تطلب‏.‏

فلما اصطلحا قام الحسن في أهل العراق فقال‏:‏ يا أهل العراق إنه سخى بنفسي عنكم ثلاثٌ‏:‏ قتلكم أبي وطعنكم وكان الذي طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف وخراج دار ابجرد من فارسن وأن لا يشتم عليًا فلم يجبه إلى الكف عن شتم علي فطلب أن لا يشتم وهو يسمع فأجابه إلى ذلك ثم لم يف له به أيضًا وأما خراج دار ابجرد فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا‏:‏ هو فيئنا لا نعطيه أحدًا وكان منعهم بأمر معاوية أيضًا‏.‏

وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة وقيل‏:‏ في ربيع الآخر وقيل‏:‏ في جمادى الأولى وقيل‏:‏ إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية لأنه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فشيبت السلام بالعداوة والصبر بالجزع وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ألا وقد أصبحتم بين قتيلين‏:‏ قتيل بصفين تبكون له وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفةٌ فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبى السيوف وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى‏.‏

فناداه الناس من كل جانب‏:‏ البقية البقية‏!‏ وأمضى الصلح‏.‏

ولما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس إنما نحن أمراؤكم

وضيفانكم ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا‏.‏وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه‏.‏

فلما ساروا إلى معاوية في الصلح اصطلحا على ما ذكرناه وسلم إليه الحسن الأمر‏.‏

وكانت خلافة الحسن على قول من يقول‏:‏ إنه سلم الأمر في ربيع الأول خمسة أشهر ونحو نصف شهر وعلى قول من يقول‏:‏ في ربيع الآخر يكون ستة أشهر وشيئًا وعلى قول من يقول‏:‏ في جمادى الأولى يكون سبعة أشهر وشيئًا والله تعالى أعلم‏.‏

ولما اصطلحا وبايع الحسن معاوية دخل معاوية الكوفة وبايعه الناس وكتب الحسن إلى قيس بن سعد وهو على مقدمته في اثني عشر ألفًا يأمره بالدخول في طاعة معاوية فقام قيس في الناس فقال‏:‏ أيها الناس اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ بل نختار الدخول في طاعة إمام ضلالة‏.‏

فبايعوا معاوية أيضًا‏.‏فانصرف قيس فيمن تبعه على ما نذكره‏.‏

ولما دخل معاوية الكوفة قال له عمرو بن العاص ليأمر الحسن أن يقوم فيخطب الناس ليظهر لهم عيه‏.‏

فخطب معاوية الناس ثم أمر الحسن أن يخطبهم‏.‏

فقام فحمد الله بديهةً ثم قال‏:‏ أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دولٌ وإن الله عز وجل قال لنبيه ‏{‏وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حينٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 111‏]‏‏.‏

فلما قاله قال له معاوية‏:‏ اجلس وحقدها على عمرو وقال‏:‏ هذا من رأيك‏.‏

ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته وحشمهم وجعل الناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة‏.‏

قيل للحسن‏:‏ ما حملك على ما فعلت فقال‏:‏ كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قومًا لا يثق بهم أحدٌ أبدًا إلا غلب ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر لقد لقي أبي منهم أمورًا عظامًا فليت شعري لمن يصلحون بعدي وهي أسرع البلاد خرابًا‏!‏ ولما سار الحسن من الكوفة عرض له رجل فقال له‏:‏ يا مسود وجوه المسلمين‏!‏ فقال‏:‏ لا تعذلي فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى في المنام بني أمية ينزون على منبره رجلًا فرجلًا فساءه ذلك فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏}‏ ‏[‏الكوثر ‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهو نهر في الجنة و ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏ ‏[‏ القدر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خيرٌ من ألف شهرٍ‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 3‏]‏ يملكها بعدك بنو أمية‏.‏

 ذكر صلح معاوية وقيس بن سعد

وفيها جرى الصلح بين معاوية وقيس بن سعد وكان قيس امتنع من ذلك وسبب امتناعه أن

عبيد الله بن عباس لما علم بما يريده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية كتب إلى معاوية يسأله الأمان لنفسه على ما أصاب من مال وغيره فأجابه إلى ذلك وأرسل عبد الله بن عامر في جيش كثيف فخرج إليهم عبيد الله ليلًا وترك جنده الذين هو عليهم بغير أمير وفيهم قيس بن سعد فأمر ذلك الجند عليهم قيس بن سعد وتعاقدوا هو وهم على قتال معاوية حتى يشرط لشيعة علي ولمن كان معه على دمائهم وأموالهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن قيسًا كان هو الأمير على ذلك الجيش في المقدمة على ما ذكرناه وكان شديد الكراهة لإمارة معاوية ابن أبي سفيان فلما بلغه أن الحسن بن علي صالح معاوية اجتمع معه جمع كثير وبايعوه على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي على دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة فراسله معاوية يدعوه إلى طاعته وأرسل إليه بسجل وختم على أسفله وقال له‏:‏ اكتب في هذا ما شئت فهو لك‏.‏

فقال عمرو لمعاوية‏:‏ لا تعطه هذا وقاتله‏.‏

فقال معاوية‏:‏ على رسلك فإنا لا نخلص إلى قتلهم حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام فما خير العيش بعد ذلك فإني والله لا أقاتله أبدًا حتى لا أجد من قتاله بدًا‏.‏

فلما بعث إليه معاوية ذلك السجل اشترط قيس له ولشيعة علي الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ولم يسأل في سجله ذلك مالًا وأعطاه معاوية ما سأل ودخل قيس ومن معه

وكانوا يعدون دهاة الناس حين ثارت الفتنة خمسةً يقال إنهم ذوو رأي العرب ومكيدتهم‏:‏ معاوية وعمرو والمغيرة بن شعبة وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل الخزاعي وكان قيس وابن بديل مع علي وكان المغيرة معتزلًا بالطائف ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه سعد بن أبي وقاص فقال‏:‏ السلام عليك أيها الملك‏!‏ فضحك معاوية وقال‏:‏ ما كان عليك يا أبا إسحاق لو قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين فقال‏:‏ أتقولها جذلان ضاحكًا والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به‏!‏ ذكر خروج الخوارج على معاوية قد ذكرنا فيما تقدم اعتزال فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة من الخوارج ومسيرهم إلى شهرزور وتركوا قتال علي والحسن فلما سلم الحسن الأمر إلى معاوية قالوا‏:‏ قد جاء الآن ما لا شك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه‏.‏فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى حلوا بالنخيلة عند الكوفة وكان الحسن ابن علي قد سار يريد المدينة فكتب إليه معاوية يدعوه إلى قتال فروة فلحقه رسوله بالقادسية أو قريبًا منها فلم يرجع وكتب إلى معاوية‏:‏ لو آثرت أن أقاتل أحدًا من أهل القبلة لبدأت بقتالك فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها‏.‏

فأرسل إليهم معاوية جمعًا من أهل الشام فقاتلوهم فانهزم أهل الشام فقال معاوية لأهل

الكوفة‏:‏ والله لا أمان لكم عندي حتى تكفوهم‏.‏

فخرج أهل الكوفة فقاتلوهم‏.‏

فقالت لهم الخوارج‏:‏ أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا حتى نقاتله فإن أصبنا كنا قد كفيناكم عدوكم وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا‏.‏

فقالوا‏:‏ لابد لنا من قتالكم‏.‏

فأخذت أشجع صاحبهم فروة فحادثوه ووعظوه فلم يرجع فأخذوه قهرًا وأدخلوه الكوفة فاستعمل الخوارج عليهم عبد الله بن أبي الحوساء رجلًا من طيء فقاتلهم أهل الكوفة فقتلوهم في ربيع الأول وقيل‏:‏ في ربيع الآخر وقتل ابن أبي الحوساء وكان ابن أبي الحوساء حين ولي أمر الخوارج قد خوف من السلطان أن يصلبه فقال‏:‏ ما إن أبالي إذا أرواحنا قبضت ماذا فعلتم بأوصالٍ وأبشار تجري المجرة والنسران عن قدرٍ والشمس والقمر الساري بمقدار وقد علمت وخير القول أنفعه أن السعيد الذي ينجو من النار ذكر خروج حوثرة بن وداع ولما قتل ابن أبي الحوساء اجتمع الخوارج فولوا أمرهم حوثرة بن وداع ابن مسعود الأسدي فقام فيهم وعاب فروة بن نوفل لشكه في تقال علي ودعا الخوارج وسار من براز الروز وكان بها

حتى قدم النخيلة في مائة وخمسين وانضم إليه فل ابن أبي الحوساء وهم قليل فدعا معاوية أبا حوشرة فقال له‏:‏ اخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك‏.‏

فخرج إليه وكلمه وناشده وقال‏:‏ ألا أجيئك بابنك فلعلك إذا رأيته كرهت فراقه فقال‏:‏ أنا إلى طعنة من يد كافر برمح أتقلب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني‏.‏

فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله فسير معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين وخرج أبو حوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز فقال‏:‏ يا أبه لك في غيري سعة‏.‏

وقاتلهم ابن عوف وصبروا وبارز حوثرة عبد الله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين رجلًا دخلوا الكوفة وذلك في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين‏.‏

ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود وكان صاحب عبادة فندم على قتله وقال‏:‏ قتلت أخا بني أسدٍِ سفاهًا لعمر أبي فما لقيت رشدي قتلت مصليًا محياء ليلٍ طويل الحزن ذا برٍ وقصد قتلت أخا تقىً لأنال دنيا وذاك لشقوتي وعثار جدي فهب لي توبةً يا رب واغفر لما قارفت من طإٍ وعمد ذكر خروج فروة بن نوفل ومقتله ثم إن فروة بن نوفل الأشجعي خرج على المغيرة بن شعبة بعد مسير معاوية فوجه إليه المغيرة خيلًا عليها شبث بن ربعي ويقال‏:‏ معقل بن قيس فلقيه بشهرزور فقتله وقيل قتل ببعض السواد‏.‏

 ذكر شبيب بن بجرة

كان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليًا فلما دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب كالمتقرب إليه فقال‏:‏ أنا وابن ملجم قتلنا عليًا فوثب معاوية من مجلسه مذعورًا حتى دخل منزله وبعث إلى أشجع وقال‏:‏ لئن رأيت شبيبًا أو بلغني أنه ببابي لأهلكنكم أخرجوه عن بلدكم وكان شبيب إذا جن عليه الليل خرج فلم يلق أحدًا إلا قتله فلما ولي المغيرة الكوفة خرج عليه بالقف قريب الكوفة فبعث إليه المغيرة خيلًا عليها خالد بن عرفطة وقيل‏:‏ معقل ابن قيس فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه‏.‏

 ذكر معين الخارجي

وبلغ المغيرة أن معين بن عبد الله يريد الخروج وهو رجل من محارب وكان اسمه معنًا فصغر فأرسل إليه وعنده جماعة فأخذ وحبس وبعث المغيرة إلى معاوية يخبره أمره فكتب إليه‏:‏ إن

شهد أني خليفة فخل سبيله‏.‏

فأحضره المغيرة وقال له‏:‏ أتشهد أن معاوية خليفة وأنه أمير المؤمنين فقال‏:‏ أشهد أن الله عز وجل حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فأمر به فقتل قتله قبيصة الهلالي فلما كان أيام بشر بن مروان جلس رجل من الخوارج على باب قبيصة حتى خرج فقتله ولم يعرف قاتله حتى خرج قاتله مع شبيب بن يزيد فلما قدم الكوفة قال‏:‏ يا أعداء الله أنا قاتل قبيصة‏!‏‏.‏

 ذكر خروج أبي مريم

ثم خرج أبو مريم مولى بني الحارث بن كعب ومعه امرأتان‏:‏ قطام وكحيلة وكان أول من أخرج معه النساء فعاب ذلك عليه أبو بلال بن أدية فقال‏:‏ قد قاتل النساء مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومع المسلمين بالشام وسأردهما فردهما فوجه إليه المغيرة جابرًا البجلي فقاتله فقتل أبو مريم وأصحابه ببادوريا‏.‏

 ذكر خروج أبي ليلى

وكان أبو ليلى رجلًا أسود طويلًا فأخذ بعضادتي باب المسجد بالكوفة وفيه عدة من الأشراف وحكم بصوت عال فلم يعرض له أحد فخرج وتبعه ثلاثون رجلًا من الموالي فبعث

 ذكر استعمال المغيرة بن شعبة على الكوفة

وفيها استعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة فأتاه المغيرة ابن شعبة فقال له‏:‏ استعملت عبد الله على الكوفة وأباه على مصر فتكون أميرًا بين نابي الأسد‏.‏

فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة‏.‏

وبلغ عمرًا ما قال المغيرة فدخل على معاوية فقال‏:‏ استعملت المغيرة على الخراج فيغتال المال ولا تستطيع أن تأخذه منه استعمل على الخراج رجلًا يخافك ويتقيك‏.‏

فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة‏.‏

ولما ولي المغيرة الكوفة استعمل كثير بن شهاب على الري وكان يكثر سب علي منبر الري وبقي عليها إلى أن ولي زياد الكوفة فأقره عليها وغزا الديلم ومعه عبد الله بن الحجاج التغلبي وقتل ديلميًا وأخذ سلبه فأخذه منه كثير فناشده الله في رده عليه فلم يفعل فاختفى له وضربه على وجهه بالسيف أو بعصًا هشم وجهه فقال‏:‏ من مبلغٌ أفناء خندف أنني أدركت طائلتي من ابن شهاب أدركته ليلًا بعقوة داره فضربته قدمًا على الأنياب هلا خشيت وأنت عادٍ ظالمٌ بقصور أبهر أسرتي وعقابي

في هذه السنة ولي بسر بن أبي أرطأة البصرة‏.‏

وكان السبب في ذلك أن الحسن لما صالح معاوية أول سنة إحدى وأربعين وثب حمران بن أبان على البصرة فأخذها وغلب عليها فبعث إليه معاوية بسر ابن أبي أرطأة وأمره بقتل بني زياد بن أبيه وكان زياد على فارس قد أرسله إليها علي بن أبي طالب فلما قدم بسر البصرة خطب على منبرها وشتم عليًا ثم قال‏:‏ نشدت الله رجلًا يعلم أني صادق إلا صدقني أو كاذب إلا كذبني‏.‏

فقال أبو بكرة‏:‏ اللهم إنا لا نعلمك إلا كاذبًا‏.‏

قال‏:‏ فأمر به فخنق‏.‏

فقام أبو لؤلؤة الضبي فرمى بنفسه عليه فمنعه‏.‏

وأقطعه أبو بكرة مائة جريب وقيل لأبي بكرة‏:‏ ما حملك على ذلك فقال‏:‏ يناشدنا بالله ثم لا نصدقه وأرسل معاوية إلى زياد‏:‏ إن في يدك مالًا من مال الله فأد ما عندك منه‏.‏

فكتب إليه زياد‏:‏ إنه لم يبق عندي شيء ولقد صرفت ما كان عندي في وجهه واستودعت بعضه لنازلة إن نزلت وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمة الله عليه‏.‏

فكتب إليه معاوية‏:‏ أن أقبل ننظر فيما وليت فإن استقام بيننا أمر وإلا رجعت إلى مأمنك‏.‏

فامتنع فأخذ بسر أولاد زياد الأكابر منهم‏:‏ عبد الرحمن وعبيد الله وعباد وكتب إلى زياد‏:‏ لتقدمن على أمير المؤمنين أو لأقتلن بنيك‏.‏

فكتب إليه زياد‏:‏ لست بارحًا من مكاني حتى يحكم الله بيني وبين صاحبك وإن قتلت ولدي فالمصير إلى الله ومن ورائنا الحساب ‏{‏وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 227‏]‏‏.‏

فأراد بسر قتلهم فأتاه أبو بكرة فقال‏:‏ قد أخذت ولد أخي بلا ذنب وقد صالح الحسن معاوية على ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا فليس لك عليهم ولا على أبيهم سبيل‏.‏

وأجله أيامًا حتى يأتيه بكتاب معاوية فركب أبو بكرة إلى معاوية وهو بالكوفة فلما أتاه قال له‏:‏ يا معاوية إن الناس لم يعطوك بيعتهم على قتل الأطفال‏!‏ قال‏:‏ وما ذاك يا أبا بكرة قال‏:‏ بسر يريد قتل بني أخي زياد‏.‏

فكتب له بتخليتهم‏.‏

فأخذ كتابه إلى بسر بالكف عن أولاد زياد وعاد فوصل البصرة يوم الميعاد وقد أخرج بسر أولاد زياد مع طلوع الشمس ينتظر بهم الغروب ليقتلهم واجتمع الناس لذلك وهم ينتظرو أبا بكرة إذ رفع لهم على نجيب أو برذون يكده فوقف عليه ونزل عنه وألاح بثوبه وكبر وكبر الناس معه فأقبل يسعى على رجليه فأدرك بسرًا قبل أن يقتلهم فدفع إليه كتاب معاوية فأطلقهم‏.‏

وقد كان معاوية كتب إلى زياد حين قتل علي يتهدده فقام خطيبًا فقال‏:‏ العجب من ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق ورئيس الأحزاب يتهددني وبيني وبينه ابنا عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعني ابن عباس والحسن بن علي في سبعين ألفًا واضعي سيوفهم على عواتقهم‏!‏ أما والله لئن خلص إلي ليجدني أحمز ضرابًا بالسيف‏.‏

فلما صالح الحسن معاوية وقدم معاوية قول من قال في هذا‏:‏ إن زيادًا عنى ابن عباس وهمٌ لأن ابن عباس فارق عليًا في حياته‏.‏

وقيل‏:‏ إن معاوية أرسل هذا إلى زياد في حياة علي فقال زياد هذه المقالة وعنى بها عليًا‏.‏

وكتب زياد إلى علي يخبره بما كتب إليه معاوية فأجابه بما هو مشهور وقد ذكرناه في استلحاق معاوية زيادًا‏.‏

كل ما في هذا الخبر بسر فهو بضم الباء الموحدة والسين المهملة الساكنة‏.‏

 ذكر ولاية ابن عامر البصرة لمعاوية

ثم أراد معاوية أن يولي عتبة بن أبي سفيان البصرة فكلمه ابن عامر وقال له‏:‏ إن لي بالبصرة ودائع وأموالًا فإن لم تولني عليها ذهبت‏.‏

فولاه البصرة‏.‏ فقدمها في آخر سنة إحدى وأربعين وجعل إليه خراسان وسجستان فجعل على شرطته حبيب بن شهاب وعلى القضاء عميرة بن يثربي أخا عمرو وقد تقدم في وقعة الجمل أن عميرة قتل فيها وقيل عمرو هو المقتول والله سبحانه أعلم بالصواب‏.‏

 ذكر ولاية قيس بن الهيثم خراسان

وفي السنة استعمل ابن عامر قيس بن الهيثم السلمي عل خراسان وكان أهل بادغيس وهراة

وبوشنج قد نكثوا فسار إلى بلخ فأخرب نوبهارها كان الذي تولى ذلك عطاء بن السائب مولى بني ليث وهو الخشك وإنما سمي عطاء الخشك لأنه أول من دخل مدينة هراة من المسلمين من باب خشك واتخذ قناطر على ثلاثة أنهار من بلخ على فرسخ فقيل قناطر عطاء‏.‏

ثم إن أهل بلخ سألوا الصلح ومراجعة الطاعة فصالحهم قيس‏.‏

وقيل‏:‏ إنما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين وسيرد ذكره‏.‏

ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه وحبسه واستعمل عبد الله بن خازم فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشنج يطلبون الأمان والصلح فصالحهم وحمل إلى ابن عامر مالًا‏.‏

عبد الله بن خازم بالخاء المعجمة‏.‏

 ذكر خروج سهم بن غالب

وفي هذه السنة خرج سهم بن غالب الهجيمي على ابن عامر في سبعين رجلًا منهم الخطيم الباهلي وهو يزيد بن مالك وإنما قيل له الخطيم لضربة ضربها على وجهه فنزلوا بين الجسرين والبصرة فمر بهم عبادة بن فرص الليثي من الغزو ومعه ابنه وابن أخيه فقال لهم الخوارج‏:‏ من أنتم قالوا‏:‏ قوم مسلمون‏.‏

قالوا‏:‏ كذبتم‏.‏

قال عبادة‏:‏ سبحان الله‏!‏ اقبلوا منا ما قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مني فإني كذبته وقاتلته ثم أتيته فأسلمت فقبل ذلك مني‏.‏

قالوا‏:‏ أنت كافر وقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه‏.‏

فخرج إليهم ابن عامر بنفسه وقاتلهم فقتل منهم عدة وانحاز بقيتهم إلى أجمة وفيهم سهم والخطيم فعرض عليهم ابن عامر الأمان فقبلوه فآمنهم فرجعوا فكتب إليه معاوية يأمر بقتلهم فكتب إليه ابن عامر‏:‏ إني قد جعلت لهم ذمتك‏.‏

فلما أتى زياد البصرة سنة خمس وأربعين هرب سهم والخطيم فخرجا إلى الأهواز فاجتمع إلى سهم جماعة فأقبل بهم إلى البصرة فأخذ قومًا فقالوا‏:‏ نحن يهود فخلاهم وقتل سعدًا مولى قدامة بن مظعون فلما وصل إلى البصرة تفرق عنه أصحابه فاختفى سهم وقيل‏:‏ إنهم تفرقوا عند استخفائه فطلب الأمان وظن أنه يسوغ له عند زياد ما ساغ له عند ابن عامر فلم يؤمنه زياد وبحث عنه فدل عليه فأخذه وقتله وصلبه في داره‏.‏

وقيل‏:‏ لم يزل مستخفيًا إلى أن مات زياد فأخذه عبيد الله بن زياد فصلبه سنة أربع وخمسين وقيل‏:‏ قبل ذلك فقال رجل من الخوارج‏:‏ فإن تكن الأحزاب باؤوا بصلبه فلا يبعدن الله سهم بن غالب وأما الخطيم فإنه سأله زياد عن قتله عبادة فأنكره فسيره إلى البحرين ثم أعاده بعد ذلك‏.‏

 ذكر عدة حوادث

قيل‏:‏ وفي هذه السنة ولد علي بن عبد الله بن عباس وقيل‏:‏ ولد سنة أربعين قبل أن يقتل علي والأول أصح وباسم علي سماه وقال‏:‏ سميته باسم أحب الناس إلي‏.‏

وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان وقيل‏:‏ عنبسة بن أبي سفيان‏.‏

وفي هذه السنة استعمل عمرو بن العاص عقبة بن نافع بن عبد قيس وهو ابن خالة عمرو على إفريقية فانتهى إلى لواتة ومزاتة فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم من سنته فقتل وسبى ثم افتتح في سنة اثنتين وأربعين غدامس فقتل وسبى وفتح في سنة ثلاث وأربعين كورًا من كور السودان وافتتح ودان وهي من برقة وافتتح عامة بلاد بربر وهو الذي اختط القيروان سنة خمسين وسيذكر إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها مات لبيد بين ربيعة الشاعر‏:‏ وقيل‏:‏ مات يوم دخل معاوية الكوفة وعمره مائة سنة وسبع وخمسون سنة وقيل‏:‏ مات في خلافة عثمان وله صحبة وترك الشعر مذ أسلم‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين

في هذه السنة غزا المسلمون اللان وغزوا الروم أيضًا فهزموهم هزيمةً منكرة وقتلوا جماعة من بطارقتهم‏.‏ وفيها ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة وولى خالد بن العاص بن هشام مكة فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل‏.‏

وكان على الكوفة المغيرة بن شعبة وعلى قضائها شريح وعلى البصرة عبد الله بن عامر وعلى قضائها عمرو بن يثربي وعلى خراسان قيس بن الهيثم استعمله ابن عامر وقيل‏:‏ استعمله معاوية لما استقامت له الأمور فلما ولي ابن عامر البصرة أقره عليها‏.‏

 ذكر الخبر عن تحرك الخوارج

وفي هذه السنة تحركت الخوارج الذين كانوا انحازوا عمن قتل في النهر ومن كان ارتث من جراحته في النهر فبرأوا وعفا علي عنهم وكان سبب خروجهم أن حيان بن ظبيان السلمي كان خارجيًا وكان قد ارتث يوم النهر فلما برأ لحق بالري في رجال معه فأقاموا بها حتى بلغهم مقتل علي فدعا أصحابه وكانوا بضعة عشر أحدهم سالم بن ربيعة العبسي فأعلمهم بقتل علي فقال سالم‏:‏ لا شلت يمين علت قذاله بالسيف‏!‏ وحمدوا الله على قتله رضي الله عنه ولا رضي عنهم - ثم إن سالمًا رجع عن رأي الخوارج بعد ذلك وصلح - ودعاهم حيان إلى الخروج ومقاتلة أهل القبلة فأقبلوا إلى الكوفة فأقاموا بها حتى قدمها معاوية واستعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة فأحب العافية وأحسن السيرة وكان يؤتى فيقال له‏:‏ إن فلانًا يرى رأي الشيعة وفلانًا يرى رأي الخوارج فيقول‏:‏ قضى الله أن لا يزالوا مختلفين وسيحكم الله بين عباده‏.‏

فأمنه الناس‏.‏

وكانت الخوارج يلقى بعضهم بعضًا ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهر فاجتمعوا على ثلاثة نفر‏:‏ على المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب وعلى معاذ بن جوين الطائي وهو ابن عم زيد بن حصين الذي قتل يوم النهر وعلى حيان بن ظبيان السلمي واجتمعوا في أربعمائة فتشاوروا فيمن يولون عليهم فكلهم دفع الإمارة عن نفسه ثم اتفقوا فولوا المستورد وبايعوه وذلك في جمادى الآخرة واتعدوا للخروج واستعدوا وكان خروجهم غرة شعبان سنة ثلاث وأربعين‏.‏

علفة بضم العين المهملة وتشديد اللام المكسورة وفتح الفاء‏.‏

 ذكر قدوم زياد على معاوية

وفي هذه السنة قدم زياد على معاوية من فارس‏.‏

وكان سبب ذلك أن زيادًا كان قد استودع ماله عبد الرحمن بن أبي بكرة وكان عبد الرحمن يلي ماله بالبصرة وبلغ معاوية ذلك فبعث المغيرة بن شعبة لينظر في أموال زياد فأخذ عبد

الرحمن فقال له‏:‏ إن كان أبوك قد أساء إلي لقد أحسن عمك يعني زيادًا‏.‏

وكتب إلى معاوية‏:‏ إني لم أجد في يد عبد الرحمن مالًا يحل لي أخذه‏.‏

فكتب إليه معاوية‏:‏ أن عذب عبد الرحمن فأراد أن يعذر وبلغ ذلك معاوية فقال لعبد الرحمن‏:‏ احفظ بما في يديك‏.‏

وألقى على وجهه حريرة ونضحها بالماء فغشي عليه ففعل ذلك ثلاث مرات ثم خلاه وكتب إلى معاوية‏:‏ إني عذبته فلم أصب عنده شيئًا‏.‏

وحفظ لزياد يده عنده‏.‏

ثم دخل المغيرة على معاوية فقال معاوية حين رآه‏:‏ إنما موضع سر المرء إن باح بالسر أخوه المنتصح فإذا بحت بسرٍّ فإلى ناصحٍ يستره أو لا تبح فقال المغيرة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن تستودعني تستودع ناصحًا مشفقًا وما ذلك قال له معاوية‏:‏ ذكرت زيادًا واعتصامه بفارس فلم أنم ليلتي‏.‏

فقال المغيرة‏:‏ ما زياد هناك فقال معاوية‏:‏ داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت فإذا هو قد أعاد علي الحرب جذعة فقال المغيرة‏:‏ أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه قال‏:‏ نعم فأته وتلطف له‏.‏

فأتاه المغيرة وقال له‏:‏ إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك ولم يكن أحد يمد يده إلى هذا

الأمر غير الحسن وقد بايع فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغني معاوية عنك‏.‏

قال‏:‏ أشر علي وارم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن‏.‏

فقال له المغيرة‏:‏ أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه ويقضي الله‏.‏

وكتب إليه معاوية بأمانه بعد عود المغيرة عنه‏.‏

فخرج زياد من فارس نحو معاوية ومعه المنجاب بن راشد الضبي وحارثة بن بدر الغداني‏.‏

وسرح عبد الله بن عامر عبد الله بن خازم في جماعة إلى فارس وقال‏:‏ لعلك تلقى زيادًا في طريقك فتأخذه‏.‏

فسار بن خازم فلقي زيادًا بأرجان فأخذ بعنانه وقال‏:‏ انزل يا زياد‏.‏

فقال‏:‏ له المنجاب‏:‏ تنح يا ابن السوداء وإلا علقت يدك بالعنان‏.‏

وكانت بينهم منازعة‏.‏فقال له زياد‏:‏ قد أتاني كتاب معاوية وأمانه‏.‏

فتركه ابن خازم وقدم زياد على معاوية وسأله عن أموال فارس فأخبره بما حمل منها إلى علي وبما أنفق منها في الوجوه التي تحتاج إلى النفقة وما بقي عنده وأنه مودع للمسلمين فصدقه معاوية فيما أنفق وفيما بقي عنده وقبضه منه‏.‏

وقيل‏:‏ إن زيادًا لما قال لمعاوية قد بقيت بقية من المال وقد أودعتها مكث معاوية يردده فكتب زياد كتبًا إلى قوم أودعهم المال وقال لهم‏:‏ قد علمتم ما لي عندكم من الأمانة فتدبروا كتاب الله‏:‏ ‏{‏إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏‏.‏ الآية فاحتفظوا بما قبلكم‏.‏

وسمى في الكتب المال الذي أقر به لمعاوية وأمر رسوله أن يتعرض لبعض من يبلغ ذلك معاوية‏.‏

ففعل رسوله وانتشر ذلك فقال معاوية لزياد حين وقف على الكتب‏:‏ أخاف أن تكون مكرت بي فصالحني على ما شئت‏.‏

فصالحه على شيء وحمله إليه ومبلغه‏:‏ ألف ألف درهم‏.‏

واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له فكان المغيرة يكرمه ويعظمه‏.‏

فكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زيادًا وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وشبث بن ربعي وابن الكوا بن الحمق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلاة‏.‏

وإنما ألزمهم بذلك لأنهم كانوا من شيعة علي‏.‏

 ذكر عدة حوادث

وحج هذه السنة بالناس عنبسة بن أبي سفيان‏.‏

وفيها مات حبيب بن مسلمة الفهري بأرمينية وكان أميرًا لمعاوية عليها وكان قد شهد معه حروبه كلها‏.‏

وفيها مات عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري له صحبة‏.‏

وفيها مات ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب وهو الذي صارع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصفوان بن أمية بن خلف الجمحي وله صحبة‏.‏

وفيها مات هانىء بن نيار بن عمرو الأنصاري وهو خال البراء بن عازب وقيل‏:‏ سنة خمس وأربعين وكان بدريًا عقبيًا‏.‏

نيار بكسر النون وفتح الياء تحتها نقطتاه وآخره راء‏.‏

في هذه السنة غزا بسر بن أبي أرطأة الروم وشتا بأرضهم حتى بلغ القسطنطينية فيما زعم الواقدي وأنكر ذلك قوم من أهل الأخبار وقالوا‏:‏ لم يشت بسر بأرض الروم قط‏.‏

وفيها مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر وكان عمل عليها لعمر أربع سنين ولعثمان أربع سنين إلا شهرين ولمعاوية سنتين إلا شهرًا‏.‏

وفيها ولى معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص مصر فوليها نحوًا من سنتين‏.‏

وفيها مات محمد بن مسلمة بالمدينة في صفر وصلى عليه مروان بن الحكم وعمره سبع وسبعون سنة‏.‏ذكر مقتل المستورد الخارجي وفيها قتل المستورد بن علفة التيمي تيم الرباب وقد ذكر سنة اثنتين وأربعين‏:‏ تحرك الخوارج وبيعتهم له ومخاطبته بأمير المؤمنين‏.‏

فلما كان هذه السنة أخبر المغيرة بن شعبة بأنهم اجتمعوا في منزل حيان ابن ظبيان السلمي واتعدوا للخروج غرة شعبان فأرسل المغيرة صاحب شرطته وهو قبيصة بن الدمون فأحاط بدار حيان هو ومن معه وإذا عنده معاذ بن جوين ونحو عشرين رجلًا وثارت امرأته وهي أم ولد كانت له كارهة فأخذت سيوفهم فألقتها تحت الفراش وقاموا ليأخذوا سيوفهم فلم يجدوها فاستسلموا فانطلق بهم إلى المغيرة فحبسهم بعد أن قررهم فلم يعترفوا بشيء وذكروا أنهم اجتمعوا لقراءة القرآن ولم يزالوا في السجن نحو سنة وسمع إخوانهم فحذروا وخرج صاحبهم المستورد فنزل الحيرة واختلف الخوارج إليه فرآهم حجار بن أبجر فسألوه أن يكتم عليهم ليلتهم تلك فقال لهم‏:‏ سأكتم عليكم الدهر فخافوه أن يذكر حالهم للمغيرة فتحولوا إلى دار سليم بن محدوج العبدي وكان صهرًا للمستورد ولم يذكر حجار من أخبارهم شيئًا‏.‏

وبلغ المغيرة خبرهم وأنهم عازمون على الخروج تلك الأيام فقام في الناس فحمد الله ثم قال‏:‏ لقد علمتم أني لم أزل أحب لجماعتهم العافية وأكف عنكم الأذى وخشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم وقد خشيت أن لا نجد بدًا من أن يؤخذ الحليم التقي بذنب الجاهل السفيه فكفوا عنها سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم وقد بلغنا أن رجالًا يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والنفاق والخلاف وايم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب إلا أهلكتهم وجعلتهم نكالًا لمن بعدهم‏!‏‏.‏

فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال‏:‏ أيها الأمير اعلمنا بهؤلاء القوم فإن كانوا منا كفيناكهم وإن كانوا غيرنا أمرت أهل الطاعة فأتاك كل قبيلة بسفهائهم‏.‏

فقال‏:‏ ما سمي لي أحد باسمه‏.‏

فقال معقل‏:‏ أنا أكفيك قومي فليكفك كل رئيس قومه‏.‏

فأحضر المغيرة الرؤساء وقال لهم‏:‏ ليكفني كل رجل منكم قومه وإلا فوالله لا تحولن عما تعرفون إلى ما تنكرون وعما تحبون إلى ما تكرهون‏.‏

فرجعوا إلى قومهم فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على كل من يريد أن يهيج الفتنة وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبد القيس وكان قد علم بمنزل حيان في دار سليم ولكنه كره أن يؤخذ من عشيرته على فراقه لأهل الشام وبغضه لرأيهم وكره مساءة أهل بيت من قومه فقام فيهم فقال‏:‏ أيها الناس إن الله وله الحمد لما قسم الفضل خصكم بأحسن القسم فأجبتم إلى دين الله الذي اختاره لنفسه وارتضاه لملائكته ورسله ثم أقمتم حتى قبض الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم اختلف الناس بعده فثبتت طائفة وارتدت طائفة وأدهنت طائفة وتربصت طائفة فلزمتم دين الله إيمانًا به وبرسوله وقاتلتم المرتدين حتى قام الدين وأهلك الله الظالمين ولم يزل الله يزيدكم بذلك خيرًا حتى اختلفت الأمة بينها فقالت طائفة‏:‏ نريد طلحة والزبير وعائشة وقالت طائفة‏:‏ نريد أهل المغرب وقالت طائفة‏:‏ نريد عبد الله بن وهب الراسبي وقلتم أنتم‏:‏ لا نريد إلا أهل بيت نبينا الذين ابتدأنا الله عز وجل من قبلهم بالكرامة تسديدًا من الله عز وجل لكم وتوفيقًا فلم تزالوا على الحق لازمين له آخذين به حتى أهلك الله بكم وبمن كان على مثل هديكم الناكثين يوم الجمل والمارقين يوم النهر وسكت عن ذكر أهل الشام لأن السلطان لهم فلا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم من هذه المارقة الخاطئة الذين فارقوا إمامنا واستحلوا دماءنا وشهدوا علينا بالكفر فإياكم أن تؤووهم في دوركم أو تكتموا عليهم شيئًا فإنه لا ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة منكم وقد ذكر لي أن بعضهم في جانب من الحي وأنا باحث عن ذلك فإن يك حقًا تقربت إلى الله بدمائهم فإن دماءهم حلال‏!‏ وقال‏:‏ يا معشر عبد القيس إن ولاتنا هؤلاء أعرف شيء بكم وبرأيكم فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلًا فإنهم أسرع شيء إليكم وإلى مثلكم‏.‏ثم جلس وكل قوم قال‏:‏ لعنهم الله وبرىء منهم لا نؤويهم ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عليهم غير سليم بن محدوج فإنه لم يقل شيئًا ورجع كئيبًا يكره أن يخرج أصحابه من داره فيلوموه ويكره أن يؤخذوا في داره فيهلكوا ويهلك معهم‏.‏

وجاء أصحاب المستورد إليه فأعلموه بما قام به المغيرة في الناس وبما قام به رؤوسهم فيهم‏.‏

فسأل ابن محدوج عما قام به صعصعة في عبد القيس فأخبره وقال‏:‏ كرهت أن أعلمكم فتظنوا أنه ثقل علي مكانكم‏.‏

فقال له‏:‏ قد أكرمت المثوى وأحسنت ونحن مرتحلون عنك‏.‏

وبلغ الخبر الذين في محبس المغيرة من الخوارج فقال معاذ بن جوين بن حصين في ذلك‏:‏

أقمتم بدار الخاطئين جهالةً وكل امرىءٍ منكم يصاد ليقتلا فشدوا على القوم العداة فإنما أقامتكم للذبح رأيًا مضللا ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي إذا ذكرت كانت أبر وأعدلا فيا ليتني فيكم على ظهر سابحٍ شديد القصيرى دارعًا غير أعزلا ويا ليتني فيكم أعادي عدوكم فيسقيني كأس المنية أولا يعز علي أن تخافوا وتطردوا ولما أجرد في المحلين منصلا ولما يفرق جمعهم كل ماجدٍ إذا قلت قد ولى وأدبر أقبلا مشيحًا بنصل السيف في حمس الوغى يرى الصبر في بعض المواطن أمثلا وعز علي أن تصابوا وتنقصوا وأصبح ذا بثٍ أسيرًا مكبلا ولو أنني فيكم وقد قصدوا لكم أثرت إذًا بين الفريقين قسطلا فيا رب جمعٍ قد فللت وغارةٍ شهدت وقرنٍ قد تركت مجدلا وأرسل المستورد إلى أصحابه فقال لهم‏:‏ اخرجوا من هذه القبيلة واتعدوا سوراء‏.‏

فخرجوا ولرأيهم مبغضٍ وبطاعتك مستمسك فأينا شئت سار إليهم‏.‏

وقال له معقل بن قيس‏:‏ إنك لا تبعث إليهم أحدًا ممن ترى حولك إلا رأيته سامعًا مطيعًا ولهم مفارقًا ولهلاكهم محبًا ولا أرى أن تبعث إليهم أحدًا من الناس أعدى لهم مني فابعثني إليهم فأنا أكفيكهم بإذن الله تعالى‏.‏

فقال‏:‏ اخرج على اسم الله‏!‏ فجهز معه ثلاثة آلاف‏.‏

وقال المغيرة لصاحب شرطته‏:‏ الصق بمعقل شيعة علي فإنه كان من رؤساء أصحابه فإذا اجتمعوا استأنس بعضهم ببعض وهم أشد استحلالًا لدماء هذه المارقة وأجرأ عليهم من غيرهم فقد قاتلوهم قبل هذه المرة‏.‏

وقال له صعصعة بن صوحان نحوًا من قول معقل‏.‏

فقال له المغيرة‏:‏ اجلس فإنما أنت خطيب‏.‏

فأحفظه ذلك‏.‏

وإنما قال له ذلك لأنه بلغه أنه يعيب عثمان بن عفان ويكثر ذكر علي ويفضله وكان المغيرة دعاه وقال له‏:‏ إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان وإياك أن يبلغني أنك تظهر شيئًا من فضل علي فأنا أعلم بذلك منك ولكن هذا السلطان قد ظهر وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس فنحن ندع شيئًا كثيرًا مما أمرنا به ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بدًا ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا فإن كنت ذاكرًا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك في منازلكم سرًا وأما علانية في المسجد فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا‏.‏

فكان يقول له‏:‏ نعم ثم يبلغه عنه أنه فعل ذلك فحقد عليه المغيرة فأجابه بهذا الجواب فقال له صعصعة‏:‏ وما أنا إلا خطيب فقط‏!‏ قال‏:‏ أجل‏.‏

فقال‏:‏ والله إني للخطيب الصليب الرئيس أما والله لو شهدتني يوم الجمل حيث اختلفت القنا فشؤون القنا فشؤون تفرى وهامة تختلى لعلمت أني الليث النهد‏.‏

فقال‏:‏ حسبك لعمري لقد أوتيت لسانًا فصيحًا‏.‏

وخرج معقل ومعه ثلاثة آلاف فارس نقاوة الشيعة وسار إلى سوراء ولحقه أصحابه‏.‏

وأما الخوارج فإنهم ساروا إلى بهر سير وأرادوا العبور إلى المدينة العتيقة التي فيها منازل كسرى فمنعهم سماك بن عبيد الأزدي العبسي وكان عاملًا عليها فكتب إليه المستورد يدعوه إلى البراءة من عثمان وعلي وأن يتولاه وأصحابه‏.‏

فقال سماك‏:‏ بئس الشيخ أنا إذًا‏!‏ وأعاد الجواب على المستورد يدعوه إلى الجماعة وأن يأخذ له الأمان فلم يجب وأقام بالمدائن ثلاثة أيام ثم بلغه مسير معقل إليهم فجمعهم المستورد وقال لهم‏:‏ إن المغيرة قد بعث إليكم معقل بن قيس وهو من السبئية المفترين الكاذبين فأشيروا علي برأيكم‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ خرجنا نريد الله والجهاد وقد جاؤونا فأين نذهب بل نقيم حتى يحكم الله بيننا‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بل نتنحى ندعو الناس ونحتج عليهم بالدعاء‏.‏

فقال لهم‏:‏ لا أرى أن نقيم حتى يأتونا وهم مستريحون بل أرى أن نسير بين أيديهم فيخرجوا في طلبنا فينقطعوا ويتبددوا فنلقاهم على تلك الحال‏.‏

وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم فسأل كيف صنع المغيرة فأخبر بفعله فاستدعى شريك بن الأعور الحارثي وكان من شيعة علي فقال له‏:‏ اخرج إلى هذه المارقة‏.‏

ففعل‏.‏

وانتخب معه ثلاثة آلاف فارس من الشيعة وكان أكثرهم من ربيعة وسار بهم إلى المذار‏.‏وأما معقل بن قيس فسار إلى المدائن حتى بلغها فبلغه رحيلهم فشق ذلك على الناس فقال لهم معقل‏:‏ إنهم ساروا لتتبعوهم وتتبددوا وتنقطعوا فتلحقوهم وقد تعبتم وإنه لا يصيبكم شيء من ذلك إلا وقد أصابهم مثل ذلك‏.‏

وسار في آثارهم وقدم بين يديه أبا الرواغ الشاكري في ثلاثمائة فارس فتبعهم أبو الرواغ حتى لحقهم بالمذار فاستشار أصحابه في قتالهم قبل قدوم معقل فقال بعضهم‏:‏ لا تفعل وقال بعضهم‏:‏ بل نقاتلهم‏.‏

فقال لهم‏:‏ إن معقلًا أمرني أن لا أقاتلهم‏.‏

فقالوا له‏:‏ ينبغي أن تكون قريبًا منه حتى يأتي معقل وكان ذلك عند المساء‏.‏

فباتوا يتحارسون حتى أصبحوا فلما ارتفع النهار خرجت الخوارج إليهم وكانوا أيضًا ثلاثمائة وحملوا عليهم فانهزم أصحاب أبي الرواغ ساعةً ثم صاح بهم أبو الرواغ‏:‏ الكرة الكرة‏!‏ وحمل ومعه أصحابه فلما دنوا من الخوارج عادوا منهزمين إلا أنهم لم يقتل منهم أحد فصاح بهم أبو الرواغ أيضًا‏:‏ ثكلتككم أمهاتكم‏!‏ ارجعوا بنا نكن قريبًا منهم لا نفارقهم حتى يقدم علينا أميرنا وما أقبح بنا أن نرجع إلى الجيش منهزمين من عدونا‏!‏ فقال له بعض أصحابه‏:‏ إن الله لا يستحي من الحق قد والله هزمونا‏.‏

فقال له‏:‏ لا أكثر الله فينا مثلك إنا ما لم نفارق العركة فلم نهزم ومتى عطفنا عليهم وكنا قريبًا منهم فنحن على حال حسنة فقفوا قريبًا منهم فإن أتوكم وعجزتم عنهم فتأخروا قليلًا فإذا حملوا عليكم وعجزتم عن قتالهم فانحازوا على حامية فإذا رجعوا عنكم فاعطفوا عليهم وكونوا قريبًا منهم فإن الجيش يأتيكم عن ساعة‏.‏

فجعلت الخوارج كلما حملت عليهم انحازوا عنهم فإذا عاد الخوراج رجع أبو الرواغ في آثارهم فلم يزالوا كذلك إلى وقت الظهر فنزل الطائفتان يصلون ثم أقاموا إلى العصر وكان أهل القرى والسيارة قد أخبروا معقلًا بالتقاء الخوارج وأصحابه وأن الخوارج تطرد أصحابه بين أيديهم فإذا رجعوا عاد أصحابه خلفهم‏.‏

فقال معقل‏:‏ إن كان ظني في أبي الرواغ صادقًا لا يأتيكم منهزمًا أبدًا‏.‏

ثم أسرع السير في سبعمائة من أهل القوة واستخلف محرز بن شهاب التميمي على ضعفة الناس فلما أشرفوا على أبي الرواغ قال لأصحابه‏:‏ هذه غبرة فتقدموا بنا إلى عدونا حتى لا يرانا أصحابنا إنا تنحينا عنهم وهبناهم‏.‏

فتقدم حتى وقف مقابل الخوارج ولحقهم معقل فلما دنا منهم غربت الشمس فصلى بأصحابه وصلى أبو الرواغ بأصحابه وصلى الخوارج أيضًا وقال أبو الرواغ لمعقل‏:‏ إن لهم شدات منكرات فلا تلها بنفسك ولكن قف وراء الناس تكون ردءًا لهم‏.‏

فقال‏:‏ نعم ما رأيت‏.‏

فبينا هو يخاطبه حملت الخوارج عليهم فانهزم عامة أصحاب معقل وثبت هو فنزل إلى الأرض ومعه أبو الرواغ في نحو مائتي رجل فلما غشيهم المستورد استقبلوه بالرماح والسيوف فانهزمت خيل معقل ساعةً ثم ناداهم مسكين بن عامر وكان شجاعًا‏:‏ أين الفرار وقد نزل أميركم ألا تستحيون ثم رجع ورجعت معه خيل عظيمة ومعقل بن قيس يقاتل الخوارج بمن معه فلم يزل يقاتلهم حتى ردهم إلى البيوت ثم لم يلبثوا إلا قليلًا حتى جاءهم محرز بن شهاب فيمن معه فجعلهم معقل ميمنةً وميسرة وقال لهم‏:‏ لا تبرحوا حتى تصبحوا ونثور إليهم‏.‏

ووقف الناس بعضهم مقابل بعض فبينما هم متواقفون أتى الخوارج عينٌ لهم فأخبرهم أن شريك بن الأعور قد أقبل إليهم من البصرة في ثلاثة آلاف‏.‏

فقال المستورد لأصحابه‏:‏ لا أرى أن نقيم لهؤلاء جميعًا ولكني أرى أن نرجع إلى الوجه الذي جئنا منه فإن أهل البصرة لا يتبعوننا إلى أرض الكوفة فيهون علينا قتال أهل الكوفة‏.‏

ثم أمرهم بالنزول يريحوا دوابهم ساعةً ففعلوا ثم دخلوا القرية وأخذوا منها من دلهم على الطريق الذي أقبلوا منه وعادوا راجعين‏.‏

وأما معقل فإنه بعث من يأتيه بخبرهم حين لم ير سوادهم فعاد إليه بالخبر أنهم قد ساروا فخاف أن تكون مكيدة وخاف البيات فاحتاط هو وأصحابه وتحارسوا إلى الصباح فلما أصبحوا أتاهم من أخبرهم بمسيرهم وجاء شريك ابن الأعور فيمن معه فلقي معقلًا فتساءلا ساعة وأخبره معقل بخبرهم فدعا شريك أصحابه إلى المسير مع معقل فلم يجيبوه فاعتذر إلى معقل بخلاف أصحابه وكان صديقًا له يجمعهما رأي الشيعة ودعا معقل أبا الرواغ وأمره باتباعهم فقال له‏:‏ زدني مثل الذين كانوا معي ليكون أقوى لي إن أرادوا مناجزتي‏.‏فبعث معه ستمائة فارس فساروا سراعًا حتى أدركوا الخوارج بجرجرايا وقد نزلوا فنزل بهم أبو الرواغ مع طلوع الشمس فلما رأوهم قالوا‏:‏ إن قتال هؤلاء أيسر من قتال من يأتي بعدهم فحملوا على أبي الرواغ وأصحابه حملة صادقة فانهزم أصحابه وثبت في مائة فارس فقاتلهم طويلًا وهو يقول‏:‏ إن الفتى كل الفتى من لم يهل إذا الجبان حاد عن وقع الأسل قد علمت أني إذا البأس نزل أروع يوم الهيج مقدامٌ بطل ثم عطف أصحابه من كل جانب فصدقوهم القتال حتى أعادوهم إلى مكانهم فلما رأى المستورد ذلك علم أنهم إن أتاهم معقل ومن معه هلكوا فمضى هو وأصحابه فعبروا دجلة ووقفوا في أرض بهرسير وتبعهم أبو الرواغ حتى نزل بهم بساباط فلما نزل بهم قال المستورد لأصحابه‏:‏ إن هؤلاء هم حماة أصحاب معقل وفرسانه ولو علمت أني أسبقهم إليه بساعة لسرت إليه فواقعته‏.‏

ثم أمر من يسأل عن معقل فسألوا بعض من على الطريق فأخبروهم أنه نزل ديلمايا وبينهم ثلاثة فراسخ فلما أخبر المستورد ذلك ركب وركب أصحابه وأقبل حتى انتهى إلى جسر ساباط وهو جسر نهر ملك وهو من جانبه الذي يلي الكوفة وأبو الرواغ من جانب المدائن فقطع المستورد الجسر ولما رآهم أبو الرواغ قد ركبوا عبى أصحابه وأقبل حتى انتهى إلى جسر ساباط وهو جسر نهر ملك وهو من جانبه الذي يلي الكوفة وأبو الرواغ من جانب المدائن فقطع المستورد الجسر ولما رآهم أبو الرواغ قد ركبوا عبى أصحابه واعتزل إلى صحراء بين المدائن وساباط ليكون القتال بها ووقف ينتظرهم فلما قطع المستورد الجسر سار إلى ديلمايا نحو معقل ليوقع به فانتهى إليه وأصحابه متفرقون عنه وهو يريد الرحيل وقد تقدم بعض أصحابه فلما رآهم معقل نصب رايته ونادى‏:‏ يا عباد الله الأرض الأرض‏!‏ فنزل معه نحو مائتي رجل فحملت الخوارج عليهم فاستقبلوهم بالرماح جثاةً على الركب فلم يقدروا عليهم فتركوهم وعدلوا إلى خيولهم فحالوا بينهم وبينها وقطعوا أعنتها فذهبت في كل جانب ثم مالوا على المتفرقين من أصحاب معقل ففرقوا بينهم ثم رجعوا إلى معقل وأصحابه وهم على الركب فحملوا عليهم فلم يتجلجلوا فحملوا أخرى فلم يقدروا عليهم فقال المستورد لأصحابه‏:‏ لينزل نصفكم ويبقى نصفكم على الخيل‏.‏

ففعلوا واشتد الحال على أصحاب معقل وأشرفوا على الهلاك‏.‏

فبيما هم كذلك إذ أقبل أبو الرواغ عليهم فيمن معه‏.‏وكان سبب عوده إليهم أنه أقام بمكانه ينتظرهم فلما أبطأوا عليه أرسل من يأتيه بخبرهم فرأوا الجسر مقطوعًا ففرحوا ظنًا منهم أن الخوارج فعلوا ذلك هيبةً لهم فرجعوا إلى أبي الرواغ فأخبروه أنهم لم يروهم وأن الجسر قد قطعوه هيبةً لهم‏.‏

فقال لهم أبو الرواغ‏:‏ لعمري ما فعلوا هذا إلا مكيدةً وما أراهم إلا وقد سبقوكم إلى معقل حيث رأوا فرسان أصحابه معي وقد قطعوا الجسر ليشغلوكم به عن لحاقهم فالنجاء النجاء في الطلب ثم أمر أهل القرية فعقدوا الجسر وعبر عليه واتبع الخوارج فلقيه أوائل الناس منهزمين فصاح بهم‏:‏ إلي إلي‏!‏ فرجعوا إليه وأخبروه الخبر وأنهم تركوا معقلًا يقاتلهم وما يظنونه إلا قتيلًا‏.‏

فجد في السير ورد معه كل من لقيه من المنهزمين فانتهى إلى العسكر فرأى راية معقل منصوبة والناس يقتتلون فحمل أبو الرواغ ومن معه على الخوارج فأزالوهم غير بعيدٍ ووصل أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو متقدم يحرض أصحابه فشدوا على الخوارج شدةً منكرة ونزل المستورد ومن معه من الخوارج ونزل أصحاب معقل أيضًا ثم اقتتلوا طويلًا من النهار بالسيوف أشد قتال‏.‏ثم إن المستورد نادى معقلًا ليبرز إليه فبرز إليه فمنعه أصحابه فلم يقبل منهم وكان معه سيفه ومع المستورد رمحه فقال أصحاب معقل‏:‏ خذ رمحك‏.‏

فأبى وأقبل على المستورد فطعنه المستورد برمحه فخرج السنان من ظهره وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد فضربه بالسيف فخالط دماغه فوقع المستورد ميتًا ومات معقل أيضًا‏.‏

وكان معقل قد قال‏:‏ إن قتلت فأميركم عمرو بن محرز بن شهاب التميمي‏.‏فلما قتل أخذ الراية عمرو ثم حمل في الناس على الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم غير خمسة أو ستة‏.‏

وقال ابن الكلبي‏:‏ كان المستورد من تميم ثم من بني تميم ثم من بني رباح واحتج بقول جرير‏:‏ ومنا فتى الفتيان والجود معقلٌ ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا يعني هذه الوقعة‏.‏