فصل: ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر اعتزال الخوارج عليًا ورجوعهم إليه

ولما رجع علي من صفين فارقة الخوارج وأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفًا ونادى مناديهم‏:‏ إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري والأمر شورى بعد الفتح والبيعة لله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

فلما سمع علي ذلك وأصحابه قامت الشيعة فقالوا له‏:‏ في أعناقنا بيعة ثانية نحن أوياء من واليت وأعداء من عاديت‏.‏فقالت الخوارج‏:‏ استبقم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا وبايعتم أنتم عليًا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى‏.‏

فقال لهم زياد بن النضر‏:‏ والله ما بسط علي يده فبايعناه قط والله ما بسط علي يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا له‏:‏ نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ونحن كذلك وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل‏.‏

وبعث علي عبد الله بن عباس إلى الخوارج وقال‏:‏ لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك‏.‏

فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه فلم يصبر حتى راجعهم فقال‏:‏ ما نقمتم من الحكمين وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فكيف بأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت الخوارج‏:‏ أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه حكم في الزاني مائة جلدة وفي السارق القطع فليس للعباد أن ينظروا في هذا قال ابن عباس‏:‏ فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏يحكم به ذوا عدلٍ منكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

فقالوا‏:‏ أو تجعل الحكم في الصيد والحرث وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين وقالوا له‏:‏ أعدلٌ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا فإن كان عدلًا فلسنا بعدول وقد حكمتم في أمر الله الرجال وقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابًا وجعلتم بينكم الموادعة وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب مذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية‏.‏

وبعث علي زياد بن النضر فقال‏:‏ أنظر بأي رؤوسهم هم أشد إطافة‏.‏

فأخبره بأنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد بن قيس‏.‏

فخرج علي في الناس حتى دخل إليهم فأتى فسطاط يزيد بن قيس فدخله فصلى فيه ركعتين وأمره على أصبهان والري ثم خرج حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس فقال‏:‏ ألم أنهك عن كلامهم ثم تكلم فقال‏:‏ اللهم هذا مقامٌ من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ من زعيمكم قالوا‏:‏ ابن الكوا‏.‏

قال‏:‏ فما أخرجكم علينا قالوا‏:‏ حكومتك يوم صفين‏.‏

قال‏:‏ أنشدكم الله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف وقلتم نجيبهم قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم أنهم ليسوا باصحاب دين وذكر ما كان قاله لهم ثم قال لهم‏:‏ قد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف وإن أبيا فنحن عن حكمهما برآء‏.‏

قالوا‏:‏ فخبرنا أتراه عدلًا تحكيم الرجال في الدماء فقال‏:‏ إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال‏.‏

قالوا‏:‏ فخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم قال‏:‏ ليعلم الجاهل ويتثبت العالم ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة ادخلوا مصركم رحمكم الله‏.‏فدخلوا من عند آخرهم‏.‏

قيل‏:‏ والخوارج يزعمون أنهم قالوا له‏:‏ صدقت قد كنا كما ذكرت وكان ذلك كفرًا منا وقد تبنا إلى الله فتب كما تبنا نبايعك وإلا فنحن مخالفون‏.‏

فبايعنا علي وقال‏:‏ ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى نجبي المال ويسمن الكراع ثم نخرج إلى عدونا‏.‏

وقد كذب الخوارج فيما زعموا‏.‏

ولما جاء وقت اجتماع الحكمين أرسل علي أربعمائة رجل عليهم شريح ابن هانئ الحارثي وأوصاه أن يقول لعمرو بن العاص‏:‏ إن عليًا يقول لك‏:‏ إن أفضل الناس عند الله عز وجل من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه من الباطل وإن زاده‏.‏

يا عمرو والله إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل إن أوتيت طمعًا يسيرًا كنت لله به ولأوليائه عدوًا وكأن والله ما أوتيت قد زال عنك‏!‏ ويحك فلا تكن للخائنين خصيمًا وللظالمين ظهيرًا أما إني أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم وهو يوم وفاتك تتمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة ولم تأخذ على حكم رشوة‏.‏

فلما بلغه تغير وجهه ثم قال‏:‏ متى كنت قبل مشورة علي أو أنتهي إلى أمره أو أعتد برأيه فقال له‏:‏ وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته فقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه‏.‏فقال له‏:‏ إن مثلي لا يكلم مثلك‏.‏قال شريح‏:‏ بأي أبويك ترغب عني يا ابن النابغة أبأبيك الوسط أم بأمك النابغة فقام عنه‏.‏

وأرسل علي أيضًا معهم عبد الله بن عباس ليصلي بهم ويلي أمورهم ومعهم أبو موسى الأشعري‏.‏

وأرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام حتى توافوا من دومة الجندل بأذرح‏.‏وكان عمرو إذا أتاه كتاب من معاوية لا يدرى بما جاء فيه ولا يسأله أهل الشام عن

شيء وكان أهل العراق يسألون ابن عباس عن كتاب يصله من علي فإن كتمهم ظنوا به الظنون وقالوا‏:‏ أتراه كتب بكذا وكذا فقال لهم ابن عباس‏:‏ أما تعقلون أما ترون رسول معاوية يجيء لا يعلم أحد بما جاء به ولا يسمع لهم صياح وأنتم عندي كل يوم تظنون في الظنون وحضر معهم ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وابن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة‏.‏

وكان سعد بن أبي وقاص على ماء لبني سليم بالبادية فأتاه ابنه عمر فقال له‏:‏ إن أبا موسى وعمرًا قد شهدهما نفرٌ من قريش فاحضر معهم فإنك صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحد الشورى ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة وأنت أحق الناس بالخلافة‏.‏

فلم يفعل وقيل‏:‏ بل حضرهم سعد وندم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس‏.‏

وقال المغيرة بن شعبة لرجال من قريش‏:‏ أترون أحدًا يستطيع أن يأتي برأي يعلم به أيجتمع الحكمان أم لا فقالوا‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ إني أعلمه منهما‏.‏

فدخل على عمرو بن العاص فقال‏:‏ كيف ترانا معشر من اعتزل الحب فإنا قد شككنا في الأمر الذي استبان لكم فيها‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ أراكم خلف البرار أمام الفجار‏.‏

فانصرف المغيرة إلى أبي موسى فقال له مثل قوله لعمرو‏.‏

فقال له أبو موسى‏:‏ أراكم أثبت الناس رأيًا فيكم بقية الناس‏.‏

فعاد المغيرة إلى أصحابه وقال لهم‏:‏ لا

فلما اجتمع الحكمان قال عمرو‏:‏ يا أبا موسى ألست تعلم أن عثمان قتل مظلومًا قال‏:‏ أشهد‏.‏

قال‏:‏ ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فما يمنعك منه وبيته في قريش كما قد علمت فإن خفت أن يقول الناس‏:‏ ليست له سابقة فقل وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه الحسن السياسة والتدبير وهو أخو أم حبيبة زوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكاتبه وقد صحبه وعرض له بسلطان‏.‏

فقال أبو موسى‏:‏ يا عمرو اتق الله‏!‏ فأما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف تولاه أهله ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة ابن الصباح إنما هو لأهل الدين والفضل مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفًا أعطيته علي بن أبي طالب وأما قولك‏:‏ إن معاوية ولي دم عثمان فوله هذا الأمر فلم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين وأما تعريضك لي بالسلطان فوالله لو خرج معاوية لي من سلطانه كله لما وليته وما كنت لأرتشي في حكم الله‏!‏ ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب رحمه الله‏.‏

قال له عمرو‏:‏ فما يمنعك من ابني وأنت تعلم فضله وصلاحه فقال‏:‏ إن ابنك رجل صدق ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة‏.‏

فقال عمرو‏:‏ إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل له ضرس يأكل ويطعم وكانت في ابن عمر غفلة فقال له ابن الزبير‏:‏ أفطن فانتبه‏!‏ فقال عبد الله بن عمر‏:‏ والله

لا أرشو عليها شيئًا أبدًا‏.‏

وقال‏:‏ يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعوا بالسيوف فلا تردنهم في فتنة‏.‏

وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام يقول له‏:‏ أنت صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأسن مني فتكلم وتعود ذلك أبو موسى وأراد عمرو بذلك كله أن يقدمه في خلع علي فلما أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبى وأراد أبو موسى بن عمر فأبى عمرو قال له عمرو‏:‏ خبرني ما رأيك قال‏:‏ أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا‏.‏

فقال عمرو‏:‏ الرأي ما رأيت‏.‏

فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون فقال عمرو‏:‏ يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق‏.‏

فتكلم أبو موسى فقال‏:‏ إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة‏.‏

فقال عمرو‏:‏ صدق وبر تقدم يا أبا موسى فتكلم‏.‏

فتقدم أبو موسى فقال له ابن عباس‏:‏ ويحك‏!‏ والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم به قبلك ثم تكلم به بعده فإنه رجلٌ غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بينكما فإذا قمت في الناس خالفك‏.‏

وكان أبو موسى مغفلًا فقال‏:‏ إنا قد اتفقنا وقال‏:‏ أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه وهو أن نخلع عليًا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا وإني قد خلعت عليًا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلًا‏.‏

ثم تنحى‏.‏

وأقبل عمرو فقام وقال‏:‏ إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه‏.‏فقال سعد‏:‏ ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكايده‏!‏ فقال أبو موسى‏:‏ فما أصنع وافقني على أمر ثم نزع عنه‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لمن قدمك في هذا المقام‏.‏

قال‏:‏ غدر فما أصنع فقال ابن عمر‏:‏ انظروا إلى ما صار أمر هذه الأمة‏!‏ صار إلى رجل ما يبالي ما صنع وإلى آخر ضعيف‏.‏

وقال عبد الرحمن بن أبي بكر‏:‏ لو مات الأشعري قبل هذا اليوم لكان خيرًا له‏.‏

وقال أبو موسى الأشعري لعمرو‏:‏ لا وفقك الله غدرت وفجرت‏!‏ إنما مثلك ‏{‏كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏‏.‏

قال عمرو‏:‏ إنما مثلك ‏{‏كمثل الحمار يحمل أسفارًا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

فحمل شريح بن هانئ على عمرو فضربه بالسوط وحمل ابن لعمرو على شريح فضربه بالسوط أيضًا وحجز الناس بينهم‏.‏

وكان شريح يقول بعد ذلك‏:‏ ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ولم أضربه بالسيف‏.‏

والتمس أهل الشام أبا موسى فهرب إلى مكة ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة ورجع ابن عباس وشريح إلى علي وكان علي إذا صلى الغداة يقنت فيقول‏:‏ اللهم العن معاوية وعمرًا وأبا الأعور وحبيبًا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد‏!‏ فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت سب عليًا وابن عباس والحسن والحسين والأشتر‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن معاوية حضر الحكمين وإنه قام عشيةً في الناس فقال‏:‏ أما بعد من كان متكلمًا في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فاطلعت حبوتي فأردت أن أقول يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة ويسفك فيها دم وكان ما وعد الله فيه الجنان أحب إلي من ذلك فلما انصرفت إلى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فقال‏:‏ ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم قلت‏:‏ أردت ذلك ثم خشيت‏.‏

فقال حبيب‏:‏ وفقت وعصمت وهذا أصح لأنه ورد في الصحيح‏.‏

ذكر خبر الخوارج عند توجيه الحكمين وخبر يوم النهر لما أراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج‏:‏ زرعة ابن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي فقالا له‏:‏ لا حكم إلا لله‏!‏ فقال علي‏:‏ لا حكم إلا لله‏.‏

وقال‏:‏ حرقوص بن زهير‏:‏ تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا‏.‏

فقال علي‏:‏ قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابًا وشرطنا شروطًا وأعطينا عليها عهودًا وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 91‏]‏‏.‏

فقال حرقوص‏:‏ ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه‏.‏

فقال علي‏:‏ ما هو ذنب ولكنه عجزٌ عن الرأي وقد نهيتكم‏.‏

فقال زرعة‏:‏ يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك اطلب وجه الله تعالى‏.‏

فقال علي‏:‏ بؤسًا لك ما أشقاك‏!‏ كأني بك قتيلًا تسفي عليك الرياح‏!‏ قال‏:‏ وددت لو كان ذلك‏.‏

فخرجا من عنده يحكمان‏.‏

وخطب علي ذات يوم فحكمت المحكمة في جوانب المسجد فقال علي‏:‏ الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل‏!‏ إن سكتوا غممناهم وإن تكلموا حججناهم وإن خرجوا علينا قاتلناهم‏.‏

فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال‏:‏ الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغنى عنه‏!‏ اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في الدين إدهانٌ في أمر الله وذل راجع بأهله إلى سخط الله يا علي أبالقتل تخوفنا أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات ثم لتعلم أينا أولى بها صليًا‏.‏

ثم خرج هو وإخوة له ثلاثة فأصيبوا مع الخوارج بالنهر وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنخيلة‏.‏

ثم خطب علي يومًا آخر فقام رجل فقال‏:‏ لا حكم إلا لله‏!‏ ثم توالى عدة رجال يحكمون‏.‏

فقال علي‏:‏ الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل‏!‏ أما إن لكم عندنا ثلاثًا ما صحبتمونا‏:‏ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولا نقاتلكم حتى تبدأونا وإنما فيكم أمر الله‏.‏

ثم رجع إلى مكانه من الخطبة‏.‏

ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضًا واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم فزهدهم في الدنيا وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم قال‏:‏ اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة‏.‏

فقال له حرقوص بن زهير‏:‏ إن المتاع بهذه الدنيا قليل وإن الفراق لها وشيك فلا تدعوكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم ف ‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏‏.‏

فقال حمزة ابن سنان الأسدي‏:‏ يا قوم إن الرأي ما رأيتم فولوا أمركم رجلًا منكم فإنكم لابد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها‏.‏

فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا وعرضوها على عبد الله بن وهب فقال‏:‏ هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقًا من الموت‏.‏

فبايعوه لعشر خلون من

ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي فقال ابن وهب‏:‏ اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنكم أهل الحق‏.‏

قال شريح‏:‏ نخرج إلى المدائن فننزلها ونأخذها بأبوابها ونخرج منها سكانها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا‏.‏

فقال زيد بن حصين‏:‏ إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعتم ولكن اخرجوا وحدانًا مستخفين فأما المدائن فإن بها من يمنعكم ولكن سيروا حتى ننزل جسر النهروان وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة‏.‏

قالوا‏:‏ هذا الرأي‏.‏

وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمونهم ما اجتمعوا عليه ويحثونهم على اللحاق بهم وسير الكتاب إليهم فأجابوه أنهم على اللحاق به‏.‏

فلما عزموا على المسير تعبدوا ليلتهم وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة وساروا يوم السبت فخرج شريح بن أوفى العبسي وهو يتلو قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فخرج منها خائفًا يترقب‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 21‏]‏‏.‏ إلى ‏{‏سواء السبيل‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي فاتبعه أبوه فلم يقدر عليه فانتهى إلى المدائن ثم رجع فلما بلغ ساباط لقيه عبد الله بن وهب الراسبي في نحو عشرين فارسًا فأراد عبد الله قتله فمنعه عمرو بن مالك النبهاني وبشر بن زيد البولاني وأرسل عدي إلى سعد بن مسعود عامل علي على المدائن يحذره أمرهم فحذر وأخذ أبواب المدائن وخرج في الخيل واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبي عبيد وسار في طلبهم‏.‏

فأخبر عبد الله بن وهب خبره فرابأ طريقه وسار على بغداذ ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس عند المساء فانصرف إليهم عبد الله في ثلاثين فارسًا فاقتتلوا ساعة وامتنع القوم منهم‏.‏

وقال أصحاب سعد لسعد‏:‏ ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر خلهم فليذهبوا واكتب إلى أمير المؤمنين فإن أمرك باتباعهم اتبعتهم وإن كفاكهم غيرك كان في ذلك عافية لك‏.‏

فأبى عليهم‏.‏

فلما جن عليهم الليل خرج عبد الله بن وهب فعبر دجلة إلى أرض جوخى وسار إلى النهروان فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه وقالوا‏:‏ إن كان هلك ولينا الأمر زيد بن حصين أو حرقوص بن زهير‏.‏

وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم فردهم أهلوهم كرهًا منهم القعقاع بن قيس الطائي عم الطرماح بن حكيم وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائي وبلغ عليًا أن سالم بن ربيعة العبسي يريد الخروج فأحضره عنده ونهاه فانتهى‏.‏

ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليًا أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا‏:‏ نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت‏.‏

فشرط لهم فيه سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي وكان شهد معه الجمل وصفين ومعه راية خثعم فقال له‏:‏ بايع على كتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال ربيعة‏:‏ على سنة أبي بكر وعمر‏.‏

قال له علي‏:‏ ويلك‏!‏ لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكونا على شيء من الحق‏.‏

فبايعه‏.‏

فنظر إليه علي وقال‏:‏ أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت وكأني بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها‏.‏

فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة‏.‏

وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدئلي فلحقهم بالجسر الأكبر فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل وأدلج مسعر بأصحابه وأقبل يعترض الناس وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر‏.‏

فلما خرجت الخوارج وهرب أبو موسى إلى مكة ورد علي ابن عباس إلى البصرة قام في الكوفة فخطبهم فقال‏:‏ الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله‏.‏

أما بعد فإن المعصية تورث الحسرة وتعقب الندم وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة أمري ونحلتكم رأيي لو كان لقصيرٍ أمرٌ ولكن أبيتم إلا ما أردتم فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن‏:‏ إلا أن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدىً من الله فحكما بغير حجة بينةٍ ولا سنة ماضية واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد فبرىء الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام وأصحبوا في معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين‏.‏

ثم نزل وكتب إلى الخوارج بالنهر‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس‏.‏

أما بعد فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب الله واتبعا هواهما بغير هدىً من الله فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا القرآن حكمًا فبرىء الله منهما ورسوله والمؤمنون فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه‏.‏

فكتبوا إليه‏:‏ أما بعد فإنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نبذناك على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏.‏

فلما قرأ كتابهم أيس منهم ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس حتى يلقى أهل الشام فيناجزهم فقام في أهل الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد فإنه من ترك الجهاد في الله وأدهن في

أمره كان على شفا هلكة إلا أن يتداركه الله بنعمته فاتقوا الله وقاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفىء نور الله فقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين الذين ليسوا بقراء القرآن ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل تيسروا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم فإذا اجتمعتم شخصنا إن شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وكتب إلى ابن عباس‏:‏ أما بعد فإنا خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة وقد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل المغرب فاشخص إلى الناس حتى يأتيك رسولي وأقم حتى يأتيك أمري والسلام عليك‏.‏

فقرأ ابن عباس الكتاب على الناس وندبهم مع الأحنف بن قيس فشخص ألف وخمسمائة فخطبهم وقال‏:‏ يا أهل البصرة أتاني كتاب أمير المؤمنين فأمرتكم بالنفير إليه فلم يشخص منكم إليه إلا ألف وخمسمائة وأنتم ستون ألف مقاتل سوى أبنائكم وعبيدكم‏!‏ ألا انفروا إليه مع جارية بن قدامة السعدي ولا يجعلن رجل على نفسه سبيلًا فإني موقع بكل من وجدته متخلفًا عن دعوته عاصيًا لإمامه فلا يلومن رجل إلا نفسه‏.‏

فخرج جارية فاجتمع إليه ألف وسبعمائة فوافوا عليًا وهم ثلاثة آلاف ومائتان فجمع إليه

رؤوس أهل الكوفة ورؤوس الأسباع ووجوه الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق وأصحابي إلى جهاد المحلين بكم أضرب المدبر وأرجو تمام طاعة المقبل وقد استنفرت أهل البصرة فأتاني منهم ثلاثة آلاف ومائتان فليكتب لي رئيس كل قبيلة ما في عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال وعبدان عشيرته ومواليهم ويرفع ذلك إلينا‏.‏

فقام إليه سعيد بن قيس الهمذاني فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين سمعًا وطاعة أنا أول الناس أجاب ما طلبت‏.‏

وقام معقل بن قيس وعدي بن حاتم وزياد ابن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس والقبائل فقالوا مثل ذلك وكتبوا إليه ما طلب وأمروا أبناءهم وعبيدهم أن يخرجوا معهم ولا يتخلف منهم متخلف فرفعوا إليه أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفًا من الأبناء ممن أدرك وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم وكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفًا سوى أهل البصرة وهم ثلاثة آلاف ومائتا رجل‏.‏

وكتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من المقاتلة‏.‏

وبلغ عليًا أن الناس يقولون‏:‏ لو سار بنا إلى قتال هذه الحرورية فإذا فرغنا منهم توجهنا إلى قتال المحلين‏!‏ فقال لهم‏:‏ بلغني أنكم قلتم كيت وكيت‏!‏ وإن غير هؤلاء الخارجين أهم إلينا‏!‏ فدعوا ذكرهم وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكًا ويتخذوا عباد الله خولًا‏.‏

فناداه الناس‏:‏ أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت‏.‏

وقام إليه صيفي بن فسيل الشيباني فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين نحن حزبك وأنصارك نعادي من عاداك ونشايع من أناب إلى طاعتك من كانوا وأينما كانوا فإنك إن شاء الله لن تؤتى من قلة عدد وضعف نية أتباع‏.‏

 ذكر قتال الخوارج

قيل‏:‏ لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابةٌ منهم رجلًا يسوق بامرأة على حمار فدعوه فانتهروه فأفزعوه وقالوا له‏:‏ من أنت قال‏:‏ أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا له‏:‏ أفزعناك قال‏:‏ نعم‏.‏

قالوا‏:‏ لا روع عليك حدثنا عن أبيك حديثًا سمعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنفعنا به‏.‏

فقال‏:‏ حدثني أبي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يمسي فيها مؤمنًا ويصبح كافرًا ويصبح كافرًا ويمسي مؤمنًا‏.‏

قالوا‏:‏ لهذا الحديث سألناك فما تقول في أبي بكر وعمر فأثنى عليهما خيرًا‏.‏قالوا‏:‏ ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها قال‏:‏ إنه كان محقًا في أولها وفي آخرها‏.‏

قالوا‏:‏ فما تقول في علي قبل التحكيم‏.‏ وبعده‏.‏

قال‏:‏ إنه أعلم بالله منكم وأشد توقيًا على دينه وأنفذ بصيرة‏.‏

فقالوا‏:‏ إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها والله لنقتلنك قتلةً ما قتلناها أحدًا‏.‏

فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فتركها في فيه فقال آخر‏:‏ أخذتها بغير حلها وبغير ثمن فألقاها‏.‏

ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة فضربه أحدهم بسيفه فقالوا‏:‏ هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال‏:‏ لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم من بأس إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثًا ولقد آمنتموني قلتم‏:‏ لا روع عليك‏.‏

فأضجعوه فذبحوه فسال دمه في الماء وأقبلوا إلى المرأة فقالت‏:‏ أنا امرأة ألا تتقون الله‏!‏ فبقروا بطنها وقتلوا ثلاث نسوة من طيء وقتلوا أم سنان الصيداوية‏.‏

فلما بلغ عليًا قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم وينظر ما بلغه عنهم ويكتب به إليه ولا يكتمه‏.‏

فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه وأتى عليًا الخبر والناس معه فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام‏.‏

وقام إليه الأشعث بن قيس وكلمه بمثل ذلك وكان الناس يرون أن الأشعث يرى رأيهم لأنه كان يقول يوم صفين‏:‏ أنصفنا قوم يدعون إلى كتاب الله‏.‏

فلما قال هذه المقالة علم الناس أنه لم يكن يرى رأيهم‏.‏

فأجمع علي على ذلك وخرج فعبر الجسر وسار إليهم فلقيه منجم في ميسره فأشار عليه أن يسير وقتًا من النهار فقال له‏:‏ إن أنت سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرًا شديدًا‏.‏

فخالفه علي وسار في الوقت الذي نهاه عنه فلما فرغ من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ لو سرنا في الساعة التي أمر بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون شيئًا‏:‏ سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر‏.‏وكان المنجم مسافر بن عفيف الأزدي‏.‏

فأرسل علي إلى أهل النهر‏:‏ أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل المغرب فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم‏.‏

فقالوا‏:‏ كلنا قتلهم وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم‏.‏

وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة فقال لهم‏:‏ عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم فإنكم ركبتم عظيمًا من الأمر تشهدون علينا بالشرك وتسفكون دماء المسلمين‏!‏ فقال لهم عبد الله بن شجرة السلمي إن الحق قد أضاء لنا فلسنا مبايعيكم أو تأتونا بمثل عمر فقال‏:‏ ما نعلمه فينا غير صاحبنا فهل تعلمونه فيكم قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ نشدتكم الله

وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال‏:‏ عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها أليست بيننا وبينكم فرقة فعلام تقاتلوننا فقالوا‏:‏ إنا لو تابعناكم اليوم حكمتم غدًا‏.‏

قال‏:‏ فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل‏.‏

وأتاهم علي فقال‏:‏ أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة‏!‏ وصدها عن الحق الهوى وطمع بها النزق وأصبحت في الخطب العظيم‏!‏ إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدًا صرعى بأثناء هذا الوادي وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة ونبأتكم أنها مكيدة وأن القوم ليسا بأصحاب دين فعصيتموني فلما فعلت شرطت واستوثقت على الحكمين أن ييحا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة فنبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فمن أين أتيتم فقالوا‏:‏ إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا وكنا بذلك كافرين وقد تبنا فإن تبت فنحن معك ومنك وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء‏.‏

فقال علي‏:‏ اصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر أبعد إيماني برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر‏!‏ لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين ثم انصرف عنهم‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان من كلامه لهم‏:‏ يا هؤلاء إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها وأنا لها كاره وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوا مكيدةً ووهنًا فأبيتم علي إباء المخالفين وعندتم عنود النكداء العاصين حتى صرفت رأيي إلى رأيكم رأي معاشر والله أخفاء الهام سفهاء الأحلام فلم آت لا أبا لكم هجرًا‏!‏ والله ما ختلتهم عن أموركم ولا أخفيت شيئًا من هذا الأمر عنكم ولا أوطأتكم عشوةً ولا دنيت لكم الضراء وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرًا فأجمع رأي ملإكم على أن اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه فتاها فتركا الحق وهما يبصرانه وكان الجور هواهما والثقة في أيدينا حين خالفا سبيل الحق وأتيا بما لا يعرف فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا وتضعون أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم إن هذا لهو الخسران المبين والله لو قتلتم على هذا دجاجةً لعظم عند الله قتلها‏!‏ فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام فتنادوا‏:‏ لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله الرواح الرواح إلى الجنة‏!‏ فعاد علي عنهم‏.‏

ثم إن الخوارج قصدوا جسر النهر وكانوا غربه فقال لعلي أصحابه‏:‏ إنهم قد عبروا النهر‏.‏

فقال‏:‏ لن يعبروا‏.‏

فأرسلوا طليعة فعاد وأخبرهم أنهم عبروا النهر وكان بينهم وبينه عطفة من النهر فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم فعاد فقال‏:‏ إنهم قد عبروا النهر‏.‏

فقال علي‏:‏ والله ما عبروه وإن مصارعهم لدون الجسر ووالله لا يقتل منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة وتقدم علي إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه وكان الناس قد شكوا في قوله وارتاب به بعضهم فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا وأخبروا عليًا بحالهم فقال‏:‏ والله ما كذبت ولا كذبت‏!‏ ثم إنه عبأ أصحابه فجعل على ميمنته حجر ابن عدي وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس الرياحي وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد بن عبادة وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي‏.‏وأعطى علي أبا أيوب الأنصاري راية الأمان فناداهم أبو أيوب فقال‏:‏ من جاء تحت هذه الراية فهو آمن ومن لم يقتل ولم يستعرض ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم‏.‏

فقال فروة بن نوفل الأشجعي‏:‏ والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليًا أرى أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه‏.‏

فانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة‏.‏

وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة وخرج إلى علي نحو مائة وكانوا أربعة آلاف فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة فزحفوا إلى علي وكان علي قد قال لأصحابه‏:‏ كفوا عنهم حتى يبدأوكم‏.‏فتنادوا‏:‏ الرواح إلى الجنة‏!‏ وحملوا على الناس فافترقت خيل علي فرقتين‏:‏ فرقة نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فما لبثوا أن أناموهم‏.‏

فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه‏:‏ أن انزلوا‏!‏ فذهبوا لينزلوا فلم يلبثوا أن حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي وجاءتهم الخيل من نحو علي فأهلكوا في ساعة فكأنا قيل لهم موتوا فماتوا‏.‏

وجاء أبو أيوب الأنصاري إلى علي فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قتلت زيد بن حصين الطائي طعنته في صدره حتى خرج السنان من ظهره وقلت له‏:‏ أبشر يا عدو الله بالنار‏.‏

فقال‏:‏ ستعلم غدًا أينا أولى بها صليًا‏.‏

فقال له علي‏:‏ هو أولى بها صليًا‏.‏وجاءه هانئ بن خطاب الأزدي وزياد بن خصفة يحتجان في قتل عبد الله بن وهب فقال‏:‏ كيف صنعتما قالا‏:‏ لما رأيناه عرفناه فابتدرناه وطعناه برمحينا‏.‏

فقال‏:‏ كلاكما قاتل‏.‏

وحمل جيش بن ربيعة الكناني على حرقوص بن زهير فقتله وحمل عبد الله ابن زحر الخولاني على عبد الله بن شجرة السلمي فقتله ووقع شريح بن أوفى إلى جانب جدار فقاتل عليه وكان قد علمت جاريةٌ عبسيه ناعمةٌ في أهلها مكفيه أني سأحمي ثلمتي العشية فحمل عليه قيس بن معاوية فقطع رجله فجعل يقاتلهم وهو يقول‏:‏ القرم يحمي شوله معقولا فحمل عليه قيس أيضًا فقتله فقال الناس‏:‏ اقتتلت همدان يومًا ورجل اقتتلوا من غدوةٍ حتى الأصل ففتح الله لهمدان الرجل ذكر مقتل ذي الثدية قد روى جماعة أن عليًا كان يحدث أصحابه قبل ظهور الخوارج أن قومًا يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد سمعوا ذلك منه مرارًا فلما خرج أهل النهروان سار بهم إليهم علي وكان منه معهم ما كان فلما فرغ أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج فالتمسوه فقال بعضهم‏:‏ ما نجده حتى قال بعضهم‏:‏ ما هو فيهم وهو يقول‏:‏ والله إنه لفيهم والله ما كذبت ولا كذبت‏!‏ ثم إنه جاءه رجل فبشره فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد وجدناه‏.‏

وقيل‏:‏ بل خرج علي في طلبه قبل أن يبشره الرجل ومعه سليم بن ثمامة الحنفي والريان بن صبرة فوجده في حفرة على شاطىء النهر في خمسين قتيلًان فلما استخرجه نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود فغذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى ثم تترك فتعود إلى منكبيه‏.‏

فلما رآه قال‏:‏ الله أكبر ما كذبت ولا كذبت لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قص الله على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن قاتلهم مستبصرًا في قتالهم عارفًا للحق الذي نحن عليه‏.‏

وقال حين مر بهم وهم صرعى‏:‏ بؤسًا لكم‏!‏ لقد ضركم من غركم‏!‏ قالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين من غرهم قال‏:‏ الشيطان وأنفسٌ أمارة بالسوء غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي ونبأتهم أنهم ظاهرون‏.‏

قيل‏:‏ وأخذ ما في عسكرهم من شيء فأما السلاح والدواب وما شهر عليه فقسمه بين المسلمين وأما المتاع والإماء والعبيد فإنه رده على أهله حين قدم‏.‏

وطاف عدي بن حاتم في القتلى على ابنه طرفة فدفنه ودفن رجال من المسلمين قتلاهم‏.‏

فقال علي حين بلغه‏:‏ أتقتلونهم ثم تدفنونهم ارتحلوا‏!‏ فارتحل الناس‏.‏

فلم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة‏.‏

وقيل‏:‏ كانت الوقعة سنة ثمان وثلاثين‏.‏

وكان فيمن قتل من أصحابه يزيد بن نويرة الأنصاري وله صحبة وسابقة وشهد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنة وكان أول من قتل‏.‏

 ذكر رجوع عليّ إلى الكوفة

ولما فرغ علي من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ إن الله قد أحسن بكم وأعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم‏.‏

قالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا وكلت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدًا فارجع إلى مصرنا فلنستعد ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا فإنه أقوى لنا على عدونا‏.‏

وكان الذي تولى كلامه الأشعث بن قيس فأقبل حتى نزل النخيلة فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم ويوطنوا على الجهاد أنفسهم وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتى يسيروا إلى عدوهم‏.‏

فأقاموا فيه أيامًا ثم تسللوا من معسكرهم فدخلوا إلا رجالًا من وجوه الناس وترك المعسكر خاليًا فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر عليه رأيه في المسير وقال لهم أيضًا‏:‏ أيها الناس استعدوا للمسير إلى عدوكم ومن في جهاده القربة إلى الله عز وجل ودرك الوسيلة عنده حيارى من الحق جفاة عن الكتاب يعمهون في طغيانهم فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلًا وكفى بالله نصيرًا‏.‏

فلم ينفروا ولا تيسروا‏.‏

فتركهم أيامًا حتى إذا أيس من أن يفعلوا دعا رؤساءهم ووجوههم فسألهم عن رأيهم وما الذي يبطىء بهم‏.‏فمنهم المعتل ومنهم المتكره وأقلهم من نشط‏.‏

فقام فيهم فقال‏:‏ عباد الله ما بالكم إذا أمرتكم أن تنفروا ‏{‏اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وبالذل والهوان من العز خلفًا وكلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من الموت في سكرة وكأن قلوبكم مألوسة وأنتم لا تعقلون فكأن أبصاركم كمةٌ وأنتم لا تبصرون‏!‏ لله أنتم‏!‏ ما أنتم إلا أسد الشرى في الدعة وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس‏.‏

ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي‏.‏

ما أنتم بركب يصال به‏.‏

لعمر الله لبئس حشاش الحرب أنتم‏!‏ إنكم تكادون ولا تكيدون وتنتقص أطرافكم وأنتم لا تتحاشون ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون‏.‏

ثم قال‏:‏ أما بعد فإن لي عليكم حقًا وإن لكم علي حقًا فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صحبتكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كي لا تجهلوا وتأديبكم كي تعلموا وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصح لي في المغيب والمشهد والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم فإن يرد الله بكم خيرًا تنزعوا عما أكره وترجعوا إلى ما أحب فتنالوا ما تلبون وتدركوا ما تأملون‏.‏

قيل‏:‏ وحج بالناس هذه السنة عبيد الله بن عباس وكان عامل علي على اليمن وكان على مكة والطائف قثم بن العباس وكان على المدينة سهل بن حنيف وقيل تمام بن العباس وكان على البصرة عبد الله بن عباس وعلى مصر محمد بن أبي بكر‏.‏

ولما سار علي إلى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري وكان على خراسان خليد بن قرة اليربوعي وكان بالشام معاوية ابن أبي سفيان‏.‏

وفيها قتل حازم بن أبي حازم أخو قيس الأحمسي البجلي بصفين مع علي‏.‏

وفيها مات خباب بن الأرت شهد بدرًا وما بعدها وشهد صفين مع علي والنهروان وقيل لم يشهدها كان مريضًا ومات قيل قدوم علي إلى الكوفة وقد تقدم ذكره وقيل مات سنة تسع وثلاثين وكان عمره ثلاثًا وستين سنة‏.‏

وفيها قتل أبو الهيثم بن التيهان بصفين مع علي وقيل عاش بعدها يسيرًا وقتل بها أخوه عبيد بن التيهان وكان أبو الهيثم أول من بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة العقبة في قول وهو بدري‏.‏

وفيها قتل يعلى ابن منية وهي أمه واسم أبيه أمية التميمي وهو ابن أخت عتبة بن غزوان وقيل ابن عمته وكان قد شهد الجمل مع عائشة ثم شهد صفين مع علي فقتل بها وكان إسلامه يوم الفتح وشهد حنينًا‏.‏

وقتل بصفين مع علي أبو عمرة الأنصاري النجاري والد عبد الرحمن وهو أيضًا بدري‏.‏

وفيها قتل أبو فضالة الأنصاري في قوله وهو بدري‏.‏

وفيها توفي سهل ابن حنيف الأنصاري في قول وهو بدري وشهد مع علي حروبه‏.‏

وتوفي بها صهيب بن سنان وصفوان بن بيضاء وهو بدري‏.‏

وفي هذه السنة توفي عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعسقلان فجأة وهو في الصلاة وكره الخروج مع معاوية في صفين وقيل شهدها ولا يصح‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين

 ذكر ملك عمرو بن العاص مصر

وقتل محمد بن أبي بكر الصديق في هذه السنة قتل محمد بن أبي بكر الصديق بمصر وهو عامل علي عليها وقد ذكرنا سبب تولية علي إياه مصر وعزل قيس بن سعد عنها ودخوله مصر وإنفاذه ابن مضاهم الكلبي إلى أهل خرنبا فلما مضى ابن مضاهم إليهم قتلوه وخرج معاوية بن حديج السكوني وطلب بدم عثمان ودعا إليه فأجابه ناس وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر فبلغ ذلك عليًا فقال‏:‏ ما لمصر إلا أحد الرجلين صاحبنا الذي عزلنا يعني قيسًا أو الأشتر وكان الأشتر قد عاد بعد صفين إلى عمله بالجزيرة وقال علي لقيس‏:‏ أقم عندي على شرطتي حتى تنقضي الحكومة ثم تسير إلى أذربيجان‏.‏

فلما بلغ عليًا أمر مصر كتب إلى الأشتر وهو بنصيبين يستدعيه فحضر عنده فأخبره خبر أهل مصر وقال‏:‏ ليس لها غيرك فاخرج إليها فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك واستعن بالله واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ وتشد حين لا يغني إلا الشدة‏.‏

فخرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك فعظم عليه وكان قد طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر فبعث معاوية إلى المقدم على أهل الخراج بالقلزم وقال له‏:‏ إن الأشتر قد ولي مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيت وبقيت‏.‏

فخرج الحابسات حتى أتى القلزم وأقام به وخرج الأشتر من العراق إلى مصر فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول فنزل عنده فأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سمًا فسقاه إياه فلما شربه مات‏.‏

وأقبل معاوية يقول لأهل الشام‏:‏ إن عليًا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه فكانوا يدعون اله عليه كل يوم وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر فقام معاوية خطيبًا ثم قال‏:‏ أما بعد فإنه كانت لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين يعني عمار بن ياسر وقطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر‏.‏

فلما بلغ عليًا موته قال‏:‏ لليدين وللفمذ وكان قد ثقل عليه لأشياء نقلت عنه وقيل‏:‏ إنه لما بلغه قتله قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏!‏ مالك وما مالك وهل موجود مثل ذلك لو كان من حديد لكان قيدًا أو من حجر لكان صلدًا‏!‏ على مثله فلتبك البواكي‏!‏ وهذا أصح لأنه لو كان كارهًا لم يوله مصر‏.‏

وكان الأشتر قد روى الحديث عن عمر وعلي وخالد بن الوليد وأبي ذر وروى عنه جماعة وقال أحمد بن صالح‏:‏ كان ثقة‏.‏

قيل‏:‏ ولما بلغ محمد بن أبي بكر إنفاذ الأشتر شق عليه فكتب إليه علي‏:‏ أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك وإني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهاد ولا ازديادًا مني لك في الجد ولو نزعت ما تحت يدك لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة منه وأعجب إليك ولايةً إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر كان لنا نصيحًا وعلى عدونا شديدًا وقد استكمل أيامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضوان فرضي الله عنه وضاعف له الثواب اصبر لعدوك وشمر للحرب و ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وأكثر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفك ما أهمك ويعنك على ما ولاك‏.‏

وكتب إليه محمد‏:‏ أما بعد فقد انتهى إلي كتابك وفهمته وليس على أحد من الناس ارضى برأي أمير المؤمنين ولا أجهد على عدوه ولا أرأف بوليه مني وقد خرجت فعسكرت وآمنت وقيل‏:‏ إنما تولى الأشتر مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر‏.‏

وكان أهل الشام ينتظرون بعد صفين أمر الحكمين فلما تفرقا بايع أهل الشام معاوية بالخلافة ولم يزدد إلا قومة واختلف الناس بالعراق على علي فما كان لمعاوية هم إلا مصر وكان يهاب أهلها لقربهم منه وشدتهم على من كان على رأي عثمان وكان يرجو أنه إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها فدعا معاوية عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر ابن أبي أرطأة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد وأبا الأعور السلمي وشرحبيل بن السمط الكندي فقال لهم‏:‏ أتدرون لم جمعتكم فإني جمعتكم لأمر لي مهم‏!‏ فقالوا‏:‏ لم يطلع الله على الغيب أحدًا وما نعلم ما تريد‏.‏

فقال عمرو بن العاص‏:‏ دعوتنا لتسألنا عن رأينا في مصر فإن كنت جمعتنا لذلك فاعزم واصبر فنعم الرأي رأيت في افتتاحها‏!‏ فإن فيه عزك وعز أصحابك وكبت عدوك وذل أهل الشقاق عليك‏.‏

فقال معاوية‏:‏ أهمك يا ابن العاص ما أهمك‏!‏ وذلك أن عمرًا كان صالح معاوية على قتال علي على أن له مصر طعمةً ما بقي‏.‏

وأقبل معاوية على أصحابه وقال‏:‏ أصاب أبو عبد الله فما ترون فقالوا‏:‏ ما نرى إلا ما رأى عمرو‏.‏قال‏:‏ فكيف أصنع فإن عمرًا لم يفسر كيف اصنع‏.‏

فقال عمرو‏:‏ أرى أن تبعث جيشًا كثيفًا عليهم رجل حازم صابر تأمنه وتثق به فيأتي مصر فإنه سيأتيه من كان على مثل رأينا فيظاهره على قال معاوية‏:‏ أرى أن نكاتب من بها من شيعتنا فنمنيهم ونأمرهم بالثبات ونكاتب من بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا فإن كان ما أردنا بغير قتال فذاك الذي أردنا وإلا كان حربهم من بعد ذلك‏.‏

إنك يا ابن العاص بورك لك في الشدة والعجلة وأنا بورك لي في التؤدة‏.‏

قال عمرو‏:‏ افعل ما ترى فما أرى أمرنا يصير إلا إلى الحرب‏.‏

فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد ومعاوية بن حديج السكوني وكانا قد خالفا عليًا يشكرهما على ذلك ويحثهما على الطلب بدم عثمان ويعدهما المواساة في سلطانه وبعثه مع مولاة سبيع‏.‏

فلما وقفا عليه أجاب مسلمة بن مخلد الأنصاري عن نفسه وعن ابن حديج‏:‏ أما بع فإن الأمر الذي بذلنا له أنفسنا واتبعنا به أمر الله أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر على من خالفنا وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا وأما ما ذكرت من المواساة في سلطانك فتالله إن ذلك أمر ما له نهضنا ولا إياه أردنا فعجل إلينا بخيلك ورجلك فإن عدونا قد أصبحوا لنا هائبين فإن يأتنا مدد يفتح الله عليك‏.‏ والسلام‏.‏

فجاءه الكتاب وهو بفلسطين فدعا أولئك النفر وقال لهم‏:‏ ما ترون قالوا‏:‏ نرى أن تبعث جندًا‏.‏

فأمر عمرو بن العاص ليتجهز إليها وبعث معه ستة آلاف رجل ووصاه بالتؤدة وترك العجلة‏.‏

وسار عمرو فنزل أداني أرض مصر فاجتمعت إليه العثمانية فأقام بهم وكتب إلى محمد بن ابي بكر‏:‏ أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك وهم مسلموك فاخرج منها إني لك من الناصحين‏.‏

وبعث معه كتاب معاوية في المعنى أيضًا ويتهدده بقصده حصار عثمان‏.‏

فأرسل محمد الكتابين إلى علي ويخبره بنزول عمرو بأرض مصر وأنه رأى التثاقل ممن عنده ويستمده‏.‏

فكتب إليه علي يأمره أن يضم شيعته إليه ويعده إنفاذ الجيوش إليه ويأمره بالصبر لعدوه وقتاله وقام محمد بن أبي بكر في الناس وندبهم إلى الخروج إلى عدوهم مع كنانة بن بشر فانتدب معه ألفان‏.‏

وخرج محمد بن أبي بكر بعده في ألفين وكنانة على مقدمته وأقبل عمرو نحو كنانة فلما دنا منه سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة إلا حمل عليها فألحقها بعمرو بن العاص فلما رأى ذلك بعث إلى معاوية ابن حديج فأتاه في مثل الدهم فأحاطوا بكنانة وأصحابه واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب فلما رأى ذلك كنانة نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه حتى استشهد‏.‏

وبلغ قتله محمد بن أبي بكر فتفرق عنه أصحابه وأقبل نحوه عمرو وما بقي معه أحد فخرج محمد يمشي في الطريق فانتهى إلى خربة في ناحية الطريق فأوى إليها وسار عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد بن أبي بكر فانتهى إلى جماعة على قارعة الطريق فسألهم عنه فقال أحدهم‏:‏ دخلت تلك الخربة فرأيت فيها رجلًا جالسًا فقال ابن حديج‏:‏ هو هو‏.‏

فدخلوا عليه فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشًا وأقبلوا به نحو الفسطاط فوثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص وكان في جنده وقال‏:‏ أتقتل أخير صبرًا ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه‏.‏

فبعث إليه يأمره أن يأتيه بمحمد فقال‏:‏ قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا محمدًا ‏{‏أكفاركم خيرٌ من أولئكم أم لكم براءة في الزبر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ هيهات هيهات‏!‏ فقال لهم محمد بن أبي بكر‏:‏ اسقوني ماء‏.‏

فقال له معاوية بن حديج‏:‏ لا سقاني الله إن سقيتك قطرةً ابدًا إنكم منعتم عثمان شرب الماء والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم والغساق‏!‏ فقال له محمد‏:‏ يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمىء أعداءه أنت وأمثالك أما والله ولو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا‏.‏

ثم قال له‏:‏ أتدري ما أصنع بك أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار‏.‏

فقال محمد‏:‏ إن فعلت بي ذلك فلطالما فعلتم ذلك بأولياء الله وإني لأرجو أن يجعلها عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو نارًا تلظى كلما خبت زادها الله سعيرًا‏.‏

فغضب منه وقتله ثم ألقاه في فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعًا شديدًا وقنتت في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو وأخذت عيال محمد إليها فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالهم ولم تأكل من ذلك الوقت شواء حتى توفيت‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن محمدًا قاتل عمرًا ومن معه قتالًا شديدًا فقتل كنانة وانهزم محمد واختبأ عند جبلة بن مسروق فدل عليه معاوية بن حديج فأحاط به فخرج محمد فقاتل حتى قتل‏.‏

وأما علي فلما جاءه كتاب محمد بن أبي بكر فأجابه عنه ووعده المدد قام في الناس خطيبًا وأخبرهم خبر مصر وقصد عمرو إياها وندبهم إلى إنجادهم وحثهم على ذلك وقال‏:‏ اخرجوا بنا إلى الجرعة وهي بين الكوفة والحيرة فلما كان الغد خرج إلى الجرعة فنزلها بكرة وأقام بها حتى انتصف النهار فلم يأته أحد فرجع فلما كان العشي استدعى أشراف الناس وهو كئيب فقال‏:‏ الحمد لله على ما قضى من أمره وقدر من فعله وابتلاني بكم أيتها القرية التي لا تطيع إذا أمرت ولا تجيب إذا دعوت لا أبا لغيركم‏!‏ ما تنتظرون بمصركم والجهاد على حقكم فوالله لئن جاء الموت وليأتيني ليفرقن بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قالٍ وبكم غير كثير لله أنتم‏!‏ أما دين يجمعكم ولا محمية تحميكم إذا أنتم سمعتم بعدوكم ينتقص بلادكم ويشن الغارة عليكم أوليس عجيبًا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة في السنة المرة والمرتين والثلاث إلى أي وجه شاء وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس على العطاء والمعونة فتتفرقون عني تعصونني وتختلفون علي‏!‏ فقام كعب بن مالك الأرحبي وأمير المؤمنينيا أمير المؤمنين اندب الناس لهذا اليوم كنت أدخر نفسي‏.‏

ثم قال‏:‏ أيها الناس اتقوا الله وأجيبوا إمامكم وانصروا دعوته وقاتلوا عدوه وأنا أسير إليه‏.‏

فخرج معه ألفان‏.‏

فقال له‏:‏ سر فوالله ما أظنك تدركهم حتى ينقضي أمرهم‏.‏فسار بهم خمسًا‏.‏

ثم إن الحجاج بن غزية الأنصاري قدم من مصر فأخبره بقتل محمد بن أبي بكر وكان معه وقدم عليه عبد الرحمن بن شبيب الفزاري من الشام وكان عينه هناك فأخبره أن البشارة من عمرو وردت بقتل محمد وملك مصر وسرور أهل الشام بقتله‏.‏

فقال علي‏:‏ أما إن حزننا عليه بقدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافًا‏!‏ فأرسل علي فأعاد الجيش الذي أنفذه وقام في الناس خيبًا وقال‏:‏ ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلمة الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجًا‏!‏ ألا وإن محمد بن أبي بكر استشهد فعند الله نحتسبه‏!‏ أما والله إن كان كما علمت لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب هدى المؤمن إني والله ما ألوم نفسي على تقصير وإني لمقاساة الحروب لجدير خبير وإني لأتقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم فيكم بالرأي المصيب وأستصرخكم معلنًا وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولًا ولا تطيعون لي أمرًا حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة فأنتم القوم لا يدرك بكم الثار ولا تنقض بكم الأوتار دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق وتثاقلتهم إلى الأرض تثاقل من ليست له نية في جهاد العدو ولا اكتساب الأجر ثم خرج إلي منكم جنيد متذانب كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون فأفٍ لكم‏!‏ ثم نزل‏.‏

ومعاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين‏.‏

جارية بن قدامة بالجيم وفي آخره ياء تحتها نقطتان‏.‏

بسر بن أبي أرطأة رضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة‏.‏