فصل: ذكر تجهيز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودفنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


المجلد الثاني

 ذكر أحداث سنة إحدى عشرة

في المحرم من هذه السنة ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثًا إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا‏:‏ أمر غلامًا على جلة المهاجرين والأنصار‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وإنه لخليق للإمارة وكان أبوه خليقًا لها‏)‏‏.‏ وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون منهم‏:‏ أبو بكر وعمر فبينما الناس على ذلك ابتدئ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرضه‏.‏

ذكر مرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته ابتدئ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرضه أواخر صفر في بيت زينب بنت جحش وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه في بيت ميمونة فجمع نساءه فاستأذنهن أن يتمرض في بيت عائشة ووصلت أخبار بظهور الأسود العنسي باليمن ومسيلمة باليمامة وطليحة في بني أسد وعسكر بسميراء وسيجيء ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى‏.‏

فتأخر مسير أسامة لمرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولخبر الأسود العنسي ومسيلمة فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاصبًا رأسًا من الصداع فقال‏:‏ إني رأيت فيما يرى النائم أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأولتهما بكذاب اليمامة وكذاب صنعاء‏.‏

وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال‏:‏ ‏(‏لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏

وخرج أسامة فضرب بالجرف العسكر وتمهل الناس وثقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يشغله شدة مرضه على إنفاذ أمر الله فأرسل إلى نفر من الأنصار في أمر الأسود فأصيب الأسود في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وفاته بيوم فأرسل إلى جماعة من الناس يحثهم على جهاد من عنهم من المرتدين‏.‏

وقال أبو مويهبة مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيقظني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة وقال‏:‏ إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فسلم عليهم ثم قال‏:‏ ليهنئكم ما أصبحتم فيه قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم‏.‏

ثم قال‏:‏ قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد بها ثم الجنة وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي‏.‏

ثم قالت عائشة‏:‏ فلما رجع من البقيع وجدتي وأنا أجد صداعًا وأنا أقول‏:‏ وارأساه‏!‏ قال‏:‏ بل أنا والله يا عائشة وارأساه‏!‏ ثم قال‏:‏ ما ضرك لو مت قبل فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك فقلت‏:‏ كأني بك والله لو فعلت ذلك فرجعت إلى بيتي فعرست ببعض نسائك‏.‏

فتبسم وتتام به وجعه وتمرض في بيتي‏.‏ فخرج منه يومًا بين رجلين أحدهما الفضل بن العباس والآخر علي قال الفضل‏:‏ فأخرجته حتى جلس على المنبر فحمد الله وكان أول ما تكلم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن صلى على أصحاب أحد فأكثر واستغفر لهم ثم قال‏:‏ أيها الناس إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستفد منه ومن أخذت له مالًا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقًا إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس‏.‏

ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى‏.‏

فادعى عليه رجلٌ بثلاثة دراهم فأعطاه عوضها‏.‏

ثم قال‏:‏ أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة‏.‏

ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال‏:‏ إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده‏.‏

فبكى أبو بكر وقال‏:‏

فديناك بأنفسنا وآبائنا‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

لا بيقين في المسجد باب إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحدًا أفضل في الصحبة عندي منه ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخوة الإسلام‏.‏

ثم أوصى بالأنصار فقال‏:‏ يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد والأنصار عيبتي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر‏.‏

فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فنظر إلينا فشدد ودمعت عيناه وقال‏:‏ مرحبًا بكم حياكم الله رحمكم الله آواكم الله حفظم الله رفعكم الله وفقكم الله سلمكم الله قبلكم الله أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأؤديكم إليه إني لكم منه نذير وبشير ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم‏:‏ ‏{‏تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏‏.‏ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلنا‏:‏ فمتى أجلك قال‏:‏ دنا الفراق والمنقلب إلى الله وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى‏.‏ فقلنا‏:‏ من يغسلك قال‏:‏ أهلي الأدنى فالأدنى‏.‏قلنا‏:‏ فيم نكفنك قال‏:‏ في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض‏.‏

قلنا‏:‏ فمن يصلي عليك قال‏:‏ مهلًا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرًا‏.‏

فبكينا وبكى ثم قال‏:‏ إذا غسلمتوني

وكفتنتموني فضعوني على سريري على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعةً ليصلي علي جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع الملائكة ثم ادخلوا علي فوجًا فوجًا فصلوا علي ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد أقرئوا أنفسكم مني السلام ومن غاب من أصحاب فاقرئوه مني السلام وما تابعكم على ديني فاقرئوه السلام‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يوم الخميس وما يوم الخميس - ثم جرت دموعه على خديه - اشتد برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرضه ووجعه فقال‏:‏ إيتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعدي أبدًا‏.‏

فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا‏:‏ إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهجر‏.‏

فجعلوا يعيدون عليه فقال‏:‏ دعوني فما أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه‏.‏

فأوصى بثلاث‏:‏ أن يخرج المشركون من جزيرة العرب وأن يجاز الوفد بنحو مما كان يجيزهم‏.‏ وسكت عن الثالثة عمدًا أو قال‏:‏ نسيتها‏.‏

وخرج علي بن أبي طالب من عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه‏.‏

فقال الناس‏:‏ كيف أصبح رسول الله قال‏:‏ أصبح بحمد الله بارئًا‏.‏

فأخذ بيده العباس فقال‏:‏ أنت بعد ثلاث عبد العصا وإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيتوفى في مرضه هذا وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب فاذهب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاسأله فيمن يكون هذا الأمر فإن كان فينا علمناه وإن كان في غيرنا أمره أوصى بنا‏.‏

فقال علي‏:‏ لئن سألناها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدًا والله لا أسألها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبدًا‏.‏

قال‏:‏ فما اشتد الضحى حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت عائشة‏:‏ قالت أسماء بنت عميس‏:‏ ما وجعه إلا ذات الجنب فلو لددتموه ففعلوا‏.‏

فلما أفاق قال‏:‏ لم فعلتم هذا قالوا‏:‏ ظننا أن بك ذات الجنب‏:‏ قال‏:‏ لم يكن الله ليسلطها علي‏.‏

ثم قال‏:‏ لا تبقن أحدًا لددتموه إلا عمي وكان العباس حاضرًا ففعلوا‏.‏

قال أسامة‏:‏لما ثقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هبطت أنا ومن معي إلى المدينة فدخلنا عليه وقد صمت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي فعلمت أنه يدعو لي‏.‏

قالت عائشة‏:‏ وكنت أسمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول كثيرًا‏:‏ إن الله لم يقبض نبيًا حتى يخيره‏.‏

قالت‏:‏ فلما احتضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول‏:‏ بل الرفيق الأعلى‏.‏

قالت‏:‏ قلت‏:‏ إذًا والله لا يختارنا وعلمت أنه تخير‏.‏

ولما اشتد مرضه أذنه بلال بالصلاة فقال‏:‏ مروا أبا بكر يصلي بالناس‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقلت‏:‏ إنه رجل رقيق وإنه متى يقوم مقامك لا يطيق ذلك‏.‏

فقال‏:‏ مروا أبا بكر فيصلي بالناس‏.‏فقلت مثل ذلك فغضب وقال‏:‏ إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر يصلي بالناس‏.‏

فتقدم أبو بكر فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خفة فخرج بين رجلين فلما دنا من أبي بكر تأخر أبو بكر فأشار إليه أن قم مقامك فقعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي إلى جنب أبي بكر جالسًا فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي والناس يصلون بصلاة أبي بكر وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة وقيل‏:‏ ثلاثة أيام‏.‏

ثم إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج في اليوم الذي توفي فيه إلى الناس في صلاة الصبح فكاد الناس يفتتنون في صلاتهم فرحًا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرحًا لما رأى من هيئتهم في الصلاة ثم رجع وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أفاق من وجعه ورجع أبو بكر إلى منزله بالسنح‏.‏

قالت عائشة‏:‏ رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول‏:‏ اللهم أعني على سكرات الموت‏.‏

قال‏:‏ ثم دخل بعض آل أبي بكر وفي يده سواك فنظر إليه نظرًا عرفت أنه يريده فأخذت فلينته ثم ناولته إياه فاستن به ثم وضعه ثم ثفل في حجري قالت‏:‏ فذهبت أنظر في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول‏:‏ بل الرفيق الأعلى فقبض قالت‏:‏ توفي وهو بين سحري ونحري وحداثة سني أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبض في حجري فوضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي‏.‏

ولما اشتد برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعه ونزل به الموت جعل يأخذ الماء بيده ويجعله على وجهه ويقول‏:‏ واكرباه‏!‏ فتقول فاطمة‏:‏ واكربي لكربك يا أبتي‏!‏ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

لا كرب على أبيك بعد اليوم فلما رأى شدة جزعها استدناها وسارها فبكت ثم سارها الثانية فضحكت فلما توفي رسول الله سألتها عائشة عن ذلك قالت‏:‏ أخبرني أنه ميت فبكيت ثم أخبرني أني أول أهله لحوقًا به فضحكت‏.‏

وروي عنها أنها قالت‏:‏ ثم سارني الثاني وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت‏.‏

وكان موته يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ودفن من الغد نصف النهار وقيل‏:‏ مات نصف النهار يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول‏.‏

ولما توفي كان أبو بكر بمنزله بالسنح وعمر حاضر فلما توفي قام عمر فقال‏:‏ إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توفي وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران والله ليرجعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات‏.‏

وأقبل أبو بكر وعمر يكلم الناس فدخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مسجىًّ في ناحية البيت فكشف عن وجهه ثم قبله وقال‏:‏ بأبي أنت وأمي طبت حيًا وميتًا أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها‏.‏

ثم رد الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس فأمره بالسكوت فأبى فأقبل أبو بكر على الناس فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏

قال‏:‏ فوالله لكأن الناس ما سمعوها إلا منه‏.‏

قال عمر‏:‏ فوالله ما هو إلا إذ سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي وقد علمت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد مات‏.‏

ولما توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت مكة وكاد أهلها يرتدون فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بهم فاجتمعوا إليه فقال‏:‏ يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلقد ررأيته قائمًا مقامي هذا وحده وهو يقول‏:‏ قولوا معي لا إله إلا الله تدن لكم العرب وتؤد إليكم العجم الجزية والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله فمن بين مستهزىء ومصدق فكان ما رأيتم والله ليكونن الباقي‏.‏

فامتنع الناس من الردة‏.‏

وهذا المقام الذي قاله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أسر سهيل بن عمرو في بدر لعمر بن الخطاب وقد ذكر هناك‏.‏

حديث السقيفة وخلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه لما توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح فقال‏:‏ ما هذا فقالوا‏:‏ منا أمير ومنكم أمير‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ منا الأمراء ومنكم الوزراء‏.‏

ثم قال أبو بكر‏:‏ قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة‏.‏

فقال عمر‏:‏ أيكم يطيبب نفسًا أن يخلف قدمين قدمهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبايعه عمر وبايعه الناس‏.‏

فقالت الأنصار أبو بعض الأنصار‏:‏ لا نبايع إلا عليًا‏.‏

قال‏:‏ وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة‏.‏

وقال الزبير‏:‏ لا أغمد سيفًا حتى يبايع علي‏.‏

فقال عمر‏:‏ خذوا سيفه واضربوا به الحجر ثم أتاهم عمر

وقيل‏:‏ لما سمع علي بيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلًا حتى بايعه ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله‏.‏

والصحيح‏:‏ أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول‏:‏ إني لأرى عجاجةً لا يطفئها إلا دم يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم أين المستضعفان أين الأذلان علي والعباس ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ثم قال لعلي‏:‏ ابسط يدك أبايعكم فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلًا ورجلًا‏.‏

فأبى علي ـ رضي الله عنه ـ فتمثل بشعر المتلمس‏:‏ ولن يقيم على خسفٍ يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يبكي له أحد فزجره علي وقال‏:‏ والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرًا‏!‏ لا حاجة لنا في نصيحتك‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ كنت أقرىء عبد الرحمن بن عوف القرآن فحج وحججنا معه فقال لي عبد الرحمن‏:‏ شهدت أمير المؤمنين اليوم بمنىً وقال له رجل‏:‏ سمعت فلانًا يقول‏:‏ لو مات عمر لبايعت فلانًا فقال عمر‏:‏ إني لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمرهم‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وهم الذين يغلبون على مجلسك وأخاف أن تقول مقالةً لا يعوها ولا يحفظوها ويطيروا بها ولن أمهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتقول ما قلت فيعوا مقاتلك‏.‏

فقال‏:‏ والله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة‏.‏

قال‏:‏ فلما قدمت المدينة هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن فلما جلس عمر على المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم وما نسخ من القرآن فيه‏:‏ إنه بلغني أن قائلًا منكم يقول‏:‏ لو مات أمير المؤمنين بايعت فلانًا فلا يغرن أمرًا أن يقول‏:‏ إن بيعة أبي بكر كانت فتنة فقد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر وإنه كان خيرنا حين توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن عليًا والزبير ومن تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له‏:‏ انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار أحدهما عويم بن ساعدة والثاني معن بن عدي فقالا لنا‏:‏ ارجعوا أقضوا أمركم بينكم‏.‏

قال‏:‏ فأتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة وبين أظهرهم رجل مزمل قلت‏:‏ من هذا قالوا‏:‏ سعد بن عبادة وجع فقام رجل منهم فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط بيننا وقد دفت إلينا دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يغصبونا الأمر‏.‏

فلما سكت وكنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر‏:‏ على رسلك‏!‏ فقام فحمد الله وما ترك شيئًا كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه وقال‏:‏ يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلًا إلا وأنتم له أهل وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش هم أوسط العرب دارًا ونسبًا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين‏.‏

وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وإني والله ما كرهت من كلامه كلمة غيرها إن كنت أقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر‏.‏

فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال‏:‏ أنا جذيلها المحكم وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير‏.‏

وارتفعت الأصوات واللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر‏:‏ ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعه وبايعه الناس ثم نزونا على سعد بن عبادة فقال قائلهم‏:‏ قتلتم سعدًا‏.‏

فقلت‏:‏ قتل الله سعدًا وإنا والله ما وجدنا أمرًا هو أقوى من بيعة أبي بكر خشيت إن فارقت القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى به وإما أن نخالفهم فيكون فسادًا‏.‏

وقال أبو عمرة الأنصاري‏:‏ لما قبض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اجتمعت الأنصار في سقيفة

بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الأمر وكان مريضًا فقال بعد أن حمد الله‏:‏ يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به إلا القليل ما كانوا يقدرون على منعه ولا على إعزاز دينه ولا على دفع ضيم حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا وأعطى البعيد المقادة صاغرًا فدانت لرسوله بأسيافكم العرب وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ وبكم قرير العين‏.‏ استبدوا بهذا الأمر دون الناس فإنه لكم دونهم‏.‏

فأجابوا بأجمعهم‏:‏ أن قد وفقت وأصبت الرأي ونحن نوليك هذا الأمر فإنك مقنعٌ ورضًا للمؤمنين‏.‏

ثم إنهم ترادوا الكلام فقالوا‏:‏ وإن أبى المهاجرون من قريش وقالوا نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه‏!‏ فقالت طائفة منهم‏:‏ فإنا نقول منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبدًا‏.‏

فقال سعد‏:‏ هذا أول الوهن‏.‏

وسمع عمر الخبر فأتى منزل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر فيه فأرسل إليه أن اخرج إلي‏.‏

فأرسل إليه‏.‏

إني مشتغل‏.‏

فقال عمر‏:‏ قد حدث أمر لابد لك من حضوره‏.‏

فخرج إليه فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة‏.‏

قال عمر‏:‏ فأتيناهم وقد كنت زورت كلامًا أقوله لهم فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر وتكلم بكل ما أردت أن أقول فحمد الله وقال‏:‏ إن الله قد بعث فينا رسولًا إلى خلقه شهيدًا على أمته ليعبدوه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهةً شتى من حجر وخشب فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم‏.‏ فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم وكل الناس لهم مخالفٌ زارٍ عليهم فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم فهم أول من عبد الله في هذه الأرض وآمن بالله وبالرسول وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم وأنتم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الإسلام رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله وجعل إليكم هجرته وفيكم جلة أزواجه وأصحابه فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تفاوتون بمشورة ولا تقضي دونكم الأمور‏.‏

فقام حباب بن المنذر بن الجموح فقال‏:‏ يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترىء مجترىء على خلافكم ولا يصدروا إلا عن رأيكم أنتم أهل العز وأولو العدد

والمنعة وذوو البأس والنجدة وإنما ينظر الناس ما تصنعون ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير‏.‏

فقال عمر‏:‏ هيهات لا يجتمع اثنان في قرن‏!‏ والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ولنا بذلك الحجة الظاهرة من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته‏!‏ فقال الحباب بن المنذر‏:‏ يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب‏!‏ أنا أبو شبل في عرينة الأسد والله لئن شئتم لنعيدنها جذعةً‏.‏

فقال عمر‏:‏ إذًا ليقتلك الله‏!‏ فقال‏:‏ بل إياك يقتل‏.‏

فقال أبو عبيدة‏:‏ يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر فلا تكونوا أول من بدل وغير‏!‏ فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال‏:‏ يا معشر الأنصار إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا فيما

ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي به الدنيا ألا إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قريش وقومه أولى به وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ هذا عمر وأبو عبيدة فإن شئتم فبايعوا‏.‏

فقالا‏:‏ والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلاة وهي أفضل دين المسلمين ابسط يدك نبايعك‏.‏

فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر‏:‏ عققت عقاقًا ما أحوجك إلى ما صنعت‏!‏ أنفست على ابن عمك الإمارة فقال‏:‏ لا والله ولكني كرهت أن أنازع القوم حقهم‏.‏

ولما رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير وكان نقيبًا‏:‏ والله لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم فيها نصيبًا أبدًا فقوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب‏.‏

ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقي أيامًا وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا فقال‏:‏ لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأخضب سنان رمحي وأضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي‏.‏

فقال عمر‏:‏ لا تدعه حتى يبايع‏.‏

فقال بشير بن سعد‏:‏ إنه قد لج وأبى ولا يبايعكم حتى يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته فاتركوه ولا يضركم تركه وإنما هو رجل واحد‏.‏

فتركوه‏.‏

وجاءت أسلم فبايعت فقوي أبو بكر بهم وبايع الناس بعد‏.‏

قيل إن عمرو بن حريث قال لسعيد بن زيد‏:‏ متى بويع أبو بكر قال‏:‏ يوم مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة‏.‏

قال الزهري‏:‏ بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها فبايعوه‏.‏

فلما كان الغد من بيعة أبي بكر جلس على المنبر وبايعه الناس بيعة عامة ثم تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه والقوي ضعيف عندي حتى آخذ من الحق إن شاء الله تعالى لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله أسيد بن حضير بضم الهمزة وبالحاء المهملة المضمومة وبالضاد المعجمة وآخره راء‏.‏

 ذكر تجهيز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودفنه

فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودفن يوم الثلاثاء وقيل‏:‏ بقي ثلاثة أيام لم يدفن والأول أصح‏.‏

وكان الذي يلي غسله علي والعباس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحضرهم أوس بن خولي الأنصاري وكان بدريًا وكان العباس وابناه يقلبونه وأسامة وشقران يصبان الماء وعلي يغسله وعليه قميصه وهو يقول‏:‏ بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيًا وميتًا‏!‏ ولم ير من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يرى من ميت‏.‏

واختلفوا في غسله في ثيابه أو مجردًا فألقى الله عليهم النوم ثم كلمهم مكلمٌ لا يدرى من هو أن غسلوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليه ثيابه ففعلوا ذلك‏.‏

وكفن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثلاثة أثواب‏:‏ ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيها إدراجًا‏.‏

واختلفوا في موضع دفنه فقال أبو بكر‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض فرفع فراشه ودفن موضعه وحفر له أبو طلحة الأنصاري لحدًا ودخل الناس يصلون عليه أرسالًا‏:‏ الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد ودفن ليلة الأربعاء‏.‏

وكان الذي نزل قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس وشقران‏.‏

وقال أوس بن خولي الأنصاري لعلي‏:‏ أنشدك الله وحظنا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمره بالنزول فنزل‏.‏

وكان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهدًا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقول‏:‏ ألقيت خاتمي في قبره عمدًا فنزلت لآخذه وسأل ناس من أهل العراق عليًا عن ذلك فقال‏:‏ كذب المغيرة أحدثنا عهدًا به قثم به العباس‏.‏

واختلفوا في عمره يوم مات فقال ابن عباس وعائشة ومعاوية وابن المسيب‏:‏ كان عمره ثلاثًا وستين سنة‏.‏

وقال ابن عباس أيضًا ودغفل بن حنظلة‏:‏ كان عمره خمسًا وستين سنة‏.‏

وقال عروة بن الزبير‏:‏ كان عمره ستين سنة‏.‏

 ذكر إنفاذ جيش أسامة بن زيد

قد ذكرنا استعمال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسامة بن زيد على جيش وأمره بالتوجه إلى

الشام وكان قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها وفيهم عمر بن الخطاب فتوفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يسر الجيش وارتدت العرب إما عامة أو خاصةً من كل قبيلة وظهر النفاق واشرأبت يهود والنصرانية وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبيهم وقلتهم وكثرة عدوهم‏.‏

فقال الناس لأبي بكر‏:‏ إن هؤلاء يعنون جيش أسامة جند المسلمين والعرب - على ما ترى - قد انتقضت بك فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

فخاطب الناس وأمرهم بالتجهز للغزو وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف فخرجوا كما أمرهم وجيش أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم فصاروا مسايح حول قبائلهم وهم قليل‏.‏

فلما خرج الجيش إلى معسكرهم بالجرف وتكاملوا أرسل أسامة عمر بن الخطاب وكان معه في جيشه إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال‏:‏ إن معي وجوه الناس وحدهم ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون‏.‏

وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب‏:‏ إن أبا بكر خليفة رسول الله فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلًا أقدم سنًا من أسامة‏.‏

فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر فأخبره بما قال أسامة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذته كما أمر به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أرد قضاء قضى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته‏.‏

قال عمر‏:‏ فإن الأنصار تطلب إليك أن تولي أمرهم رجلًا أقدم سنًا من أسامة‏.‏

فوثب أبو بكر وكان جالسًا وأخذ بلحية عمر وقال‏:‏ ثكلتك أمك يا ابن الخطاب‏!‏ استعمله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتأمرني أن أعزله ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم وأشخصهم وشيعهم وهو ماشٍ وأسامة راكب فقال له أسامة‏:‏ يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏والله لا نزلت ولا أركب وما علي أن أغبر قدمي ساعةً في سبيل الله‏!‏ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة درجة ترفع له وسبعمائة سيئة تمحى عنه‏)‏‏.‏

فلما أراد أن يرجع قال لأسامة‏:‏ إن رأيت أن تعينني بعمرٍ فافعل فأذن له ثم وصاهم فقال‏:‏ لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقًا‏.‏

اندفعوا وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فسار وأوقع بقبائل من ناس قضاعة التي ارتدت وغنم وعاد وكانت غيبته أربعين يومًا وقيل‏:‏ سبعين يومًا‏.‏

وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعًا للمسلمين فإن العرب قالوا‏:‏ لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه‏.‏

ذكر أخبار الأسود العنسي باليمن واسمه عيهلة بن كعب بن عوف العنسي بالنون وعنس بطن من مذحج وكان يلقب ذا الخمار لأنه كان معتمًا متخمرًا أبدًا‏.‏

وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن عمل اليمن جميعه وأمره على جميع مخاليفه فلم يزل عاملًا عليه حتى مات‏.‏

فلما مات باذان فرق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمراءه في اليمن فاستعمل عمرو بن حزم على نجران وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد وعامر بن شهر على همدان وعلى صنعاء شهر ابن باذان وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة وعلى مأرب أبا موسى وعلى الجند يعلى بن أمية وكان معاذ معلمًا يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت واستعمل على أعمال حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور وعلى بني معاوية ابن كندة عبد الله أو المهاجر فاشتكى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر فمات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت‏.‏

وكان أول من اعترض الأسود الكاذب شهر وفيروز وداذويه وكان الأسود العنسي لما عاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حجة الوداع وتمرض من السفر غير مرض موته بلغه ذلك فادعى النبوة وكان مشعبذًا يريهم الأعاجيب فاتبعه مذحج وكانت ردة الأسود أول ردة في الإسلام على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغزا نجران فأخرج عنها عمرو ابن حزم وخالد بن سعيد ووثب قيس بن عبد يغوث بن مكشوح على فروة ابن مسيك وهو على مراد فأجلاه ونزل منزله وسار الأسود عن نجران إلى صنعاء وخرج إليه شهر بن باذان فلقيه فقتل شهر لخمس وعشرين ليلة من خروج الأسود وخرج معاذ هاربًا حتى لحق بأبي موسى وهو بمأرب فلحقا بحضرموت ولحق بفروة من تم على إسلامه من مذحج‏.‏

واستتب للأسود ملك اليمن ولحق أمراء اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة إلا عمرًا وخالدًا فإنهما رجعا إلى المدينة والطاهر بجبال عك وجبال صنعاء وغلب الأسود على ما بين مفازة

حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن واستطار أمره كالحريق وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهرًا سوى الركبان واستغلظ أمره وكان خليفته في مذحج عمرو ابن معدي كرب وكان خليفته على جنده قيس بن عبد يغوث وأمر الأبناء إلى فيروز وداذويه‏.‏

وكان الأسود تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله وهي ابنة عم فيروز‏.‏

وخاف من بحضرموت من المسلمين أن يبعث إليهم جيشًا أو يظهر بها كذاب مثل الأسود فتزوج معاذ إلى السكون فعطفوا عليه‏.‏

وجاء إليهم وإلى من باليمن من المسلمين كتب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرهم بقتال الأسود فقام معاذ في ذلك وقويت نفوس المسلمين وكان الذي قدم بكتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبر بن يحنس الأزدي قال جشنس الديلمي‏:‏ فجاءتنا كتب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرنا بقتاله إما مصادمةً أو غيلةً يعني إليه وإلى فيروز وداذويه وأن نكاتب من عنده دين‏.‏

فعملنا في ذلك فرأينا أمرًا كثيفًا وكان قد تغير لقيس بن عبد يغوث فقلنا‏:‏ إن قيسًا يخاف على دمه فهو لأول دعوة فدعوناه وأبلغناه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكأنما نزلنا عليه من السماء فأجابنا وكاتبنا الناس‏.‏

فأخبره الشيطان شيئًا من ذلك فدعا قيسًا فأخبره أن شيطانه يأمره قبتله لميله إلى عدوه فحلف قيس‏:‏ لأنت أعظم في نفسي من أن أحدث نفسي بذلك‏.‏

ثم أتانا فقال‏:‏ يا جشنس ويا فيروز ويا داذويه فأخبرنا بقول الأسود‏.‏

فبينا نحن معه يحدثنا إذ أرسل إلينا الأسود فتهددنا فاعتذرنا إليه ونجونا منه ولم نكد وهو مرتاب بنا ونحن نحذره‏.‏

فبينا نحن على ذلك إذ جاءتنا كتب عامر بن شهر وذي زودٍ مران وذي الكلاع وذي ظليم يبذلون لنا النصر فكاتبناهم وأمرناهم أن لا يفعلوا شيئًا حتى نبرم أمرنا وإنما اهتاجوا لذلك حين كاتبهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكتب أيضًا إلى أهل نجران فأجابوه وبلغ ذلك الأسود وأحس بالهلاك‏.‏

قال‏:‏ فدخلت على آزاد وهي امرأته التي تزوجها بعد قتل زوجها شهر ابن باذان فدعوتها إلى ما نحن عليه وذكرتها قتل زوجها شهر وإهلاك عشيرتها وفضيحة النساء‏.‏

فأجابت وقالت‏:‏ والله ما خلق الله شخصًا أبغض إلي منه ما يقوم لله على حق ولا ينتهي عن محرم فأعلموني أمركم أخبركم بوجه الأمر‏.‏

قال‏:‏ فخرجت وأخبرت فيروز وداذويه وقيسًا‏.‏

قال‏:‏ وإذ قد جاء رجل فدعا قيسًا إلى الأسود فدخل في عشرة من مذحج وهمدن فلم يقدر على قتله معهم وقال له‏:‏ ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب إنه يعني شيطانه يقول لي‏:‏ إلا تقطع من قيس يده يقطع رقبتك‏.‏

فقال قيس‏:‏ إنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول الله فمرني بما أحببت أو اقتلني فموته أهون من موتات‏.‏

فرق له وتركه وخرج قيس فمر بنا وقال‏:‏ اعملوا عملكم‏.‏

ولم يعقد عندنا‏.‏

فخرج علينا الأسود في جمع فقمنا له وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير فنحرها ثم خلاها ثم قال‏:‏ أحق ما بلغني عنك يا فيروز - وبوأ له الحربة - لقد هممت أن أنحرك‏.‏

فقال‏:‏ اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء فلو لم تكن نبيًا لما بعنا نصيبنا منك بشيء فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الدنيا والآخرة فإنا بحيث تحب فقال له‏:‏ اقسم هذه فقسمها ولحق به وهو يسمع سعاية رجل بفيروز وهو يقول له‏:‏ أنا قاتله غدًا وأصحابه ثم التفت فإذا فيروز فأخبره بقسمتها ودخل الأسود ورجع فيروز فأخبرنا الخبر فأرسلنا إلى قيس فجاءنا فاجتمعنا على أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا ونأخذ رأيها فأتيتها فأخبرتها فقالت‏:‏ هو متحرز وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا فإذا أمسيتم فانقبوا عليه فإنكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء وستجدون فيه سراجًا وسلاحًا‏.‏

فخرجت فتلقاني الأسود خارجًا من بعض منازله فقال‏:‏ ما أدخلك علي ووجأ رأسي حتى سقطت وكان شديدًا فصاحت المرأة فأدهشته عني ولولا ذلك لقتلني وقالت‏:‏ جاءني ابن عمي زائرًا ففعلت به هذا فتركني فأتيت أصحابي فقلت‏:‏ النجاء‏!‏ الهرب‏!‏ وأخبرتهم الخبر‏.‏

فإنا على ذلك حيارى إذ جاءنا رسولها يقول‏:‏ لا تدعن ما فارقتك عليه فلم أزل به حتى

اطمأن‏.‏

فقلنا لفيروز‏:‏ إيتها فتثبت منها‏.‏

ففعل فلما أخبرته قال‏:‏ ننقب على بيوت مبطنة فدخل فاقتلع البطانة وجلس عندها كالزائر فدخل عليها الأسود فأخذته غيرة فأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم فأخرجه‏.‏

فلما أمسينا عملنا في أمرنا وأعملنا أشياعنا وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين فنقبنا البيت من خارج ودخلنا وفيه سراج تحت جفنة واتقينا بفيروز كان أشدنا فقلنا‏:‏ انظر ماذا ترى فخرج ونحن بينه وبين الحرس‏.‏

فلما دنا من باب البيت سمع غطيطًا شديدًا والمرأة قاعدة فلما قام على باب البيت أجلسله الشيطان وتكلم على لسانه وقال‏:‏ ما لي ولك يا فيروز‏!‏ فخشي إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ برأسه فقتله ودق عنقه ووضع ركبته في ظهره فدقه ثم قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله‏.‏

فقال‏:‏ قد قتلته وأرحتك منه وخرج فأخبرنا فدخلنا معه فخار كما يخور الثور فقطعت رأسه بالشفرة وابتدر الحرس المقصورة يقولون‏:‏ ما هذا فقالت المرأة‏:‏ النبي يوحى إليه‏!‏ فخمدوا وقعدنا نأتمر بيننا فيروز وداذويه وقس كيف نخبر أشياعنا فاجتمعنا على النداء‏.‏

فلما طلع الفجر نادينا بشعارنا الذي بيننا وبين أصحابنا ففزع المسلمون والكافرون ثم نادينا بالأذان فقلت‏:‏ أشهد أن محمدًا رسول الله وأن عيهلة كذاب‏!‏ وألقينا إليهم رأسه وأحاط بنا أصحابه وحرسه وشنوا الغارة وأخذوا صبيانًا كثيرة وانتهبوا‏.‏

فنادينا أهل صنعاء من عنده منهم فأمسكه ففعلوا‏.‏

فلما خرج أصحابه فقدوا سبعين رجلًا فراسلونا وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما في أيديهم ونترك ما في أيدينا ففعلنا ولم يظفروا منا بشيء وترددوا في ما بين صنعاء ونجران‏.‏

وتراجع أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أعمالهم وكان يصلي بنا معاذ بن جبل وتبنا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخبره وذلك في حياته‏.‏

وأتاه الخبر من ليلته وقدمت رسلنا وقد توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجابنا أبو بكر‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ أتى الخبر من السماء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ليلته التي قتل فيها فقال‏:‏ ‏(‏قتل العنسي قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ من قتله قال‏:‏ ‏(‏قتله فيروز‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ كان أول أمر العنسي إلى آخره ثلاثة أشهر وقيل قريب من أربعة أشهر وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة‏.‏

قال فيروز‏:‏ لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن

راجون مؤملون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود فأتى موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانتقضت الأمور واضطربت الأرض‏.‏

العنسي بالعين والنون‏.‏

وفي هذه السنة ماتت فاطمة بنت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان وهي ابنة تسع وعشين سنة أو نحوها وقيل‏:‏ توفيت بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بثلاثة أشهر وقيل‏:‏ بستة أشهر وغسلها علي وأسماء بنت عميس وصلى عليها العباس بن عبد المطلب ودخل قبرها العباس وعلي والفضل بن العباس‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق وكان أصابه سهم بالطائف وهو مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رماه به أبو محجن ثم انتفض عليه فمات في شوال‏.‏

وفي هذا العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك يزدجر بلاد فارس‏.‏

وفيه أعني سنة إحدى عشرة اشترى عمر بن الخطاب مولاه أسلم بمكة من ناس من الأشعريين‏.‏

 ذكر أخبار الردة

قال عبد الله بن مسعود‏:‏ لقد قمنا بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقامًا كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر أجمعنا على أن لا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون وأن نأكل قرى عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين فعزم الله لأبي بكر على قتالهم فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة وأن يدوا قتلانا ونغنم ما أخذنا منهم وأن ما أخذوا منا مردودٌ علينا‏.‏

وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم‏.‏

وأما أخبار الردة فإنه لما مات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسير أبو بكر جيش أسامة ارتدت العرب وتضرمت الأرض نارًا وارتدت كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشًا وثقيفًا واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد وارتدت غطفان تبعًا لعيينة بن حصن فإنه قال‏:‏ نبي من الحليفين يعني أسدًا وغطفان أحب إلينا من نبي من قريش وقد مات محمد وطليحة حي فاتبعه وتبعته غطفان‏.‏

وقدمت رسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اليمامة وأسد وغيرهما وقد مات فدفعوا كتبهم لأبي بكر وأخبروه الخبر عن مسيلمة وطليحة فقال‏:‏ لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتهم فكان كذلك وقدمت كتب أمراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كل مكان بانتفاض العرب عامة أو خاصة وتسلطهم

على المسلمين فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحاربهم بالرسل فرد رسلهم بأمره وأتبع رسلهم رسلًا وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة فكان عمال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قضاعة وكلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي وعلى القين عمرو بن الحكم وعلى سعد هذيم معاوية الوالبي فارتد وديعة الكلبي فيمن تبعه وبقي امرؤ القيس على دينه وارتد زميل بن قطبة القيني وبقي عمرو وارتد معاوية فيمن اتبعه من سعد هذيم فكتب أبو بكر إلى امرىء القيس وهو جد سكينة بنت الحسين فسار بوديعة إلى عمرو فأقام لزميل وإلى معاوية العذري وتوسطت خيل أسامة ببلاد قضاعة فشن الغارة فيهم فغنموا وعادوا سالمين‏.‏

 ذكر خبر طليحة الأسدي

وكان طليحة بن خويلد الأسدي من بني أسد بن خزيمة قد تنبأ في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجه إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضرار بن الأزور عاملًا على بني أسد وأمرهم بالقيام على من ارتد فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه فضربه بسيف فلم يصنع فيه شيئًا فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه فكثر جمعه‏.‏ ومات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم على ذلك فكان طليحة يقول‏:‏ إن جبرائيل يأتيني وسجع للناس الأكاذيب وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول‏:‏ إن الله لا يصنع بتعفر وجوهم وتقبح أدباركم شيئًا اذكروا الله أعفة قيامًان إلى غير ذلك وتبعه كثير من العرب عصبيةً فلهذا كان أكثر أتباعه من أسد وغطفان وطيئ‏.‏

فسارت فزارة وغطفان إلى جنوب طيبة وأقامت طيئ على حدود أراضيهم وأسد بسميراء واجتمعت عبس وثعلبة ابن سعد ومرة بالأبرق من الربذة واجتمع إليهم ناس من بني كنانة فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين أقامت فرقة بالأبرق وسارت فرقة إلى ذي القصة وأمدهم طليحة بأخيه حبال فكان عليهم وعلى من معهم من الدئل وليث ومدلج وأرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة فقال أبو بكر‏:‏ ‏(‏والله لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه‏)‏‏.‏ وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة وردهم فرجع وفدهم فأخبروهم بقلة من في المدينة وأطمعوهم فيها‏.‏

وجعل أبو بكر بعد مسير الوفد على أنقاب المدينة عليًا وطلحة والزبير وابن مسعود وألزم أهل المدينة بحضور المسجد خوف الغارة من العدو لقربهم فما لبثوا إلا ثلاثًا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل وخلفوا بعضهم بذي حسى ليكونوا لهم ردءًا فوافوا ليلًا الأنقاب وعليها المقاتلة فمنعوهم وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم ففعلوا فرج إلى

أهل المسجد على النواضح فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسىً فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وفيها الحبال ثم دهدهوها بأرجلهم على الأرض فنفرت إبل المسلمين وهم عليها ورجعت بهم إلى المدينة ولم يصرع مسلمٌ‏.‏

وظن الكفار بالمسلمين الوهن وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر فقدموا عليهم وبات أبو بكر يعبي الناس وخرج على تعبية يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن وعلى أهل الساقة سويد ابن مقرن‏.‏

فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيد واحد فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا فيهم السيوف فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم وقتل رجال واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة وكان أول الفتح ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد ورجع إلى المدينة فذل له المشركون‏.‏

فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم فحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة وازداد المسلمون قوة وثباتًا‏.‏

وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على صدقة الناس بهم صفوان والزبرقان بن بدر وعي بن حاتم وذلك لتمام ستين يومًا من مخرج أسامة وقدم أسامة بعد ذلك بأيام وقيل‏:‏ كانت غزوته وعوده في أربعين يومًا‏.‏

فلما قدم أسامة استخلفه أبو بكر على المدينة وجنده معه ليستريحوا ويريحوا ظهرهم ثم خرج فيمن كان معه فناشده المسلمون ليقيم فأبى وقال‏:‏ لأواسينكم بنفسي‏.‏

وسار إلى ذي حسىً وذي القصة حتى نزل بالأبرق فقاتل من به فهزم الله المشركين وأخذ الحطيئة أسيرًا فطارت عبس وبنو بكر وأقام أبو بكر بالأبرق أيامًا وغلب علي بني ذبيان وبلادهم وحماها لدواب المسلمين وصدقاتهم‏.‏

ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو ببزاخة وكان رحل من سميراء إليها فأقام عليها وعاد أبو بكر إلى المدينة‏.‏

فلما استراح أسامة وجنده وكان قد جاءهم صدقات كثيرة تفضل عليهم قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية فعقد أحد عشر لواء عقد لواء لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة وعقد للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن مكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم ثم يمضي إلى كندة بحضرموت وعقد لخالد بن سعيد وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشام وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلى قضاعة وعقد لحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا وعقد لعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما على صاحبه في عمله‏.‏

وبعث شرحبيل بن حسنة في أثر عكرمة بن أب جهل وقال‏:‏ إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة‏.‏

وعقد لمعن بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن وعقد لسويد بن مقرن وأمره بتهامة باليمن وعقد للعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين ففصلت الأمراء من ذي القصة ولحق بكل أمير جنده وعهد إلى كل أمير وكتب إلى جميع المرتدين نسخة واحدة يأمرهم بمراجعة الإسلام ويحذرهم وسير الكتب إليهم مع رسله‏.‏

ولما انهزمت عبس وذبيان ورجعوا إلى طليحة ببزاخة أرسل إلى جديلة والغوث من طيئ يأمرهم باللحاق به فتعجل إليه بعضهم وأمروا قومهم باللحاق بهم فقدموا على طليحة‏.‏

وكان أبو بكر بعث عدي بن حاتم قبل خالد إلى طيئ وأتبعه خالدًا وأمره أن يبدأ بطيئ ومنهم يسير إلى بزاخة ثم يثلث بالبطاح ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له‏.‏

وأظهر أبو بكر للناس أنه خارج إلى خيبر بجيش حتى يلاقي خالدًا يرهب العدو بذلك‏.‏

وقدم عدي على طيئ فدعاهم وخوفهم فأجابوه وقالوا له‏:‏ استقبل الجيش فأخره عنا حتى نستخرج من عند طليحة منا لئلا يقتلهم‏.‏

فاستقبل عدي خالدًا وأخبره بالخبر فتأخر خالد وأرسلت طيئ إلى إخوانهم عند طليحة فلحقوا بهم فعادت طيئ إلى خالد بإسلامهم ورحل خالد يريد جديلة فاستمهله عدي عنهم ولحق بهم عدي بهم يدعوهم إلى الإسلام فأجابوه فعاد إلى خالد بإسلامهم ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم وكان خير مولود في أرض طيئ وأرسل خالد بن الوليد عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم الأنصاري طليعةً فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخو سلمة فقتل طليحة عكاشة وقتل أخوه ثابتًا ورجعا‏.‏

وأقبل خالد بالناس فرأوا عكاشة وثابتًا قتيلين فجزع لذلك المسلمون وانصرف بهم خالد نحو طيئ فقالت له طيئ‏:‏ نحن نكفيك قيسًا فإن بني أسد حلفاؤنا‏.‏

فقال‏:‏ قاتلوا أي الطائفتين شئتم‏.‏

فقال عدي بن حاتم‏:‏ لو نزل هذا على الذين هم أسرتي فالأدنى لجاهدتهم عليه والله لا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم‏.‏

فقال له خالد‏:‏ إن جهاد الفريقين جهادٌ لا تخالف رأي أصحابك وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط ثم تعبى لقتالهم ثم سار حتى التقيا على بزاخة وبنو عامر قريبًا يتربصون على من تكون الدائرة قال‏:‏ فاقتتل الناس على بزاخة‏.‏

وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة فقاتلوا قتالًا شديدًا وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم فلما اشتدت الحر كر عيينة على طليحة وقال له‏:‏ هل جاءك جبرائيل بعد قال‏:‏ لا فرجع فقاتل ثم كر على طليحة فقال له‏:‏ لا أبا لك‏!‏ أجاءك جبرائيل قال‏:‏ لا‏.‏

فقال عيينة‏:‏ حتى متى والله بلغ منا‏!‏ ثم رجع فقاتل قتالًا شديدًا ثم كر على طليحة فقال‏:‏ هل جاءك جبرائيل قال‏:‏ نعم‏.‏

فماذا قال لك قال‏:‏ قال لي‏:‏ إن لك رحًا كرحاه وحديثًا لا تنساه‏.‏

فقال عيينة‏:‏ قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب فانصرفوا وانهزم الناس‏.‏

وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها وقال‏:‏ يا معشر فزارة من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل‏.‏

ثم انهزم فلحق بالشام ثم نزل على كلب فأسلم حين بلغه أن أسدًا وغطفان قد أسلموا ولم يزل مقيمًا في كلب حتى مات أبو بكر‏.‏

وكان خرج معتمرًا في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة فقيل لأبي بكر‏:‏ هذا طليحة‏!‏ فقال‏:‏ ما أصنع به قد أسلم‏!‏ ثم أتى عمر فبايعه حين استخلف‏.‏

فقال له‏:‏ أنت قاتل عكاشة وثابت والله لا أحبك أبدًا‏!‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما‏!‏ فبايعه عمر وقال له‏:‏ ما بقي من كهانتك فقال‏:‏ نفخة أو نفختان بالكير‏.‏

ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق‏.‏

ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن فقدم به على أبي بكر فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف‏:‏ يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك فيقول‏:‏ والله ما آمنت بالله طرفة عين‏.‏

فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه‏.‏

وأخذ من أصحاب طليحة رجل كان عالمًا به فسأله خالد عما كان يقول فقال‏:‏ إن مما أتى به‏:‏ والحمام واليمام والصرد الصوام قد صمن قبلكم بأعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام‏.‏

قال‏:‏ ولم يؤخذ منهم سبي لأنهم كانوا قد أحرزوا حريمهم فلما انهزموا أقروا بالإسلام خشية على عيالاتهم فآمنهم‏.‏

حبال بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف لام‏.‏

وذو القصة بفتح القاف والصاد المهملة‏.‏

وذو حسىً بضم الحاء المهملة والسين المهملة المفتوحة‏.‏

ودبا بفتح الدال المهملة وبالباء الموحدة‏.‏

وبزاخة بضم الباء الموحدة وبالزاي والخاء المعجمة‏.‏