فصل: ذكر عدة حوادث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر قصد الخوارج سجستان

في هذه السنة بعد الفراغ من وقعة الجمل خرج حسكة بن عتاب الحبطي وعمران بن الفضيل البرجمي في صعاليك من العرب حتى نزلوا زالق من سجستان وقد نكث أهلها فأصابوا منها مالًا ثم أتوا زرنج وقد خافهم مرزبانها فصالحهم ودخلوها فقال الراجز‏:‏ بشر سجستان بجوعٍ وحرب بابن الفضيل وصعاليك العرب لا فضةٌ تغنيهم ولا ذهب فبعث علي عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتله حسكة فكتب علي إلى عبد الله بن العباس يأمره أن يولي سجستان رجلًا ويسيرة إليها في أربعة آلاف فوجه ربعي بن كاس العنبري ومعه الحصين بن أبي الحر العنبري فلما ورد سجستان قاتلهم حسكة وقتلوه وضبط ربع البلاد وكان فيروز حصين ينسب إلى الحصين بن أبي الحر هذا وهو من سجستان‏.‏

في هذه السنة قتل محمد بن أبي حذيفة وكان أبوه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قد قتل يوم اليمامة وترك ابنه محمدًا هذا فكفله عثمان ابن عفان وأحسن تربيته وكان فيما قيل‏:‏ أصاب شرابًا فحده عثمان ثم تنسك محمد وأقبل على العبادة وطلب من عثمان أن يوليه عملًا فقال‏:‏ لو كنت أهلًا لذلك لوليتك‏.‏

فقال له‏:‏ إني قد رغبت في غزو البحر فأذن لي في إتيان مصر فأذن له وجهزه فلما قدمها رأى الناس عبادته فلزموه وعظموه وغزا مع عبد الله بن سعد غزوة الصواري‏.‏

وكان محمد يعيبه ويعيب عثمان بتوليته ويقول‏:‏ استعمل رجلًا أباح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دمه‏.‏

فكتب عبد الله إلى عثمان‏:‏ إن محمدًا قد أفسد علي البلاد هو ومحمد بن أبي بكر‏.‏

فكتب إليه‏:‏ أما ابن أبي بكر فإنه يوهب لأبيه ولعائشة وأما ابن أبي حذيفة فإنه ابني وابن أخي وتربيتي وهو فرخ قريش‏.‏

فكتب إليه‏:‏ إن هذا الفرخ قد استوى ريشه ولم يبق إلا أن يطير‏.‏

فبعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم وبجمل عليه كسوة فوضعها محمد في المسجد ثم قال‏:‏ يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه‏!‏ فازداد أهل مصر تعظيمًا له وطعنًا على عثمان وبايعوه على رياستهم فكتب إليه عثمان يذكره بره به وتربيته إياه وقيامه بشأنه ويقول‏:‏ إنك كفرت إحساني أحوج ما كنت إلى شكرك‏.‏

فلم يرده ذلك فلما سار المصريون إلى عثمان أقام هو بمصر وخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاستولى عليها وضبطها فلم يزل بها مقيمًا حتى قتل عثمان وبويع علي واتفق معاوية وعمرو بن العاص على خلاف علي فسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد إليها أميرًا فأراد دخولها فلم يقدر على ذلك فخدع محمدًا حتى خرج منها إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتل‏.‏

وهذا القول ليس بشيء لأن عليًا استعمل قيسًا على مصر أول ما بويع له ولو أن ابن أبي حذيفة قتله معاوية وعمرو قبل وصول قيس إلى مصر لاستوليا عليها لأنه لم يكن بها أمير يمنعهما عنها ولا خلاف أن استيلاء معاوية وعمرو عليها كان بعد صفين والله أعلم‏.‏

وقيل غير ذلك وهو أن محمد بن أبي حذيفة سير المصريين إلى عثمان فلما حصروه أخرج محمدٌ عبد الله بن سعد عن مصر وهو عامل عثمان واستولى عليها فنزل عبد الله على تخوم مصر وانتظر أمر عثمان فطلع عليه راكب فسأله فأخبره بقتل عثمان فاسترجع وسأله عما صنع الناس بعده فأخبره ببيعة علي فاسترجع فقا له‏:‏ كأن إمرة علي تعدل عندك قتل عثمان‏!‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أظنك عبد الله بن سعد‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

فقال له‏:‏ إن كانت لك في نفسك حاجة فالنجاء النجاء فإن رأى أمير المؤمنين علي فيك وفي أصحابك إن ظفر بكم أن يقتلكم أو ينفيكم وهذا بعدي أمير يقدم عليك‏.‏

فقال‏:‏ من هو قال‏:‏ قيس بن سعد بن عبادة‏.‏

قال عبد الله بن سعد‏:‏ أبعد الله محمد بن أبي حذيفة فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه وقد كفله ورباه وأحسن إليه فأساء جواره وجهز إليه الرجال حتى قتل ثم ولى عليه من هو أبعد منه ومن عثمان ولم يمتعه بسلطان بلاده شهرًا ولم يره لذلك أهلًا‏.‏وخرج عبد الله هاربًا حتى قدم على معاوية‏.‏

وهذا القول يدل على أن قيسًا ولي مصر ومحمد بن أبي حذيفة حي وهو الصحيح‏.‏وقيل‏:‏ إن عمرًا سار إلى مصر بعد صفين فلقيه محمد بن أبي حذيفة في جيش فلما رأى عمرو كثرة من معه أرسل إليه فالتقيا واجتمعا فقال له عمرو‏:‏ إنه قد كان ما ترى وقد بايعت هذا الرجل يعني معاوية وما أنا براضٍ بكثير من أمره وإني لأعلم أن صاحبك عليًا أفضل من معاوية نفسًا وقديمً وألى بهذا الأمر فواعدني موعدًا ألتقي معك فيه في غير جيش تأتي في مائة وآتي في مثلها وليس معنا إلا السيوف في القرب‏.‏

فتعاهدا وتعاقدا على ذلك واتعدا العريش ورجع عمرو إلى معاوية فأخبره الخبر فلما جاء الأجل سار كل واحد منهما إلى صاحبه في مائة وجعل عمرو له جيشًا خلفه لينطوي خبره فلما التقيا بالعريش قدم جيش عمرو على أثره فعلم محمد أنه قد غدر به فدخل قصرًا بالعريش فتحصن به فحصره عمرو ورماه بالمنجنيق حتى أخذ أسيرًا وبعث به عمرو إلى معاوية فسجنه وكانت ابنة قرظة امرأة معاوية ابنة عمه محمد بن أبي حذيفة أمها فاطمة بنت عتبة فكانت تصنع له طعامًا ترسله إليه فأرسلت إليه يومًا في الطعام مبارد فبرد بها قيود وهرب فاختفى في غار فأخذ وقتل والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ إنه بقي محبوسًا إلى أن قتل حجر بن عدي ثم إنه هرب فطلبه مالك بن هبيرة السكوني فظفر به فقتله غضبًا لحجر وكان مالك قد شفع إلى معاوية في حجر فلم يشفعه‏.‏

وقيل‏:‏ إن محمد بن أبي حذيفة لما قتل محمد بن أبي بكر خرج في جمع كثير إلى عمرو فآمنه عمرو ثم غدر به وحمله إلى معاوية بفلسطين فحبسه ثم إنه هرب فأظهر معاوية للناس أنه كره هربه وأمر بطلبه فسار في أثره عبيد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمي فأدركه بحوران في غار وجاءت حمر تدخل الغار فلما رأت محمدًا نفرت منه وكان هناك ناس يحصدون فقالوا‏:‏ والله إن لنفرة هذه الحمر لشأنًا‏.‏فذهبوا إلى الغار فرأوه فخرجوا من عنده فوافقهم عبيد الله فسألهم عنه ووصفه لهم فقالوا‏:‏ هو في الغار فأخرجه وكره أن يأتي به معاوية فيخلي سبيله فضرب عنقه وكان ابن خال معاوية‏.‏

وفي هذه السنة في صفر بعث علي قيس بن سعد أميرًا على مصر وكان صاحب راية الأنصار مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان من ذوي الرأي والبأس فقال له‏:‏ سر إلى مصر فقد وليتكها واخرج إلى رحلك واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك وأحسن إلى المحسن واشتد على المريب وارفق بالعامة والخاصة فإن الرفق يمن‏.‏فقال له قيس‏:‏ أما قولك‏:‏ اخرج إليها بجند فوالله لئن لم أدخلها إلا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدًا فأنا أدع ذلك الجند لك فإن كنت احتجت إليهم كانوا منك قريبًا وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدة‏.‏

فخرج قيس حتى دخل مصر في سبعة من أصحابه على الوجه الذي تقدم ذكره فصعد المنبر فجلس عليه وامر بكتاب أمير المؤمنين فقرى على أهل مص بإمارته ويأمرهم بمبايعته ومساعدته وإعانته على الحق ثم قام قيس خطيبًا وقال‏:‏ الحمد لله الذي جاء بالحق وأمات الباطل وكبت الظالمين أيها الناس إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم‏.‏

فقام الناس الناس فبايعوا واستقامت مصر وبعث عليها عماله إلا قرية منها يقال لها خرنبا فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان عليهم رجل من بني كنانة ثم من بني مدلج اسمه يزيد بن الحرث فبعث إلى قيس يدعو إلى الطلب بدم عثمان‏.‏

وكان مسلمة بن مخلد قد أظهر الطلب أيضًا بدم عثمان فأرسل إليه قيس‏:‏ ويحك أعلي تثب‏!‏ فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأني قتلتك‏!‏ فبعث إليه مسلمة‏:‏ إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر‏.‏

وبعث قيس وكان حازمًا إلى أهل خرنبا‏:‏ إني لا أكرهكم على البيعة وإني كاف عنكم فهادنهم جبى الخراج ليس أحد ينازعه وخرج أمير المؤمنين إلى الجمل ورجع وهو بمكانه فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام ومخافة أن يقبل علي في أهل العراق وقيس في أهل مصر فيقع بينهما معاوية فكتب معاوية إلى قيس‏:‏ سلام عليك أما بعد فإنكم نقمتم على عثمان ضربة بسوط أو شتيمة رجل أو تسيير آخر واستعمال فتى وقد علمتم أن دمه لا يحل لكم فقد ركبتم عظيمًا وجئتم أمرًا إدًا فثب إلى الله يا قيس فإنك من المجلبين على عثمان فأما صاحبك فإنا استيقنا أنه الذي أغرى به الناس وحملهم حتى قتلوه وإنه لم يسلم من دمه عظم قومك فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطالب بدم عثمان فافعل وتابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان وسلني ما شئت فإني أعطيك واكتب إلي فلما جاءه الكتاب أحب أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل إلى حربه فكتب إليه‏:‏ أما بعد فقد فهمت ما ذكرته من قتلة عثمان فذلك شيء لم أقاربه وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى به حتى قتلوه وهذا مما لم أطلع عليه وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان فأول الناس كان فيه قيامًا عشيرتي وأما ما عرضته من متابعتك فهذا أمر لي فيه نظر وفكرة وليس هذا مما يسرع إليه وأنا كاف عنك وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى‏.‏

فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقاربًا مباعدًا فكتب إليه‏:‏ أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلمًا ولا متباعدًا فأعدك حربًا وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وبيده أعنة الخيل والسلام‏.‏

فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له ما في نفسه فكتب إليه‏:‏ أما بعد فالعجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك إياي أتسومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمارة وأقولهم بالحق وأهداهم سبيلًا وأقربهم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيلة وتأمرني بالدخول في طاعتك طاعة أبعد الناس من هذا الأمر وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلًا وأبعدهم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيلة ولد ضالين مضلين طاغوتٍ من طواغيت إبليس‏!‏ وأما قولك إني مالىء عليك مصر خيلًا ورجالًا فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهم إليك إنك لذو جد والسلام‏.‏

فلما رأى معاوية كتابه أيس منه وثقل عليه مكانه ولم تنجع حيله فيه فكاده من قبل علي فقال لأهل الشام‏:‏ لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوه فإنه لنا شيعة قد تأتينا كتبه ونصيحته سرًا ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خرنبا يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويحسن إليهم‏!‏ وافتعل كتابًا عن قيس إليه بالطلب بدم عثمان والدخول معه في ذلك وقرأه على أهل الشام‏.‏

فبلغ ذلك عليًا أبلغه ذلك محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب وأعلمته عيونه بالشام فأعظمه وأكبره فدعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك‏.‏

فقال ابن جعفر‏:‏ يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يربيك اعزل قيسًا عن مصر‏.‏

فقال علي‏:‏ إني والله ما أصدق بهذا عنه‏.‏

فقال عبد الله‏:‏ اعزله فإن كان هذا حقًا لا يعتزل لك‏.‏

فإنهك كذلك إذ جاءهم كتاب من قيس يخبر أمير المؤمنين بحال المعتزلين وكفه عن قتالهم‏.‏

فقال ابن جعفر‏:‏ ما أخوفني أن يكون ذلك ممالأة منه فمره بقتالهم‏.‏

فكتب إليه يأمره بقتالهم فلما قرأ الكتاب كتب جوابه‏:‏ أما بعد فقد عجبت لأمرك تأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لعدوك‏!‏ ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوك فأطعني يا أمير المؤمنين واكفف عنهم فإن الرأي تركهم والسلام‏.‏

فلما قرأ علي الكتاب قال ابن جعفر‏:‏ يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر على مصر واعزل قيسًا فقد بلغني أن قيسًا يقول‏:‏ إن سلطانًا لا يستقيم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء‏.‏

وكان ابن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه فبعث علي محمد بن أبي بكر إلى مصر وقيل‏:‏ بعث الأشتر النخعي فمات بالطريق فبعث محمدًان فقدم محمد على قيس بمصر فقال له قيس‏:‏ ما بال أمير المؤمنين ما غيره دخل أحد بيني وبينه قال‏:‏ لا وهذا السلطان سلطانك‏.‏

قال‏:‏ لا والله لا أقيم‏.‏

وخرج منها مقبلًا إلى المدينة وهو غضبان لعزله فجاءه حسان بن ثابت وكان عثمانيًان يشمت به فقال له‏:‏ قتلت عثمان ونزعك علي فبقي عليك الإثم ولم يحسن لك الشكر‏!‏ فقال له قيس‏:‏ يا أعمى القلب والبصر‏!‏ والله لولا أن ألقي بين رهطي ورهطك حربًا لضربت عنقك‏!‏ اخرج عني‏!‏ ثم أخاف مروان بن الحكم قيسًا بالمدينة فخرج منها هو وسهل بن حنيف إلى علي فشهدا معه صفين‏.‏

فكتب معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له‏:‏ لو أمددت عليًا بمائة ألف مقاتل لكان أيسر عندي من قيس بن سعد في رأيه ومكانه‏.‏

فلما قدم قيس على علي وأخبره الخبر علم أنه كان يقاسي أمورًا عظامًا من المكايدة ولما قدم محمد مصر قرأ كتاب علي على أهل مصر ثم قام فخطب فقال‏:‏ الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق وبصرنا وإياكم كثيرًا مما كان عمي عنه الجاهلون‏.‏

ألا إن أمير المؤمنين ولاني أمركم وعهد إلي ما سمعتم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله فاحمدوا الله على ما كان من ذلك فإنه هو الهادي له وإن رأيتم عاملًا لي عمل بغير الحق فارفعوه إلي وعاتبوني فيه فإني بذلك أسعد وأنتم بذلك جديرون وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته‏.‏

ثم نزل ولبث شهرًا كاملًا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس فقال لهم‏:‏ إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا‏.‏

فأجابوه‏:‏ إنا لا نفعل فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمرنا فلا تعجل لحربنا‏.‏

فأبى عليهم فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم فكانت وقعة صفين وهم هائبون لمحمد‏.‏

فلما رجع علي عن معاوية وصار الأمر إلى التحكيم طمعوا في محمد وأظهروا له المبارزة فبعث محمد الحرث بن جمهان الجعفي إلى أهل خرنبا وفيها يزيد بن الحرث مع بني كنانة ومن معه فقاتلهم فقاتلوه وقتلوه‏.‏

فبعث محم إليهم أيضًا ابن مضاهم الكلبي فقتلوه‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه جرى بين محمد ومعاوية مكاتبات كرهت ذكرها فإنها مما لا يحتمل سماعها وفيها قدم أبراز مرزبان مرو إلى علي بعد الجمل مقرًا بالصلح فكتب له كتابًا إلى دهاقين مرو والأساورة ومن بمرو ثم إنهم كفروا وأغلقوا نيسابور فبعث علي خليد بن قرة وقيل‏:‏ ابن طريف اليربوعي إلى خراسان‏.‏

 ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية ومتابعته

له قيل‏:‏ كان عمرو بن العاص قد سار عن المدينة قبل أن يقتل عثمان نحو فلسطين‏.‏

وسبب ذلك أنه لما أحيط بعثمان قال‏:‏ يا أهل المدينة لا يقيم أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله بذل من لم يستطع نصره فليهرب‏.‏

فسار وقيل غير ذلك وقد تقدم وسار معه ابناه عبد الله ومحمد فسكن فلسطين فمر به راكب من المدينة فقال له عمرو‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ حصيرة‏.‏

قال عمرو‏:‏ حصر الرجل‏!‏ فما الخبر قال‏:‏ تركت عثمان محصورًا‏.‏

ثم مر به راكب آخر بعد أيام فقال له عمرو‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ قتال‏.‏

قال‏:‏ قتل الرجل‏!‏ فما الخبر قال‏:‏ قتل عثمان ولم يكن شيء إلى أن سرت‏.‏

ثم مر به راكب من المدينة فقال له عمرو‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ حرب‏.‏قال عمرو‏:‏ يكون حرب وقال له‏:‏ ما الخبر فقال‏:‏ بايع الناس عليًا‏.‏

فقال سلم بن زنباع‏:‏ يا معشر العرب كان بينكم وبين العرب باب فكسر فاتخذوا بابًا غيره‏.‏

فقال عمرو‏:‏ ذلك الذي نريده‏.‏

ثم ارتحل عمرو راجلًا معه ابناه يبكي كما تبكي المرأة وهو يقول‏:‏ واعثماناه‏!‏ أنعى الحياء والدين‏!‏ حتى قدم دمشق وكان قد علم الذي يكون فعمل عليه لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد بعثه إلى عمان فسمع من حبر هناك شيئًا عرف مصداقه فسأله عن وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن يكون بعده فأخبره بأبي بكر وأن مدته قصيرة ثم يلي بعده رجل من قومه مثله تطول مدته ويقتل غيلة ثم يلي بعده رجل من قومه تطول مدته ويقتل عن ملإٍ قال‏:‏ ذلك أشد ثم يلي بعده رجل من قومه ينتشرالناس عليه ويكون على رأسه حرب شديدة ثم يقتل قبل أن يجتمع الناس عليه ثم يلي بعده أمير الأرض المقدسة فيطول ملكه وتجتمع عليه أهل تلك الفرقة ثم يموت‏.‏

وقيل‏:‏ إن عمرًا لما بلغه قتل عثمان قال‏:‏ أنا أبو عبد الله أنا قتلته وأنا بوادي السباع إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب سيبًا وإن يله ابن أبي طالبٍ فهو أكره من يليه إلي‏.‏

فبلغه بيعة علي فاشتد عليه وأقام ينتظر ما يصنع الناس فأتاه مسير عائشة وطلحة والزبير فأقام ينتظر ما يصنعون فأتاه الخبر بوقعة الجمل فأرتج عليه أمره فسمع أن معاوية بالشام لا يبايع عليًا وأنه يعظم شأن عثمان وكان معاوية أحب إليه من علي فدعا ابنيه عبد الله ومحمدًا فاستشارهما

وقال‏:‏ ما تريان أما علي فلا خير عنده وهو يدل بسابقته وهو غير مشركي في شيء من أمره‏.‏فقال له ابنه عبد الله‏:‏ توفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر وعمر وهم عنك راضون فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه‏.‏

وقال له ابنه محمد‏:‏ أنت نابٌ من أنياب العرب ولا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت‏.‏

فقال عمرو‏:‏ أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في آخرتي وأسلم لي في ديني وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي وشر لي في آخرتي‏.‏

ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان وقال عمرو‏:‏ أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم ومعاوية لا يلتفت إليه فقال لعمرو وابناه‏:‏ ألا ترى معاوية لا يلتفت إليك فانصرف إلى غيره‏.‏

فدخل عمرو على معاوية فقال له‏:‏ والله لعجب لك‏!‏ إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا‏.‏

فصالحه معاوية وعطف عليه‏.‏

 ذكر ابتداء وقعة صفين

لما عاد علي من البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة وأرسل إلى جرير ابن عبد الله البجلي وكان عاملًا على همذان استعمله عثمان وإلى الأشعث ابن قيس وكان على أذربيجان استعمله عثمان أيضًا يأمرهما بأخذ البيعة والحضور عنده فلما حضرا عنده أراد علي أن يرسل رسولًا إلى معاوية قال جرير‏:‏ أرسلني إليه فإنه لي ود‏.‏

فقال الأشتر‏:‏ لا تفعل فإن هواه مع معاوية‏.‏

فقال علي‏:‏ دعه حتى ننظر ما الذي يرجع إلينا به‏.‏

فبعثه وكتب معه كتابًا إلى معاوية يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ونكث طلحة والزبير وحربه إياهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته‏.‏

فسار جرير إلى معاوية فلما قدم عليه ماطله واستنظره واستشار عمرًا فاشار عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم عليًا دم عثمان ويقاتله بهم ففعل معاوية ذلك وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيخ مخضوبًا بالدم بأصابع زوجته نائلة إصبعان منها وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام وضع معاوية القميص على المنبر وجمع الأجناد إليه فبكوا على القميص مدة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه واقسم رجال من أهل الشام أن لا يمسهم الماء إلا للغسل من الجنابة وأن لا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن قام دونهم قتلوه‏.‏

فلما عاد جرير إلى أمير المؤمنين علي وأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشام معه على قتاله وأنهم يبكون على عثمان ويقولون‏:‏ إن عليًا قتله وآوى قتلته وأنهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه قال الأشتر لعلي‏:‏ قد كنت نهيتك أن ترسل جريرًا وأخبرتك بعداوته وغشه ولو كنت أرسلتني لكان خيرًا من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع بابًا يرجو فتحه إلا فتحه ولا بابًا يخاف منه إلا أغلقه‏.‏

فقال جرير‏:‏ لو كنت ثم لقتلوك لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان‏.‏

فقال الأشتر‏:‏ والله لو أتيتهم لم يعيني جوابهم ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك حتى يستقيم هذا الأمر‏.‏

فخرج جرير إلى قرقيسيا وكتب إلى معاوية فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم إليه‏.‏

وقيل‏:‏ كان الذي حمل معاوية على رد جرير البجلي غير مقضي الحاجة شرحبيب بن السمط الكندي‏.‏

وكان سبب ذلك أن شرحبيلًا كان قد سيره عمر بن الخطاب إلى العراق إلى سعد بن أبي وقاص وكان معه فقدمه سعد وقربه فحسده الأشعث بن قيس الكندي لمنافسة بينهما فوفد جرير البجلي على عمر فقال له الأشعث‏:‏ إن قدرت أن تنال من شرحبيل عند عمر فافعل‏.‏

فلما قدم على عمر سأله عمر عن الناس فأحسن الثناء على سعد قال‏:‏ وقد قال شعرًا‏:‏ ألا ليتني والمرء سعد بن مالك وزبرًا وابن السمط في لجة البحر فكتب عمر إلى سعد يأمره بأن يرسل زبرًا وشرحبيلًا إليه فأرسلهما فأمسك زبرًا بالمدينة وسير شرحبيلًا إلى الشام فشرف وتقدم وكان أبوه السمط من غزة الشام‏.‏

فلما قدم جرير بكتاب علي إلى معاوية في البيعة انتظر معاوية قدوم شرحبيل فلما قدم عليه أخبره معاوية بما قدم فيه جرير فقال‏:‏ كان أمير المؤمنين عثمان خليفتنا فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا‏.‏

فانصرف جرير فقال النجاشي‏:‏ شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا ولكن لبغض المالكي جرير وقولك ما قد قلت عن أمر أشعثٍ فأصبحت كالحادي بغير بعير جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك فنسب إلى جده مالك‏.‏

وخرج علي فعسكر بالنخيلة وتخلف عنه نفر من أهل الكوفة منهم‏:‏ مرة الهمذاني ومسروق أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين فأما مسروق فإنه كان يستغفر الله من تخلفه عن علي بصفين وقدم عليه عبد الله بن عباس فيمن معه من أهل البصرة وبلغ ذلك معاوية فاستشار عمرًا فقال‏:‏ أما إذا سار علي فسر إليه بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك‏.‏فتجهز معاوية وتجهز الناس وحضهم عمرو وضعف عليًا وأصحابه وقال‏:‏ إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم ووهنوا شوكتهم وفلوا حدهم وأهل البصرة مخالفون لعلي بمن قتل منهم وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل وإنما سار علي في شرذمة قليلة وقد قتل خليفتكم والله الله في حقكم أن تضيعوه وفي دمكم أن تطلوه‏!‏ وكتب معاوية أهل الشام وعقد لواء لعمرو ولواء لابنيه عبد الله ومحمد ولواء لغلامه وردان وعقد علي لواء لغلامه قنبر فقال عمرو‏:‏ هل يغنين وردان عني قنبرا وتغني السكون عني حميرا إذا الكماة لبسوا السنورا فبلغ ذلك عليًا فقال‏:‏ لأصبحن العاصي ابن العاصي سبعين ألفًا عاقدي النواصي مجنبين الخيل بالقلاص مستحقبين حلق الدلاص فلما سمع معاوية ذلك قال‏:‏ ما أرى عليًا إلا وقد وفى لك‏.‏

وسار معاوية وتأنى في مسيره فلما رأى ذلك الوليد بن عقبة بعث إليه يقول‏:‏ ألا ابلغ معاوية بن حربٍ فإنك من أخي ثقةٍ مليم قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق فما تريم وإنك والكتاب إلى عليٍ كدابغةٍ وقد حلم الأديم يمينك الإمارة كل ركبٍ لأنقاض العراق بها رسيم ولو كنت القتيل وكان حيًا لجرد لا ألف ولا غشوم ولا نكلٌ عن الأوتار حتى يبيء بها ولا برمٌ جثوم وقومك بالمدينة قد أبيروا فهم صرعى كأنهم الهشيم فكتب إليه معاوية‏:‏ ومستعجبٍ مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم وبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثماني آلاف وبعث مع شريح ابن هانئ أربعة آلاف وسار علي من النخيلة وأخذ معه من بالمدائن من المقاتلة وولى على المدائن سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد الثقفي‏.‏

ولما سار علي كان معه نابغة بني جعدة فحدا به يومًا فقال‏:‏ قد علم المصران والعراق أن عليًا فحلها العتاق أبيض جحجاحٌ له رواق إن الأولى جاروك لا أفاقوا لكم سباقٌ ولهم سباق قد علمت ذلكم الرفاق ووجه عليٌّ من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه على الرقة فلما وصل إلى الرقة قال لأهلها ليعملوا له جسرًا يعبر عليه إلى الشام فأبوا وكانوا قد ضموا سفنهم إليهم فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج وخلف عليهم الأشتر فناداهم الأشتر وقال‏:‏ أقسم بالله لئن لم تعملوا جسرًا يعبر عليه أمير المؤمنين لأجردن فيكم السيف ولأقتلن الرجال ولآخذن الأموال‏!‏ فلقي بعضهم بعضًا وقالوا‏:‏ إنه الأشتر وإنه قمنٌ أن يفي لكم بما حلف عليه أو يأتي بأكثر منه‏.‏

فنصبوا له جسرًا وعبر عليه علي وأصحابه وازدحموا عليه فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي فنزل فأخذها ثم ركب وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج الأزدي فنزل فأخذها ثم قال لصاحبه‏:‏ فإن يك ظن الزاجري الطير صادقًا كما زعموا أقتل وشيكًا وتقتل فقال ابن أبي الحصين‏:‏ ما شيء أحب إلي مما ذكرت‏!‏ فقتلا جميعًا بصفين‏.‏

ولما بلغ علي الفرات دعا زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانىء فسرحهما أمامه في اثني عشر ألفًا نحو معاوية على حالهما التي خرجا عليها من الكوفة‏.‏

وكان سبب عودهما إليه أنهما حيث سيرهما علي من الكوفة أخذا على شاطىء الفرات مما يلي البر‏.‏

فلما بلغا عانات بلغهما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام فقالا‏:‏ لا والله ما هذا لنا برأي نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر‏!‏ وما لنا خير في أن نلقى جنود الشام بقلة من معنا‏.‏

فذهبوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهلها‏.‏

فرجعوا فعبروا من هيت فلحقوا عليًا دون قرقيسيا فلما لحقوا عليًا

قال‏:‏ مقدمتي تأتيني من ورائي‏.‏

فأخبره شريح وزياد بما كان فقال‏:‏ سددتما‏.‏

فلما عبر الفرات سيرهما أمامه فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فأرسلا إلى علي فأعلماه فأرسل علي إلى الأشتر وأمره بالسرعة وقال له‏:‏ إذا قدمت فأنت عليهم وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدأوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة واجعل على ميمنتك زيادًا وعلى ميسرتك شريحًا ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك فإني حثيث المسير في إثرك إن شاء الله تعالى‏.‏

وكتب علي إلى شريح وزياد بذلك وأمرهما بطاعة الأشتر‏.‏

فسار الأشتر حتى قدم عليهم واتبع ما أمره وكف عن القتال ولم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي فثبتوا له واضطربوا ساعة ثم انصرف أهل الشام وخرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال وخرج إليه أبو الأعور فاقتتلوا يومهم وصبر بعضهم لبعض ثم انصرفوا وحمل عليهم الأشتر وقال‏:‏ أروني أبا الأعور وتراجعوا ووقف أبو الأعور وراء المكان الذي كان فيه أول مرة وجاء الأشتر فصف أصحابه بمكان أبي الأعور بالأمس فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي‏:‏ انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى البراز‏.‏

فقال‏:‏ إلى مبارزتي أو مبارزتك‏.‏

فقال الأشتر‏:‏ لو أمرتك بمبارزته فعلت قال‏:‏ نعم والله لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت‏!‏ فدعا له وقال‏:‏ إنما تدعوه لمبارزتي‏.‏

فخرج إليهم فقال‏:‏ آمنوني فإني رسول فآمنوه فانتهى إلى أبي الأعور وقال له‏:‏ إن الأشتر يدعوك إلى أن تبارزه فسكت طويلًا ثم قال‏:‏ إن خفة الأشتر وسوء رأيه حملاه على إجلاء عمال عثمان عن العراق وتقبيح محاسنه وعلى أن سار إليه في داره حتى قتله فأصبح متبعًا بدمه لا حاجة لي في مبارزته‏.‏

قال له الرسول‏:‏ قد قلت فاسمع مني أجبك‏.‏

قال‏:‏ لا حاجة لي في جوابك اذهب عني‏!‏ فصاح به أصحابه فانصرف عنه ورجع إلى الأشتر فأخبره فقال‏:‏ لنفسه نظر‏.‏

فوقفوا حتى حجز الليل بينهم وعاد الشاميون من الليل وأصبح عليٌّ غدوة عند الأشتر وتقدم الأشتر ومن معه فانتهى إلى معاوية فواقفه ولحق بهم علي فتواقفوا طويلًا‏.‏

ثم إن عليًا طلب لعسكره موضعًا ينزل فيه وكان معاوية قد سبق فنزلا منزلًا اختاره بسيطًا واسعًا أفيح وأخذ شريعة الفرات وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها وجعلها في حيزه وبعث عليها أبا الأعور السلمي يحميها ويمنعها فطلب أصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا فأتوا عليًا فأخبروه بفعلهم وبعطش الناس فدعا صعصعة بن صوحان فأرسله إلى معاوية يقول له‏:‏ إنا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم فقدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك وهذه أخرى قد فعلتموها منعتم الناس عن الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء وليكفوا لننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له فإن أردت أن نترك ما جئنا له ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا‏.‏

فقال معاوية لأصحابه‏:‏ ما ترون فقال الوليد بن عقبة وعبد الله بن سعد‏:‏ امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان اقتلهم عطشًا قتلهم الله‏!‏ فقال عمرو بن العاص‏:‏ خل بين القوم وبين الماء وإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ولكن بغير الماء فانظر فيما بينك وبين الله‏.‏

فأعاد الوليد وعبد الله بن سعد مقالتهما وقالا‏:‏ امنعهم الماء إلى الليل فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمة امنعهم الماء منعهم الله إياه يوم القيامة‏!‏ قال صعصعة‏:‏ إنما يمنعه الله الفجرة وشربة الخمر لعنك الله ولعن هذا الفاسق‏!‏ يعني الوليد بن عقبة‏.‏

فشتموه وتهددوه‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الوليد وابن أبي سرح لم يشهدا صفين‏.‏

فرجع صعصعة فأخبره بما كان وأن معاوية قال‏:‏ سيأتيكم رأيي فسرب الخيل إلى أبي الأعور ليمنعهم الماء فلما سمع علي ذلك قال‏:‏ قاتلوهم على الماء‏.‏

فقال الأشعث بن قيس الكندي‏:‏ أنا أسير إليهم‏.‏

فسار إليهم فلما دنوا منهم ثاروا في وجوههم فرموهم بالنبل فتراموا ساعةً ثم تطاعنوا بالرماح ثم صاروا إلى السيوف فاقتتلوا ساعة وأرسل معاوية يزيد بن أسد البجلي القسري جد خالد بن عبد الله القسري في الخيل إلى أبي الأعور فأقبلوا فأرسل علي شبث بن ربعي الرياحي فازداد القتال فأرسل معاوية عمرو بن العاص في جند كثير فأخذ يمد أبا الأعور ويزيد بن أسد وأرسل علي الأشتر في جمع عظيم وجعل يمد الأشعث وشبثًا فاشتد القتال فقال عبد الله بن عوف الأزدي الأحمري‏:‏ خلوا لنا ماء الفرات الجاري أو اثبتوا لجحفلٍ جرار لكل قرمٍ مستميتٍ شاري مطاعن برمحه كرار ضراب هامات العدى مغوار لم يخش غير الواحد القهار وقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء وصار في أيدي أصحاب علي فقالوا‏:‏ والله لا نسقيه أهل الشام‏!‏ فأرسل علي إلى أصحابه‏:‏ أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم فإن الله نصركم ببغيهم وظلمهم‏.‏

ومكث علي يومين لا يرسل إليهم أحدًا ولا يأتيه أحد ثم إن عليًا دعا أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم‏:‏ ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة‏.‏

فقال له شبث‏:‏ يا أمير المؤمنين ألا تطمعه في سلطان توليه إياه أو منزلة تكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك قال‏:‏ انطلقوا إليه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه‏.‏

وهذا في أول ذي الحجة‏.‏

فأتوه فدخلوا عليه فابتدأ بشير بن عمرو الأنصاري فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ يا معاوية إن الدنيا عنك زائلةٌ وإنك راجع إلى الآخرة وإن الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه وإني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها بينها‏.‏

فقطع عليه معاوية الكلام وقال‏:‏ هلا أوصيت بذلك صاحبك فقال أبو عمرو‏:‏ إن صاحبي ليس مثلك إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ فماذا يقول قال‏:‏ يأمرك بتقوى الله وأن تجيب انب عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك‏!‏ قال معاوية‏:‏ ونترك دم ابن عفان لا والله لا أفعل ذلك أبدًا‏.‏

قال‏:‏ فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن إنه والله لا يخفى علينا ما تطلب إنك لم تجد شيئًا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك‏:‏ قتل إمامكم مظلومًا فنحن نطلب دمه فاستجاب لك سفهاء طغام وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ورب متمني أمر وطالبه يحول الله دونه وربما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته ووالله ما لك في واحدة منهما خير‏!‏ والله إن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالًا‏!‏ ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار‏!‏ فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله‏.‏

قال‏:‏ فحمد معاوية الله ثم قال‏:‏ أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك أن قطعت على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ثم اعترضت بعد فيما لا علم لك به فقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت‏!‏ انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف‏.‏

وغضب وخرج القوم‏.‏

فقال له شبث بن ربعي‏:‏ أتهول بالسيف أقسم بالله لنعجلنها إليك‏.‏

فأتوا عليًا فأخبروه بذلك فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه ويخرج إليه آخر من أصحاب معاوية ومعه جماعة فيقتتلان في خيلهما ثم ينصرفان وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام لما خافوا أن يكون فيه من الاستئصال والهلاك فكان علي يخرج مرة الأشتر ومرةً حجر بن عدي الكندي ومرةً شبث بن ربعي ومرةً خالد بن المعمر ومرةً زياد بن النضر الحارثي ومرةً زياد بن خصفة التيمي ومرة سعيد بن قيس الهمداني ومرةً معقل بن قيس الرياحي ومرةً قيس بن سعد الأنصاري وكان الأشتر أكثرهم خروجًا‏.‏

وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأبا الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة الفهري وابن ذي الكلاع الحميري وعبيد الله ابن عمر بن الخطاب وشرحبيب بن السمط الكندي وحمرة بن مالك الهمداني فاقتتلوا أيام ذي الحجة كلها وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين‏.‏

 ذكر عدة حوادث

في هذه السنة مات حذيفة بن اليمان بعد قتل عثمان بيسير ولم يدرك الجمل وقتل ابناه صفوان وسعيد مع علي بصفين بوصية أبيهما وقيل‏:‏ مات سنة خمس وثلاثين والأول أصح‏.‏

وفيها مات سلمان الفارسي في قول بعضهم وكان عمره مائتين وخمسين سنة هذا أقل ما قيل فيه وقيل‏:‏ ثلثمائة وخمسون سنة وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح عليه السلام‏.‏

وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح مات بعسقلان حيث خرج معاوية إلى صفين وكره الخروج معه‏.‏

ومات فيها عبد الرحمن بن عديس البلوي أمير القادمين من مصر لقتل عثمان وكان ممن بايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت الشجرة وقيل‏:‏ بل قتل بالشام‏.‏

وفيها مات قدامة بن مظعون الجمحي وهو من مهاجرة الحبشة وشهد بدرًا‏.‏

وفيها توفي عمرو بن أبي عمرو بن ضبة الفهري أبو شداد شهد بدرًا‏.‏

وفيها استعمل علي على الري يزيد بن حجية التيمي تيم اللات فكسر من خراجها ثلاثين ألفًا فكتب إليه يستدعيه فحضر فسأله عن المال قال‏:‏ أين ما غللته من المال قال‏:‏ ما أخذت شيئًا‏!‏ فخفقه بالدرة خفقات وحبسه ووكل به سعدًا مولاه فهرب منه يزيد إلى الشام فسوغه معاوية المال فكان ينال من علي وبقي بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية فسار معه إلى العراق فولاه الري فقيل‏:‏ إنه شهد مع علي الجمل وصفين والنهروان ثم ولاه الري وهو الصحيح فكان ما تقدم ذكره‏.‏