فصل: ذكر ملك كسرى شيروية بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر ملك كسرى أبرويز بن هرمز

وكان من أشد ملوكهم بطشًا وأنفذهم رأيًا وبلغ من البأس والنجدة وجمع الأموال ومساعدة الأقدار ما يبلغه ملك قبله ولذلك لقب أبرويز ومعناه المظفر وكان في حياة أبيه قد سعى به بهرام جوبين إلى أبيه أنه يريد الملك لنفسه فلما علم ذلك سار إلى أذربيجان سرًا وقيل غير ذلك وقد تقدم فلما وصلها بايعه من كان بها من العظماء واجتمع من بالمدائن على خلع أبيه فلما سمع أبرويز بادر الوصول إلى المدائن قبل بهرام جوبين فدخلها قبله ولبس التاج وجلس على السرير ثم دخل على أبيه وكان قد سلم فأعلمه أنه بريء مما فعل به وإنما كان هربه للخوف منه فصدقه وسأله أن يرسل إليه كل يوم من يؤنسه وأن ينتقم ممن خلعه وسلم عينيه فاعتذر بقرب بهرام منه في العساكر وأنه لا يقدر على أن ينتقم ممن فعل به ذلك إلا بعد الظفر ببهرام‏.‏ وسار بهرام إلى النهروان وسار أبرويز إليه فالتقيا هناك ورأى أبرويز من أصحابه فتورًا في القتال فانهزم ودخل على أبيه وعرفه الحال فاستشاره فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم وجهز ثانيًا وسار في عدة يسير فيهم خالاه بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام فلما خرجوا من المدائن خاف من معه أن بهرام يرد هرمز إلى الملك ويرسل إلى ملك الروم في ردهم فيردهم إليه فاستأذنوا أبرويز في قتل أبيه هرمز فلم يحر جوابًا فانصرف بندويه وبسطام وبعض من معهم إلى هرمز فقتلوه خنقًا ثم رجعوا إلى أبرويز وساروا مجدين إلى أن جاوزوا الفرات ودخلوا ديرًا يستريحون فيه فلما دخلوا غشيتهم خيل بهرام جوبين ومقدمها رجل اسمه بهرام بن سياوش فقال بندويه لأبرويز‏:‏ احتل لنفسك‏.‏

قال‏:‏ ما عندي حيلة‏!‏ قال بنديوه‏:‏ أنا أبذل نفسي دونك وطلب منه بزته فلبسها وخرج أبرويز ومن معه من الدير وتواروا بالجبل ووافى بهرام الدير فرأى بندويه فوق الدير عليه بزة أبرويز فاعتقده هو وسأله أن ينظره إلى غد ليصير إليه سلمًا ففعل ثم ظهر من الغد على حيلته فحمله إلى بهرام جوبين فحبسه‏.‏

ودخل بهرام جوبين دار الملك وقعد على السرير ولبس التاج فانصرفت الوجوه عنه ولكن الناس أطاعوه خوفًا وواطأ بهرام بن سياوش بندويه على الفتك ببهرام جوبين فعلم بهرام جوبين بذلك فقتل بهرام وأفلت بندويه فلحق بأذربيجان‏.‏

وسار أبرويز إلى إنطاكية وأرسل أصحابه إلى الملك فوعده النصرة وتزوج أبرويز ابنة الملك موريق واسمها مريم وجهز معه العساكر الكثيرة فبلغت عدتهم سبعين ألفًا فيهم رجل يعد بألف مقاتل فرتبهم أبرويز وسار بهم إلى أذربيجان فوافاه بندويه وغيره من المقدمين والأساورة في أربعين ألف فارس من أصبهان وفارس وخراسان وسار إلى المدائن‏.‏

وخرج بهرام جوبين نحوه فجرى بينهما حرب شديدة فقتل فيها الفارس الرومي الذي يعد بألف فارس ثم انهزم بهرام جوبين وسار إلى الترك وسار أبرويز من المعركة ودخل المدائن وفرق الأموال في الروم فبلغت جملتها عشرين ألف ألف فأعادهم إلى بلادهم‏.‏

وأقام بهرام جوبين عند الترك مكرمًا فأرسل أبرويز إلى زوجة الملك وأجزل لها الهدية من الجواهر وغيرها وطلب منها قتل بهرام فوضعت عليه من قتله فاشتد قتله على ملك الترك ثم علم أن زوجته قتلته فطلقها‏.‏

ثم إن أبرويز قتل بندويه وأراد قتل بسطام فهرب منه إلى طبرستان لحصانتها فوضع أبرويز عليه فقتله‏.‏

وأما الروم فإنهم خلعوا ملكهم موريق بعد أربع عشرة سنة من ملك أبرويز وقتلوه وملكوا عليهم بطريقًا اسمه فوقاس فأباد ذرية موريق سوى ابن له هرب إلى كسرى أبرويز فأرسل معه العساكر وتوجه وملكه على الروم وجعل على عساكره ثلاثة نفر من قواده وأساورته وأما أحدهم فكان يقال له بوران وجهه في جيش منها إلى الشام فدخلها حتى انتهى إلى البيت المقدس فأخذ خشبة الصليب التي تزعم النصارى أن المسيح عليه السلام صلب عليها فأرسلها إلى كسرى أبرويز وأما القائد الثاني فكان يقال له شاهين فسيره في جيش آخر إلى مصر فافتتحها وأرسل مفاتيح الإسكندرية إلى أبرويز وأما القائد الثالث وهو أعظمهم فكان يقال له فرخان وتدعى مرتبته شهربراز وجعل مرجع القائدين الأولين إليه وكانت والدته منجبة لا تلد إلا نجيبًا فأحضرها أبرويز وقال لها‏:‏ إني أريد أن أوجه جيشًا إلى الروم استعمل عليه بعض بنيك فأشيري علي أيهم أستعمل‏.‏

فقالت‏:‏ أما فلان فأروغ من ثعلب وأحذر من صقر وأما فرخان فهو أنفذ من سنان وأما شهربراز فهو أحلم من كذا‏.‏

فقال‏:‏ قد استعملت الحليم فولاه أمر الجيش فسار إلى الروم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع أشجارهم وسار في بلادهم إلى القسطنطينية حتى نزل على خليجها القريب منها ينهب ويغير ويخرب فلم يخضع لابن موريق أحد ولا أطاعه غير أن الروم قتلوا فوقاس لفساده وملكوا عليهم بعده هرقل وهو الذي أخذ المسلمون الشام منه‏.‏

فلما رأى هرقل ما أهم الروم من النهب والقتل والبلاء تضرع إلى الله تعالى ودعاه فرأى في منامه رجلًا كث اللحية رفيع المجلس عليه بزة حسنة فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل‏:‏ إني قد أسلمته في يدك فاستيقظ فلم يقص رؤياه فرأى في الليلة الثانية ذلك الرجل جالسًا في مجلسه وقد دخل الرجل الثالث وبيده سلسلة فألقاها في عنق ذلك الرجل وسلمه إلى هرقل وقال‏:‏ قد دفعت إليك كسرى برمته فاغزه فإنك دمالٌ عليه وبالغ أمنيتك في أدعائك‏.‏

فقص حينئذٍ هذه الرؤيا على عظماء الروم فأشاروا عليه أن يغزوه فاستعد هرقل واستخلف ابنًا له على القسطنطينية وسلك غير الطريق الذي عليه شهربراز وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية وقصد الجزيرة فنزل نصيبين فأرسل إليه كسرى جندًا وأمرهم بالمقام بالموصل وأرسل إلى شهربراز يستحثه على القدوم ليتضافرا على قتال هرقل‏.‏

وقيل في مسيره غير هذا وهو أن شهربراز سار إلى بلاد الروم فوطئ الشام حتى وصل إلى أذرعات ولقي جيوش الروم فهزمها وظفر بها وسبى وغنم وعظم شأنه‏.‏

ثم إن فرخان أخا شهربراز شرب الخمر يومًا وقال‏:‏ لقد رأيت في المنام كأني جالس في سرير كسرى فبلغ الخبر كسرى فكتب إلى أخيه شهربراز يأمره بقتله فعاوده وأعلمه شجاعته ونكايته في العدو فعاد كسرى وكتب إليه بقتله فراجعه فكتب إليه الثالثة فلم يفعل فكتب كسرى بعزل شهربراز وولاية فرخان العسكر فأطاع شهربراز فلما جلس على سرير الإمارة ألقى إليه القاصد بولايته كتابًا صغيرًا من كسرى يأمره بقتل شهربراز فعزم على قتله فقال له شهربراز‏:‏ أمهلني حتى أكتب وصيتي فأمهله فأحضر درجًا وأخرج منه كتب كسرى الثلاثة وأطلعه عليها وقال‏:‏ أنا راجعت فيك ثلاث مرات ولم أقتلك وأنت تقتلني في مرة واحدة فاعتذر أخوه إليه وأعاده إلى الإمارة واتفقا على موافقة ملك الروم على كسرى فأرسل شهربراز إلى هرقل‏:‏ إن لي إليك حاجةً لا يبلغها البريد ولا تسعها الصحف فالقني في خمسين روميًا فإني ألقاك في خمسين فارسيًا‏.‏

فأقبل قيصر في جيوشه جميعها ووضع عيونه تأتيه بخبر شهربراز وخاف أن يكون مكيدة فأتته عيونه فأخبروه أنه في خمسين فارسيًا فحضر عنده في مثلها واجتمعا وبينهما ترجمان فقال له‏:‏ أنا وأخي خربنا بلادك وفعلنا ما علمت وقد حسدنا كسرى وأراد قتلنا وقد خلعناه ونحن نقاتل معك‏.‏

ففرح هرقل بذلك واتفقا عليه وقتلا الترجمان لئلا يفشي سرهما وسار هرقل في جيشه إلى نصيبين‏.‏

وبلغ كسرى أبرويز الخبر وأرسل هرقل قائدًا من قواده اسمه راهزار في اثني عشر ألفًا وأمره أن يقيم بنينوى من أرض الموصل على دجلة يمنع هرقل من أن يجوزها وأقام هو بدسكرة الملك فأرسل راهزار العيون فأخبروه أن هرقل في سبعين ألف مقاتل فأرسل إلى كسرى يعرفه ذلك وأنه يعجز عن قتال هذا الجمع الكثير فلم يعذره وأمره بقتاله فأطاع وعبى جنده وسار هرقل نحو جنود كسرى وقطع دجلة من غير الموضع الذي فيه راهزرا فقصده راهزار ولقيه فاقتتلوا راهزار وستة آلاف من أصحابه وانهزم الباقون‏.‏وبلغ الخبر أبرويز وهو بدسكرة الملك فهده ذلك وعاد إلى المدائن وتحصن بها لعجزه عن محاربة هرقل وكتب إلى قواد الجند الذين انهزموا يتهددهم بالعقوبة فأحوجهم إلى الخلاف عليه على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وسار هرقل حتى قارب المدائن ثم عاد إلى بلاده‏.‏

وكان سبب عوده أن كسرى لما عجز عن هرقل أعمل الحيلة فكتب كتابًا إلى شهربراز يشكره ويثني عليه ويقول له‏:‏ أحسنت في فعل ما أمرتك به من مواصلة ملك الروم وتمكينه من البلاد والآن فقد أوغل وأمكن من نفسه فتجيء أنت من خلفه وأنا من بين يديه ويكون اجتماعنا عليه يوم كذا فلا يفلت منهم أحد‏.‏

ثم جعل الكتاب في عكاز ابنوس وأحضر راهبًا كان في دير عند المدائن وقال له‏:‏ لي إليك حاجة‏.‏

فقال الراهب‏:‏ الملك أكبر من أن يكون له إلي حاجة ولكنني عبده‏.‏

قال‏:‏ إن الروم قد نزلوا قريبًا منا وقد حفظوا الطرق عنا ولي إلي أصحابي الذين بالشام حاجة وأنت نصراني إذا جزت على الروم لا ينكرونك وقد كتبت كتابًا وهو في هذه العكازة فتوصله إلى شهربراز وأعطاه مائتي دينار‏.‏

فأخذ الكتاب وفتحه وقرأه ثم أعاده وسار فلما صار بالعسكر ورأى الروم والرهبان والنواقيس رق قلبه وقال‏:‏ أنا شر الناس إن أهلكت النصرانية‏!‏ فأقبل إلى سرادق الملك وأنهى حاله وأوصل الكتاب إليه‏.‏

فقرأه ثم أحضر أصحابه رجلًا قد أخذوه من طريق الشام قد واطأه كسرى ومعه كتاب قد افتعله على لسان شهربراز إلى كسرى يقول‏:‏ إنني ما زلت أخادع ملك الروم حتى اطمأن إلي وجاز إلى البلاد كما أمرتني فيعرفني الملك في أي يوم يكون لقاؤه حتى أهجم أنا عليه من ورائه والملك من بين يديه فلا يسلم هو ولا أصحابه وآمره أن يتعمد طريقًا يؤخذ فيها‏.‏

فلما قرأ ملك الروم الكتاب الثاني تحقق الخبر فعاد شبه المنهزم مبادرًا إلى بلاده ووصل خبر عودة ملك الروم إلى شهربراز فأراد أن يستدرك ما فرط منه فعارض الروم فقتل منهم قتلًا ذريعًا وكتب إلى كسرى‏:‏ إنني عملت الحيلة على الروم حتى صاروا في العراق وأنفذ من رؤوسهم شيئًا كثيرًا‏.‏

وفي هذه الحادثة أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏آلم غُلِبَتِ الرُّومُ في آَدْنى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏‏.‏ يعني بأدنى الأرض أذرعات وهي أدنى أرض الروم إلى العرب وكانت الروم قد هزمت بها في بعض حروبها وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمون قد ساءهم ظفر الفرس أولًا بالروم لأن الروم أهل كتاب وفرح الكفار لأن المجوس أميون مثلهم فلما نزلت هذه الآيات راهن أبو بكر الصديق أبي بن خلف على أن الظفر يكون للروم إلى تسع سنين والرهن مائة بعير فغلبه أبو بكر ولم يكن الرهن ذلك الوقت حرامًا فلما ظفرت الروم أتى الخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية‏.‏ بسبب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن ذلك أن كسرى أبرويز سكر دجلة العوراء وأنفق عليها من الأموال ما لا يحصى كثرةً وكان طاق مجلسه قد بني بنيانًا لم ير مثله وكان عنده ثلاثمائة وستون رجلا من الحزاة من بين كاهن وساحر ومنجم وكان فيهم رجل من العرب اسمه السايب بعث به باذان من اليمن وكان كسرى إذا أحزنه أمر جمعهم فقال‏:‏ انظروا في هذا الأمر ما هو‏.‏

فلما بعث الله محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصبح كسرى وقد انقصم طاق ملكه من غير ثقل وانخرقت عليه دجلة العوراء فلما رأى ذلك أحزنه فقال‏:‏ انقصم طاق ملكي من غير ثقل وانخرقت دجلة العوراء شاه بشكست يقول‏:‏ الملك انكسر‏.‏

ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه وفيهم السايب فقال لهم‏:‏ انظروا في هذا الأمر‏.‏

فنظروا في أمره فأخذت عليهم أقطار السماء وأظلمت الأرض فلم يمض لهم ما راموه وبات السايب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض ينظر فرأى برقًا من قبل الحجاز استطار فبلغ المشرق فلما أصبح رأى تحت قدميه روضة خضراء فقال فيما يعتاف‏:‏ إن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق تخصب عليه الأرض كأفضل ما أخصبت على ملك‏.‏فلما خلص الكهان والمنجمون والسحار بعضهم إلى بعض ورأوا ما أصابهم ورأى السايب ما رأى قال بعضهم لبعض‏:‏ والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمرٍ جاء من السماء وإنه لنبي بعث أو هو مبعوث يسلب هذا الملك ويكسره ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم فاتفقوا على أن يكتموه الأمر وقالوا له‏:‏ قد نظرنا فوجدنا أن وضع دجلة العوراء وطاق الملك قد وضع على النحوس فلما اختلف الليل والنهار وقعت النحوس مواقعها فزال كل ما وضع عليها وإنا نحسب لك حسابًا تضع عليه بنيانك فلا يزول فحسبوا وأمروه بالبناء فبنى دجلة العوراء في ثمانية أشهر فأنفق عليها أموالًا جليلة حتى إذا فرغ منها قال لهم‏:‏ اجلس على سورها قالوا‏:‏ نعم فجلس في أساورته فبينما هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته فلم يخرج إلا بآخر رمق‏.‏

فلما أخرجوه جمع كهانه وسحاره ومنجميه فقتل منهم قريبًا من مائة وقال‏:‏ قربتكم وأجريت عليكم الأرزاق ثم أنتم تلعبون بي‏!‏ فقالوا‏:‏ أيها الملك أخطأنا كما أخطأ من قبلنا‏.‏

ثم حسبوا له وبناه وفرغ منه وأمروه بالجلوس عليه فخاف فركب فرسًا وسار على البناء فبينما هو يسير انتسفته دجلة فلم يدرك إلا بآخر رمق فدعاهم وقال‏:‏ لأقتلنكم أجمعين أو لتصدقونني‏.‏

فصدقوه الأمر فقال‏:‏ ويحكم هلا بينتم لي فأرى فيه رأيي قالوا‏:‏ منعنا الخوف‏.‏

فتركهم ولها عن دجلة حين غلبته وكان ذلك سبب البطائح ولم تكن قبل ذلك وكانت الأرض فلما كانت سنة ست من الهجرة أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى فزادت الفرات والدجلة زيادة عظيمة لم ير قبلها ولا بعدها مثلها فانبثقت البثوق وانتسفت ما كان بناه كسرى واجتهد أن يسكرها فغلبه الماء كما بينا ومال إلى موضع البطائح فطما الماء على الزروع وغرق عدة طساسيج ثم دخلت العرب أرض الفرس وشغلتهم عن عملها بالحروب واتسع الخرق‏.‏

فلما كان زمن الحجاج تفجرت بثوق أخر فلم يسدها مضارة للدهاقين لأنه اتهمهم بممالأة ابن الأشعث فعظم الخطب فيها وعجز الناس عن عملها فبقيت على ذلك إلى الآن‏.‏

وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف‏:‏ بعث الله إلى كسرى ملكًا وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فلم يرعه إلا به قائمًا على رأسه في يده عصًا بالهاجرة في ساعته التي يقيل فيها فقال‏:‏ يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا فقال‏:‏ بهل بهل‏!‏ وانصرف عنه فدعا بحراسه وحجابه فتغيظ عليهم وقال‏:‏ من أدخل هذا الرجل فقالوا‏:‏ ما دخل علينا أحد ولا رأيناه‏!‏ حتى إذا كان العام المقبل أتاه في تلك الساعة وقال له‏:‏ أتسلم أو أكسر العصا فقال‏:‏ بهل بهل ‏!‏ وتغيظ على حجابه وحراسه‏.‏

فلما كان العام الثالث أتاه فقال‏:‏ أتسلم أو أكسر العصا فقال‏:‏ بهل بهل‏!‏ فكسر العصا ثم خرج‏.‏

فلم يكن إلا تهور ملكه وانبعاث ابنه والفرس حتى وقال الحسن البصري‏:‏ قال أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا رسول الله ما حجة الله على كسرى فيك قال‏:‏ بعث إليه ملكًا فأخرج يده إليه من جدار تلألأ نورًا فلما رآها فزع فقال له‏:‏ لا ترع يا كسرى‏!‏ إن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك‏.‏

قال‏:‏ سأنظر‏.‏

 

ذكر وقعة ذي قار وسببها

ذكروا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال لما بلغه ما كان من ظفر ربيعة بجيش كسرى‏:‏ هذا أول يوم انتصف العرب فيه من العجو وبي نصروا‏.‏

فحفظ ذلك منه وكان يوم الوقعة‏.‏

قال هشام بن محمد‏:‏ كان عدي بن زيد التميمي وأخواه عمار وهو أبي وعمرو وهو سمي يكونون مع الأكاسرة ولهم إليهم انقطاع وكان المنذر ابن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي بن زيد وكان له غير النعمان أحد عشر ولدًا وكانوا يسمون الأشاهب لجمالهم‏.‏

فلما مات المنذر بن المنذر وخلف أولاده أراد كسرى بن هرمز أن يملك على العرب من يختاره فأحضر عدي بن زيد وسأله عن أولاد المنذر فقال‏:‏ هم رجال فأمره بإحضارهم‏.‏

فكتب عدي فأحضرهم وأنزلهم وكان يفضل إخوة النعمان عليه ويريهم أنه لا يرجو النعمان ويخلو بواحد واحد ويقول له‏:‏ إذا سألك الملك أتكفونني العرب فقولوا‏:‏ نكفيكهم إلا النعمان‏.‏

وقال للنعمان‏:‏ إذا سألك الملك عن إخوتك فقل له‏:‏ إذا عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز‏.‏

وكان من بنيمرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا وكان داهيًا شاعرًا وكان يقول للأسود بن المنذر‏:‏ قد عرفت أني أرجوك وعيني إليك وإنني أريد أن تخالف عدي بن زيد فإنه والله لا ينصح لك أبدًا‏!‏ فلم يلتفت إلى قوله‏.‏

فلما أمر كسرى عدي بنزيد أن يحضرهم أحضرهم رجلًا رجلًا وسألهم كسرى‏:‏ أتكفونني العرب فقالوا‏:‏ نعم إلا النعمان‏.‏

فلما دخل عليه النعمان رأى رجلًا دميمًا أحمر أبرش قصيرًا فقال له‏:‏ أتكفيني إخوتك والعرب قال‏:‏ نعم وإن عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز‏.‏

فملكه وكساه وألبسه تاجًا قيمته ستون ألف درهم فقال عدي بن مرينا للأسود‏:‏ دونك فقد خالفت الرأي‏.‏

ثم صنع عدي بن زيد طعامًا ودعا عدي بن مرينا إليه وقال‏:‏ إني عرفت أن صاحبك الأسود كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان فلا تلمني على شيء كنت على مثله وإني أحب أن لا تحقد علي وإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك وحلف لابن مرينا أن لا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدًا فقام ابن مرينا وحلف أنه لا يزال يهجوه ويبغيه الغوائل‏.‏

وسار النعمان حتى نزل الحيرة وقال ابن مرينا للأسود‏:‏ إذا فاتك الملك فلا تعجز أن تطلب بثأرك من عدي فإن معدًا لا ينام مكرهًا وأمرتك بمعصيته فخالفتني وأريد أن لا يأتيك من مالك شيء إلا عرضته علي‏.‏

ففعل‏.‏

وكان ابن مرينا كثير المال وكان لا يخلي النعمان يومًا من هدية وطرفة فصار من أكرم الناس عليه وكان إذا ذكر عدي بن زيد وصفه وقال‏:‏ إلا أنه في مكر وخديعة واستمال أصحاب النعمال فمالوا إليه وواضعهم على أن قالوا للنعمان‏:‏ إن عدي بن زيد يقول إنك عامله ولم يزالوا بالنعمان حتى اضغنوه عليه فأرسل إلى عدي يستزيره فاستأذن عدي كسرى في ذلك فأذن له فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه ومنع من الدخول عليه فجعل عدي يقول الشعر وهو في السجن وبلغ النعمان قوله فندم على حبسه إياه وخاف منه إذا أطلقه‏.‏

فكتب عدي إلى أخيه أبي أبياتًا يعلمه بحاله فلما قرأ أبياته وكتابه كلم كسرى فيه فكتب إلى النعمان وأرسل رجلًا في إطلاق عدي وتقدم أخو عدي إلى الرسول بالدخول إلى عدي قبل النعمان ففعل ودخل على عدي وأعلمه أنه أرسل لإطلاقه فقال له عدي‏:‏ لا تخرج من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله فإنك إن خرجت من عندي قتلني فلم يفعل ودخل أعداء عدي على النعمان فأعلموه الحال وخوفوه من إطلاقه فأرسلهم إليه فخنقوه ثم دفنوه‏.‏

وجاء الرسول فدخل على النعمان بالكتاب فقال‏:‏ نعم وكرامةً وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية وقال‏:‏ إذا أصبحت ادخل إليه فخذه‏.‏

فلما أصبح الرسول غدا إلى السجن فلم ير عديًا وقال له الحرس‏:‏ إنه مات منذ أيام‏.‏

فرجع إلى النعمان وأخبره أنه رآه بالأمس ولم يره اليوم فقال‏:‏ كذبت‏!‏ وزاده رشوة واستوثق منه أن لا يخبر كسرى إلا أنه مات قبل وصوله إلى النعمان‏.‏

قال‏:‏ وندم النعمان على قتله واجترأ أعداء عدي على النعمان وهابهم هيبة شديدة‏.‏

فخرج النعمان في بعض صيده فرأى ابنًا لعدي يقال له زيد فكلمه وفرح به فرحًا شديدًا واعتذر إليه من أمر أبيه وسيره إلى كسرى ووصفه له وطلب إليه أن يجعله مكان أبيه ففعل كسرى وكان يلي ما يكتب إلى العرب خاصة وسأله كسرى عن النعمان فأحسن الثناء عليه وأقام عند الملك سنوات بمنزلة أبيه وكان يكثر الدخول على كسرى‏.‏

وكان لملوك الأعاجم صفة للنساء مكتوبة عندهم وكان يبعثون في طلب من يكون على هذه الصفة من النساء ولا يقصدون العرب فقال له زيد بن عدي‏:‏ إني أعرف عند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة‏.‏

قال‏:‏ فتكتب فيهن‏.‏

قال‏:‏ أيها الملك إن شر شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرمون بأنفسهم عن العجم فأنا أكره أن تعنتهن وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك فابعثني وابعث معي رجلًا يفقه العربية فبعث معه رجلًا جلدًا فخرجا حتى بلغا الحيرة ودخلا على النعمان‏.‏

قال له زيدك إن الملك احتاج إلى نساء لأهله وولده وأراد كرامتك فبعث إليك‏.‏

قال‏:‏ وما هؤلاء النسوة قال‏:‏ هذه صفتهن قد جئنا بها‏.‏

وكانت الصفة أن المنذر أهدى إلى أنوشروان جارية أصابها عند الغارة على الحارث بن أبي شمر الغساني وكتب يصفها أنها معتدلة الخلق نقية اللون والثغر بيضاء وطفاء قمراء دعجاء حوراء عيناء قنواء شماء شمراء زجاء برجاء أسيلة الخد شهية القد جثيلة الشعر بعيدة مهوى القرط عيطاء عريضة الصدر كاعب الثدي ضخمة مشاشة المنكب والعضد حسنة المعصم لطيفة الكف سبطة البنان لطيفة طي البطن خميصة الخصر غرثى الوشاح رداح القبل رابية الكفل لفاء الفخذين ريا الروادف ضخمة المنكبين عظيمة الركبة مفعمة الساق مشبعة الخلخال لطيفة الكعب والقدم قطوف المشي مكسال الضحى بضة المتجرد سموع للسيد ليست بحلساء ولا سفعاء ذليلة الأنف عزيزة النفر لم تغذ في بؤس حييه رزينة زكية كريمة الخال تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها وبفصيلتها دون جماع قبيلتها قد أحكمتها الأمور في الأدب فرأيها رأي أهل الشرف وعملها عمل أهل الحاجة صنا الكفيين قطيعة اللسان رهوة الصوت تزين البيت وتشين العدو إن أردتها اشتهت وإن تركتها انتهت تحملق عيناها ويحمر خداها وتذبذب شفتاها وتبادرك الوثبة‏.‏

فقبلها كسرى وأمر بإثبات هذه الصفة فبقيت إلى أيام كسرى بن هرمز‏.‏

فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان فشق ذلك عليه وقال لزيد والرسول يسمع‏:‏ أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم‏!‏ قال الرسول لزيد‏:‏ ما العين قال‏:‏ البقر‏.‏

وأنزلهما يومين وكتب إلى كسرى‏:‏ إن الذي طلب الملك ليس عندي‏.‏

وقال لزيد‏:‏ اعذرني عنده‏.‏

فلما عاد إلى كسرى قال لزيد‏:‏ أين ما كنت أخبرتني قال‏:‏ قد قلت للملك وعرفته بخلهم بنسائهم على غيرهم وأن ذلك لشقائهم وسوء اختيارهم وسل هذا الرسول عن الذي قال فإني أكرم الملك عن ذلك‏.‏

فسأل الرسول فقال‏:‏ إنه قال‏:‏ أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا فعرف الغضب في وجهه ووقع في قلبه وقال‏:‏ رب عبدٍ أراد ما هو أشد من هذا فصار مره إلى التباب‏.‏

وبلغ هذا الكلام النعمان وسكت كسرى على ذلك أشهرًا والنعمان يستعد حتى أتاه كتاب كسرى يستدعيه‏.‏

فحين وصل الكتاب أخذ سلاحه وما قوي عليه ثم لحق بجبلي طيء وكان متزوجًا إليهم وطلب منهم أن يمنعوه‏.‏

فأبوا عليه خوفًا من كسرى فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل في ذي قار في بني شيبان سرًا فلقي هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو الشيباني وكان سيدًا منيعًا والبيت من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين وكان كسرى قد أطعمه الأبلة فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك وعلم أن هانئًا يمنعه مما يمنع منه أهله فأودعه أهله وماله وفيه أربعمائة درع وقيل ثمانمائة درع‏.‏

وتوجه النعمان إلى كسرى فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط فقال‏:‏ انج نعيم‏.‏

فقال‏:‏ أنت يا زيد فعلت هذا‏!‏ أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك‏.‏

فقال به زيدك امض نعيم فقد والله وضعت لك عنده أخية لا يقطعها المهر الأرن‏.‏

فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى خانقين حتى وقع الطاعون فمات فيه قال‏:‏ والناس يظنون أنه مات بساباط ببيت الأعشى وهو يقول‏:‏ فذاك وما أنجى من الموت ربّه بساباط حتى مات وهو محرزق وكان موته قبل الإسلام‏.‏

فلما مات استعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان وكان كسرى اجتاز به لماء سار إلى ملك الروم فأهدى له هدية فشكر ذلك له وأرسل إليه فبعث كسرى بأن يجمع ما خلفه النعمان ويرسله إليه فبعث إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره بإرساله ما استودعه النعمان فأبى هانئ أن يسلم ما عنده‏.‏

فلما أبى هانئ غضب كسرى وعنده النعمان بن زرعة التغلبي وهو يحب هلاك بكر بن وائل فقال لكسرى‏:‏ أمهلهم حتى يقيظوا ويتساقطوا على ذي قار تساقط الفراش في النار فتأخذهم كيف شئت‏.‏

فصبر كسرى حتى جاؤوا حنو ذي قار فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم واحدة من ثلاث‏:‏ إما أن يعطوا بأيديهم وإما أن يتركوا ديارهم وإما أن يحاربوا‏.‏

فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فاشار بالحرب فآذنوا الملك بالحرب فأرسل كسرى إياس بن قبيصة الطائي أمير الجيش ومعه مرازبة الفرس والهامرز النسوي وغيره من العرب تغلب وإياد وقيس بن مسعود بن قيس بن ذي الجدين وكان على طف سفوان فأرسل الفيول وكان قد بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقسم هانئ ابن مسعود دروع النعمان وسلاحه‏.‏

فلما دنت الفرس من بني شيبان قال هانئ بن مسعود‏:‏ يا معشر بكر إنه لا طاقة لكم في قتال كسرى فاركنوا إلى الفلاة فسارع الناس إلى ذلك فوثب حنظلة بن ثعلبة العجلي وقال‏:‏ يا هانئ أردت نجاءنا فألقيتنا في الهلكة ورد الناس وقطع وضن الهوادج وهي الحزم للرحال فسمي مقطع الوضن وضرب على نفسه قبة وأقسم أن لا يفر حتى تقر القبة فرجع الناس واستقوا ماء لنصف شهر‏.‏

فأتتهم العجم فقاتلتهم بالحنو فانهزمت العجم خوفًا من العطش إلى الجبابات فتبعتهم بكرٌ وعجلٌ وأبلت يومئذٍ بلاء حسنًا واضطمت عليهم جنود العجم فقال الناس‏:‏ هلكت عجل ثم حملت بكر فوجدت عجلًا تقاتل وامرأة منهم تقول‏:‏ إن يظفروا يحرّزوا فينا الغرل إيهًا فداءٌ لكم بني عجل فقاتلوهم ذلك اليوم ومالت العجم إلى بطحاء ذي قار خوفًا من العطش فأرسلت إياد إلى بكر وكانوا مع الفرس وقالوا لهم‏:‏ إن شئتم هربنا الليلة وإن شئتم أقمنا ونفر حين تلاقون الناس‏.‏

فقالوا‏:‏ بل تقيمون وتنهزمون إذا التقينا‏.‏

وقال زيد بن حسان السكوني وكان حليفًا لبني شيبان‏:‏ أطيعوني واكنوا لهم ففعلوا ثم تقاتلوا وحرض بعضهم بعضًا وقالت ابنة القرين الشيبانية‏:‏ ويهًا بني شيبان صفًّا بعد صفّ إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبهم لتخف أيديهم لضرب السيوف فجالدوهم وبارز الهامرز فبرز إليه برد بن حارثة اليشكري فقتله برد ثم حملت مسيرة بكر وميمنتها وخرج الكمين فشدوا على قلب الجيش وفيهم إياس بن قبيصة الطائي وولت إياد منهزمة كما وعدتهم فانهزمت الفرس واتبعتهم بكر تقتل ولا تلتفت إلى سلب وغنيمة‏.‏

وقال الشعراء في وقعة ذي قار فأكثروا‏.‏

 ذكر ملوك الحيرة بعد عمرو بن هند

قد ذكرنا من ملك من آل نصر بن ربيعة إلا هلاك عمرة بن هند‏.‏

فلما هلك عمرو ملك موضعه أخوه قابوس بن المنذر أربع سنين من ذلك أيام أنوشروان ثمانية أشهر وفي أيام هرمز ثلاث سنين وأربعة أشهر ثم ولي بعد قابوس السهرب ثم ملك بعده المنذر بن النعمان أربع سنين ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة من ذلك في زمان هرمز سبع سنين وثمانين أشهر وفي زمانه ابنه أبرويز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخيرخان في زمان كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة ولثمانية أشهر من ولاية إياس بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ولي ازادبه بن مابيان الهمداني سبع عشرة سنة من ذلك في زمان كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر وفي زمن بوران دخت ابنة كسرى شهرًا‏.‏

ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر وهو الذي يسميه العرب المغرور الذي قتل بالبحرين يوم جواثاء‏.‏

وكانت ولايته إلى أن قدم عليه خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر وكان آخر من بقي من آل نصر وانقرض ملكهم مع انقراض ملك فارس فجميع ملوك آل نصر فيما زعم هشام عشرون ملكًا ملكوا خمسمائة سنة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر‏.‏

 

ذكر المروزان وولايته اليمن من قبل هرمز

قال هشام‏:‏ استعمل كسرى هرمز المروزان بعد عزل زرين عن اليمن وأقام باليمن حتى ولد له فيها ثم إن أهل جبل يقال له المضايع منعوه الخراج فقصدهم فرأس جبلهم لا يقدر عليه لحصانته وله طريق واحد يحميه رجل واحد وكان يحاذي ذلك الجبل جبل آخر وقد قارب هذا الجبل فأجرى فرسه فعبر به ذلك المضيق فلما رأته حمير قالوا‏:‏ هذا شيطان‏!‏ وملك حصنهم وأدوا الخراج وأرسل إلى كسرى يعلمه فاستدعاه إليه فاستخلف ابنه خرخسره على اليمن وسار إليه فمات في الطريق وعزل كسرى خرخسره عن اليمن وولى باذان وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم‏.‏

 ذكر قتل كسرى أبرويز

كان كسرى قد طغى لكثرة ماله وما فتحه من بلاد العدو ومساعدة الأقدار وشره على أموال الناس ففسدت قلوبهم وقيل‏:‏ كانت له اثنا عشر ألف امرأة وقيل ثلاثة آلاف امرأة يطؤهن وألوف جوارٍ وكان له خمسون ألف دابة وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك وقيل‏:‏ إنه أمر أن يحصي ما جبي من خراج بلاده في سنة ثماني عشرة من ملكه فكان من الورقة مائة ألف ألف مثقال وعشرون ألف ألف مثقال وإنه احتقر الناس وأمر رجلًا اسمه زاذان بقتل كل مقيد في سجونه فبلغوا ستة وثلاثين ألفًا فلم يقدم زاذان على قتلهم فصاروا أعداءه له وكان أمر بقتل المنهزمين من الروم فصاروا أيضًا أعداء له واستعمل رجلًا على استخلاص بواقي الخراج فعسف الناس وظلمهم ففسدت نياتهم ومضى ناس من العظماء إلى بابل فأحضروا ولده شيرويه بن أبرويز فإن كسرى كان قد ترك أولاده بها ومنعهم من التصرف وجعل عندهم من يؤدبهم فوصل إلى بهرسير فدخلها ليلًا فأخرج من كان في سجونها واجتمع إليه أيضًا الذين كان كسرى أمر بقتلهم فنادوا قباذ شاهنشاه وساروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى فهرب حرسه وخرج كسرى إلى بستان قريب من قصره هاربًا فأخذ أسيرًا وملكوا ابنه فأرسل إلى أبيه يقرعه بما كان منه ثم قتلته الفرس وساعدهم ابنه وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة‏.‏

ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يومًا هاجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة إلى المدينة‏.‏قيل‏:‏ وكان لكسرى أبرويز ثمانية عشر ولدًا وكان أكبرهم شهريار وكانت شيرين قد تبنته فقال المنجمون لكسرى‏:‏ إنه سيولد لبعض ولدك غلام يكون خراب هذا المجلس وذهاب الملك على يديه وعلامته نقص في بعض بدنه فمنع ولده عن النساء لذلك حتى شكا شهريار إلى شيرين الشنبق فأرسلت إليه جاريةً كانت تحجمها وكانت تظن أنها لا تلد فلما وطئها علقت بيزدجرد فكتمته خمس سنين ثم إنها رأت من كسرى رقة للصبيان حين كبر فقالت‏:‏ أيسرك أن ترى لبعض بنيك ولدًا قال‏:‏ نعم فأتته بيزدجرد فأحبه وقربه فبينما هو يلعب ذات يوم ذكر ما قيل فأمر به فجرد من ثيابه فرأى النقص في أحد وركيه فأراد قتله فمنعته شيرين وقالت‏:‏ إن كان الأمر في الملك قد حضر فلا مرد له فأمرت به فحمل إلى سجستان وقيل‏:‏ بل تركته في السواد في قرية يقال لها خمانية‏.‏

ولما قتل كسرى أبرويز بن هرمز ملك ابنه شيرويه‏.‏

 

ذكر ملك كسرى شيروية بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان

لما ملك شيرويه بن أبرويز وأمه مريم ابنة موريق ملك الروم واسمه قباذ دخل عليه العظماء والأشراف فقالوا‏:‏ لا يستقيم أن يكون لنا ملكان فإما أن تقتل كسرى ونحن عبيدك وإما أن نخلعك ونطيعه‏.‏فانكسر شيرويه ونقل أباه من دار الملك إلى موضع آخر حبسه فيه ثم جمع العظماء وقال‏:‏ قد رأينا الإرسال إلى كسرى بما كان من إساءته ونوقفه على أشياء منها‏.‏

فأرسل إليها رجلًا يقال له اسفاذ خشنش كان يلي تدبير المملكة وقال له‏:‏ قل لأبينا الملك عن رسالتنا‏:‏ إن سوء أعمالك فعل بك ما ترى منها جرأتك على أبيك وسملك عينيه وقتلك إياه ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في منعنا من مجالسة الناس وكل ما لنا فيه دعةٌ ومنها إساءتك إلى من خلدت في السجون ومنها إساءتك إلى النساء تأخذهن لنفسك وتركك العطف عليهن ومنعهن ممن يعاشروهن ويرزقن منه الولد ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة من العنف والغلظة والفظاظة ومنها جمع الأموال في شدة وعنف من أربابها ومنها تجميرك الجنود في ثغور الروم وغيرها وتفريقك بينهم وبين أهليهم ومنها غدرك بموريق ملك الروم مع إحسانه إليك وحسن بلائه عندك وتزويجه إياك بابنته ومنعك إياه خشبة الصليب التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة فإن كان لك حجة تذكرها فافعل وإن لم يكن لك حجة فتب إلى الله تعالى حتى يأمر فيك بأمره‏.‏

قال‏:‏ فجاء الرسول إلى كسرى أبرويز فأدى إليه الرسالة فقال أبرويز‏:‏ قل عني لشيرويه القصير العمر لا ينبغي لأحد أن يتوب من أجل الصغير من الذنب إلا بعد أن يتيقنه فضلًا عن عظيمه ما ذكرت وكثرت منا ولو كنا كما تقول لم يكن لك أيها الجاهل أن تنشر عنا مثل هذا العظيم الذي يوجب علينا القتل لما يلزمك في ذلك من العيوب فإن قضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه وينفونه من مضامة أهل الأخيار ومجالستهم فضلًا عن أن يملك مع أنه قد بلغ منا بحمد الله من إصلاحنا أنفسنا وأبناءنا ورعيتنا ما ليس في شيء منه تقصير ونحن نشرح الحال فيما لزمنا من الذنوب لتزداد علمًا بجهلك‏.‏

فمن جوابنا‏:‏ أن الأشرار أغروا كسرى هرمز والدنا بنا حتى اتهمنا فرأينا من سوء رأيه فينا ما يخوفنا منه فاعتزلنا بابه إلى أذربيجان وقد استفاض ذلك فلما انتهك منه ما انتهك شخصنا إلى بابه فهجم المنافق بهرام علينا فأجلانا عن المملكة فسرنا إلى الروم وعدنا إلى ملكنا واستحكم أمرنا فبدأنا بأخذ الثأر ممن قتل أبانا أو شرك في دمه‏.‏

وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا فإننا وكلنا بكم من يكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم فتتأذى بكم الرعية والبلاد وكنا أقمنا لكم النفقات الواسعة وجميع ما تحتاجون إليه وأما أنت خاصة فإن المنجمين قضوا في مولدك أنك مثرب علينا وأن يكون ذلك بسببك وإن ملك الهند كتب إليك كتابًا وأهدى لك هدية فقرأنا الكتاب فإذا هو يبشرك بالملك بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكنا وقد ختمنا على الكتاب وعلى مولدك وهما عند شيرين فإن أحببت أن تقرأهما وأما ما ذكرت عمن خلدناه في السجون فجوابنا‏:‏ إننا لم نحبس إلا من وجب عليه القتل أو قطع بعض الأطراف وقد كان الموكلون بهم والوزراء يأمروننا بقتل من وجب قتله قبل أن يحتالوا لأنفسهم فكنا بحبنا الاستبقاء وكراهتنا لسفك الدماء نتأنى بهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى فإن أخرجتهم من محبسهم عصيت ربك ولتجدن غب ذلك‏.‏

وأما قولك‏:‏ إنا جمعنا الأموال وأنواع الجواهر والأمتعة بأعنف جمع وأشد إلحاح فاعلم أيها الجاهل أنه إنما يقيم الملك بعد الله تعالى الأموال والجنود وخاصة ملك فارس الذي قد اكتنفه الأعداء ولا يقدر على كفهم وردعهم عما يريدونه إلا بالجنود والأسلحة والعدد ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمال وقد كان أسلافنا جمعوا الأموال والسلاح وغير ذلك فأغار المنافق بهرام ومن معه على ذلك إلا اليسير فلما ارتجعنا ملكنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة أرسلنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين وقامروسانين فكفوا الأعداء وأغاروا على بلادهم ووصل إلينا غنائم بلادهم من أصناف الأموال والأمتعة ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد بلغنا أنك هممت بتفريق هذه الأموال على رأي الأشرار المستوجبين للقتل ونحن نعلمك أن هذه الأموال لم تجتمع إلا بعد الكد والتعب والمخاطرة بالنفوس فلا تفعل ذلك فإنها كهف ملكك وبلادك وقوة على عدوك‏.‏

فلما انصرف أستاذ خشنش إلى شيرويه قص عليه جواب أبيه ثم إن عظماء الفرس عادوا إلى شيرويه فقالوا‏:‏ إما أن تأمر بقتل أبيك وإما أن نطيعه ونخلعك فأمر بقتله على كره منه وانتدب لقتله رجالًا ممن وترهم كسرى أبرويز وكان الذي باشر قتله شاب يقال له مهر هرمز بن مردانشاه من ناحية نيمروذ‏.‏

فلما قتل شق شيرويه ثيابه وبكى ولطم وجهه وحملت جنازته وتبعها العظماء وأشراف الناس فلما دفن أمر شيرويه بقتل مهرهرمز قاتل أبيه‏.‏

وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة‏.‏

ثم إن شيرويه قتل إخوته فهلك منهم سبعة عشر أخًا ذوو شجاعة وأدب بمشورة وزيره فيروز‏.‏

وابتلي شيرويه بامراض ولم يلتذ بشيء من الدنيا وكان هلاكه بدسكرة الملك وجزع بعد قتل إخوته جزعًا شديدًا ويقال‏:‏ إنه لما كان اليوم الثاني من قتل إخوته دخلت عليه بوران وازرميدخت أختاه فأغلظتا له وقالتا‏:‏ حملك الحرص على الملك الذي لا يتم لك على قتل أبيك وإخوتك‏.‏

فلما سمع ذلك بكى بكاء شديدًا ورمى التاج عن رأسه ولم يزل مهمومًا مدنفًا‏.‏

ويقال‏:‏ إنه اباد من قدر عليه من أهل بيته‏.‏

وفشا الطاعون في أيامه فهلك من الفرس أكثرهم ثم هلك هو‏.‏

وكان ملكه ثمانية أشهر‏.‏وكان عمره سبع سنين‏.‏

فلما توفي شيرويه ملك الفرس عليهم ابنه أردشير وحضنه رجل يقال له بهادر جسنس مرتبته رئاسة أصحاب المائدة فأحسن سياسة الملك فبلغ من إحكامه ذلك ما لم يحس معه بحداثة سن أردشير‏.‏

وكان شهربراز بثغر الروم في جند ضمهم إليه كسرى أبرويز وكان قد صلح له بعده ما فعل بالروم مما ذكرناه وكان ينفذ له الخلع والهداية وكان أبرويز وشيرويه يكاتبانه ويستشيرانه فلما لم يشاوره عظماء الفرس في تمليك أردشير اتخذ ذلك ذريعة إلى التعنت وبسط يده في القتل وجعله سببًا للطمع في الملك احتقارًا لأردشير لصغر سنه فأقبل بجنده نحو المدائن فتحول أردشير وبهادر جسنس ومن بقي من نسل الملك إلى مدينة طيسفون فحاصرهم شهربراز ونصب عليهم المجانيق فلم يظفر بشيء فأتاها من قبل المكيدة فلم يزل يخدع رئيس الحرس وأصبهبذ نيمروذ حتى فتحا له باب المدينة فدخلها وقتل جماعةً من الرؤساء وأخذ أموالهم وقتل بعض أصحابه أردشير في إيوان خسروشاه قباذ بأمر شهربراز‏.‏

وكان ملكه سنة وستة أشهر‏.‏

 ذكر ملك شهريراز

ولم يكن من بيت الملك‏.‏ لما قتل أردشير جلس شهربراز واسمه فرخان على تخت المملكة فحين جلس عليه ضرب عليه بطنه فاشتد ذلك‏.‏ ثم عوفي‏.‏ وتعاهد ثلاثة إخوة من أهل إصطخر على قتله غضبًا لقتل أردشير وكانوا في حرسه وكان الحرس يقفون سماطين إذا ركب الملك عليهم السلاح وبأيديهم السيوف والرماح فإذا حاذى الملك بعضهم وضع جبهته على ترسه فوق الترس كهيئة السجود‏.‏

فركب شهربراز يومًا فوقف الإخوة الثلاثة بعضهم قريب من بعض فلما حاذاهم طعنوه فسقط ميتًا فشدوا في رجله حبلًا وجروه وساعدهم بعض العظماء وتساعدوا على قتل جماعة قتلوا أردشير وكان جميع ملكه أربعين يومًا‏.‏

 

ذكر ملك بوران ابنة أبرويز بن هرمز بن أنوشروان

لما قتل شهربراز ملكت الفرس بوران لأنهم لم يجدوا من بيت المملكة رجلًا يملكونه‏.‏

فلما ملكت أحسنت السيرة في رعيتها وعدلت فيهم فأصلحت القناطر ووضعت ما بقي من الخراج وردت خشبة الصليب على ملك الروم وكانت مملكتها سنة وأربعة أشهر ثم ملك بعدها رجل يقال له خشنشبنده من بني عم ابرويز الأبعدين وكان ملكه أقل من شهر وقتله الجند لأنهم أنكروا سيرته‏.‏ لما قتل خشنشبنده ملكت الفرس آزرميدخت ابنة أبرويز وكانت من أجمل النساء وكان عظيم الفرس يومئذٍ فرخهرمز أصبهبذ خراسان فأرسل إليها يختطبها فقالت‏:‏ إن التزوج للملكة غير جائز وغرضك قضاء حاجتك مني فصر إلي وقت كذا‏.‏

ففعل وسار إليها تلك الليلة فتقدمت إلى صاحب حرسها أن يقتله فقتله وطرح في رحبة دار المملكة فلما أصبحوا رأوه قتيلًا فغيبوه‏.‏

وكان ابنه رستم وهو الذي قاتل المسلمين بالقادسية خليفة أبيه بخراسان فسار في عسكر حتى نزل بالمدائن وسمل عيني آزرميدخت وقتلها وقيل‏:‏ بل سمت‏.‏وكان ملكها ستة أشهر‏.‏

قيل‏:‏ ثم أتى رجل يقال له كسرى بن مهرجسنس من عقب أردشير بن باك كان ينزل الأهواز فملكه العظماء ولبس التاج وقتل بعد أيام وقيل‏:‏ إن الذي ملك بعد آزرميدخت خرزاد خسرو من ولد أبرويز وأمه كردية أخت بسطام قيل‏:‏ وجد بحصن الحجارة بقرب نصيبين فمكث أيامًا يسيرة ثم خلعوه وقتلوه‏.‏وكان ملكه ستة أشهر‏.‏وقال الذين قالوا ملك كسرى بن مهرجسنس‏:‏ إنه لما قتل طلب عظماء الفرس من له نسب ببيت المملكة ولو من النساء فأتوا برجل كان يسكن ميسان يقال له فيروز بن مهران جسنس ويسمى أيضًا جسنسنده أمه صهار بخت ابنة يزدانزان بن أنوشروان فملكوه وكان ضخم الرأس‏.‏

فلما توج قال‏:‏ ما أضيق هذا التاج‏!‏ فتطيروا من كلامه فقتلوه في الحال وقيل‏:‏ كان قتله ذكر ملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز ثم إن الفرس اضطرب أمرهم ودخل المسلمون بلادهم فطلبوا أحدًا من بيت المملكة ليملكوه ويقاتلوا بين يديه ويحفظوا بلادهم فظفروا بيزدجرد ابن شهريار بن أبرويز بإصطخر فأخذوه وساروا به إلى المدائن فملكوه واستقر في الملك غير أن ملكه كان كالخيال عند ملك أهل بيته‏.‏

وكان الوزراء والعظماء يدبرون ملكه لحداثة سنه وضعف أمر مملكة فارس واجترأ عليهم الأعداء وتطرقوا بلادهم وغزت العرب بلادهم بعد أن مضى من ملكه سنتان‏.‏

وكان عمره كله إلى أن قتل ثمانيًا وعشرين سنة وبقي من أخباره ما نذكره إن شاء الله في موضعه من فتوح المسلمين‏.‏

هذا آخر ملوك الفرس ونذكر بعده التواريخ الإسلامية على سياقة سني الهجرة ونقدم قبل ذلك الأيام المشهورة للعرب في الجاهلية ثم نأتي بعدها بالحوادث الإسلامية إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر أيام العرب في الجاهلية لم يذكر أبو جعفر من أيامها غير يوم ذي قار وجذيمة الأبرش والزباء وطسم وجديس وما ذكر ذلك إلا حيث أنهم ملوك فأغفل ما سوى ذلك‏.‏

ونحن نذكر الأيام المشهورة والوقائع المذكورة التي اشتملت على جمع كثيرة وقتال شديد ولم أعرج على ذكر غارات تشتمل على النفر اليسير لأنه يكثر ويخرج عن الحصر فنقول وبالله التوفيق‏.‏

 ذكر حرب زهير بن جناب الكلبي مع غطفان وبكر وتغلب وبني القين

كان زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف ابن عذرة الكلبي أحد من اجتمعت عليه قضاعة وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه وعاش مائتين وخمسين سنة أوقع فيها مائتي وقعة وقيل‏:‏ عاش أربعمائة وخمسين سنة وكان شجاعًا مظفرًا ميمون النقيبة‏.‏

وكان سبب غزاته غطفان أن بني بغيض بن ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم فتعرضت لهم صداء وهي قبيلة من مذحج فقاتلوهم وبنو بغيض سائرون بأهليهم وأموالهم فقاتلوهم عن حريمهم فظهروا على صداء وفتكوا فيهم فعزت بغيض بذلك وأثرت وكثرت أموالها‏.‏

فلما رأوا ذلك قالوا‏:‏ والله لنتخذن حرمًا مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائده فبنوا حرمًا ووليه بنو مرة بن عوف فلما بلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب قال‏:‏ والله لا يكون ذلك أبدًا وأنا حي ولا أخلي غطفان تتخذ حرمًا أبدًا‏.‏

فنادى في قومه فاجتمعوا إليه فقام فيهم فذكر حال غطفان وما بلغه عنهم وقال‏:‏ إن أعظم مأثرة يدخرها هو وقومه أن يمنعوهم من ذلك فأجابوه فغزا بهم غطفان وقاتلهم أبرح قتالٍ وأشده وظفر بهم زهير وأصاب حاجته منهم وأخذ فارسًا منهم في حرمهم فقتله وعطل ذلك الحرم‏.‏

ثم من على غطفان ورد النساء وأخذ الأموال وقال زهير في ذلك‏:‏ فلم تصبر لنا غطفان لمّا تلاقينا وأحرزت النساء فلولا الفضل منّا ما رجعتم إلى عذراء شيمتها الحياء فدونكم ديونًا فاطلبوها وأوتارًا ودونكم اللّقاء فإنّا حيث لا يخفى عليكم ليوثٌ حين يحتضر اللواء فقد أضحى لحيّ بني جناب فضاء الأرض والماء الرّواء نفينا نخوة الأعداء عنًّا بأرماحٍ أسنّتها ظماء ولولا صبرنا يوم التقينا لقينا مثل ما لقيت صداء غداة تضرّعوا لبني بغيض وصدق الطعن للنّوكى شفاء وأما حربه مع بكر وتغلب ابني وائل فكان سببها أن أبرهة حين طلع إلى نجد أتاه زهير فأكرمه وفضله على من أتاه من العرب ثم أمره على بكر وتغلب ابني وائل فوليهم حتى أصابتهم سنةٌ فاشتد عليهم ما يطلب منهم من الخراج فأقام بهم زهير في الحرب ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم فكانت مواشيهم تهلك‏.‏

فلما رأى ذلك ابن زيابة أحد بني تيم الله بن ثعلبة وكان فاتكًا أتى زهيرًا وهو نائم فاعتمد التيمي بالسيف على بطن زهير فمر فيها حتى خرج من ظهره مارقًا بين الصفاق وسلمت أمعاؤه وما في بطنه وظن التيمي أنه قد قتله وعلم زهير أنه قد سلم فلم يتحرك لئلا يجهز عليه فسكت‏.‏

فانصرف التيمي إلى قومه فأعلمهم أنه قتل زهيرًا فسرهم ذلك‏.‏

ولم يكن مع زهير إلا نفر من قومه فأمرهم أن يظهروا أنه ميت وأن يستأذنوا بكرًا وتغلب في دفنه فإذا أذنوا دفنوا ثيابًا ملفوفة وساروا به مجدين إلى قومهم ففعلوا ذلك‏.‏

فأذنت لهم بكر وتغلب في دفنه فحفروا وعمقوا ودفنوا ثيابًا ملفوفة لم يشك من رآها أن فيها ميتًا ثم ساروا مجدين إلى قومهم فجمع لهم زهير الجموع وبلغهم الخبر فقال بن زيابة‏:‏ طعنةً ما طعنت في غلس اللي ل زهيرًا وقد توافى الخصوم حين يحمي له المواسم بكرٌ أين بكرٌ وأين منها الحلوم خانني السيف إذ طعنت زهيرًا وهو سيف مضلّل مشؤوم وجمع زهير من قدر عليه من أهل اليمن وغزا بكرًا وتغلب وكانوا علموا به فقاتلهم قتالًا شديدًا انهزمت به بكر وقاتلت تغلب بعدها فانهزمت أيضًا وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة وأخذت الأموال وكثرت القتلى في بني تغلب وأسر جماعة من فرسانهم ووجوههم فقال زهير في ذلك من قصيدته‏:‏ أين أين الفرار من حذر الموت ت إذا يتّقون بالأسلاب إذ أسرنا مهلهلًا وأخاه وابن عمروٍ في القيد وابن شهاب وسبينا من تغلب كلّ بيضا ء رقود الضحى برود الرّضاب حين تدعو مهلهلًا يال بكرٍ ها أهذي حفيظة الأحساب ويحكم ويحكم أبيح حماكم يا بني تغلب أنا بن رضاب وهم هاربون في كلّ فجٍّ كشريد النعام فوق الرّوابي واستدارت رحى المنايا عليهم بليوثٍ من عامرٍ وجناب فهم بين هاربٍ ليس يألو وقتيل معفّر في التراب فضل العزّ عزّنا حين نسمو مثل فضل السماء فوق السحاب وأما حربه مع بني القين بن جسر فكان سببها أن أختًا لزهير كانت متزوجة فيهم‏.‏

فجاء يأتيكم عدو كثير ذو شوكة شديدة فاحتملوا‏.‏

فقال الجلاح بن عوف السحمي‏:‏ لا نحتمل لقول امرأة فظعن زهير وأقام الجلاح وصبحه الجيش فقتلوا عامة قوم الجلاح وذهبوا بأموالهم وماله‏.‏

ومضى زهير فاجتمع مع عشيرته من بني جناب وبلغ الجيش خبره فقصدوه فقاتلهم وصبر لهم فهزمهم وقتل رئيسهم فانصرفوا عنه خائبين‏.‏

ولما طال عمر زهير وكبرت سنه استخلف ابنه أخيه عبد الله بن عليم فقال زهير يومًا‏:‏ ألا إن الحي ظاعنٌ‏.‏

فقال عبد الله‏:‏ ألا إن الحي مقيمٌ‏.‏

فقال زهير‏:‏ من هذا المخالف عليّ فقالوا‏:‏ ابن أخيك عبد الله بن عليم‏.‏

فقال‏:‏ أعدى الناس للمرء ابن أخيه‏.‏

ثم شرب الخمر صرفًا حتى مات‏.‏

وممن شرب الخمر صرفًا حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي وأبو عامر ملاعب الأسنة العامري‏.‏