فصل: ذكر ملك لختيعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام

بعد أن قتل أخاه هرمز وثلاثة من أهل بيته ولما ظفر فيروز بأخيه وملك أظهر العدل وأحسن السيرة وكان يتدين إلا أنه كان محدودًا مشؤومًا على رعيته وقحطت البلاد في زمانه سبع سنين متوالية وغارت الأنهار والقنى وقل ماء دجلة ومحلت الأشجار وهاجت عام الزروع في السهل والجبل من بلاده وماتت الطيور والوحوش وعم أهل البلاد الجوع والجهد الشديد فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية ولا مؤونة وتقدم إليهم بأن كل من عنده طعام مذخور يواسي به الناس وأن يكون حال الغني والفقير واحدًا وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنسانًا مات جوعًا بمدينة أو قرية عاقبهم ونكل بهم وساس الناس سياسةً لم يعطب أحد جوعًا ما خلا رجلًا واحدًا من رستاق أردشير خره وابتهل فيروز إلى الله بالدعاء فأزال ذلك القحط وعادت بلاده إلى ما كانت عليه‏.‏ فلما حيي الناس والبلاد وأثخن في أعدائه سار مريدًا حرب الهياطلة فلما سمع إخشنوار ملكهم خافه فقال له بعض أصحابه‏:‏ اقطع يدي ورجلي وألقني على الطريق وأحسن إلى عيالي لأحتال على فيروز‏.‏

ففعل ذلك واجتاز به فيروز فسأله عن حاله فقال له‏:‏ إني قلت لإخشنوار لا طاقة لك بفيروز ففعل بي هذا وإني أدلك على طريق لم يسلكها ملك وهي أقرب‏.‏ فاغتر فيروز بذلك وتبعه فسار به وبجنده حتى قطع بهم مفازة بعد مفازة حتى إذا علم أنهم لا يقدرون على الخلاص وأعلمهم حاله‏.‏

فقال أصحاب فيروز لفيروز‏:‏ حذرناك فلم تحذر فليس إلا التقدم على كل حال فتقدموا أمامهم فوصلوا إلى عدوهم وهم هلكى عطشى وقتل العطش منهم كثيرًا‏.‏

فلما أشرفوا على تلك الحال صالحوا إخشنوار على أن يخلي سبيلهم إلى بلادهم على أن يحلف له فيروز أنه لا يغزو بلاده فاصطلحا وكتب فيروز كتابًا بالصلح وعاد‏.‏

فلما استقر في مملكته حملته الأنفة على معاودة إخشنوار فنهاه وزراؤه عن نقض العهد فلم يقبل وسار نحوه فلما تقاربا أمر إخشنوار فحفر خلف عسكره خندقًا عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعًا وغطاه بخشب ضعيف وتراب ثم عاد وراءه فلما سمع فيروز بذلك اعتقده هزيمة فتبعه ولا يعلم عسكر فيروز بالخندق فسقط هو وأصحابه فيه فهلكوا وعاد إخشنوار إلى عسكر فيروز وأخذ كل ما فيه وأسر نساءه وموبذان موبذ ثم استخرج جثة فيروز وجثة كل من سقط معه فجعلها في النواويس‏.‏

وقيل‏:‏ إن فيروز لما انتهى إلى الخندق الذي حفره إخشنوار ولم يكن مغطى عقد عليه قناطر وجعل عليها أعلامًا له ولأصحابه يقصدونها في عودهم وجاء إلى القوم‏.‏

فلما التقى العسكران احتج عليه إخشنوار بالعهود التي بينهما وحذره عاقبة الغدر فلم يرجع فنهاه أصحابه فلم ينته فضعفت نياتهم في القتال‏.‏ فلما أبى إلا القتال رفع إخشنوار نسخة العهد على رمح وقال‏:‏ اللهم خذ بما في هذا الكتاب وقلده بغيه‏.‏ فقاتله فانهزم فيروز وعسكره فضلوا عن مواضع القناطر فسقطوا في الخندق فهلك فيروز وأكثر عسكره وغنم إخشنوار أموالهم ودوابهم وجميع ما معهم وغلب إخشنوار على عامة خراسان‏.‏

فسار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا وكان فيهم عظيمًا وخرج كالمحتسب وقيل‏:‏ بل كان فيروز استخلفه على ملكه لما سار وكان له سجستان فلقي صاحب الهياطلة فأخرجه من خراسان واستعاد منه كل ما أخذ من عسكر فيروز مما هو في عسكره من السبي وغيره وعاد إلى بلاده فعظمته الفرس إلى غاية لم يكن فوقه إلا الملك وكانت مملكة الهياطلة طخارستان فكان فيروز قد أعطى ملكهم لما ساعده على حرب أخيه الطالقان‏.‏

وكان ملك فيروز ستًا وعشرين سنة وقيل‏:‏ إحدى وعشرين سنة‏.‏

 

ذكر الأحداث في العرب أيام يزدجرد وفيروز

كان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير وغيرهم وكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي سيد كندة فلما قتل عمرة ابن تبع أخاه حسان بن تبع اصطنع عمرة بن حجر وزوجه ابنة أخيه حسان ولم يطمع في التزوج إلى ذلك البيت أحد من العرب فولدت الحارث بن عمرو‏.‏ وملك بعد عمرة بن تبع عبد كلال بن مثوب وإنما مملكوه لأن أولاد عمرو كانوا صغارًا وكان الجن قبل ذلك قد استهامت تبع بن حسان وكان عبد كلال على دين النصرانية الأولى ويكتم ذلك‏.‏ ورجع تبع بن حسان من استهامته وهو أعلم الناس بما كان قبله فملك اليمن وهابته حمير فبعث ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر في جيش إلى الحيرة فسار إلى النعمان بن امرئ القيس وهو ابن الشقيقة فقاتله فقتل النعمان وعدةً من أهل بيته وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء امرأة من النمر ابن قاسط فذهب ملك آل النعمان وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون قاله بعضهم‏.‏

وقال ابن الكلبي‏:‏ ملك بعد النعمان المنذر بن النعمان بن المنذر بن النعمان أربعًا وأربعين سنة من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين وفي زمن يزدجرد ابن بهرام ثماني عشرة سنة وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة ثم ملك بعده الأسود بن المنذر عشرين سنة منها في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين‏.‏

وهكذا ذكر أبو جعفر ها هنا أن الحارث بن عمرو قتل النعمان بن امرئ القيس وأخذ بلاده وانقرض ملك أهل بيته وذكر فيما تقدم أن المنذر بن النعمان أو النعمان على الاختلاف المذكور هو الذي جمع العساكر وملك بهرام جور على الفرس ثم ساق فيما بعد ملوك الحيرة من أولاد النعمان هذا إلى آخرهم ولم يقطع ملكهم بالحارث بن عمرو وسبب هذا أن أخبار وقيل غير ذلك وسنذكره في مقتل حجر بن عمرو والد امرئ القيس في أيام العرب إن شاء الله‏.‏ والصحيح أن ملوك كندة عمرو والحارث كانوا بنجد على العرب وأما اللخميون ملوك الحيرة المناذرة فلم يزالوا عليها إلى أن ملك قباذ الفرس وأزالهم واستعمل الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة‏.‏

ثم أعاد أنوشروان الحيرة إلى اللخميين على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

 ذكر ملك بلاش بن فيروز بن يزدجرد

ثم ملك بعد فيروز ابنه بلاش وجرى بينه وبين أخيه قباذ منازعة استظهر فيها قباذ وملك فلما ملك بلاش أكرم سوخرا وأحسن إليه لما كان منه ولم يزل حسن السيرة حريصًا على العمارة وكان لا يبلغه أن بيتًا خرب وجلا أهله إلا عاقب صاحب تلك القرية على تركه سد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى مفارقة أوطانهم وبنى مدينة ساباط بقرب المدائن وكان ملكه أربع سنين‏.‏

 

ذكر ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد‏!‏

وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصرًا به على أخيه بلاش فمر في طريقه بحدود نيسابور ومعه جماعة من أصحابه متنكرين وفيهم زرمهر بن سوخرا فتاقت نفسه إلى النكاح فشكا ذلك إلى زرمهر وطلب منه امرأة فسار إلى امرأة صاحب المنزل وكان من الأساورة وكان لها بنت حسناء فخطبها منها وأطمعها وزوجها فزوجا فدخل بها من ليلته فحملت بأنوشروان وأمر لها بجائزةٍ سنية وردها وسألتها أمها عن قباذ وحاله‏.‏

فذكرت أنها لا تعرف من حاله شيئًا غير أن سراويله منسوجة بالذهب فعلمت أنه من أبناء الملوك‏.‏

ومضى قباذ إلى خاقان واستنصره على أخيه فأقام عنده أربع سنين وهو يعده ثم أرسل معه جيشًا‏.‏ فلما صار بالقرب من الناحية التي بها زوجته سأل عنها فأحضرت ومعها أنوشروان وأعلمته أنه ابنه‏.‏ وورد الخبر إليه بذلك المكان أن أخاه بلاش قد هلك فتيمن بالمولود وحمله وأمه على مراكب نساء الملوك واستوثق له الملك وخص سوخرا وشكر لولده خدمته‏.‏

وتولى سوخرا الأمر فمال الناس إليه وتهاونوا بقباذ فلم يحتمل ذلك‏.‏

فكتب إلى سابور الرازي وهو أصبهبذ ديار الجبل ويقال للبيت الذي هو منه مهران فاستقدمه ومعه جنده فتقدم إليه فأعلمه عزمه على قتل سوخرا وأمره بكتمان ذلك فأتاه يومًا سابور وسوخرا عند قباذ فألقى في عنقه وهقًا وأخذه وحبسه ثم خنقه قباذ وأرسله إلى أهله وقدم عوضه سابور الرازي‏.‏ وفي أيامه ظهر مزدك وابتدع ووافق زرادشت في بعض ما جاء به وزاد ونقص وزعم أنه يدعو إلى شريعة إبراهيم الخليل حسب ما دعا إليه زرادشت واستحل المحارم والمنكرات وسوى بين الناس في الأموال والأملاك والنساء والعبيد والإماء حتى لا يكون لأحد على أحد فضل في شيء البتة فكثر أتباعه من السفلة والأغتام فصاروا عشرات ألوف فكان مزدك يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر وكذا في الأموال والعبيد والإماء وغيرها من الضياع والعقار فاستولى وعظم شأنه وتبعه الملك قباذ‏.‏ فقال يومًا لقباذ‏:‏ اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان‏.‏ فأجابه إلى ذلك فقام أنوشروان إليه ونزع خفيه بيده وقبل رجليه وشفع إليه حتى لا يتعرض لأمه وله حكمه في سائر ملكه فتركها‏.‏

وحرم ذباحة الحيوان وقال‏:‏ يكفي في طعام الإنسان ما تنبته الأرض وما يتولد من الحيوان كالبيض واللبن والسمن والجبن فعظمت البلية به على الناس فصار الرجل لا يعرف ولده والولد لا يعرف أباه‏.‏

فلما مضى عشر سنين من ملك قباذ اجتمع موبذان موبذ والعظماء وخلعوه وملكوا عليهم أخاه جامسب وقالوا له‏:‏ إنك قد أثمت باتباعك مزدك وبما عمل أصحابه بالناس وليس ينجيك إلا إباحة نفسك ونسائك وأرادوه على أن يسلم نفسه إليهم ليذبحوه ويقربوه إلى النار فامتنع من ذلك فحبسوه وتركوه لا يصل إليه أحد‏.‏

فخرج زرمهر بن سوخرا فقتل من المزدكية خلقًا وأعاد قباذ إلى ملكه وأزال أخاه جامسب‏.‏

ثم إن قباذ قتل بعد ذلك زرمهر‏.‏وقيل‏:‏ لما حبس قباذ وتولى أخوه دخلت أختٌ لقباذ عليه كأنها تزوره ثم لفته في بساط وحمله غلام فلما خرج من السجن سأله السجان عما معه فقالت‏:‏ هو مرحل كنت أحيض فيه فلم يمس البساط فمضى الغلام بقباذ وهرب قباذ فلحق بملك الهياطلة يستجيشه‏.‏

فلما صار بإيران شهر وهي نيسابور نزل برجل من أهلها له ابنة بكر حسنة جميلة فنحكها وهي أم كسرى أنوشروان فكان نكاحه إياها في هذه السفرة لا في تلك في قول بعضهم وعاد ومعه أنوشروان فغلب أخاه جامسب على الملك وكان ملك جامسب ست سنين‏.‏

وغزا قباذ بعد ذلك الروم ففتح مدينة آمد وبنى مدينة أرجان ومدينة حلوان ومات فملك ابنه كسرى أنوشروان بعده فكان ملك قباذ مع سني أخيه جامسب ثلاثًا وأربعين سنة فتولى أنوشروان ما كان أبوه أمر له به‏.‏

وفي أيامه خربت الخزر فأغاربت على بلاده فبلغت الدينور فوجه قباذ قائدًا من عظماء قواده في اثني عشر ألفًا فوطئ بلاد أران وفتح ما بين النهر المعروف بالرس إلى شروان ثم إن قباذ لحق به فبنى بأران مدينة البيلقان ومدينة برذعة وهي مدينة الثغر كله وغيرهما وبقي الخزر ثم بنى سدًا للآن فيما بين أرض شروان وباب اللان وبنى على السد مدنًا كثيرة خربت بعد بناء الباب والأبواب‏.‏لما ملك الحارث بن عمرو بن حجر الكندي العرب وقتل النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس كما ذكرناه بعث إليه قباذ‏:‏ إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد وأحب لقاءك‏.‏

وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء ويداري أعداءه‏.‏ فخرج إليه الحارث والتقيا واصطلحا على أن لا يجوز الفرات أحدٌ من العرب فطمع الحارث الكندي فأمر أصحابه أن يقطعوا الفرات ويغيروا على السواد فسمع قباذ فعلم أنه من تحت يد الحارث فاستدعاه فحضر فقال له‏:‏ إن لصوصًا من العرب صنعت كذا وكذا فقال‏:‏ ما علمت ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود‏.‏

وطلب منه شيئًا من السواد فأعطاه ستة طساسيج وأرسل الحارث بن عمرو إلى تبع وهو باليمن يطمعه في بلاد العجم فسار تبع حتى نزل الحيرة وأرسل ابن أخيه شمرًا ذا الجناح إلى قباذ فحاربه فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري ثم أدركه بها فقتله ثم وجه تبع شمرًا إلى خراسان ووجه ابنه حسان إلى السغد وقال‏:‏ أيكما سبق إلى الصين فهو عليه وكان كل واحد منهما في جيش عظيم يقال‏:‏ كانا في ستمائة ألف وأربعين ألفًا وأرسل ابن أخيه يعفر إلى الروم فنزل على القسطنطينية فأعطوه الطاعة والإتاوة ومضى إلى رومية فحاصرها فأصاب من معه طاعون فوثب الروم عليهم فقتلوهم ولم يفلت منهم أحد‏.‏

وسار شمر ذو الجناح إلى سمرقند فحاصرها فلم يظفر بها وسمع أن ملكها أحمق وأن له ابنةً وهي التي تقضي الأمور فأرسل إليها هديةً عظيمةً وقال لها‏:‏ إنني إنما قدمت لأتزوج بك ومعي أربعة آلاف تابوت مملوءة ذهبًا وفضة أنا أدفعها إليك وأمضي إلى الصين فإن ملكت كنت امرأتي وإن هلكت كان المال لك‏.‏

فلما بلغتها الرسالة قالت‏:‏ قد أجبته فليبعث المال فأرسل أربعة آلاف تابوت في كل تابوت رجلان‏.‏

ولسمرقند أربعة أبواب ولكل باب ألفا رجل وجعل العلامة بينهم أن يضرب بالجرس‏.‏

فلما دخلوا البلد صاح شمر في الناس وضرب بالجرس فخرجوا وملكوا الأبواب ودخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها وسار إلى الصين فهزم الترك ودخل بلادهم ولقي حسان بن تبع قد سبقه إليها بثلاث سنين فأقاما بها حتى ماتا وكان مقامهما فيما قيل إحدى وعشرين سنة وقيل‏:‏ عادا في طرقهما حتى قدما على تبع بالغنائم والسبي والجواهر ثم انصرفوا جميعًا إلى بلادهم ومات تبع باليمن فلم يخرج أحد من اليمن غازيًا بعده‏.‏

وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة وقيل تهودٌ‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ كان تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق بعد أن ملك البلاد جعل طريقه على المدينة وكان حين مر بها في بدايته لم يهج أهلها وخلف عندهم ابنًا له فقتل غيلةً فقدمها عازمًا على تخريبها واستئصال أهلها فجمع له الأنصار حين سمعوا ذلك ورئيسهم عمرو ابن الطلة أحد بني عمرو بن مبذول من بني النجار وخرجوا لقتاله وكانوا يقاتلونه نهارًا ويقرونه ليلًا‏.‏

فبينما هو على ذلك إذ جاءه حبران من بني قريظة عالمان فقالا له‏:‏ قد سمعنا ما تريد أن تفعل وإنك إن أبيت إلا ذلك حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة‏.‏

فقال‏:‏ ولم ذلك فقالا‏:‏ إنها مهاجر نبي من قريش تكون داره‏.‏

فانتهى عما كان يريد وأعجبه ما سمع منهما فاتبعهما على دينهما واسمهما كعب وأسد وكان تبع وقومه أصحاب أوثان‏.‏

وسار من المدينة إلى مكة وهي طريقه فكسا الكعبة الوصائل والملاء وكان أول من كساها وجعل لها بابًا ومفتاحًا وخرج متوجهًا إلى اليمن فدعا قومه إلى اليهودية فأبوا عليه حتى حاكموه إلى النار وكانت لهم نار تحكم بينهم فيما يزعمون تأكل الظالم ولا تضر المظلوم‏.‏

فقال لقومه‏:‏ أنصفتم‏.‏

فخرج قومه بأوثانهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا عند مخرج النار فخرجت النار فغشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران تعرق جباههما لم تضرهما فأصفقت حمير على ديته‏.‏

وكان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي وكان كاهنًا فقال له تبع‏:‏ هل تجد لقومٍ ملكًا يوازي ملكي قال‏:‏ لا إلا لملك غسان‏.‏

قال‏:‏ فهل تجد ملكًا يزيد عليه قال‏:‏ أجد لبار مبرور أيد بالقهور ووصف في الزبور وفضلت أمته في السفور يفرج الظلم بالنور أحمد النبي طوبى لأمته حين يجي أحد بني لؤي ثم أحد بني قصي‏!‏ فنظر تبع في الزبور فإذا هو يجد صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم ملك بعد تبع هذا وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب ربيعة بن نصر اللخمي فلما هلك ربيعة رجع الملك باليمن إلى حسان بن تبان أسعد‏.‏

فلما ملك ربيعة رأى رؤيا هالته فلم يدع كاهنًا ولا ساحرًا ولا عائفًا إلا أحضره وقال لهم‏:‏ رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بتأويلها‏.‏

فقالوا‏:‏ اقصصها علينا‏.‏

فقال‏:‏ إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها فلما قال ذلك قال له رجلٌ منهم‏:‏ إن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سطيح وشق فهما يخبرانك عما سألت‏.‏

واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن غسان وكان يقال له الذئبي نسبةً إلى ذئب بن عدي وشق بن مصعب بن يشكر بن أنمار‏.‏

فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق فلما قدم عليه سطيح سأله عن رؤياه وتأويلها‏.‏

فقال‏:‏ رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض بهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة قال له الملك‏:‏ ما أخطأت منها شيئًا فما عندك في تأويلها فقال‏:‏ أحلف بما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش‏.‏

قال الملك‏:‏ وأبيك يا سطيح إن هذا لغائظ موجع فمتى يكون أفي زماني أم بعده قال‏:‏ بل بعده بحين ستين سنة أو سبعين يمضين من السنين‏.‏

قال‏:‏ هل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع قال‏:‏ بل ينقطع لبضع وسبعين يمضين من السنين ثم يقتلون بها أجمعون ويخرجون منها هاربين‏.‏

قال الملك‏:‏ ومن الذي يلي ذلك قال‏:‏ يليه إرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحدًا منهم باليمن‏.‏

قال‏:‏ فيدوم ذلك من سلطانهن أو ينقطع قال‏:‏ بل ينقطع يقطعه نبي زكي يأتيه الوحي من العلي وهو رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر‏.‏

قال‏:‏ وهل للدهر من آخر قال‏:‏ نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون‏.‏

قال‏:‏ أحق ما تخبرنا يا سطيح قال‏:‏ نعم والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق‏.‏

ثم قدم عليه شق فقال‏:‏ يا شق إني رأيت رؤيا هالتني فأخبرني عنها وعن تأويلها‏!‏ وكتمه ما قال سطيح لينظر هل يتفقان أم يختلفان‏.‏

قال‏:‏ نعم رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة‏.‏ فلما سمع الملك ذلك قال‏:‏ ما أخطأت شيئًا فما تأويلها قال‏:‏ أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان وليملكن ما بين أبين إلى نجران‏.‏

قال الملك‏:‏ وأبيك يا شق‏!‏ إن هذا لغائظ فمتى هو كائن قال‏:‏ بعدك بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ويذيقهم أشد الهوان وهو غلام ليس بدنيً ولا مزن يخرج من بيت ذي يزن‏.‏

فلا يترك أحدًا منهم باليمن قال‏:‏ فهل يدوم سلطانه أم ينقطع قال‏:‏ بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل‏.‏

قال‏:‏ وما يوم الفصل قال‏:‏ يوم تجزى فيه الولاة ويدعى من السماء بدعوات ويسمع منها الأحياء والأموات ويجتمع فيه الناس للميقات‏.‏

فلما فرغ من مسألتهما جهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك‏.‏

فلما هلك ربيعة بن نصر واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان بن أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار كان مما هيج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير أن حسان سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم كما كانت التبابعة تفعل‏.‏

فلما كان بالعراق كرهت قبائل العرب من اليمن المسير معه فكلموا أخاه عمرًا في قتل حسان وتمليكه فأجابهم إلى ذلك إلا ما كان من ذي رعين الحميري فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه فعمد ذو رعين إلى صحيفة فكتب فيها‏.‏فإمّا حميرٌ غدرت وخانت فمعذرة الإله لذي رعين ثم ختمها وأتى بها عمرًا فقال‏:‏ ضع هذه عندك ففعل‏.‏

فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه وقبائل اليمن قال لعمرو‏:‏ يا عمرو لا تعجل عليّ منيتي فالملك تأخذه بغير حشود فأبى إلا قتله فقتله بموضع رحبة مالك فكانت تسمى فرضة نعم فيما قيل ثم عاد إلى اليمن فمنع النوم منه فسأل الأطباء وغيرهم عما به وشكا إليهم السهر فقال له قائل منهم‏:‏ ما قتل أحدٌ أخاه أو ذا رحم بغيًا إلا منع منه النوم‏.‏

فلما سمع ذلك قتل كل من أشار عليه بقتل أخيه حتى خلص إلى ذي رعين فلما أراد قتله قال‏:‏ إن لي عندك براءة‏.‏

قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ أخرج الكتاب الذي استودعتك‏.‏

فأخرجه فإذا فيه البيتان فكف عن قتله ولم يلبث عمرو أن هلك فتفرقت حمير عند ذلك‏.‏

قلت‏:‏ هذا الذي ذكره أبو جعفر من قتل قباذ بالري وملك تبع البلاد من بعد قتله من النقل القبيح والغلط الفاحش وفساده أشهر من أن يذكر فلولا أننا شرطنا أن لا نترك ترجمة من تاريخه إلا ونأتي بمعناها من غير إخلال بشيء لكان الإعراض عنه أولى‏.‏

ووجه الغلط فيه أنه ذكر أن قباذ قتل بالري ولا خلاف بين أهل النقل من الفرس وغيرهم أن قباذ مات حتف أنفه في زمان معلوم وكان ملكه مدة معلومة كما ذكرناه قبل ولم ينقل أحد أنه قتل إلا في هذه الرواية‏.‏

ولما مات ملك ابنه كسرى أنوشروان بعده وهذا أشهر من‏:‏ قفا نبك ولو كان ملك الفرس انتقل بعد قباذ إلى حمير كيف كان ملك ابنه بعده وتمكن في الملك حتى أطاعه ملوك الأمم وحملت الروم إليه الخراج‏!‏ ثم ذكر أيضًا أن تبعًا وجه ابنه حسان إلى الصين وشمرًا إلى سمرقند وابن أخيه إلى الروم وأنه ملك القسطنطينية وسار إلى رومية فحاصرها فيا ليت شعري‏!‏ ما هو اليمن وحضرموت حتى يكون بهما من الجنود ما يكون بعضهم في بلادهم لحفظها وجيش مع تبع وجيش مع حسان يسر بهم إلى مثل الصين في كثرة عساكره ومقاتلته وجيش مع ابن أخيه تبع يلقى به مثل كسرى ويهزمه ويملك بلاده ويحاصر به مثل سمرقند في كبرها وعظمها وكثرة أهلها وجيش مع يعفر يسير بهم إلى ملك الروم ويملك القسطنطينية‏!‏ والمسلمون مع كثرة ممالكهم واتساعها وكثرة عددهم قد اجتهدوا ليأخذوا القسطنطينية أو ما يجاورها واليمن من أقل بلادهم عددًا وجنودًا فلم يقدروا على ذلك فكيف يقدر عليه بعض عساكر اليمن مع تبع هذا مما تأباه العقول وتمجه الأسماع‏.‏

ثم إنه قال‏:‏ إن ملك تبع بلاد الفرس والروم والصين وغيرها كان بعد قتل قباذ يعني أيام ابنه أنوشروان ولا خلاف أن مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في زمن أنوشروان وكان ملكه سبعًا وأربعين سنة ولا خلاف أيضًا أن الحبشة لما ملكت اليمن انقرض ملك حمير منه وكان آخر ملوكهم ذا نواس‏.‏

وكان ملك حمير قد اختل قبل ذي نواس وانقطع نظامهم حتى طمعت الحبشة فيه وملكته وكان ملكهم اليمن أيام قباذ وكيف يمكن أن يكون ملك الحبشة الذي هو مقطوع به أيام قباذ ويكون تبع هو الذي ملك اليمن قد قتل قباذ وملك بلاده قبل أن تملك الحبشة اليمن هذا مردود محال وقوعه وكان ملك الحبشة اليمن سبعين سنة وقيل أكثر من ذلك وكان انقراض ملكهم في آخر ملك أنوشروان والخبر في ذلك مشهور وحديث سيف ذي يزن في ذلك ظاهر ولم يزل اليمن بعد الحبشة في يد الفرس إلى أن ملكه المسلمون فكيف يستقيم أن ينقضي ملك تبع الذي هو ملك بلاد فارس ومن بعده من ملوك حمير وملك الحبشة وهو سبعون سنة في ملك أنوشروان وكان ملكه نيفًا وأربعين سنة وهذا أعجب أن مدة بعضها سبعون سنة تنقضي قبل مضي نيف وأربعين سنة ولو فكر أبو جعفر في ذلك لاستحيا من نقله‏.‏

وأعجب من هذا أنه قال‏:‏ ثم ملك بعد تبع هذا ربيعة بن نصر اللخمي وهذا ربيعة هو جد عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة وكان ملك عمرو والحيرة بعد خاله جذيمة أيام ملوك الطوائف قبل ملك أردشير بن بابك بخمس وتسعين سنة وبين أردشير وقباذ ما يقارب عشرين ملكًا وكيف يكون جد عمرو وقد ملك بعد قباذ وهو قبله بهذا الدهر الطويل ولو لم يترجم أبو جعفر على هذه الحادثة بقوله‏:‏ ذكر الحوادث أيام قباذ لكان يحتمل تأويلًا فيه ثم ما قنع بذلك حتى قال بعد أن قص مسير تبع‏:‏ وقتل قباذ وملك البلاد‏.‏

وأما ابن إسحاق فإنه قال‏:‏ إن الذي سار إلى المشرق من التبابعة هو تبع الأخير ويعني بقوله تبع الأخير أنه آخر من سار إلى المشرق وملك البلاد فإن ابن إسحاق وغيره يقولون إن الذي ملك البلاد المشرقية لما توفي ملك بعده عدة تبابعة ثم اختل أمرهم زمانًا طويلًا حتى طمعت الحبشة فيهم وخرجت إلى اليمن‏.‏

فليت شعري إذا كان هذا تبع في أيام قباذ فلا شك أن تبعًا الأخير الذي أخذ منه اليمن يكون في زمن بني أمية ويكون ملك الحبشة اليمن بعد مدة من ملك بني العباس ويكون أول الإسلام من ثلاثمائة سنة من ملكهم أيضًا مما بعدها حتى يستقيم هذا القول‏.‏

ثم إنه قال‏:‏ إن عمر بن طلحة الأنصاري خرج إلى تبع وعمر هذا قيل إنه أدرك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيخًا كبيرًا ومات عند مرجعه من غزوة بدر‏.‏

ومن الدليل على بطلانه أيضًا أن المسلمين لما قصدوا بلاد الفرس ما زالت الفرس تقول لهم عند مراسلاتهم ومحاوراتهم في حروبهم‏:‏ كنتم أقل الأمم وأذلها وأحقرها والعرب تقر لهم بذلك فلو كان ملك تبع قريب العهد لقالت العرب‏:‏ إننا بالأمس قتلنا ملككم وملكنا بلادكم واستبحنا حريمكم وأموالكم فسكوت العرب عن ذلك وإقرارها للفرس دليل على بعد عهده أو عدمه على أن الفرس لا تقر بذلك لا في قديم الزمان ولا في حديثه فإنهم يزعمون أن ملكهم لم ينقطع من عهد جيومرث الذي هو آدم في قول بعضهم إلى أن جاء الإسلام إلا أيام ملوك الطوائف وكان لملوك الفرس طرف من البلاد في ذلك الزمان لم ينقطع انقطاعًا كليًا على أن أصحاب السير قد اختلفوا في تبع الذي سار وملك البلاد اختلافًا كثيرًا شمر بن غش وقيل‏:‏ تبع أسعد وإنه بعث إلى سمرقند شمرًا ذا الجناح إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا طائل فيها‏.‏

وهذا القدر كافٍ في كشف الخطأ فيه‏.‏

 ذكر ملك لختيعة

فلما هلك عمرو وتفرقت حمير وثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لختيعة تنوف ذو شناتر فملكهم في قول ابن إسحاق فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم وكان امرأ فاسقًا يزعمون أنه كان يعمل عمل قوط لوط فكان إذا سمع بغلام من أبناء الملوك أنه قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة لئلا يملك بعد ذلك ثم يطلع إلى حرسه وجنده قد أخذ سواكًا في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه ثم يخلي سبيله فيفضحه‏.‏كان من أبناء الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد بن كرب وكان صغيرًا حين أصيب أخوه حسان فشب غلامًا جميلًا ذا هيئة فبعث إليه لختيعة ليفعل به ما كان يفعل بغيره فأخذ سكينًا لطيفًا فجعله بين نعله وقدمه ثم انطلق إليه مع رسوله فلما خلا به في المشربة قتله ذو نواس بالسكين ثم احتز رأسه فجعله في كوة مشربته التي يطلع منها ثم أخذ سواكه فجعله في فيه ثم خرج فقالوا‏:‏ ذو نواس أرطب أم يباس فقال‏:‏ سل يحماس استرطبان ذو نواس لا بأس‏.‏

فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال فإذا رأس لختيعة مقطوع فخرجت حمير والحرس في أثر ذي نواس حتى أدركوه فملكوه حيث أراحهم من لختيعة واجتمعوا عليه وكان يهوديًا وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على استقامة لهم رئيس يقال له عبد الله بن الثامر وكان أصل النصرانية بنجران‏.‏

قال وهب بن منبه‏:‏ إن رجلًا من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون وكان رجلًا صالحًا مجتهدًا زاهدًا في الدنيا مجاب الدعوة وكان سائحًا لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها وكان لا يأكل إلا من كسب يده وكان يعمل الطين ويعظم الأحد لا يعمل فيه شيئًا ويخرج إلى الصحراء يصلي جميع نهاره فنزل قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيًا ففطن به رجل اسمه صالح فأحبه حبًا شديدًا وكان يتبعه حيث ذهب لا يفطن به فيميون حتى خرج مرة يوم الأحد إلى الصحراء واتبعه صالح وفيميمون لا يعلم‏.‏

فجلس صالح منه منظر العين مستخفيًا وقام فيميون يصلي فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه تنين فلما رآه فيميون دعا عليه فمات ورآه صالح ولم يدر ما أصاهب فخاف على فيميون فصاح‏:‏ يا فيميون التنين قد أقبل نحوك‏!‏ فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى أمسى وعرف أن صالحًا عرفه فكلمه صالح وقال له‏:‏ يعلم الله أنني ما أحببت شيئًا حبك قط وقد أردت صحبتك حيثما كنت‏.‏

قال‏:‏ افعل‏.‏

فلزمه صالح وكان إذا ما جاءه العبد به ضرٌ شفي إذا دعا له وإذا دعي إلس أحد به ضر لم يأته‏.‏

وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فجعل ابنه في حجرة ألقى عليه ثوبًا ثم قال لفيميون‏:‏ قد أردت أن تعمل في بيتي عملًا فانطلق إليه لأشارطك عليه فانطلق معه فلما دخل الحجرة ألقى الرجل الثوب عن ابنه وطلب إليه أن يدعو له فدعا له فأبصر‏.‏

وعرف فيميون أنه قد عرف بالقرية فخرج هو وصالح ومر بشجرة عظيمة بالشام‏.‏

فناداه رجل وقال‏:‏ ما زلت أنتظرك لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت قال‏:‏ فمات فواراه فيميمون وانصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب وأخذهما بعض العرب فباعوهما بنجران وأهل نجران على دين العرب تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد كل سنة إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وحلي جميل فعكفوا عليها يومًا فابتاع رجل من أشرافهم فيميون وابتاع رجل آخر صالحًا فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيته استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح‏.‏

فلما رأى سيده ذلك أعجبه فسأله عن دينه فأخبره وعاب دين سيده‏.‏

وقال له‏:‏ لو دعوت إلهي الذي أعبد لأهلك النخلة‏.‏

فقال‏:‏ افعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه‏.‏

فصلى فيميون ودعا الله تعالى فأرسل الله عليها ريحًا فجففتها وألقتها فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه فحملهم على شريعة من دين عيسى ودخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض‏.‏

فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ كان أهل نجران يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها ساحر كان أهل نجران يرسلون أولادهم إليه يعلمهم السحر‏.‏

فلما نزلها فيميون وهو رجل كان يعبد الله على دين عيسى بن مريم عليه السلام فإذا عرف في قرية خرج منها إلى غيرها وكان مجاب الدعوة يبرئ المرضى وله كرامات فوصل نجران فسكن خيمة بين نجران وبين الساحر فأرسل الثامر ابنه عبد الله مع الغلمان إلى الساحر فاجتاز بفيميون فرأى ما أعجبه من صلاته فجعل يجلس إليه ويستمع منه فأسلم معه ووحد الله تعالى وعبده وجعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعلمه - فكتمه إياه وقال‏:‏ لن تحتمله والثامر يعتقد أن ابنه يختلف إلى الساحر مع الغلمان‏.‏

فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم الأعظم عمد إلى قداح فكتب عليها أسماء الله جميعها ثم ألقاها في النار واحدًا واحدًا حتى إذا ألقى القدح الذي عليه الاسم الأعظم وثب منها فلم تضره شيئًا فأخذه وعاد إلى صاحبه فأخبره الخبر فقال له‏:‏ امسك على نفسك وما أظن أن تفعل فكان عبد الله لا يلقى أحدًا إذا أتى نجران به ضر إلا قال‏:‏ يا عبد الله أتدخل في ديني حتى أدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء فيقول‏:‏ نعم فيوحد الله ويسلم ويدعو له عبد الله فيشفى حتى لم يبق أحد من أهل نجران ممن به ضر إلا أتاه واتبعه ودعا له فعوفي‏.‏

فرفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال له‏:‏ أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني لأمثلن بك ‏!‏ فقال‏:‏ لا تقدر على ذلك‏.‏

فجعل يرسله إلى الجبل الطويل فيلقى من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأسٌ فأرسله إلى مياه نجران وهي بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس به بأسٌ‏.‏

فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر‏:‏ إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن كما آمنت فإنك إذا فعلت قتلتني‏.‏

فوحد الله الملك ثم ضربه بعصًا بيده فشجه شجة غير كبيرة فقتله فهلك الملك مكانه واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر‏.‏

قال‏:‏ فسار إليهم ذو نواس بجنوده فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل فاختاروا القتل فخد لهم الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريبًا من عشرين ألفًا‏.‏

وهم الذين أنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له ذو نواس واسمه يوسف بن شرحبيل وكان قبل مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسبعين سنة وكان له ساحر حاذق‏.‏

فلما كبر قال للملك‏:‏ إني كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر فبعث إليه غلامًا اسمه عبد الله بن الثامر ليعلمه فجعل يختلف إلى الساحر وكان في طريقه راهب حسن القراءة فقعد إليه الغلام فأعجبه أمره فكان إذا جاء إلى المعلم يدخل إلى الراهب فيقعد عنده فإذا جاء من عنده إلى المعلم ضربه وقال له‏:‏ ما الذي حبسك وإذا انقلب إلى أبيه دخل إلى الراهب فيضربه أبوه ويقول‏:‏ ما الذي أبطأ بك فشكا الغلام ذلك إلى الراهب فقال له‏:‏ إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي وإذا أتيت أباك فقل حبسني المعلم‏.‏

وكان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس فمر بها الغلام فرماها بحجر فقتلها وأتى الراهب فأخبره‏.‏

فقال له الراهب‏:‏ إن لك لشأنًا وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلن علي‏.‏

وصار الغلام يبرئ الأكمة والأبرص ويشفي الناس‏.‏

وكان للملك ابن عم أعمى فسمع بالغلام وقتل الحية فقال‏:‏ ادع الله أن يرد علي بصري‏.‏

فقال الغلام‏:‏ إن رد الله عليك بصرك تؤمن به قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ اللهم إن كان صادقًا فأردد عليه بصره فعاد بصره ثم دخل على الملك فلما رآه تعجب منه وسأله فلم يخبره وألح عليه فدله على الغلام فجيء به فقال له‏:‏ لقد بلغ من سحرك ما أرى‏.‏

فقال‏:‏ أنا لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله من يشاء فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب فجيء به فقال له‏:‏ ارجع عن دينك فأبى فأمر به فوضع المنشار على رأسه فشق بنصفين ثم جيء بابن عم الملك فقال‏:‏ ارجع عن دينك فأبى فشقه قطعتين ثم قال للغلام‏:‏ ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا فان رجع وإلا فاطرحوه من رأسه فذهبوا به إلى الجبل فقال اللهم اكفنيهم‏!‏ فرجف بهم الجبل وهلكوا ورجع الغلام إلى الملك فسأله عن أصحابه فقال‏:‏ كفانيهم الله‏.‏

فغاظه ذلك وأرسله في سفينة إلى البحر ليلقوه فيه فذهبوا به فقال‏:‏ اللهم اكفنيهم‏!‏ فغرقوا ونجا وجاء إلى الملك فقال‏:‏ اقتلوه بالسيف فضربوه فنبا عنه‏.‏

وفشا خبره في اليمن فأعظمه الناس وعلموا أنه على الحق فقال الغلام للملك‏:‏ إنك لن تقدر على قتلي إلا أن تجمع أهل مملكتك وترميني بسهم وتقول‏:‏ بسم الله رب الغلام‏.‏

ففعل ذلك فقتله‏.‏

فقال الناس‏:‏ آمنا برب الغلام‏!‏ فقيل للملك‏:‏ قد نزل بك ما تحذر‏.‏

فأغلق أبواب المدينة وخد أخدودًا وملأه نارًا وعرض الناس فمن رجع عن دينه تركه ومن لم يرجع ألقاه في الأخدود فأحرقه‏.‏وكانت امرأة مؤمنة وكان لها ثلاثة بنين أحدهم رضيع فقال لها الملك‏:‏ ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادك فأبت فألقى ابنيها الكبيرين فأبت ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع‏.‏

قال لها الصغير‏:‏ يا أماه لا ترجعي عن دينك لا بأس عليك‏!‏ فألقاه وألقاها في أثره وهذا الطفل أحد من تكلم صغيرًا‏.‏

قيل‏:‏ حفر رجل خربة بنجران في زمن عمر بن الخطاب فرأى عبد الله ابن الثامر واضعًا يده على ضربة في رأسه فإذا رفعت عنها يده جرت دمًا وإذا أرسلت يده ردها إليها وهو قاعد فكتب فيه إلى عمر فأمر بتركه على حاله‏.‏

 

ذكر ملك الحبشة اليمن

قيل‏:‏ لما قتل ذو نواس من قتل من أهل اليمن في الأخدود لأجل العود عن النصرانية أفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان حتى أعجز القوم فقدم على قيصر فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم‏.‏

فقال له قيصر‏:‏ بعدت بلادك عنا ولكن سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم‏.‏

فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره فأرسل معه ملك الحبشة سبعين ألفًا وأمر عليهم رجلًا يقال له أرياط وفي جنوده أبرهة الأشرم فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن وجمع ذو نواس جنوده فاجتمعوا ولم يكن له حرب غير أنه ناوش شيئًا من قتال ثم انهزموا وخلها أرياط‏.‏

فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه اقتحم البحر بفرسه فغرق ووطئ أرياط اليمن فقتل ثلث رجالهم وبعث إلى النجاشي بثلث سباياهم ثم أقام بها وأذل أهلها‏.‏

وقيل‏:‏ إن الحبشة لما خرجوا إلى المندب من أرض اليمن كتب ذو نواس إلى أقيال اليمن يدعوهم إلى الاجتماع على عدوهم فلم يجيبوه وقالوا‏:‏ يقاتل كل رجل عن بلاده‏.‏

فصنع مفاتيح وحملها على عدة من الإبل ولقي الحبشة وقال‏:‏ هذه مفاتيح خزائن الأموال باليمن فهي لكم ولا تقتلوا الرجال والذرية فأجابوه إلى ذلك وساروا معه إلى صنعاء فقال لكبيرهم‏:‏ وجه أصحابك لقبض الخزائن‏.‏

فتفرق أصحابه ودفع إليهم المفاتيح وكتب إلى الأقيال بقتل كل ثور أسود فقتلت الحبشة ولم ينج منهم إلا الشريد‏.‏

فلما سمع النجاشي جهز إليهم سبعين ألفًا مع أرياط والأشرم فملك البلاد وأقام بها سنين ونازعه أبرهة الأشرم وكان في جنده فمال إليه طائفة منهم وبقي أرياط في طائفة وسار أحدهما إلى الآخر وأرسل أبرهة‏:‏ إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها على بعض شيئًا فيهلكوا ولكن ابرز إلي فأينا قهر صاحبه استولى على جنده‏.‏

فتبارزا فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة فوقعت على رأسه فشرمت أنفه وعينه فسمي الأشرم‏.‏

وحمل غلام لأبرهة يقال له عتودة كان قد تركه كمينًا من خلف أرياط على أرياط فقتله واستولى أبرهة على الجند والبلاد وقال لعتودة‏:‏ احتكم‏.‏

فقال‏:‏ لا تدخل عروس على زوجها من اليمن حتى أصيبها قبله فأجابه إلى ذلك فبقي يفعل بهم هذا الفعل حينًا ثم عدا عليه إنسان من اليمن فقتله فسر أبرهة بقتله وقال‏:‏ لو علمت أنه يحتكم هكذا لم أحكمه‏.‏

ولما بلغ النجاشي قتل أرياط غضب غضبًا شديدًا وحلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته فبلغ ذلك أبرهة فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته فبلغ ذلك أبرهة فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته وأرسلها أيضًا وكتب إليه بالطاعة وإرسال شعره وترابه ليبر قسمه بوضع التراب تحت قدميه فرضي عنه وأقره على عمله‏.‏

فلما استقر باليمن بعث إلى أبي مرة ذي يزن فأخذ زوجته ريحانة بنت ذي جدن ونكحها فولدت له مسروقًا وكانت قد ولدت لذي يزن ولدًا اسمه معدي كرب وهو سيف فخرج ذو يزن من اليمن فقدم الحيرة على عمرو بن هند وسأله أن يكتب له إلى كسرى كتابًا يعلمه محله وشرفه وحاجته فقال‏:‏ إني أفد إلى الملك كل سنة وهذا وقتها فأقام عنده حتى وفد معه ودخل إلى كسرى معه فأكرمه وعظمه وذكر حاجته وشكا ما يلقون من الحبشة واستنصره عليهم وأطمعه في اليمن وكثرة مالها فقال له كسر أنوشروان‏:‏ إني لأحب أن أسعفك بحاجتك ولكن المسالك إليها صعبة وسأنظر وأمر بإنزاله فأقام عنده حتى هلك‏.‏

ونشأ ابنه معدي كرب بن ذي يزن في حجرة أبرهة وهو يحسب أنه أبوه فسبه انب لأبرهة وسب أباه فسأل أمه عن أبيه فصدقته وأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم وسار عن اليمن ففعل ما نذكره إن شاء الله‏.‏

 ذكر ملك كسرى أنوشروان بن قباذ ابن فيروز

بن يزدجرد بن بهرام بن يزدجرد الأثيم لما لبس التاج خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما ابتلوا به من فساد أمورهم ودينهم وأولادهم وأعلمهم أنه يصلح ذلك ثم أمر برؤوس المزدكية فقتلوا وقسمت أموالهم في أهل الحاجة‏.‏ وكان سبب قتلهم أن قباذ كان كما ذكرنا قد اتبع مزدك على دينه وما دعاه إليه وأطاعه في كل ما يأمره به من الزندقة وغيرها مما ذكرنا أيام قباذ وكان المنذر بن ماء السماء يومئذٍ عاملًا على الحيرة ونواحيها فدعاه قباذ إلى ذلك فأبى فدعا الحارث بن عمرو الكندي فأجابه فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته وكانت أم أنوشروان يومًا بين يدي قباذ فدخل عليه مزدك‏.‏

فلما رأى أم أنوشروان قال لقباذ‏:‏ ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها‏.‏

فقال‏:‏ دونكها‏.‏

فوثب إليه أنوشروان ولم يزل يسأله ويتضرع إليه أن يهب له أمه حتى قبل رجله فتركها فحاك ذلك في نفسه‏.‏

فهلك قباذ على تلك الحال وملك أنوشروان فجلس للملك ولما بلغ المنذر هلاك قباذ أقبل إلى أنوشروان وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه واتباع مزدك فإن أنوشروان كان منكرًا لهذا المذهب كارهًا له ثم إن أنوشروان أذن للناس إذنًا عامًا ودخل عليه مزدك ثم دخل عليه المنذر فقال أنوشروان‏:‏ إني كنت تمنيت أمنيتين أرجو أن يكون الله عز وجل قد جمعهما إلي‏.‏

فقال مزدك‏:‏ وما هما أيها الملك قال‏:‏ تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف يعني المنذر وأن أقتل هذه الزنادقة‏.‏

فقال مزدك‏:‏ أوتستطيع أن تقتل الناس كلهم فقال‏:‏ وإنك ها هنا يا ابن الزانية‏!‏ والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا‏.‏

وأمر به فقتل وصلب‏.‏

وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم وسمي يومئذٍ أنوشروان‏.‏وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو فبلغه ذلك وهو بالأنبار فخرج هاربًا في صحابته وماله وولده فمر بالثوية فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء فلحق بأرض كلب ونجا وانتهبوا ماله وهجائنه وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسًا من بني آكل المرار فقدموا بهم على المنذر فضرب رقابهم بحفر الأميال في ديار بني مرين العباديين بين دير بني هند والكوفة فذلك قول عمرو بن كلثوم‏:‏ فآبوا بالنّهاب وبالسبّايا وأبنا بالملوك مصفّدينا وفيهم يقول امرؤ القيس‏:‏ ملوكٌ من بني حجر بن عمرو يساقون العشيّة يقتلونا فلو في يوم معركةٍ أصيبوا ولكن في ديار بني مرينا ولم تغسل جماجمهم بغسلٍ ولكن في الدماء ومرمّلينا تظلّ الطّير عاطفةً عليهم وتنتزع الحواجب والعيونا ولما قتل أنوشروان مزدك وأصحابه أمر بقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم ورد الأموال إلى أهلها وأمر بكل مولود اختلفوا فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه وأن يعطى نصيبًا من ملك الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ مهرها وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء وجهزهن من بيت المال وأنكح نساءهم من الأشراف واستعان بأبنائهم في أعماله وعمر الجسور والقناطر وأصلح الخراب وتفقد الأساورة وأعطاهم وبنى في الطرق القصور والحصون وتخير الولاة والعمال والحكام واقتدى بسيرة أردشير وارتجع بلادًا كانت مملكة الفرس منها‏:‏ السند وسندوست والرخج وزابلستان وطخارستان وأعظم القتل في النازور وأجلى بقيتهم عن بلاده‏.‏

واجتمع أبخز وبنجر وبلنجر واللان على قصد بلاده فقصدوا أرمينية للغارة على أهلها وكان الطريق سهلًا فأمهلهم كسرى حتى توغلوا في البلاد وأرسل إليهم جنودًا فقاتلوهم فأهلكوهم ما خلا عشرة آلاف رجل أسروا فأسكنوا أذربيجان‏.‏

وكان لكسرى أنوشروان ولد هو أكبر أولاده اسمه أنوشزاد فبلغه عنه أنه زنديق فسيره إلى جنديسابور وجعله معه جماعة يثق بدينهم ليصلحوا دينه وأدبه‏.‏

فبينما هم عنده غذ بلغه خبر مرض والده لما دخل بلاد الروم فوثب بمن عنده فقتلهم وأخرج أهل السجون فاستعان بهم وجمع عنده جموعًا من الأشرار فأرسل إليهم نائب أبيه بالمدائن عسكرًا فحصروه بجنديسابور وأرسل الخبر إلى كسرى فكتب إليه يأمره بالجد في أمره وأخذه أسيرًا فاشتد الحصار حينئذٍ عليه ودخل العساكر المدينة عنوةً فقتلوا بها خلقًا كثيرًا وأسروا أنوشزاد فبلغه خبر جده لأمه الداور الرازي فوثب بعامل سجستان وقاتله فهزمه العامل فالتجأ إلى مدينة الرخج وامتنع بها ثم كتب إلى كسرى يعتذر ويسأله أن ينفذ إليه من يسلم له البلد ففعل وآمنه‏.‏

وكان الملك فيروز قد بنى بناحية صول واللان بناء يحصن به بلاده وبنى عليه ابنه قباذ زيادة فلما ملك كسرى أنوشروان بنى في ناحية صول وجرجان بناء كثيرًا وحصونًا حصن بها بلاده جميعها‏.‏

وإن سيجيور خاقان قصد بلاده وكان أعظم الترك واستمال الخزر وأبخز وبلنجر فأطاعوه فأقبل في عدد كثير وكتب إلى كسرى يطلب منه الإتاوة ويتهدده إن لم يفعل فلم يجبه كسرى إلى شيء مما طلب لتحصينه بلاده وإن ثغر أرمينية قد حصنه فصار يكتفي بالعدد اليسير فقصده خاقان فلم يقدر على شيء منه وعاد خائبًا وهذا خاقان هو الذي قتل ورد ملك الهياطلة وأخذ كثيرًا من بلادهم‏.‏

 

ذكر ملك كسرى بلاد الروم

كان بين كسرى أنوشروان وبين غطيانوس ملك الروم هدنة فوقع بين رجل من العرب كان ملكه غطيانوس على عرب الشام يقال له خالد بن جبلة وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز يقال له المنذر بن النعمان فتنةٌ فأغار خالد على ابن النعمان فقتل من أصحابه مقتلةً عظيمةً وغنم أمواله فكتب كسرى إلى غطيانوس يذكره ما بينهما من العهد والصلح ويعلمه ما لقي المنذر من خالد وسأله أن يأمر خالد برد ما غنم إلى المنذر ويدفع له دية من قتل من أصحابه وينصفه من خالد وإنه إن لم يفعل ينقض الصلح‏.‏

ووالى الكتب إلى غطيانوس في إنصاف المنذر فلم يحفل به‏.‏

فاستعد كسرى وغزا بلاد غطيانوس في بضعة وسبعين ألفًا وكان طريقه على الجزيرة فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء وعبر إلى الشام فملك منبج وحلب وإنطاكية وكانت أفضل مدائن الشام وفامية وحميص ومدنًا كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوةً واحتوى على ما فيها من الموال والعروض وسبى أهل مدينة إنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد وأمر فبنيت لهم مدينة إلى جانب مدينة طيسفون على بناء مدينة إنطاكية وأسكنهم إياها وهي التي تسمى الرومية وكور لها خمسة طساسيج‏:‏ طسوج النهروان الأعلى وطسوج النهروان الأوسط وطسوج النهروان الأسفل وطسوج بادرايا وطسوج باكسايا وأجرى على السبي الذين نقلهم إليها من إنطاكية الأرزاق وولى القيام بأمرهم رجلًا من نصارى الأهواز ليستأنسوا به لموافقته في الدين وأما سائر مدن الشام ومضر فإن غطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه وضمن له فدية يحملها وسار أنوشروان من الروم إلى الخزر فقتل منهم وغنم وأخذ منهم بثأر رعيته‏.‏

ثم قصد اليمن فقتل فيها وغنم وعاد إلى المدائن وقد ملك ما دون هرقلة وما بينه وبين البحرين وعمان‏.‏

وملك النعمان بن المنذر على الحيرة وأكرمه وسار نحو الهياطلة ليأخذ بثأر جده فيروز وكان أنوشروان قد صاهر خاقان قبل ذلك ودخل كسرى بلادهم فقتل ملكهم واستأصل أهل بيته وتجاوز بلخ وما وراء النهر وأنزل جنوده فرغانة ثم عاد إلى المدائن‏.‏

وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنده إلى اليمن فقتلوا الحبشة وملكوا البلاد‏.‏

وكان ملكه ثمانيًا وأربعين سنة وقيل‏:‏ سبعًا وأربعين سنة‏.‏

وكان مولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخر ملكه وقيل‏:‏ ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأربع وعشرين سنة مضت من ملك أنوشروان وولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة اثنتين وأربعين من ملكه‏.‏

قال هشام بن الكلبي‏:‏ ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان سبع سنين ثم ملك بعده النعمان بن الأسود أربع سنين ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي اللخمي ثلاث سنين ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء ولقب ذو القرنين لضفيرتين كانتا له وأمه ماء السماء وهي ماوية ابنة عمرو بن جشم ابن النمر بن قاسط تسعًا وأربعين سنة ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر ست عشرة سنة‏.‏

قال‏:‏ ولثماني سنين وثمانية أشهر من ولايته ولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك أيام أنوشروان عام الفيل‏.‏

فلما دانت لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند وهي أرض الجوهر قائدًا من قواده في جند كثيف فقاتل ملكها فقتله واستولى عليها وحمل إلى كسرى منها أموالًا عظيمة وجواهر كثيرة‏.‏

ولم يكن ببلاد الفرس بنات اوى فجاءت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان فشق عليه ذلك وأحضر موبذان موبذ وقال له‏:‏ قد بلغنا تساقط هذه السباح إلى بلادنا وقد تعاظمنا ذلك فأخبرنا برأيك فيها‏.‏

فقال‏:‏ سمعت فقهاءنا يقولون‏:‏ متى لم يغلب العدل الجور في البلاد بل جار أهلها غزاهم أعداؤهم وأتاهم ما يكرهون‏.‏

فلم يلبث كسرى أن أتاه أن فتيانًا من الترك قد غزوا أقصى بلاده فأمر وزراءه وعماله أن لا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل ولا يعملوا في شيء منها إلا به ففعلوا ما أمرهم فصرف الله ذلك العدو عنهم من غير حرب‏.‏

 ذكر ما فعله أنوشروان بأرمينية وأذربيجان

كانت أرمينية وأذربيجان بعضها للروح وبعضها للخزر فبنى قباذ سورًا مما يلي بعض تلك الناحية فلما توفي وملك ابنه أنوشروان وقوي أمره وغزا فرغانة والبرجان وعاد بنى مدينة الشابران ومدينة مسقط ومدينة الباب والأبواب وإنما سميت أبوابًا لأنها بنيت على طريق في الجبل وأسكن المدن قومًا سماهم السياسجين وبنى غير هذه المدن وبنى لكل باب قصرًا من حجارة وبنى بأرض جرزان مدينة سغدبيل وأنزلها السغد وأبناء فارس وبنى باب اللان وفتح جميع ما كان بأيدي الروم من أرمينية وعمر مدينة أردبيل وعدة حصون وكتب إلى ملك الترك يسأله الموادعة والاتفاق ويخطب إليه ابنته ورغب في صهره وتزوج كل واحد بابنة الآخر‏.‏

فأما كسرى فإنه أرسل إلى خاقان ملك الترك بنتًا كانت قد تبنتها بعض نسائه وذكر أنها ابنته وأرسل ملك الترك ابنته واجتمعا فأمر أنوشروان جماعةً من ثقاته أن يكبسوا طرفًا من عسكر الترك ويحرقوا فيه ففعلوا فلما أصبحوا شكا ملك الترك ذلك فأنكر أن يكون له علم به ثم أمر بمثل ذلك بعد ليال فضج التركي فرفق به أنوشروان فاعتذر إليه ثم أمر أنوشروان أن تلقى النار في ناحية من عسكره فيها أكواخ من حشيش فلما اصبح شكا إلى التركي قال‏:‏ كافأتني بالتهمة‏!‏ فحلف التركي أنه لم يعلم بشيء من ذلك فقال أنوشروان له‏:‏ إن جندنا قد كرهوا صلحنا لانقطاع العطاء والغارات ولا أمن أن يحدثوا حدثًا يفسد قلوبنا فنعود إلى العدواة والرأي أن تأذن لي في بناء سور يكون بيني وبينك نجعل عليه أبوابًا فلا يدخل إليك إلا من تريده ولا يدخل إلينا إلا من نريده‏.‏

فأجابه إلى ذلك‏.‏وبنى أنوشروان السور من البحر وألحقه برؤوس الجبال وعمل عليه أبواب الحديد ووكل به من يحرسه‏.‏

فقيل لملك الترك‏:‏ إنه خدعك وزوجك غير ابنته وتحصن منك فلم تقدر له على حيلة‏.‏

وملك أنوشروان ملوكًا رتبهم على النواحي فمنهم صاحب السرير وفيلان شاه واللكز ومسقط وغيرها ولم تزل أرمينية بأيدي الفرس حتى ظهر الإسلام فرفض كثير من السياسجين حصونهم ومدائنهم حتى خربت واستولى عليها الخزر والروم وجاء الإسلام وهي كذلك‏.‏