فصل: ذكر يوم أغواث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر يوم أغواث

ولما أصبح القوم وكل سعد بالقتلى والجرحى من ينقلهم إلى العذيب فسلم الجرحى إلى النساء ليقمن عليهم وأما القتلى فدفنوا هنالك على مشرق وهو وادٍ بين العذيب وعين الشمس‏.‏

فلما نقل سعد القتلى والجرحى طلعت نواصي الخيل من الشام وكان فتح دمشق قبل القادسية بشهر فلما قدم كتاب عمر على أبي عبيدة بن الجراح بإرسال أهل العراق سيرهم وعليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي فتعجل القعقاع فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم وهو يوم أغواث وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشارًا وهم ألفٌ كلما بلغ عشرة مدى البصر سرحوا عشرة فقدم أصحابه في عشرة فأتى الناس فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وحرضهم على القتال وقال‏:‏ اصنعوا كما أصنع وطلب البراز فقالوا فيه بقول أبي بكر‏:‏ ‏(‏لا يهزم جيش فيهم مثل هذا‏)‏‏.‏

فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع فنادى‏:‏ يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر‏!‏ وتضاربا فقتله القعقاع وجعلت خيله ترد إلى الليل وتنشط الناس وكأن لم يكن بالأمس مصيبة وفرحوا بقتل ذي الحاجب وانكسرت الأعاجم بذلك‏.‏

وطلب القعقاع البراز فخرج إليه الفيرزان والبنذوان فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أحد بيني تيم اللات فتبارزوا فقتل القعقاع الفيرزان وقتل الحارث البنذوان ونادى

القعقاع‏:‏ يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس بها‏!‏ فاقتتلوا حتى المساء فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئًا مما يعجبهم وأكثر المسلمون فيهم القتل ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل كانت وابيتها تكسرت بالأمس فاستأنفوا عملها فلم يفرغوا منها حتى كان الغد‏.‏

وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة من أصحابه كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون وحمل بنو عم للقعقاع عشرةً عشرة على إبل قد ألبسوها وهي مجللة مبرقعة وأطاف بهم خيولهم تحميهم وأمرهم القعقاع أن يحملوها على خيل الفرس يتشبهون بالفيلة ففعلوا بهم هذا اليوم وهو يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث فجعلت خيل الفرس تفر منها وركبتها خيول المسلمين‏.‏

فلما رأى الناس ذلك استنوا بهم فلقي الفرس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث‏.‏

وحمل رجل من تميم على رستم يريد قتله فقتل دونه‏.‏

وخرج رجل من فارس يبارز فبرز إليه الأعرف بن الأعلم العقيلي فقتله ثم برز إليه آخر فقتله وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه وأخذوا سلاحه فغبر في وجوههم التراب حتى رجع إلى أصحابه‏.‏

وحمل القعقاع بن عمرو يومئذٍ ثلاثين حملة كلما طلعت قطعة حمل حملة وأصاب فيها وقتل فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني‏.‏

وبارز الأعور بن قطبة شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه وقاتلت الفرسان إلى انتصاف النهار‏.‏

فلما اعتدل النهار تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف الليل‏.‏

فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة وليلة أغواث تدعى السواد ولم يزل المسلمون يرون يوم أغواث الظفر وقتلوا فيه عامة أعلامهم وجالت فيه خيل القلب وثبت رجلهم فلولا أن خيلهم عادت أخذ رستم أخذًا‏.‏

وبات الناس على ما بات عليه القوم ليلة أرماث ولم يزل المسلمون ينتمون‏.‏

فلما سمع سعد ذلك قال لبعض من عنده‏:‏ إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء وإن سكتوا ولم ينتم الأخرون فلا توقظني فإنهم على السواء فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني فإن انتماءهم عن السوء‏.‏

ولما اشتد القتال وكان أبو محجن قد حبس وقيد فهو في القصر فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله فزبره ورده فنزل فأتى فقال لسلمى زوج سعد‏:‏ هل لك أن تخلي عني وتعيريني البلقاء فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي‏.‏

فقال‏:‏ كفى حزنًا أن تلتقي الخيل بالقنا ** وأترك مشدودًا علي وثاقيــا

إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ** مصاريع دوني قد تصم المناديا

وقد كنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ ** فقد تركوني واحدًا لا أخــا ليا

فرقت له سلمى وأطلقته وأعطته البلقاء فرس سعد فركبها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر ثم حمل على ميسرة الفرس ثم رجع خلف المسلمين وحمل على ميمنتهم وكان يقصف الناس قصفًا منكرًان وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه فقال بعضهم‏:‏ هو من أصحاب هاشم أو هاشم نفسه وكان سعد يقول‏:‏ لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ هذا الخضر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لولا أن الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنه ملك‏.‏

فلما انتصف الليل وتراجع المسلمون والفرس عن القتال أقبل أبو محجن فدخل القصر وأعاد رجليه في القيد وقال‏:‏ لقد علمت ثقيفٌ غير فخرٍ بأنا نحن أكرمهم سيوفا وأكثرهم دروعًا سابغاتٍ وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا وأنا وفدهم في كل يومٍ فإن عموا فسل بهم عريفا وليلة قادسٍ لم يشعروا بي ولم أشعر بمخرجي الزحوفا فإن أحبس فذلكم بلائي وإن أترك أذيقهم الحتوفا فقالت له سلمى‏:‏ في أي شيء حبسك فقال‏:‏ والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته ولكنني كنت صاحب شرابٍ في الجاهلية وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فقلت‏:‏

ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها فلذلك حبسني‏.‏

فلما أصبحت أتت سعدًا فصالحته وكانت مغاضبة له وأخبرته بخبر أبي محجن فأطلقه فقال‏:‏ اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله‏.‏

قال‏:‏ لا جرم والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدًا‏!‏ ذكر يوم عماس ثم أصبحوا اليوم الثالث وهم على مواقفهم وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان من جريحٍ وميتٍ ومن المشركين عشرة آلاف فجعل المسلمون ينقلون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء وكان النساء والصبيان يحفرون القبور وكان على الشهداء حاجب بن زيد‏.‏

وأما قتلى المشركين فبين الصفين لم ينقلوا وكان ذلك مما قوى المسلمين وبات القعقاع تلك الليلة يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه من الأمس وقال‏:‏ إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائةً مائة فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدًا ففعلوا ولا يشعر به أحد‏.‏

وأصبح الناس على مواقفهم فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحاب القعقاع فحين رآهم كبر وكبر المسلمون وتقدموا وتكتبت الكتائب واختلفوا الضرب والطعن والمدد متتابع فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم فأخبر بما صنع القعقاع فعبى أصحابه سبعين سبعين وكان فيهم قيس بن هبيرة ابن عبد يغوث المعروف بقيس بن المكشوح المرادي ولم يكن من أهل الأيام إنما كان باليرموك فانتدب مع هاشم حتى إذا خالط القلب كبر وكبر المسلمون وقال‏:‏ أول قتال المطاردة ثم المراماة ثم حمل على المشركين يقاتلهم حتى خرق صفهم إلى العتيق ثم عاد‏.‏

وكان المشركون قد باتوا يعملون توابيتهم حتى أعادوها وأصبحوا على مواقفهم وأقبلت الرجالة مع الفيلة يحمونها أن تقطع وضنها ومع الرجالة فرسان يحمونهم فلم تنفر الخيل منهم كما كانت بالأمس لأن الفيل إذا كان وحده كان أوحش وإذا أطافوا به كان آنس وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدًا العرب والعجم فيه سواء ولا تكون بينهم نقطة إلا أبلغوها يزدجر بالأصوات فيبعث إليهم أهل النجدات ممن عنده فلولا أن الله ألهم القعقاع ما فعل في اليومين وإلا كسر ذلك المسلمين‏.‏

وقاتل قيس بن المكشوح وكان قد قدم مع هاشم قتالًا شدديًا وحرض أصحابه وقال عمرو بن معدي كرب‏:‏ إني حاملٌ على الفيل ومن حوله لفيل بإزائه فلا تدعوني أكثر من جزر جزور فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور يعني نفسه وأين لكم مثل أبي ثور‏!‏ فحمل وضرب فيهم حتى ستره الغبار وحمل أصحابه فأفرج المشركون عنه بعدما صرعوه وإن سيفه لفي يده يصارمهم وقد طعن فرسه فأخذ برجل فرس أعجمي فلم يطق الجري فنزل عنه صاحبه إلى أصحابه وركب عمرو‏.‏

وبرز فارسي فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له شبر بن علقمة وكان قصيرًا فترجل الفارسي إليه فاحتمله وجلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود في منطقته فلما سل سيفه نفر الفرس فجذبه المقود فقلبه عنه وتبعه المسلم فقتله وأخذ سلبه فباعه باثني عشر ألفًا‏.‏

فلما رأى سعد الفيول قد فرقت بين الكتائب وعادت لفعلها أرسل إلى القعقاع وعاصم ابني عمرو‏:‏ اكفياني الأبيض وكانت كلها آلفة له وكان بإزائهما وقال لحمال والزبيل‏:‏ اكفياني الأجرب وكان بإزائهما فأخذ القعقاع وعاصم رمحين وتقدما في خيل ورجل وفعل حمال والزبيل مثل فعلهما فحمل القعقاع وعاصم فوضعا رمحيهما في عين الفيل الأبيض فنفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره فضربه القعقاع فرمى به ووقع لجنبه وقتلوا من كان عليه وحمل حمال والزبيل الأسديان على الفيل الآخر فطعنه حمال في عينه فأقعى ثم استوى وضربه الزبيل فأبان مشفره وبصر به سائسه فبقر أنفه وجبينه بالطبرزين فأفلت الزبيل جريحًا فبقي الفيل جريحًا متحيرًا بين الصفين كلما جاء صف المسلمين وخزوه وإذا أتى صف المشركين نخسوه‏.‏

وولى الفيل وكان يدعى الأجرب وقد عور حمالٌ عينيه فألقى نفسه في العتيق فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم فعبرت في أثره فأتت المدائن في توابيتها وهلك من فيها‏.‏

فلما ذهبت الفيلة وخلص المسلمون والفرس ومال الظل تزاحف المسلمون فاجتلدوا حتى أمسوا وهم على السواء‏.‏

فلما أمسى الناس اشتد القتال وصبر الفريقان فخرجا على السواء‏.‏

 ذكر ليلة الهرير وقتل رستم

قيل‏:‏ إنما سميت بذلك لتركهم الكلام إنما كانوا يهرون هريرًا‏.‏

وأرسل سعد طليحة وعمرًا ليلة الهرير إلى مخاضة أسفل العسكر ليقوموا عليها خشية أن يأتيه القوم منها‏.‏

فلما أتياها قال طليحة‏:‏ لو خضنا وأتينا الأعاجم من خلفهم‏.‏

قال عمرو‏:‏ بل نعبر أسفل‏.‏

فافترقا وأخذ طليحة وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات ثم ذهب وقد ارتاع أهل فارس وتعجب المسلمون وطلبه الأعاجم فلم يدركوه‏.‏

وأما عمرو فإنه أغار أسفل المخاضة ورجع وخرج مسعود بن مالك الأسدي وعاصم بن عمرو وابن ذي البردين الهلالي وابن ذي السهمين وقيس ابن هبيرة الأسدي وأشباههم فطاردوا القوم فإذا هم لا يشدون ولا يريدون غير الزحف فقدموا صفوفهم وزاحفهم الناس بغير إذن سعد وكان أول من زاحفهم القعقاع وقال سعد‏:‏ اللهم اغفرها له وانصره فقد أذنت له إن لم يستأذني‏.‏

ثم قال‏:‏ أرى الأمر ما فيه هذا فإذا كبرت ثلاثًا فاحملوا وكبر واحدةً فلحقهم أسد فقال‏:‏ اللهم اغفرها لهم وانصرهم‏.‏

ثم حملت النع فقال‏:‏ اللهم اغفرها لهم وانصرهم‏.‏

ثم حملت بجيلة فقال‏:‏ اللهم اغفرها لهم وانصرهم‏.‏

ثم حملت كندة فقال‏:‏ اللهم اغفرها لهم وانصرهم‏.‏

ثم زحف الرؤساء ورحا الحرب تدور على القعقاع وتقدم حنظلة بن الربيع وأمراء الأعشار وطليحة وغالب وحمال وأهل النجدات ولما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضًا وخالطوا القوم واستقبلوا الليل استقبالًا بعد ما صلوا العشاء وكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم إلى الصباح وأفرغ الله الصبر عليهم إفراغًا وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها ورأى العرب والعجم أمرًا لم يروا مثله قط وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم وأقبل سعد على الدعاء فلما كان عند الصبح انتمى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون وكان أول شيء سمعه نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول‏:‏ نحن قتلنا معشرًا وزائدًا أربعةً وخمسةً وواحدا نحسب فوق اللبد الأساودا حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا الله ربي واحترزت عامدا وقتلت كندة تركًا الطبري وكان مقدمًا فيهم‏.‏

وأصبح الناس ليلة الهرير - وتسمى ليلة القادسية من بين تلك الليالي - وهم حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها‏.‏

فسار القعقاع في الناس فقال‏:‏ إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم فاصبروا ساعة واحملوا فإن النصر مع الصبر فأثروا الصبر على الجزع‏.‏

فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح فلما رأت ذلك القبائل قام فيها رؤساؤهم وقالوا‏:‏ لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم ولا هؤلاء يعني الفرس أجرأ على الموت منكم‏.‏

فحملوا فيما يليهم وخالطوا من بإزائهم فاقتتلوا حتى قام قائم الظهيرة فكان أول من زال الفيرزان والهرمزان فتأخرا وثبتا حيث انتهيا وانفرج القلب وركد عليهم النقع وهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق وهي دبور ومال الغبار عليهم وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به وقد قام رستم عنه حين أطارت الريح الطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال فهي واقفة فاستظل في ظل بغل وحمله وضرب هلال بن علقمة الحمل الذي تحته رستم فقطع حباله ووقع عليه أحد العدلين ولا يراه هلال ولا يشعر به فأزال عن ظهره فقارًا وضربه هلال ضربة فنفحت مسكًا‏.‏

ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه واقتحمه هلال عليه وأخذ برجليه ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله ثم ألقاه بين أرجل البغال ثم صعد السرير وقال‏:‏ قتلت رستم ورب الكعبة‏!‏ إلي إلي‏!‏ فأطافوا به وكبروا فنفله سعد سلبه وكان قد أصابه الماء ولم يظفر بقلنسوته ولو ظفر فها لكانت قيمتها مائة ألف‏.‏

وقيل‏:‏ إن هلالًا لما قصد رستم رماه رستم بنشابة أثبت قدمه بالركاب فحمل عليه هلال فضربه فقتله ثم احتز وعلقه ونادى‏:‏ قتلت رستم‏!‏ فانهزم قلب المشركين‏.‏

وقام الجالينوس على الردم ونادى الفرس إلى العبور وأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر وهم ثلاثون ألفًا وأخذ ضرار بن الخطاب درفش كابيان وهو العلم الأكبر الذي كان للفرس فعوض منه ثلاثين ألفًا وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف‏.‏

وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف فدفنوا في الخندق حيال مشرق ودفن ما كان قبل ليلة الهرير على مشرق وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده مثله‏.‏

وأرسل سعد إلى هلال فسأله عن رستم فأحضره فقال‏:‏ جرده إلا ما شئت‏.‏

فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئًا‏.‏

وأمر القعقاع وشرحبيل باتباعهم حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية وخرج زهرة بن الحوية التميمي في آثارهم في ثلاثمائة فارس ثم أدركه الناس فلحق المنهزمين والجالينوس يجمعهم فقتله زهرة وأخذ سلبه وقتلوا ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف وعادوا من أثر المنهزمين ومعهم الأسرى فرؤي شاب من النخع وهو يسوق ثمانين رجلًا أسرى من الفرس‏.‏

واستكثر سعدٌ سلب الجالينوس فكتب فيه إلى عمر‏.‏

فكتب عمر إلى سعد‏:‏ تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه امض له سلبه وفضله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة‏.‏

ولما اتبع المسلمون الفرس كان الرجل يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله وربما أخذ سلاحه فقتله به وربما أمر رجلين فيقتل أحدهما صاحبه‏.‏

ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة منهم قد نصبوا راية وقالوا‏:‏ لا نبرح حتى نموت فقتلهم سلمان ومن معه‏.‏

وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة استحيوا من الفرار وقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين لكل كتيبة منها رئيس‏.‏

وكان قتال أهل الكتائب من الفرس على وجهين منهم من هرب ومنهم من ثبت حتى قتل وكان ممن هرب من أمراء الكتائب الهرمزان وكان بإزاء عطارد ومنهم أهوذ وكان بإزاء حنظلة بن الربيع وهو كاتب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنهم زاد بن بهيش وكان بإزاء عاصم بن

عمرو ومنهم قارن وكان بإزاء القعقاع وكان ممن ثبت وقتل شهريار بن كنارا وكان بإزاء سلمان ابن ربيعة وابن الهربذ وكان بإزاء عبد الرحمن بن ربيعة والفرخان الأهوازي وكان بإزاء بسر بن أبي رهم الجهني ومنهم خشدسوم الهمذاني وكان بإزاء ابن الهذيل الكاهلي‏.‏

وتراجع الناس من طلب المنهزمين وقد قتل مؤذنهم فتشاج المسلمون في الأذان حتى كادوا يقتتلون وأقرع سعد بينهم فخرج سهم رجل فأذن‏.‏

وفضل أهل البلاء من أهل القادسية عند العطاء بخمسمائة خمسمائة وهم خمسة وعشرون رجلًا منهم‏:‏ زهرة وعصمة الضبي والكلج وأما أهل الأيام قبلها فإنهم فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية فقيل لعمر‏:‏ لو ألحقت بهم أهل القادسية‏.‏

فقال‏:‏ لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم‏.‏

وقيل له‏:‏ لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه‏.‏

قال‏:‏ كيف أفضل عليهم وهم شجن العدو‏!‏ فهلا فعل المهاجرون بالأنصار هذا‏!‏ وكانت العرب تتوقع وقعة العرب وأهل فارس بالقادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين وفيما بين الأبلة وأيلة يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها وكانت في كل بلد مصيخة إليها تنظر ما يكون من أمرها‏.‏

فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن فأتت بها أناسًا من الإنس فسبقت أخبار الإنس إليهم‏.‏

وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبعدة من قتلوا وبعدة من أصيب من المسلمين وسمى من يعرف مع سعد بن عميلة الفزاري‏.‏

وكان عمر يسأل الركبان من حين يصبح إلى انتصاف النهار عن أهل القادسية ثم يرجع إلى أهله ومنزله قال‏:‏ فلما لقي البشير سأله من أين فأخبره قال‏:‏ يا عبد الله حدثني‏.‏

قال‏:‏ هزم الله المشركين‏.‏

وعمر يخب معه يسأله والآخر يسير على ناقته لا يعرفه حتى دخل المدينة وإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين قال البشير‏:‏ هلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين‏!‏ فقال عمر‏:‏ لابأس عليك يا أخي‏.‏

وأقام المسلمون بالقادسية في انتظار قدوم البشير وأمر عمر الناس أن يقوموا على أقباضهم ويصلحوا أحوالهم ويتابع إليهم أهل الشام ممن شهد اليرموك ودمشق ممدين لهم وجاء أولهم يوم أغواث وآخرهم بعد الغد يوم الفتح فكتبوا فيهم إلى عمر يسألونه عما ينبغي أن يشار فيه مع نذير بن عمرو‏.‏

وقيل‏:‏ كانت وقعة القادسية سنة ست عشرة قال‏:‏ وكان بعض أهل الكوفة يقول‏:‏ إنها كانت سنة خمس عشرة وقد تقدم أنها كانت سنة أربع عشرة‏.‏

حمضة بن النعمان بضم الحاء المهملة وفتح الميم وبالضاد المعجمة‏.‏

بسر بن أبي رهم بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة‏.‏

والحوية بفتح الحاء المهملة وكسر الواو وقيل بالجيم

المضمومة وفتح الواو والأول أصح‏.‏

وحمال بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم‏.‏

والمعنى بضم الميم وفتح العين المهملة والنون المشددة‏.‏

وحصين بن نمير بضم الحاء وفتح الصاد‏.‏

ومعاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم‏.‏

والمعتم بضم الميم وسكون العين المهملة وفتح التاء فوقها نقطتان وآخره ميم مشددة‏.‏

وصرار بكسر الصاد المهملة وبالرائين المهملتين بينهما ألف‏:‏ موضع عند المدينة‏.‏

وصنين بكسر الصاد المهملة والنون المشددة بعدها ياء ساكنة معجمة باثنتين من تحتها وآخره نون‏:‏ موضع من ناحية الكوفة‏.‏

انتهى خبر القادسية‏.‏

 ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة

قيل‏:‏ في هذه السنة بعث عمر عتبة بن غزوان إلى البصرة وكان بها قطبة بن قتادة السدوسي يغير بتلك الناحية كما كان يغير المثنى بناحية الحيرة فكتب إلى عمر يعلمه مكانه وأ ه لو كان معه عددٌ يسيرٌ ظفر بمن كان قبله من العجم فنفاهم عن بلادهم‏.‏

فكتب إليه عمر يأمره بالمقام والحذر ووجه إليه شريح بن عامر أحد بني سعد بن بكر فأقبل إلى البصرة وترك بها قطبة ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس وفيها مسلحة الأعاجم فقتلوه فبعث عمر عتبة بن يا عتبة إني قد استعملتك على أرض الهند وهي حومة من حومة العدو وأرجو أن يكفيك الله ما حولها ويعينك عليها وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي أن يمدك بعرفجة بن هرثمة وهو ذو مجاهدة ومكايدة للعدو فإذا قدم عليك فاستشره وقربه وادع إلى الله فمن أجابك فاقبل منه ومن أبي فالجزية وإلا فالسيف في غير هوادة واتق الله فيما وليت وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر مما يفسد عليك إخوتك وقد صحبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعززت به بعد الذلة وقويت به بعد الضعف حتى صرت أميرًا مسلطًا وملكًا مطاعًا تقول فيسمع منك وتأمر فيطاع أمرك فيا لها نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتبطرك على من دونك واحتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية ولهي أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك فتسقط سقطة تصير بها إلى جهنم أعيذك بالله ونفسي من ذلك‏.‏

إن الناس أسرعوا إلى الله حتى رفعت لهم الدنيا فأرادوها فأرد الله ولا ترد الدنيا واتق مصارع الظالمين‏.‏

انطلق أنت ومن معك حتى إذا كنت في أقصى البر من أرض العرب وأدنى أرض الريف من أرض العجم فأقيموا‏.‏

فسار عتبة ومن معه حتى إذا كانوا بالمربد تقدموا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير فنزلوا‏.‏

فبلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف فالتقوا فقاتلهم عتبة بعد الزوال وكان في

خمسمائة فقتلهم أجمعين ولم يبق إلا صاحب الفرات فأخذه أسيرًا ثم خطب عتبة أصحابه وقال‏:‏ إن الدنيا قد تصرمت وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء ألا وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار فانتقلوا بخير ما بحضرتكم وقد ذكر لي‏:‏ لو أن صخرة ألقيت من شفير جهنم لهوت سبعين خريفًا ولتملأنه وعجبتم‏!‏ ولقد ذكر لي‏:‏ أن ما بين مصراعين من مصارع الجنة مسيرة أربعين خريفًا وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظ ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لنا طعام إلا ورق السمر حتى تقرحت أشداقنا والتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد فما منا أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار وسيجربون الناس بعدنا‏.‏

وكان نزوله البصرة في ربيع الأول أو الآخر سنة أربع عشرة‏.‏

وقيل‏:‏ إن البصرة مصرت سنة ستة عشرة بعد جلولاء وتكريت والحصنين أرسله سعد إليها بأمر عمر‏.‏

وإن عتبة لما نزل البصرة أقام نحو شهر فخرج إليه أهل الأبلة وكان بها خمسمائة أسوار يحمونها وكانت مرفأ السفن من الصين فقاتلهم عتبة فهزمهم حتى دخلوا المدينة ورجع عتبة إلى عسكره وألقى الله الرعب في قلوب الفرس فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خف وعبروا الماء وأخلوا المدينة ودخلها المسلمون فأصابوا متاعًا وسلاحًا وسبيًا فاقتسموه وأخرج الخمس منه وكان المسلمون ثلاثمائة‏.‏

وكان فتحها في رجب أو في شعبان‏.‏

ثم نزل موضع مدينة الرزق وخط موضع المسجد وبناه بالقصب‏.‏

وكان أول مولود بها عبد الرحمن بن أبي بكرة فلما ولد ذبح أبوه جزورًا فكفتهم لقلة الناس‏.‏

وجمع لهم أهل دستميسان فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرًا وأخذ قتادة منطقته فبعث بها مع أنس بن حجنة إلى عمر فقال له عمر‏:‏ كيف الناس فقال‏:‏ انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة‏.‏

فرغب الناس في البصرة فأتوها‏.‏

واستعمل عتبة مجاشع بن مسعود على جماعة وسيرهم إلى الفرات واستخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى أن يقدم مجاشع بن مسعود فإذا قدم فهو الأمير وسار عتبة إلى عمر‏.‏

فظفر مجاشع بأهل الفرات وجمع الفليكان عظيم من الفرس للمسلمين فخرج إليه المغيرة بن شعبة فلقيهم بالمرغاب فاقتتلوا‏.‏

فقال نساء المسلمين‏:‏ لو لحقنا بهم فكنا معهم فاتخذن من خمرهن رايات وسرن إلى المسلمين‏.‏

فلما رأى المشركون الرايات ظنوا أن مددًا للمسلمين قد أقبل فانهزموا وظفر بهم المسلمون‏.‏

وكتب إلى عمر بالفتح فقال عمر لعتبة‏:‏ من استعملت على البصرة فقال‏:‏ مجاشع بن مسعود‏.‏

قال‏:‏ أتستعمل رجلًا من أهل الوبر على أهل المدر وأخبره بما كان من المغيرة وأمره أن يرجع إلى عمله فمات في الطريق وقيل في موته غير ذلك وسيرد ذكره سنة وكان من سبي ميسان يسار أبو الحسن البصري وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان‏.‏

وقيل‏:‏ إن إمارة عتبة البصرة كانت سنة خمس عشرة وقيل‏:‏ ست عشرة والأول أصح فكانت إمارته عليها ستة أشهر‏.‏

واستعمل عمر على البصرة المغيرة بن شعبة فبقي سنتين ثم رمي بما رمي واستعمل أبا موسى وقيل‏:‏ استعمل بعد عتبة أبا موسى وبعده المغيرة‏.‏

وفيها أعني سنة أربع عشرة ضرب عمر ابنه عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه وأبا محجن‏.‏

وفيها أمر عمر بالقيام في شهر رمضان في المساجد بالمدينة وجمعهم على أبي بن كعب وكتب إلى الأمصار بذلك‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب‏.‏

وكان على مكة عتاب بن أسيد في قوله وعلى اليمن يعلى بن منية وعلى الكوفة سعد وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص وقيل العلاء بن الحضرمي وعلى عمان حذيفة بن محصن‏.‏

وفي هذه السنة مات أبو قحافة والد أبي بكر الصديق بعد موت ابنه‏.‏

وفيها مات سعد بن عبادة الأنصاري وقيل‏:‏ سنة إحدى عشرة وقيل‏:‏ سنة خمس عشرة‏.‏

وفيها قتل سليط بن عمرو بن عامر بن لؤي‏.‏

وفيها ماتت هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية وكان إسلامها يوم

 ثم دخلت سنة خمس عشرة

وقيل‏:‏ إن الكوفة مصرها سعد بن أبي وقاص في هذه السنة دلهم على موضعها ابن بقيلة قال لسعد‏:‏ أدلك على أرض لله ارتفعت من البق وانحدرت عن الفلاة‏!‏ فدله على موضعها وقيل غير ذلك ويأتي ذكره‏.‏

 ذكر الوقعة بمرج الروم

في هذه السنة كانت الوقعة بمرج الروم وكان من ذلك أن أبا عبيدة وخالد بن الوليد سارا بمن معهما من فحل قاصدين حمص فنزلا على ذي الكلاع وبلغ الخبر هرقل فبعث توذر البطريق حتى نزل بمرج الروم غرب دمشق ونزل أبو عبيدة بمرج الروم أيضًا ونازله يوم نزوله شنش الرومي في مثل خيل توذر إمدادًا لتوذر وردءًا وردءًا لأهل حمص‏.‏

فلما نزل أصبحت الأرض من توذر بلاقع وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنش وسار توذر يطلب دمشق فسار خالد وراءه وراءه في جريدة وبلغ يزيد بن أبي سفيان فعل توذر فاستقبله فاقتتلوا ولحق بهم خالد وهم يقتتلون فأخذهم من خلفهم ولم يفلت منهم إلا الشريد وغنم المسلمون ما معهم فقسمه يزيد في أصحابه وأصحاب خالد وعاد يزيد إلى دمشق ورجع خالد إلى عبيدة وقد قتل توذر‏.‏

وقاتل أبو عبيدة بعد مسير خالد شنش فاقتتلوا بمرج الروم فقتلت الروم مقتلة عظيمة وقتل شنش وتبعهم المسلمون إلى حمص فلما بلغ هرقل ذلك أمر بطريق حمص بالمسير إليها وسار هو إلى الرهاء وسار أبو عبيدة إلى حمص‏.‏

 ذكر فتح حمص وبعلبك وغيرهما

فلما فرغ أبو عبيدة من دمشق سار إلى حمص فسلك طريق بعلبك فحصرها فطلب أهلها الأمان فآمنهم وصالحهم وسار عنهم فنزل على حمص ومعه خالد وقيل‏:‏ غنما سار المسلمون إلى حمص من مرج الروم وقد تقدم ذكره‏.‏

فلما نزلوها قاتلوا أهلها فكانوا يغادونهم القتال ويراوحونهم في كل يوم بارد ولقي المسلمون بردًا شديدًا والروم حصارًا طويلًا فصبر المسلمون والروم وكان هرقل قد أرسل إلى أهل حمص يعدهم المدد وأمر أهل الجزيرة جميعها بالتجهز إلى حمص فساروا نحو الشام ليمنعوا حمص عن المسلمين‏.‏

فسير سعد بن أبي وقاص السرايا من العراق إلى هيت وحصروها وسار بعضهم إلى قرقيسيا فتفرق أهل الجزيرة وعادوا عن نجدة أهل حمص فكان أهلها يقولون‏:‏ تمسكوا بمدينتكم فإنهم حفاة فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم‏.‏

فكانت أقدام الروم تسقط ولا يسقط للمسلمين إصبع‏.‏

فلما خرج الشتاء قام شيخ من الروم فدعاهم إلى مصالحة المسلمين فلم يجيبوه وقام آخر فلم يجيبوه فناهدهم المسلمون فكبروا تكبيرة فانهدم كثير من دور حمص وزلزلت حيطانهم فتصدعت فكبروا ثانية فأصابهم أعظم من ذلك فخرج أهلها إليهم يطلبون الصلح ولا يعلم المسلمون بما حدث فيهم فأجابوهم وصالحوهم على صلح دمشق وأنزلها أبو عبيدة السمط بن الأسود الكندي في بني معاوية والأشعث بن ميناس في السكون والمقداد في بلي وأنزلها غيرهم وبعث بالأخماس إلى عمر مع عبد الله بن مسعود وكتب عمر إلى أبي عبيدة‏:‏ أن أقم بمدينتك وادع أهل القوة من عرب الشام فإني غير تارك البعثة إليك‏.‏

ثم استخلف أبو عبيدة على حمص عبادة بن الصامت وسار إلى حماة فتلقاه أهلها مذعنين فصالحهم أبو عبيدة على الجزية لرؤوسهم والخراج على أرضهم ومضى نحو شيزر فخرجوا إليه يسألون الصلح على ما صالح عليه أهل حماة وسار أبو عبيدة إلى عبيدة إلى معرة حمص وهي معرة النعمان نسبت بعد إلى النعمان بن بشير الأنصاري فأذعنوا له بالصلح على ما صالح عليه أهل حمص‏.‏

ثم أتى اللاذقية فقاتله أهلها وكان لها باب عظيم يفتحه جمعٌ من الناس فعسكر المسلمون على بعد منها ثم أمر فحفر حائر عظيمة تستر الحفرة منها الفارس راكبًا ثم أظهروا أنهم عائدون عنها ورحلوا فلما جنهم الليل عادوا واستتروا في تلك الحفائر وأصبح أهل اللاذقية وهم يرون أن المسلمين قد انصرفوا عنهم فأخرجوا سرحهم وانتشروا بظاهر البلد فلم يرعهم إلا والمسلمون يصيحون بهم ودخلوا معهم المدينة وملكت عنوةً وهرب قوم من النصارى إلى اليسيد ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا إلى أرضهم فقوطعوا على خراج يؤدونه قلوا أو كثروا وتركت لهم كنيستهم وبنى المسلمون بها مسجدًا جامعًا بناه عبادة بن الصامت ثم وسع فيه بعد‏.‏

ولما فتح المسلمون اللاذقية جلا أهل جبلة من الروم عنها فلما كان زمن معاوية بنى حصنًا خارج الحصن الرومي وشحنه بالرجال‏.‏

وفتح المسلمون مع عبادة بن الصامت أنطرطوس وكان حصينًا فجلا عنه أهله فبنى معاوية مدينة أنطرطوس ومصرها وأقطع بها القطائع للمقاتلة وكذلك فعل ببانياس‏.‏

وفتحت سلمية أيضًا وقيل‏:‏ إنما سميت سلمية لأنه كان بقربها مدينة تدعى المؤتفكة انقلبت بأهلها ولم يسلم منهم غير مائة نفس فبنوا لهم مائة منزل وسميت سلم مائة ثم حرف الناس اسمها فقالوا‏:‏ سلمية وهذا يتمشى لقائله لو كان أهلها عربًا ولسانهم عربيًا وأما إذ كان لسانهم أعجميًا فلا يسوغ هذا القول‏.‏

ثم إن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس اتخذها دارًا وبنى ولده فيها ومصروها ونزلها من نزلها من ولده فهي وأرضوها لهم‏.‏

ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين‏.‏

فلما نزل الحاضر زحف إليهم الروم وعليهم ميناس وكان من أعظم الروم بعد هرقل فاقتتلوا فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها فماتوا على دمٍ واحد‏.‏

وسار خالد حتى نزل على قنسرين فتحصنوا منه فقالوا‏:‏ لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا‏.‏

فنظروا في أمرهم ورأوا ما لقي أهل حمص فصالحوهم على صلح حمص فأبى خالد إلا على إخراب المدينة فأخربها‏.‏

فعند ذلك دخل هرقل القسطنطينية وسببه‏:‏ أن خالدًا وعياضًا أدربا إلى هرقل من الشام وأدرب عمرو بن مالك من الكوفة فخرج من ناحية قرقيسيا وأدرب عبد الله بن المعتم من ناحية الموصل ثم رجعوا فعندها دخل هرقل القسطنطينية وكانت هذه أول مدربة في الإسلام سنة خمس عشرة وقيل ستة عشرة‏.‏

فلما بلغ عمر صنيع خالد قال‏:‏ أمر خالد نفسه يرحم الله أبو بكر هو كان أعلم بالرجال مني‏!‏ وقد كان عزله والمثنى بن حارثة وقال‏:‏ إني لم أعزلهما عن ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما‏.‏

فأما المثنى فإنه رجع عن رأيه فيه لما قام بعد أبي عبيد ورجع عن خالد بعد قنسرين‏.‏

وأما هرقل فإنه خرج من الرهاء وكان أول من أنبح كلابها ونفر دجاجها من المسلمين زياد بن

حنظلة وكان من الصحابة وسار هرقل فنزل بشمشاط ثم أدرب منها نحو القسطنطينية‏.‏

فلما أراد المسير منها علا على نشزٍ ثم التفت إلى الشام فقال‏:‏ السلام عليك يا سورية سلام لا اجتماع بعده ولا يعود إليك رومي أبدًا إلا خائفًا حتى يولد المولود المشؤوم ويا ليته لا يولد‏!‏ فما أحلى فعله وأمر فتنته على الروم‏.‏

ثم سار فدخل القسطنطينية وأخذ أهل الحصون التي بين إسكندرية وطرسوس معه لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم وشعث الحصون فكان المسلمون لا يجدون بها أحدًا وربما كمن عندها الروم فأصابوا غرة المتخلفين فاحتاط المسلمون لذلك‏.‏

ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم لما فرغ عبيدة من قنسرين سار إلى حلب فبلغه أن أهل قنسرين نقضوا وغدروا فوجه إليهم السمط ابن الأسود الكندي فحصرهم وفتحها وأصاب فيها بقرًا وغنمًا فقسم بعضه في جيشه وجعل بقيته في المغنم‏.‏

ووصل أبو عبيدة إلى حاضر حلب وهو قريب منها فجمع أصنافًا من العرب فصالحهم أبو عبيدة على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك إلا من شذ عن جماعتهم وأتى حلب وعلى مقدمته عياض بن غنم الفهري فتحصن أهلها وحصرهم المسلمون فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وكنائسهم وحصنهم فأعطوا ذلك واستثني عليهم موضع المسجد وكان الذي صالحهم عياض فأجاز أبو عبيدة ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ صولحوا على أن يقاسموا منازلهم وكنائسهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحدًا لأ انتقلوا إلى أنطاكية وراسلوا في الصلح فلما تم ذلك رجعوا إليها‏.‏

وسار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية وقد تحصن بها كثير من الخلق من قنسرين وغيرها‏.‏

فلما فارقها لقيه جمع العدو فهزمهم فألجأهم إلى المدينة وحاصرها من جميع نواحيها ثم إنهم صالحوه على الجلاء أو الجزية فجلا بعض وأقام بعض فآمنهم ثم نقضوا فوجه أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول‏.‏

وكانت أنطاكية عظيمة الذكر عند المسلمين فلما فتحت كتب عمر إلى عبيدة أن رتب بأنطاكية جماعة من المسلمين واجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء‏.‏

وبلغ أبا عبيدة أن جمعًا من الروم بين معرة مصرين وحلب فسار إليهم فلقيهم فهزمهم وقتل عدة بطارقة وسبى وغنم وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين ومرتحوان وتيزين وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية ثم أتى أبو عبيدة حلب وقد التاث أهلها فلم يزل بهم حتى أذعنوا وفتحوا المدينة‏.‏

وسار أبو عبيدة يريد قورس وعلى مقدمته عياض فلقيه راهب من رهبانها يسأله الصلح فبعث به إلى أبي عبيدة فصالحه على صلح أنطاكية وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس وفتح تل عزاز وكان سلمان بن ربيعة الباهلي في جيش أبي عبيدة فنزل في حصن بقورس فنسب إليه يعرف بحصن سلمان‏.‏

ثم سار أبو عبيدة إلى منبج وعلى مقدمته عياض فلحقه وقد صالح أهلها على مثل صلح أنطاكية وسير عياضًا إلى ناحية دلوك ورعبان فصالحه أهلها على مثل صلح منبج واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بخبر الروم‏.‏

وولي أبو عبيدة كل كورة فتحها عاملًا وضم إليه جماعة وشحن النواحي المخوفة وسار إلى بالس وبعث جيشًا مع حبيب بن مسلمة إلى قاصرين فصالحهم أهلها على الجزية أو الجلاء فجلا أكثرهم إلى بلد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبج ولم يكن الجسر يومئذٍ وإنما اتخذ في خلافة عثمان للصوائف وقيل‏:‏ بل كان له رسم قديم‏.‏

واستولى المسلمون على الشام من هذه الناحية إلى الفرات وعاد أبو عبيد إلى فلسطين‏.‏

وكان بجبل اللكام مدينة يقال لها جرجرومة وأهلها يقال لهم الجراجمة فسار حبيب بن مسلمة إليها من أنطاكية فافتتحها صلحًا على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين‏.‏

وفيها سير أبو عبيدة بن الجراح جيشًا مع ميسرة بن مسروق العبسي فسلكوا درب بغراس من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم وهو أول من سلك ذلك الدرب فلقي جمعًا للروم معهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم لحق به مالك الأشتر النخعي مددًا من قبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية فسلموا وعادوا‏.‏

وسير جيشًا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان وأخربها‏.‏

وسير جيشًا آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحدث وإنما سمي الحدث لأن المسلمين لقوا عليه غلامًا حدثًا فقاتلهم في أصحابه فقيل درب الحدث وقيل‏:‏ لأن المسلمين أصيبوا به فقيل درب الحدث وكان بنو أمية يسمونه درب السلامة لهذا المعنى‏.‏

ذكر فتح قيسارية وحصر غزة في هذه السنة فتحت قيسارية وقيل‏:‏ سنة تسع عشرة وقيل‏:‏ سنة عشرين‏.‏

وكان سببها‏:‏ أن عمر كتب إلى يزيد بن أبي سفيان أن يرسل معاوية إلى قيسارية وكتب عمر إلى معاوية يأمره بذلك فسار معاوية إليها فحصر أهلها فجعلوا يزاحفونه وهو يهزمهم ويردهم إلى حصنهم‏.‏

ثم زاحفوه آخر ذلك مستميتين وبلغت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفًا وكملها في هزيمتهم مائة ألف وفتحها وكان علقمة بن مجزز قد حصر القيقار بغزة وجعل يراسله فلم يشفه أحد بما يريد فأتاه كأنه رسول علقمة فأمر القيقار رجلًا أن يقعد له في الطريق فإذا مر به قتله ففطن علقمة فقال‏:‏ إن معي نفرًا يشركونني في الرأي فأنطلق فآتيك بهم فبعث القيقار إلى ذلك الرجل أن لا يعرض له فخرج علقمة من عنده فلم يعد وفعل كما فعل عمرو بالأرطبون‏.‏

مجزز بجيم وزايين الأولى مكسورة‏.‏

 ذكر فتح بيسان ووقعة أجنادين

ولما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص نزل عمرو وشرحبيل على أهل بيسان فافتتحاها وصالحا أهل الأردن واجتمع عسكر الروم بغزة وأجنادين وبيسان وسار عمرو وشرحبيل إلى الأرطبون ومن معه وهو بأجنادين واستخلف على الأردن أبا الأعور فنزل بالأرطبون ومعه الروم‏.‏

وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورًا وكان قد وضع بالرملة جندًا عظيمًا وبإيلياء جندًا عظيمًا‏.‏

فلما بغل عمر بن الخطاب الخبر قال‏:‏ قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عم تنفرج‏.‏

وكان معاوية قد شغل أهل قيسارية عن عمرو وكان عمرو قد جعل علقمة بن حكيم الفراسي ومسروق بن فلان العكي على قتال أهل إيلياء فشغلوا من به عنه وجعل أيضًا أبا أيوب المالكي على من بالرملة من الروم فشغلهم عنه وتتابعت الأمداد من عند عمر إلى عمرو وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على شيء ولا تشفيه الرسل فسار إليه بنفسه فدخل عليه كأنه رسول ففطن به الأرطبون وقال‏:‏ لاشك أن هذا هو الأمير أو من يأخذ الأمير برأيه فأمر إنسانًا أن يقعد على طريقه ليقتله إذا مر به وفطن عمرو لفعله فقال له‏:‏ قد سمعت مني وسمعت منك وقد وقع قولك مني موقعًا وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر إلى هذا الوالي لنكانفه فأرجع فآتيك بهم الآن رأوا الذي عرضت علي الآن فقد رآه الأمير وأهل العسكر وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك‏.‏

فقال‏:‏ نعم ورد الرجل الذي أمر بقتله‏.‏

فخرج عمرو من عنده وعلم الرومي أنها خدعة اختدعه بها فقال‏:‏ هذا أدهى الخلق‏!‏ وبلغت خديعته عمر بن الخطاب فقال‏:‏ لله در عمرو‏!‏ وعرف عمرو مأخذه فلقيه فاقتتلوا بأجنادين قتالًا شديدًا كقتال اليرموك حتى كثرت القتلى بينهم وانهزم أرطبون إلى إيلياء ونزل عمرو أجنادين وأفرج المسلمون الذين يحصرون بيت المقدس لأرطبون فدخل إيلياء وأزاح المسلمين عنه إلى عمرو‏.‏

وقد تقدم وقعة أجنادين على قول من يجعلها قبل اليرموك وسياقها على غير هذه السياقة

 ذكر فتح بيت المقدس وهو إيلياء

في هذه السنة فتح بيت المقدس وقيل‏:‏ سنة ست عشرة في ربيع الأول‏.‏

وسبب ذلك أنه لما دخل أرطبون إيلياء فتح عمرو غزة وقيل‏:‏ كان فتحها في خلافة أبي بكر ثم فتح سبسطية وفيها قبر يحيى بن زكرياء عليه السلام وفتح نابلس بأمان على الجزية وفتح مدينة لد ثم فتح يبنى وعمواس وبيت جبرين وفتح يافا وقيل‏:‏ فتحها معاوية وفتح عمرو مرج عيون فلما تم له ذلك أرسل إلى أرطبون رجلًا يتكلم بالرومية وقال له‏:‏ اسمع ما يقول وكتب معه كتابًا فوصل الرسول ودفع الكتاب إلى أرطبون وعنده وزراؤه فقال أرطبون‏:‏ لا يفتح والله عمرو شيئًا من فلسطين بعد أجنادين‏.‏

فقالوا له‏:‏ من أين علمت هذا فقال‏:‏ صاحبها رجل صفته كذا وكذا وذكر صفة عمر‏.‏

فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره الخبر فكتب إلى عمر بن الخطاب يقول‏:‏ إني أعالج عدوًا شديدًا وبلادًا قد ادخرت لك فرأيك‏.‏

فعلم عمر أن عمرًا لم يقل ذلك إلا بشيء سمعه فسار عمر عن المدينة‏.‏

وقيل‏:‏ كان سبب قدوم عمر إلى الشام أن أبا عبيدة حصر بيت المقدس فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب فكتب إليه ذلك

فسار عن المدينة واستخلف عليها علي ابن أبي طالب فقال له علي‏:‏ أين تخرج بنفسك إنك تريد عدوًا كلبًا‏.‏

فقال عمر‏:‏ أبادر بالجهاد قبل موت العباس إنكم لو فقدتم العباس لانتفض بكم الشر كما ينتقض الحبل‏.‏

فمات العباس لست سنين من خلافة عثمان فانتقض بالناس الشر‏.‏

وسار عمر فقدم الجابية على فرس وجميع ما قدم الشام أربع مرات‏:‏ الأولى على فرس الثانية على بعير والثالثة على بغل رجع لأجل الطاعون والرابعة على حمار‏.‏

وكتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بالجابية ليوم سماه لهم في المجردة ويستخلفوا على أعمالهم فلقوه حيث رفعت لهم الجابية فكان أول من لقيه يزيد وأبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال‏:‏ ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم‏!‏ إياي تستقبلون في هذا الزي وإنما شبعتم مذ سنتين‏!‏ وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم‏.‏

فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين إنها يلامقة وإن علينا السلاح‏.‏

قال‏:‏ فنعم إذن‏.‏

وركب حتى دخل الجابية وعمرو وشرحبيل بأجنادين كأنهما لم يتحركا من مكانهما‏.‏

فلما قدم عمر الجابية قال له رجل من اليهود يا أمير المؤمنين إنك لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء وكانوا قد شجوا عمرًا وأشجاهم ولم يقدر عليها ولا على الرملة‏.‏فبينما عمر معسكر بالجابية فزع الناس إلى السلاح فقال‏:‏ ما شأنكم فقالوا‏:‏ ألا ترى إلى الخيل والسيوف فنظر فإذا كردوس يلمعون بالسيوف‏.‏

فقال عمر‏:‏ مستأمنة فلا تراعوا فأمنوهم وإذا أهل إيلياء وحيزها فصالحهم على الجزية وفتحوها له وكان الذي صالحه العوام من أهل إيلياء والرملة لأن أرطبون والتذارق دخلا مصر لما وصل عمر إلى الشام وأخذا كتابه على إيلياء وحيزها والرملة وحيزها فشهد ذلك اليهودي الصلح‏.‏

فسأله عمر عن الدجال وكان كثير السؤال عنه‏.‏

فقال له‏:‏ وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين أنتم والله تقتلونه دون باب لد ببضع عشرة ذراعًا‏.‏

وأرسل عمر إليهم بالأمان وجعل علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وأسكنه الرملة وجعل علقمة بن مجزز على نصفها الآخر وأسكنه إيلياء‏.‏

وضم عمرًا وشرحبيل إليه بالجابية فلقياه راكبًا فقبلا ركبتيه وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما‏.‏

ثم سار إلى بيت المقدس من الجابية فركب فرسه فرأى به عرجًا فنزل عنه وأتي ببرذون فركبه فجعل يتجلجل به فنزل وضرب وجهه وقال‏:‏ لا أعلم من علمك هذه الخيلاء‏!‏ ثم لم يركب برذونًا قبله ولا بعده‏.‏

وفتحت إيلياء وأهلها على يديه‏.‏

وقيل‏:‏ كان فتحها سنة ست عشرة ولحق أرطبون ومن أبى الصلح من الروم بمصر فلما ملك المسلمون مصر قتل وقيل‏:‏ بل لحق بالروم فكان يكون على صوائفهم والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين ومع المسلمين رجل من قيس يقال له ضريس فإن يكن أرطبون الروم أفسدها فإن فيها بحمد الله منتفعا وإن يكن أرطبون الروم قطعها فقد تركت بها أوصاله قطعا بنانتان وجرموز أقيم به صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا