فصل: تفسير الآية رقم (53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (53):

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)}
{مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ} كذب منهم وجحود، كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أُنزل عليه آية من ربه، مع فوت آياته الحصر {عَن قَوْلِكَ} حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه، إقناطاً له من الإجابة.

.تفسير الآيات (54- 55):

{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)}
{اعتراك} مفعول نقول، وإلا لغو. والمعنى: ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، أي خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدّك عنها وعداوتك لها. مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذي بهذيان المبرسمين. وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنوناً وهم عاد أعلام الكفر وأوتاد الشرك. وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنوناً والمنيب إلى ربه مخبلا، ولم نجدهم معه على عشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادّة وما ذاك إلا لعرق من الإلحاد أبى إلا أن ينبض، وضب من الزندقة أراد أن يطلع رأسه وقد دلت أجوبتهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت ولا يلتفتون إلى النصح. ولا تلين شكيمتهم للرشد. وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنصر وتنتقم، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب. من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمّة عطاشا إلى إراقة دمه. يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم. ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: {ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71] أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد، فيقول الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا ويقول لقومه كونوا شهداء على أني لا أفعله.
فإن قلت: هلا قيل: إني أشهد الله وأشهدكم؟ قلت: لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده، وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه. اشهد علي أني لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله {مّمَّا تُشْرِكُونَ به مِن دُونِهِ} من إشراككم آلهة من دونه، أو مما تشركونه من آلهة من دونه، أي أنتم تجعلونها شركاء له، ولم يجعلها هو شركاء. ولم ينزل بذلك سلطاناً {فَكِيدُونِى جَمِيعًا} أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون، من غير إنظار؛ فإني لا أبالي بكم وبكيدكم، ولا أخاف معرتكم وإن تعاونتم عليّ وأنتم الأقوياء الشداد، فكيف تضرني آلهتكم، وما هي إلا جماد لا تضر ولا تنفع، وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها، بأن تخبلني وتذهب بعقلي.

.تفسير الآيات (56- 57):

{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}
ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم. من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه، والأخذ بنواصيها، تمثيل لذلك {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به {فَإِن تَوَلَّوْاْ} فإن تتولوا.
فإن قلت: الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت: معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول {وَيَسْتَخْلِفُ} كلام مستأنف، يريد: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم {وَلاَ تَضُرُّونَهُ} بتوليكم {شَيْئاً} من ضرر قط، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع، وإنما تضرون أنفسكم. وفي قراءة عبد الله {وَيَسْتَخْلِفُ} بالجزم وكذلك: ولا تضروه، عطفاً على محل {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} والمعنى: إن يتولوا يعذرني ويستخلف قوماً غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم {على كُلّ شَيْء حَفِيظٌ} أي رقيب عليه مهيمن، فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ، لم يضر مثله مثلكم.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)}
{والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} قيل: كانوا أربعة آلاف.
فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ قلت: ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} على معنى: وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وذلك أنّ الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً. وقيل: أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ. وقوله: برحمة منا، يريد: بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له.

.تفسير الآيات (59- 60):

{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}
{وَتِلْكَ عَادٌ} إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأنه قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال: {جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله، {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده {كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل. ومعنى اتباع أمرهم: طاعتهم. ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله. و{ألا} وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم، تهويل لأمرهم وتفظيع له، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم.
فإن قلت: {بُعْدًا} دعاء بالهلاك، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم؟ قلت: معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له: ألا ترى إلى قوله:
إخْوَتي لاَ تَبْعَدُوا أبدَا ** وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا

{قَوْمِ هُودٍ} عطف بيان لعاد: فإن قلت: ما الفائدة في هذا البيان والبيان حاصل بدونه؟ قلت: الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسما، وتجعل فيهم أمراً محققاً لا شبهة فيه بوجه من الوجوه، ولأنّ عاداً عادان: الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم، والأخرى إرم.

.تفسير الآيات (61- 68):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} لم ينشئكم منها إلا هو، ولم يستعمركم فيها غيره. وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب {واستعمركم فِيهَا} وأمركم بالعمارة، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار، وعمروا الأعمار الطوال، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا، فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى إليه: إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي.
وعن معاوية بن أبي سفيان أنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره، فقيل له، فقال: ما حملني عليه إلا قول القائل:
لَيْسَ الفَتَى بِفتَي لاَيسْتَضَاءُ بِه ** وَلاَ تَكُونُ لَهُ في الأَرْضِ آثَارُ

وقيل: استعمركم من العمر، نحو استبقاكم من البقاء، وقد جعل من العمرى. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون استعمر في معنى أعمر، كقولك استهلكه في معنى أهلكه. ومعناه: أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم. والثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها، لأنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنما أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره {قَرِيبٌ} داني الرحمة سهل المطلب {مُّجِيبٌ} لمن دعاه وسأله {فِينَا} فيما بيننا {مَرْجُوّا} كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك.
وعن ابن عباس: فاضلاً خيراً نقدّمك على جميعنا. وقيل: كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه {يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} حكاية حال ماضية {مُرِيبٍ} من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين. أو من (أراب الرجل) إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازي. قيل: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} بحرف الشك وكان على يقين أنه على بينة، لأنّ خطابه للجاحدين، فكأنه قال: قدّروا أني على بينة من ربي، وأني نبيّ على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله؟ {فَمَا تَزِيدُونَنِى} إذن حينئذ {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} يعني تخسرون أعمالي وتبطلونها. أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملونني عليه غير أن أخسركم، أي أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون {ءَايَةً} نصب على الحال قد عمل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل.
فإن قلت: فبم يتعلق {لَكُمْ} قلت بآية حالاً منها متقدّمة؛ لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال {عَذَابٌ قَرِيبٌ} عاجل لا يستأخر عن مسكم لها بسوء إلا يسيراً، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم {تَمَتَّعُواْ} استمتعوا بالعيش {فِى دَارِكُمْ} في بلدكم.
وتسمى البلاد الديار؛ لأنه يدار فيه أي يتصرف. يقال: ديار بكر، لبلادهم. وتقول العرب الذين حوالي مكة: نحن من عرب الدار، يريدون من عرب البلد. وقيل: في دار الدنيا. وقيل: عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت {غَيْرُ مَكْذُوبٍ} غير مكذوب فيه، فاتسع في الظرف بحذف الحرف واجرائه مجرى المفعول به، كقولك: يوم مشهود، من قوله:
وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ.........

أو على المجاز، كأنه قيل للوعد: نفي بك، فإذا وفى به فقد صدق ولم يكذب. أو وعد غير كذب، على أنّ المكذوب مصدر كالمجلود والمعقول، وكالمصدوقة بمعنى الصدق {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} قرئ مفتوح الميم لأنه مضاف إلى إذ، وهو غير متمكن، كقوله:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا

فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على نجينا، لأنّ تقديره ونجيناهم من خزي يومئذ، كما قال {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] على: وكانت التنجية من خزي يومئذ، أي من ذله ومهانته وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه يغضب الله وانتقامه. ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة. وقرئ: {ألا إن ثمود} و {لثمود} كلاهما بالصرف وامتناعه، فالصرف للذهاب إلى الحيّ أو الأب الأكبر، ومنعه للتعريف والتأنيث، بمعنى القبيلة.

.تفسير الآيات (69- 73):

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}
{أَرْسَلْنَا} يريد الملائكة. عن ابن عباس: جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة.
وعن السدي: أحد عشر {بالبشرى} هي البشارة بالولد، وقيل: بهلاك قوم لوط، والظاهر الولد {سلاما} سلمنا عليك سلاماً {سلاما} أمركم سلام. وقرئ: {فقالوا سلما قال سلم} بمعنى السلام. وقيل: سلم وسلام، كحرم وحرام، وأنشد:
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إيِه سِلْمٌ فَسَلَّمَت ** كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ

{فَمَا لَبِثَ أَن جَاء} فما لبث في المجيء به، بل عجل فيه، أو فما لبث مجيئه. والعجل: ولد البقرة، ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة، وكان مال إبراهيم عليه الصلاة والسلام البقر {حنيذ} مشويّ بالرضف في أخدود.
وقيل {حَنِيذٍ} يقطر دسمه، من حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى تقطر عرقاً، ويدل عليه {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26]. يقال: نكره وأنكره واستنكره، ومنكور قليل في كلامهم، وكذلك: أنا أنكرك، ولكن منكر ومستنكر، وأنكرك. قال الأعشى:
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَت ** مِنَ الْحَوَادِثِ إلاّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا

قيل: كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروهاً. وقيل: كانت عادتهم أنه إذامسّ من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه، والظاهر أنه أحسّ بأنهم ملائكة، ونكرهم لأنه تخوّف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه، ألا ترى إلى قولهم: {لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط} وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا {فَأَوْجَسَ} فأضمر. وإنما قالوا: {لاَ تَخَفْ} لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه. أو عرفوه بتعريف الله. أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب {وامرأته قَآئِمَةٌ} قيل: كانت قائمة وراء الستر تسمع تحاورهم. وقيل: كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم. وفي مصحف عبد الله: وامرأته قائمة وهو قاعد {فَضَحِكَتْ} سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث. أو كان ضحكها ضحك إنكار لغفلتهم وقد أظلهم العذاب. وقيل: كانت تقول لإبراهيم: اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، فضحكت سروراً لما أتى الأمر على ما توهمت.
وقيل ضحكت فحاضت.
وقرأ محمد بن زياد الأعرابي {فضحكت} بفتح الحاء {يَعْقُوبَ} رفع بالابتداء، كأنه قيل: ومن وراء إسحاق يعقوب مولود أو موجود، أي من بعده.
وقيل الوراء: ولد الولد.
وعن الشعبي أنه قيل له: أهذا ابنك؟ فقال نعم، من الوراء، وكان ولد ولده. وقرئ: {يعقوب} بالنصب، كأنه قيل. ووهبنا لها إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، على طريقة قوله:
...... لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ** وَلاَ نَاعِبٍ............

الألف في {يا ويلتا} مبدلة من ياء الإضافة، وكذلك في (يالهفاً) و (ياعجباً) وقرأ الحسن: {يا ويلتي} بالياء على الأصل.
و{شَيْخًا} نصب بما دلّ عليه اسم الإشارة. وقرئ: {شيخ} على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا بعلي هو شيخ. أو بعلي: بدل من المبتدأ، وشيخ: خبر، أو يكونان معاً خبرين. قيل: بشرت ولها ثمان وتسعون سنة، ولإبراهيم مائة وعشرون سنة {إِنَّ هذا لَشَيْء عَجِيبٌ} أن يولد ولد من هرمين، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله. وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ف {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي النساء الناشئآت في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم: {رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ} أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب. وأمر الله: قدرته وحكمته: وقوله: {رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ} كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل: الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بني إسرائيل، لأنّ الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم {حَمِيدٌ} فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده {مَّجِيدٌ} كريم كثير الإحسان إليهم. وأهل البيت: نصب على النداء أو على الاختصاص لأن {أَهْلَ البيت} مدح لهم؛ إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن.