فصل: تفسير الآيات (74- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (74- 75):

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)}
{الروع} ما أوجس من الخيفة. حين نكر أضيافه. والمعنى: أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملئ سروراً بسبب البشرى بدل الغم، فرغ للمجادلة، فإن قلت: أين جواب لما؟ قلت: هو محذوف كما حذف قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ} [يوسف: 15] وقوله: {يجادلنا} كلام مستأنف دال على الجواب. وتقديره: اجترأ على خطابنا، أو فطن لمجادلتنا، أو قال: كيت وكيت: ثم ابتدأ فقال: {يجادلنا فِي قَوْمِ لُوطٍ} وقيل في {يجادلنا}: هو جواب لما، وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال: وقيل إن (لما) ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما ترد (إن) الماضي إلى معنى الاستقبال، وقيل: معناه أخذ يجادلنا، وأقبل يجادلنا. والمعنى: يجادل رسلنا. ومجادلته إياهم أنهم قالوا: {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذه القرية} [العنكبوت: 31] فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا حتى بلغ العشرة. قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] {قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32]. {فِى قَوْمِ لُوطٍ} في معناهم.
وعن ابن عباس: قالوا له: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب.
وعن قتادة: ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير. وقيل: كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان {إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ} غير عجول على كل من أساء إليه {أواه} كثير التأوّه من الذنوب {مُّنِيبٌ} تائب راجع إلى الله بما يحب ويرضى. وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة، فبين أنّ ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب. ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه.

.تفسير الآية رقم (76):

{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}
{ياإبراهيم} على إرادة القول: أي قالت له الملائكة {أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك، فلا فائدة فيه {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة، والعذاب نازل بالقوم لا محالة، لا مردّ له بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.

.تفسير الآية رقم (77):

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
كانت مساءة لوط وضيق ذرعه لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم. روي أنّ الله تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرقرية في الأرض عملاً، يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها. يقال: يوم عصيب، وعصوصب، إذا كان شديداً من قولك: عصبه، إذا شدّه.

.تفسير الآيات (78- 79):

{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)}
{يُهْرَعُونَ} يسرعون كأنما يدفعون دفعاً {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاؤا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء.
وقيل معناه: وقد عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك {هؤلاءآء بَنَاتِى} أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، وأراد: هؤلاء بناتي فتزوّجوهنّ وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً، كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن وائل قبل الوحي وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان، فأراد أن يزوجهما ابنتيه وقرأ ابن مروان {هنّ أطهر لكم} بالنصب، وضعفه سيبويه وقال: احتبى ابن مروان في لحنه.
وعن أبي عمرو بن العلاء: من قرأ {هُنَّ أَطْهَرُ} بالنصب فقد تربع في لحنه، وذلك أنّ انتصابه على أن يجعل حالا قد عمل فيها ما في هؤلاء من معنى الفعل، كقوله: {هذا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72] أو ينصب هؤلاء بفعل مضمر، كأنه قيل: خذوا هؤلاء، وبناتي: بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال، و {هنّ} فصل، وهذا لا يجوز لأنّ الفصل مختص بالوقوع بين جزأي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال، وقد خرّج له وجه لا يكون {هؤلاء} فيه فصلا، وذلك أن يكون هؤلاء مبتدأ و{بَنَاتِى هُنَّ} جملة في موضع خبر المبتدأ، كقولك: هذا أخي هو، ويكون {أَطْهَرُ} حالاً {فاتقوا الله} بإيثارهن عليهم {وَلاَ تخزوني} ولا تهينوني ولا تفضحوني، من الخزي، أو ولا تخجلوني، من الخزاية وهي الحياء {فِى ضَيْفِى} في حق ضيوفي فإنه إذا خزى ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} رجل واحد يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء. وقرئ: {ولا تخزون} بطرح الياء. ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدّة امتعاضه مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم، ومن ثمّ {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ} مستشهدين بعلمه {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ} لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض سابري. وقيل: لما تخذوا إتيان الذكران مذهباً وديناً لتواطؤهم عليه، كان عندهم أنه هو الحق، وأنّ نكاح الإناث من الباطل، فلذلك قالوا: ما لنا في بناتك من حق قط؛ لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الذي نحن عليه. ويجوز أن يقولوه على وجه الخلاعة، والغرض نفي الشهوة {لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة.

.تفسير الآية رقم (80):

{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}
جواب (لو) محذوف، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] يعني لو أنّ لي بكم قوّة لفعلت بكم وصنعت. يقال: ما لي به قوّة، وما لي به طاقة. ونحوه {لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} [النمل: 27] وما لي به يدان؛ لأنه في معنى لا أضطلع به ولا أستقلّ به. والمعنى لو قويت عليكم بنفسي، أو أويت إلى قويّ أستند إليه وأتمنع به فيحميني منكم. فشبه القويّ العزيز بالركن من الجبل في شدّته ومنعته، ولذلك قالت الملائكة- وقد وجدت عليه-: إنّ ركنك لشديد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي لوطاً، كان يأوي إلى ركن شديد» وقرئ: {أو آوى} بالنصب بإضمار (إن) كأنه قيل لو أن لي بكم قوّة أو أويا، كقولها:
للَبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي

وقرئ: {إلى ركن} بضمتين.
وروي أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل يرادّهم ما حكى الله عنه ويجادلهم، فتسوّروا الجدار.

.تفسير الآية رقم (81):

{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)}
فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالوا: يا لوط، إن ركنك لشديد {إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه- وله جناحان وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا- فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم، كما قال الله تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] فصاروا لا يعرفون الطريق، فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط قوماً سحرة {لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} جملة موضحة للتي قبلها؛ لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره. قرئ: {فَأَسْرِ} بالقطع والوصل. و{إِلاَّ امرأتك} بالرفع والنصب.
وروي أنه قال لهم: متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح. فقال: أريد أسرع من ذلك. فقالوا: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} وقرئ: {الصبح} بضمتين.
فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ {إِلاَّ امرأتك} بالنصب؟ قلت: استثناها من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} والدليل عليه قراءة عبد الله: {فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك}. ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل، أعني قراءة من قرأ بالرفع، فأبدلها عن أحد. وفي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها.
وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فإن هواها إليهم، فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.

.تفسير الآيات (82- 83):

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}
{جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا} جعل جبريل جناحه في أسفلها، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السما نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم {مّن سِجّيلٍ} قيل هي كلمة معربة من سنككل، بدليل قوله: {حِجَارَةً} من طين وقيل: هي من أسجله؛ إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين. ويدل عليه قوله: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الذاريات: 33] وقيل: مما كتب الله أن يعذب به من السجل، وسجل لفلان {مَّنْضُودٍ} نضد في السماء نضداً معدّاً للعذاب.
وقيل يرسل بعضه في أثر بعض متتابعاً {مُّسَوَّمَةً} معلمة للعذاب وعن الحسن كانت معلمة ببياض وحمرة وقيل عليها سيماً يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض. وقيل: مكتوب على كل واحد اسم من يرمي به {وَمَا هِىَ} من كل ظالم ببعيد. وفيه وعيد لأهل مكة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه سأل جبريل عليه السلام؟ فقال: يعني ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة».
وقيل الضمير للقرى، أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم {بِبَعِيدٍ} بشيء بعيد. ويجوز أن يراد: وما هي بمكان بعيد؛ لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد، إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى، فكأنها بمكان قريب منه.

.تفسير الآيات (84- 86):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}
{إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} يريد: بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف. أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون. أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه، كقول مؤمن آل فرعون: {يَا ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِي الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا} [غافر: 29] {يَوْمٍ مُّحِيطٍ} مهلك من قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] وأصله من إحاطة العدوّ.
فإن قلت: وصف العذاب بالإحاطة أبلغ، أم وصف اليوم بها؟ قلت: بل وصف اليوم بها، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.
فإن قلت: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله: أوفوا؟ قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي. وتعييراً له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه، وجيء به مقيداً بالقسط: أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان، أمراً بما هو الواجب، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوي بالوفاء بالقسط؛ لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل، فهذه ثلاث فوائد.
البخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس. قال زهير:
وفى كُلِّ مَا بَاعَ آمْرؤٌ بَخْسُ دِرْهَمِ

وروي: مكس درهم، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس. أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. والعثي في الأرض نحو السرقه والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض {بَقِيَّتُ الله} ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان.
فإن قلت: بقية الله خير للكفرة، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف، فلم شرط الإيمان؟ قلت لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر. وفي ذلك استعظام للإيمان، وتنبيه على جلالة شأنه. ويجوز أن يراد: إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم. ويجوز أن يراد. ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير لكم، كقوله: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} [الكهف: 46] وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه. وأمّا الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقاً، وإذا أريد به الطاعة فكما تقول: طاعة الله. وقرئ: {تقية الله} بالتاء وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي والقبائح {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وما بعثت لأحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها، وإنما بعثت مبلغاً ومنبهاً على الخير وناصحاً، وقد أعذرت حين أنذرت.