فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (19):

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)}
{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤها ملحاً. فعذب حين ألقي فيه يوسف {فَأَرْسَلُواْ} رجلا يقال له مالك ابن ذعر الخزاعي، ليطلب لهم الماء. والوارد: الذي يرد الماء ليستقي للقوم {يابشرى} نادى البشرى، كأنه يقول: تعالى، فهذا من آونتك وقرئ: {يا بشراي} على إضافتها إلى نفسه. وفي قراءة الحسن وغيره: {يا بشري} بالياء مكان الألف، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومولي.
وعن نافع: يا بشراي بالسكون، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه، إلا أن يقصد الوقف. وقيل: لما أدلى دلوه أي أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون، فقال: يا بشراي {هذا غُلاَمٌ} وقيل: ذهب به، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به {وَأَسَرُّوهُ} الضمير للوارد وأصحابه: أخفوه من الرفقة. وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر.
وعن ابن عباس أنّ الضمير لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. و{بضاعة} نصب على الحال، أي: أخفوه متاعاً للتجارة. والبضاعة: ما بضع من المال للتجارة أي قطع {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} لم يخف عليه أسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم. أو: والله عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}
{وَشَرَوْهُ} وباعوه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} مبخوس ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً، أو زيف ناقص العيار {دراهم} لا دنانير {مَّعْدُودَةً} قليلة تعدّ عدّاً ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون، ويعدّون ما دونها.
وقيل للقليلة معدودة؛ لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها.
وعن ابن عباس: كانت عشرين درهماً.
وعن السدي: اثنين وعشرين {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بم باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى {وَشَرَوْهُ} واشتروه، يعني الرفقة من إخوته {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين} لأنهم اعتقدوا أنه آن فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه. ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق. وقوله: {فِيهِ} ليس من صلة {الزاهدين} لأنّ الصلة لا تتقدّم على الموصول. ألا تراك لا تقول: وكانوا زيداً من الضاربين، وإنما هو بيان، كأنه قيل: في أي شيء زهدوا؟ فقال: زهدوا فيه.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)}
{الذى اشتراه} قيل هو قطفير أو أطفير، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يؤمئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} [غافر: 34] وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أي حسناً مرضياً، بدليل قوله {إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} [يوسف: 23] والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة، يراد: هل تطيب نفسك بثوائك عنده، وهل يراعى حق نزولك به. واللام في {لاِمْرَأَتِهِ} متعلقةبقال، لا باشتراه {عسى أَن يَنفَعَنَا} لعله إذا تدرّب وراض الأمور وفهم مجاريها، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته. أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيماً لا يولد له، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك. وقيل: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف، فقال لامرأته {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا} والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها {ياأبت استجره} [القصص: 26] وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما.
وروي أنه سأله عن نفسه، فأخبره بنسبه فعرفه {وكذلك} الإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه، والكاف منصوب تقديره: ومثل ذلك الإنجاء والعطف {مَكَّنَّا} له، أي: كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكاً يتصرف فيها بأمره ونهيه {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} كان ذلك الإنجاء والتمكين لأنّ غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} على أمر نفسه: لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضي. أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره، قد أراد إخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمر كله بيد الله.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
قيل في الأشدّ: ثماني عشرة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون. وقيل: أقصاه ثنتان وستون {حُكْمًا} حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه. وقيل: حكما بين الناس وفقها {وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، وأنّ الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه.
وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}
المراودة: مفاعلة، من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعني: خادعته عن نفسه، أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها {وَغَلَّقَتِ الأبواب} قيل: كانت سبعة. وقرئ: {هَيت} بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤها كبناء أين، وعيط. وهيت كجير وهيت كحيث. وهئت بمعنى تهيأت يقال: هاء يهيء، كجاء يجيء: إذا تهيأ. وهيئت لك واللام من صلة الفعل وأما في الأصوات فللبيان كأنه قيل: لك أقول هذا، كما تقول: هلم لك {مَعَاذَ الله} أعوذ بالله معاذاً {إِنَّهُ} إن الشأن والحديث {ربى} سيدي ومالكي، يريد قطفير {أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} حين قال لك أكرمي مثواه، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} الذين يجازون الحسن بالسيء. وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم. وقيل: أراد الله تعالى، لأنه مسبب الأسباب.

.تفسير الآية رقم (24):

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه، قال:
همَمْتُ وَلَمْ أفعل وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ** تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكي حَلاَئِلُهْ

ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هماً. أي ولا أكاد أن أفعله كيداً، ولا أهم بفعله هماً، حكاه سيبويه، ومنه: الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه. وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} معناه. ولقد همت بمخالطته {وَهَمَّ بِهَا} وهمّ بمخالطتها {لَوْلا أَن رأى بُرْهَانَ رَبّهِ} جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف؛ لأنّ قوله: {وَهَمَّ بِهَا} يدل عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أني خفت الله، معناه لولا أني خفت الله لقتلته.
فإن قلت: كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصدٌ إليها؟ قلت المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم. وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع؛ لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين. ويجوز أن يريد بقوله: {وَهَمَّ بِهَا} وشارف أن يهم بها، كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته. كأنه شرع فيه فإن قلت: قوله {وَهَمَّ بِهَا} داخل تحت حكم القسم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أم هو خارج منه؟ قلت: الأمران جائزان. ومن حق القارئ إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ويبتدئ قوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ} وفيه أيضاً إشعار بالفرق بين الهمين.
فإن قلت: لم جعلت جواب لولا محذوفاً يدل عليه هم بها وهلا جعلته هو الجواب مقدماً فإن قلت: لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض. وأما حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز، فإن قلت: فلم جعلت {لولا} متعلقة بهمّ بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني. فلا بدّ من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل: ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما؟ قلت: نعم ما قلت، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} فكان إغفاله إلغاء له، فوجب أن يكون التقدير، ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أنّ المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها {لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ} فترك التوصل إلى حظه من الشهوة؛ فلذلك كانت {لولا} حقيقة بأن تعلق بهمّ بها وحده، وقد فسرهمّ يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها، فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمع ثالثاً: أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته.
وقيل: ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلا يوسف، فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل: صيح به: يا يوسف، لا تكن كالطائر: كان له ريش، فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوب فيها {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين} [الانفطار: 11] فلم ينصرف، ثم رأى فيها {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32] فلم ينته، ثم رأى فيها {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] فلم ينجع فيه، فقال الله لجبريل عليه السلام: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحي منه أن يرانا. فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحي من السميع البصير، العليم بذوات الصدور. وهذا ونحوه. مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل، ولو وُجِدَت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنُعِيت عليه وذُكِرَت توبته واستغفاره، كما نُعِيَت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب، وعلى ذي النون، وذُكِرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أُولي القوّة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب صورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبي من أنبياء الله، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه ثلاث كرّات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن، وبالتوبيخ العظيم، وبالوعيد الشديد، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه، وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهي ولا ينتبه، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره، ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجهاً لقي بأدنى ما لقي به نبي الله مما ذكروا، لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرّك.
فيا له من مذهب ما أفحشه، ومن ضلال ما أبينه {كذلك} الكاف منصوب المحل، أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه. أو مرفوعه، أي الأمر مثل ذلك {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} من خيانة السيد {والفحشاء} من الزنا {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم. ويجوز أن يريد بالسوء. مقدّمات الفاحشة، من القبلة والنظر بشهوة، ونحو ذلك. وقوله: {مّنْ عِبَادِنَا} معناه بعض عبادنا، أي: هو مخلص من جملة المخلصين. أو هو ناشئ منهم، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم {إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ} [ص: 46].