فصل: تفسير الآية رقم (74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (74):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
معنى {ثُمَّ قَسَتْ} استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار وأنّ المواعظ لا تؤثر فيها. و{ذلك} إشارة إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع ما تقدّم من الآيات المعدودة {فَهِىَ كالحجارة} فهي في قسوتها مثل الحجارة {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} منها، (وأشد) معطوف على الكاف، إما على معنى أو مثل أشد قسوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على الحجارة، وإمَّا على: أو هي في أنفسها أشد قسوة. والمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلاً. أو من عرفها شبهها بالحجارة، أو قال: هي أقسى من الحجارة.
فإن قلت: لم قيل: أشد قسوة، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟ قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة. ووجه آخر: وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة، كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة. وقرئ: {قساوة}. وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس، كقولك: زيد كريم وعمرو أكرم. وقوله: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة} بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة، وتقرير لقوله: (أو أشدّ قسوة). وقرئ (وإنْ) بالتخفيف. وهي (إن) المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة. ومنها قوله تعالى: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} [يس: 33]. والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة.
وقرأ مالك بن دينار {ينفجر} بالنون. {يَشَّقَّقُ} يتشقق. وبه قرأ الأعمش. والمعنى إنّ من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير، ومنها ما ينشق انشقاقاً بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضاً {يَهْبِطُ} يتردى من أعلى الجبل. وقرئ بضم الباء. والخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله تعالى وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به. وقرئ {يعملون} بالياء والتاء، وهو وعيد.

.تفسير الآيات (75- 77):

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}
{أَفَتَطْمَعُونَ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم، كقوله: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] يعني اليهود، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ} طائفة فيمن سلف منهم {يَسْمَعُونَ كلام الله} وهو ما يتلونه من التوراة {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ} كما حرّفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وآية الرجم، وقيل: كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس. وقرئ {كلم الله} {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم شبهة في صحته {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون مفترون. والمعنى: إن كفر هؤلاء وحرّفوا فلهم سابقة في ذلك. {وَإِذَا لَقُواْ} يعني اليهود {قَالُواْ} قال منافقوهم {ءَامَنَّا} بأنكم على الحق، وأنّ محمداً هو الرسول المبشر به {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ} الذين لم ينافقوا {إلى بَعضٍ} الذين نافقوا {قَالُواْ} عاتبين عليهم {أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} بما بين لكم في التوراة من صفة محمد. أو قال المنافقون لأعقابهم يرونهم التصلب في دينهم: أتحدّثونهم، إنكاراً عليهم أن يفتحوا عليهم شيئاً في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود {لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ} ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، جعلوا محاجتهم به، وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله. ألا تراك تقول: هو في كتاب الله هكذا. وهو عند الله هكذا، بمعنى واحد. {يَعْلَمُ} جميع {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.

.تفسير الآيات (78- 79):

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
{وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ} لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها. {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} التوراة {إِلاَّ أَمَانِىَّ} إلا ما هم عليه من أمانيهم، وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة. وقيل: إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد. قال أعرابي لابن دأب في شيء حدّث به: أهذا شيء رويته، أم تمنيته، أم اختلقته، وقيل: إلا ما يقرؤون من قوله:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ

والاشتقاق من منى إذا قدّر، لأن المتمني يقدّر في نفسه ويحزر ما يتمناه، وكذلك المختلق والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا. وإلا أمانيّ: من الاستثناء المنقطع. وقرئ: {أماني} بالتخفيف. ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم والاستيقان، ثم العوامّ الذين قلدوهم، ونبه على أنهم في الضلال سواء، لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظنّ وهو متمكن من العلم. {يَكْتُبُونَ الكتاب} المحرّف {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيد، وهو من محاز التأكيد، كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه: يا هذا كتبته بيمينك هذه. {مِّمَّا يَكْسِبُونَ} من الرشا.

.تفسير الآيات (80- 82):

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
{إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} أربعين يوماً عدد أيام عبادة العجل.
وعن مجاهد: كانوا يقولون: مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً. {فَلَن يُخْلِفَ الله} متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده. و{أَمْ} إمّا أن تكون معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير، لأن العلم واقع بكون أحدهما. ويجوز أن تكون منقطعة. {بلى} إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: {لَن تَمَسَّنَا النار} أي بلى تمسكم أبداً، بدليل قوله: {هُمْ فِيهَا خالدون}. {مَن كَسَبَ سَيّئَةً} من السيئات، يعني كبيرة من الكبائر {وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ} تلك واستولت عليه، كما يحيط العدوّ ولم يتفص عنها بالتوبة. وقرئ: {خطاياه} و {خطيئاته}. وقيل: في الإحاطة: كان ذنبه أغلب من طاعته. وسأل رجل الحسن عن الخطيئة قال: سبحان الله: ألا أراك ذا لحية وما تدري ما الخطيئة، انظر في المصحف فكل آية نهى فيها الله عنها وأخبرك أنه من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
{لاَ تَعْبُدُونَ} إخبار في معنى النهي، كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه وتنصره قراءة عبد الله وأبيّ (اَّ تَعْبُدُواْ) ولا بدّ من إرادة القول، ويدل عليه أيضاً قوله {وَقُولُواْ}. وقوله: {وبالوالدين إحسانا} إمّا أن يقدّر: وتحسنون بالوالدين إحساناً. أو وأحسنوا. وقيل: هو جواب قوله: {وإذ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إِسْرءيلَ} إجراء له مجرى القسم، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وقيل: معناه أن لا تعبدوا، فلما حذفت (أن) رفع، كقوله:
أَلاَ أَيُّهَذَا الزّاجِرِي أَحْضُرٌ الْوَغَى

ويدل عليه قراءة عبد الله {أن لا تعبدوا} ويحتمل {أن لا تعبدوا} أن تكون (أن) فيه مفسرة، وأن تكون أن مع الفعل بدلاً عن الميثاق، كأنه قيل: أخذنا ميثاق بني إسرائيل توحيدهم وقرئ بالتاء حكاية لما خوطبوا به، وبالياء لأنهم غيب. {حُسْناً} قولا هو حسن في نفسه لإفراط حسنه. وقرئ {حسناً} و {حسنى} على المصدر كبشرى. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على طريقه الالتفات أي توليتم عن الميثاق ورفضتموه. {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} قيل: هم الذين أسلموا منهم. {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن المواثيق، والتولية.

.تفسير الآيات (84- 86):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
{لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ} لا يفعل ذلك بعضكم ببعض. جعل غير الرجل نفسه. إذا اتصل به أصلاً أو ديناً. وقيل: إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه، لأنه يقتص منه. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} عليها كقولك: فلان مقرّ على نفسه بكذا شاهد عليها. وقيل: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم. والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين تنزيلاً، لتغير الصفة منزلة وتغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله: {تَقْتُلُونَ} بيان لقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} وقيل: (هؤلاء) موصول بمعنى الذي. وقرئ: {تظَّاهرون} بحذف التاء وإدغامها. وتتظاهرون بإثباتها وتظهرون بمعنى تتظهرون: أي تتعاونون عليهم. وقرئ: {تفدوهم}، {وتفادوهم}. {وأسرى}، {وأسارى} {وَهُوَ} ضمير الشأن. ويجوز أن يكون مبهماً تفسيره {إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} أي بالفداء {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي بالقتال والإجلاء. وذلك أنّ قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير كانوا حلفاء الخزرج، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه. فعيرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم. فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا. والخزي: قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النضير. وقيل: الجزية. وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشدّ العذاب، لأن عصيانه أشدّ. وقرئ: {يردّون}، {ويعملون} بالياء والتاء {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} عذاب الدنيا بنقصان الجزية، ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم. وكذلك عذاب الآخرة.

.تفسير الآيات (87- 89):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
{الكتاب} التوراة، آتاه إياها جملة واحدة. ويقال: قفاه إذا أتبعه من القفا. نحو ذنبه، من الذنب. وقفاه به: أتبعه إياه، يعني: وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم. وقيل: {عِيسَى} بالسريانية يشوع. و{مَرْيَمَ} بمعنى الخادم. وقيل: المريم بالعربية من النساء، كالزير من الرجال. وبه فسر قول رؤبة:
قُلْتُ لِزَيْرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ

ووزن {مريم} عند النحويين (مفعل) لأن فعيلاً بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو عثير وعليب {البينات} المعجزات الواضحات والحجج. كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات. وقرئ: {وآيدناه}. ومنه: آجده بالجيم إذا قوّاه. يقال: الحمد لله الذي آجدني بعد ضعف، وأوجدني بعد فقر. {بِرُوحِ القدس} بالروح المقدسة كما تقول: حاتم الجود، ورجل صدق. ووصفها بالقدس كما قال: {وَرُوحٌ مّنْهُ} [النساء: 171] فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب، ولا أرحام الطوامث. وقيل: بجبريل. وقيل: بالإنجيل كما قال في القرآن: {وروحا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وقيل: باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره. والمعنى: ولقد آتينا يابني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ} منهم بالحق {استكبرتم} عن الإيمان به، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يريد: ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم. ثم وبخهم على ذلك. ودخول الفاء لعطفه على المقدّر.
فإن قلت: هلا قيل وفريقاً قتلتم؟ قلت: هو على وجهين: أن تراد الحال الماضية، لأنّ الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، وأن يراد: وفريقاً تقتلونهم بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم. ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة. وقال صلى الله عليه وسلم عند موته: «ما زالت أكلةُ خيبر تعادّني، فهذا أوان قطعت أبهري» {غُلْفٌ} جمع أغلف، أي هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن، كقولهم: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} [فصلت: 5]. ثم ردّ الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق، بأن الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة وتسببوا بذلك لمنع الألطاف التي تكون للمتوقع إيمانهم وللمؤمنين {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} فإيماناً قليلاً يؤمنون. وما مزيدة، وهو إيمانهم ببعض الكتاب. ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم. وقيل: (غلف) تخفيف (غلف) جمع (غلاف)، أي قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره. وروى عن أبي عمرو: قلوبنا غلف، بضمتين {كتاب مّنْ عِندِ الله} هو القرآن {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من كتابهم لا يخالفه. وقرئ: {مصدقاً}، على الحال.
فإن قلت: كيف جاز نصبها عن النكرة؟ قلت: إذا وصف النكرة تخصص فصح انتصاب الحال عنه، وقد وصف {كتاب} بقوله: {مِنْ عِندِ الله} وجواب لما محذوف وهو نحو: كذبوا به، واستهانوا بمجيئه، وما أشبه ذلك {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} يستنصرون على المشركين، إذا قاتلوهم قالوا: اللَّهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وقيل معنى {يَسْتَفْتِحُونَ}: يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيّاً يبعث منهم قد قرب أوانه. والسين للمبالغة، أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم، كالسين في استعجب واستسخر، أو يسأل بعضهم بعضاً أن يفتح عليهم {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ} من الحق {كَفَرُواْ بِهِ} بغياً وحسداً وحرصاً على الرياسة. {عَلَى الكافرين} أي عليهم وضعاً للظاهر موضع المضمر للدلالة على أنّ اللعنة لحقتهم لكفرهم. واللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس ويدخلوا فيه دخولاً أوّلياً.