فصل: تفسير الآيات (61- 65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (61- 65):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)}
{طِينًا} حال إما من الموصول والعامل فيه أسجد، على: أأسجد له وهو طين، أي أصله طين. أو من الراجع إليه من الصلة على: أأسجد لمن كان في وقت خلقه طيناً {أَرَءيْتَكَ} الكاف للخطاب، و{هذا} مفعول به. والمعنى: أخبرني عن هذا {الذى كَرَّمْتَ} ه {عَلَىَّ} أي فضلته، لم كرمته عليّ وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك، ثم ابتدأ فقال {لَئِنْ أَخَّرْتَنِى} واللام موطئة للقسم المحذوف {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} لأستأصلنهم بالإغواء، من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا، وهو من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أي أكلهما.
فإن قلت: من أين علم أن ذلك يتسهل له وهو من الغيب؟ قلت: إما أن سمعه من الملائكة وقد أخبرهم الله به، أو خرجه من قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه خلق شهواني. وقيل: قال ذلك لما عملت وسوسته في آدم، والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة {اذهب} ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء، إنما معناه: امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، وعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره في قوله {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} كما قال موسى عليه السلام للسامري {فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} [طه: 97].
فإن قلت: أما كان من حق الضمير في الجزاء أن يكون على لفظ الغيبة ليرجع إلى من تبعك؟ قلت: بلى، ولكن التقدير: فإنّ جهنم جزاؤهم وجزاؤك، ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل: جزاؤكم. ويجوز أن يكون للتابعين على طريق الالتفات، وانتصب {جَزَاءً مَّوفُورًا} بما في {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} من معنى تجازون. أو بإضمار تجازون. أو على الحال؛ لأنّ الجزاء موصوف بالموفور، والموفور الموفر. يقال: فر لصاحبك عرضه فرة.
استفزّه: استخفه. والفز: الخفيف {وَأَجْلِبْ} من الجلبة وهي الصياح. والخيل: الخيالة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي» والرجل اسم جمع للراجل. ونظيره: الركب والصحب. وقرئ: {ورجلك}، على أن فعلا بمعنى فاعل، نحو: تعب وتاعب. ومعناه: وجمعك الرجل، وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدث، وندس وندس، وأخوات لهما. يقال: رجل رجل. وقرئ {ورجالك ورجالك} فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم. وقيل: بصوته، بدعائه إلى الشر.
وخيله ورجله: كلّ راكب وماش من أهل العيث، وقيل: يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال. وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها في بابهما، كالربا والمكاسب المحرّمة، والبحيرة والسائبة، والإنفاق في الفسوق، والإسراف. ومنع الزكاة، والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب، والتسمية بعبد العزى وعبد الحرث، والتهويد والتنصير، والحمل على الحرف الذميمة والأعمال المحظورة، وغير ذلك {وَعِدْهُمْ} المواعيد الكاذبة. من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة، وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حمماً، وإيثار العاجل على الآجل {إِنَّ عِبَادِى} يريد الصالحين {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} أي لا تقدر أن تغويهم {وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً} لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك، ونحوه قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله إبليس بأن يتسلط على عباده مغوياً مضلاً، داعياً إلى الشر، صادّا عن الخير؟ قلت: هو من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان والتخلية، كما قال للعصاة: اعملوا ما شئتم.

.تفسير الآيات (66- 67):

{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)}
{يُزْجِى} يجري ويسير. والضرّ: خوف الغرق {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} ذهب عن أوهامكم وخواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده، فإنكم لا تذكرون سواه، ولا تدعونه في ذلك الوقت ولا تعقدون برحمته رجاءكم، ولا تخطرون ببالكم أنّ غيره يقدر على إغاثتكم، أو لم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوّين. ويجوز أن يراد: ضلّ من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم، ولكنّ الله وحده هو الذي ترجونه وحده على الاستثناء المنقطع.

.تفسير الآيات (68- 69):

{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)}
{أَفَأَمِنتُمْ} الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض.
فإن قلت: بم انتصب {جَانِبَ البر}؟ قلت: بيخسف مفعولاً به، كالأرض في قوله {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81]. و{بِكُمْ} حال. والمعنى: أن يخسف جانب البر، أي يقلبه وأنتم عليه. فإن قلت فما معنى ذكر الجانب؟ قلت: معناه أنّ الجوانب والجهات كلها في قدرته سواء، وله في كل جانب براً كان أو بحراً سبب مرصد من أسباب الهلكة، ليس جانب البحر وحده مختصاً بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف؛ لأنه تغييب تحت التراب كما أنّ الغرق تغييب تحت الماء، فالبرّ والبحر عنده سيان يقدر في البر على نحو ما يقدر عليه في البحر، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} وهي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء، يعني: أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر {وَكِيلاً} من يتوكل بصرف ذلك عنكم {أَمْ أَمِنتُمْ} أن يقوّي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم، فينتقم منكم بأن يرسل {عَلَيْكُمْ قَاصِفًا} وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد، كأنها تتقصف أي تتكسر. وقيل: التي لا تمرّ بشيء إلا قصفته {فَيُغْرِقَكُم} وقرئ (بالتاء) أي الريح (وبالنون) وكذلك: نخسف، ونرسل، ونعيدكم، قرئت بالياء والنون. التبيع: المطالب، من قوله {فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178] أي مطالبة. قال الشماخ:
كَمَا لاَذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ

يقال: فلان على فلان تبيع بحقه، أي مصيطر عليه مطالب له بحقه. والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بهم، ثم لا تجد أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودركاً للثأر من جهتنا. وهذا نحو قوله {وَلاَ يَخَافُ عقباها} [الشمس: 15]. {بِمَا كَفَرْتُمْ} بكفرانكم النعمة، يريد: إعراضهم حين نجاهم.

.تفسير الآية رقم (70):

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}
قيل في تكرمة ابن آدم: كرّمه الله بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد.
وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم. وقيل: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم، وعن الرشيد: أنه أحضر طعاماً فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه {على كثير ممن خلقنا} هو ما سوى الملائكة وحسب بني آدم تفضيلاً أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم. والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم، وعلموا أين أسكنهم، وأنى قربهم، وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم، ثم جرّهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالاً وأخباراً منها: قالت الملائكة: (ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان). ورووا عن أبي هريرة أنه قال: لمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. ومن ارتكابهم أنهم فسروا {كثيراً} بمعنى (جميع) في هذه الآية، وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا، على أن معنى قولهم {على جَمِيعٌ مّمَّنْ خَلَقْنَا} أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم، ولكنهم لا يشعرون. فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى، كأنّ جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط، فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم.

.تفسير الآية رقم (71):

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)}
قرئ: {يدعو}، بالياء والنون. ويدعى كل أناس، على البناء للمفعول.
وقرأ الحسن {يدعوا كل أناس}، على قلب الألف واواً في لغة من يقول: افعوا. والظرف نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن يقال: إنها علامة الجمع، كما في {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] والرفع مقدّر كما في يدعى، ولم يؤت بالنون قلة مبالاة بها، لأنها غير ضمير، ليست إلا علامة {بإمامهم} بمن ائتموا به من نبيّ أو مقدّم في الدين، أو كتاب، أو دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا وكتاب كذا، وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشرّ. وفي قراءة الحسن {بكتابهم} ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع أمّ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الاباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ {فَمَنْ أُوتِىَ} من هؤلاء المدعوّين {كتابه بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم} قيل أولئك، لأن من أوتي في معنى الجمع.
فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤن كتابهم؟ قلت: بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أمام التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول؛ فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر: {هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه} [الحاقة: 19]. {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، كقوله {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم: 60]، {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه: 112].

.تفسير الآية رقم (72):

{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}
معناه: ومن كان في الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى كذلك {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} من الأعمى: والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته، لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة: أما في الدنيا فلفقد النظر. وأما في الآخرة، فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل. ومن ثم قرأ أبو عمرو الأوّل ممالا، والثاني مفخماً، لأن أفعل التفضيل تمامه بمن، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام، كقولك: أعمالكم وأما الأوّل فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة.

.تفسير الآيات (73- 75):

{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}
روي أنّ ثقيفاً قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب: لا نعشر؛ ولا نحشر، ولا نجبي في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره، فإذا سألتك العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرني به، وجاؤا بكتابهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف: لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا: ولا يجبون. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا للكاتب: اكتب: ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول الله، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسل سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم ناراً، فقالوا: لسنا نكلم إياك، إنما نكلم محمداً. فنزلت.
وروي أنّ قريشاً قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب، وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك. فنزلت {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} إن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين {عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا {لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا} لتقول علينا ما لم نقل، يعني ما أرادوه عليه من تبديل الوعد وعيداً والوعيد وعداً، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزله عليه {وَإِذاً لاَّتَّخَذوُكَ} أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك {خَلِيلاً} ولكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك} ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين {إِذَا} لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة {لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين.
فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان: عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في الحياة الآخرة وهو عذاب النار. والضعف يوصف به، نحو قوله {فآتهم عذاباً ضعفاًمن النار} [الأعراف: 38] بمعنى مضاعفاً، فكان أصل الكلام: لأذقناك عذاباً ضعفاً في الحياة، وعذاباً ضعفاً في الممات. ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل: ضعف الحياة وضعف الممات، كما لو قيل: لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. ويجوز أن يراد بضعف الحياة: عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات: ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار، والمعنى: لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا، وما نؤخره لما بعد الموت، وفي ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين- دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله.
فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها، فهي جديرة بالتدبر، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت كان يقول: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».