فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (46):

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}
{والباقيات الصالحات} أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وتفنى عنه كل ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا. وقيل: هي الصلوات الخمس، وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر.
وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} أي ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل؛ لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله، ويصيبه في الآخرة.

.تفسير الآيات (47- 48):

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}
قرئ: {تسير} من سيرت، ونسير من سيرنا {وتسير} من سارت، أي: تسير في الجو. أو يذهب بها، بأن تجعل هباء منبثاً. وقرئ: {وترَى الأرض} على البناء للمفعول {بَارِزَةً} ليس عليها ما يسيرها مما كان عليها {وحشرناهم} وجمعناهم إلى الموقف. وقرئ: {فلم نغادر} بالنون والياء، يقال: غادره وأغدره إذا تركه. ومنه الغدر. ترك الوفاء. والغدير: ما غادره السيل. وشبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان {صَفَّا} مصطفين ظاهرين، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} أي قلنا لهم: لقد جئتمونا. وهذا المضمر هو عامل النصب في يوم نسير. ويجوز أن ينصب بإضمار اذكر. والمعنى لقد بعثناكم كما أنشأناكم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقيل: جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أوّلاً، كقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} [الأنعام: 94].
فإن قلت: لم جيء بحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك {مَّوْعِدًا} وقتاً لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}
{الكتاب} للجنس وهو صحف الأعمال {ياويلتنا} ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات {صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} هنة صغيرة ولا كبيرة، وهي عبارة عن الإحاطة، يعني: لا يترك شيئاً من المعاصي إلاّ أحصاه، أي: أحصاها كلها كما تقول: ما أعطاني قليلاً ولا كثيراً؛ لأن الأشياء إمّا صغار وإمّا كبار. ويجوز أن يريد: وإمّا كان عندهم صغائر وكبائر. وقيل: لم يجتنبوا الكبائر فكتبت عليهم الصغائر وهي المناقشة.
وعن ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة.
وعن سعيد بن جبير: الصغيرة المسيس، والكبيرة الزنا.
وعن الفضيل: كان إذا قرأها قال: ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر {إِلاَّ أَحْصَاهَا} إلاّ ضبطها وحصرها {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} في الصحف عتيداً. أو جزاء ما عملوا {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فيكتب عليه ما لم يعمل. أو يزيد في عقاب المستحق، أو يعذبه بغير جرم، كما يزعم من ظُلْم الله في تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم.

.تفسير الآيات (50- 51):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}
{كَانَ مِنَ الجن} كلام مستأنف جار مجرى التقليل بعد استثناء إبليس من الساجدين، كأن قائلاً قال: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان من الجن {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} والفاء للتسبيب أيضاً، جعل كونه من الجن سبباً في فسقه؛ لأنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله، لأنّ الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس، كما قال: {اَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] وهذا الكلام المعترض تعمد من الله تعالى لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم. فما أبعد البون بين ما تعمده الله، وبين قول من ضادّه وزعم أنه كان ملكاً ورئيساً على الملائكة، فعصى، فلعن ومسخ شيطاناً، ثم ورّكه على ابن عباس. ومعنى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} خرج عما أمره به ربه من السجود. قال:
فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا

أو صار فاسقاً كافراً بسبب أمر ربه الذي هو قوله: {اسجدوا لآدَمَ}. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} الهمزة للإنكار والتعجيب، كأنه قيل: أعقيب ما وجد منه تتخذونه {وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى} وتستبدلونهم بي، بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله، فأطاعه بدل طاعته {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ} وقرئ: {ما أشهدناهم}، يعني: أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة، وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية، فنفى مشاركتهم في الإلهية بقوله: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض} لأعتضد بهم في خلقها {وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]. {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين} بمعنى وما كنت متخذهم {عَضُداً} أي أعواناً، فوضع المضلين موضع الضمير ذمّاً لهم بالإضلال، فإذا لم يكونوا عضداً لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟ وقرئ: {وما كُنْتَ} بالفتح: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وما صحّ لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم.
وقرأ علي رضي الله عنه: {وما كنت متخذاً المضلين} بالتنوين على الأصل.
وقرأ الحسن: {عضدا} بسكون الضاد، ونقل ضمتها إلى العين. وقرئ: {عُضْداً} بالفتح وسكون الضاد. و {عُضُدا} بضمتين و {عَضَداً} بفتحتين: جمع عاضد، كخادم وخدم، وراصد ورصد، ومن عضده: إذا قواه وأعانه.

.تفسير الآيات (52- 53):

{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}
{يِقُولُ} بالياء والنون. وإضافة الشركاء إليه على زعمهم: توبيخاً لهم وأراد الجنّ والموبق: المهلك، من وبق يبق وبوقاً، ووبق يوبق وبقاً: إذا هلك. وأوبقه غيره. ويجوز أن يكون مصدراً كالمورد والموعد، يعني: وجعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركاً يهلكون فيه جميعاً.
وعن الحسن {مَّوْبِقاً} عداوة. والمعنى: عداوة هي في شدتها هلاك، كقوله لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً. وقال الفراء: البين الوصل أي: وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة. ويجوز أن يريد الملائكة وعزيراً وعيسى ومريم، وبالموبق: البرزخ البعيد، أي: وجعلنا بينهم أمداً بعيداً تهلك فيه الأشواط لفرط بعده؛ لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان {فَظَنُّواْ} فأيقنوا {مُّوَاقِعُوهَا} مخالطوها واقعون فيها {مَصْرِفًا} معدلاً. قال:
أَزُهَيْرَ هَلْ عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ

.تفسير الآية رقم (54):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)}
{أَكْثَرَ شيء جَدَلاً} أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحداً بعد واحد، خصومة ومماراة بالباطل. وانتصاب {جَدَلاً} على التمييز، يعني: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء. ونحوه: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [النحل: 4].

.تفسير الآية رقم (55):

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)}
{أن} الأولى نصب. والثانية رفع، وقبلها مضاف محذوف تقديره {وَمَا مَنَعَ الناس} الإيمان والاستغفار {إِلا} انتظار {أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} وهي الإهلاك {أَوْ} انتظار أن {يَأْتِيهِمُ العذاب} يعني عذاب الآخرة {قُبُلاً} عياناً. وقرئ: {قِبَلا} أنواعاً: جمع قبيل. و {قَبَلا}، بفتحتين: مستقبلاً.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}
{لِيُدْحِضُواْ} ليزيلوا ويبطلوا، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وإزالتها عن موطئها {وَمَا أُنْذِرُواْ} يجوز أن تكون {مَا} موصولة، ويكون الراجع من الصلة محذوفاً، أي: وما أنذروه من العذاب. أو مصدرية بمعنى: وإنذارهم. وقرئ: {هزأ}، بالسكون، أي: اتخذوها موضع استهزاء. وجدالهم: قولهم للرسل: {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَلَوْ شَاء الله لأَنزَلَ ملائكة} [المؤمنون: 24] وما أشبه ذلك.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}
{بأيات رَبِّهِ} بالقرآن، ولذلك رجع إليها الضمير مذكراً في قوله: {أَن يَفْقَهُوهُ}. {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر {وَنَسِىَ} عاقبة {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من الكفر والمعاصي، غير متفكر فيها ولا ناظر في أنّ المسيء والمحسن لابد لهما من جزاء. ثم علّل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، وجمع بعد الافراد حملاً على لفظ من ومعناه {فَلَنْ يَهْتَدُواْ} فلا يكون منهم اهتداء البتة، كأنه محال منهم لشدّة تصميمهم {أَبَدًا} مدّة التكليف كلها. و{إِذَا} جزاء وجواب، فدلّ على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سبباً في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله: ما لي لا أدعوهم حرصاً على إسلامهم؟ فقيل: وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)}
{الغفور} البليغ المغفرة {ذُو الرحمة} الموصوف بالرحمة، ثم استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهو يوم بدر {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} منجى ولا ملجأ. يقال: (وأل) إذا نجا، و (وأل إليه) إذا لجأ إليه.

.تفسير الآية رقم (59):

{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}
{وَتِلْكَ القرى} يريد قرى الأوّلين من ثمود وقوم لوط وغيرهم: أشار لهم إليها ليعتبروا. {تِلْكَ} مبتدأ، و{القرى} صفة: لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس، و{أهلكناهم} خبر. ويجوز أن يكون {تِلْكَ القرى} نصباً بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم {لَمَّا ظَلَمُواْ} مثل ظلم أهل مكة {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك ووقته. وقرئ: {لمَهلكهم} بفتح الميم، واللام مفتوحة أو مكسورة، أي: لهلاكهم أو وقت هلاكهم. والموعد: وقت، أو مصدر.

.تفسير الآيات (60- 65):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}
{لفتاه} لعبده. وفي الحديث: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي»، ولا يقل: عبدي وأمتي. وقيل: هو يوشع بن نون. وإنما قيل: فتاه؛ لأنه كان يخدمه ويتبعه. وقيل: كان يأخذ منه العلم.
فإن قلت: {لا أَبْرَحُ} إن كان بمعنى لا أزول- من برح المكان- فقد دلّ على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى: لا أزال، فلا بدّ من الخبر، قلت: هو بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر؛ لأنّ الحال والكلام معاً يدلان عليه. أمّا الحال فلأنها كانت حال سفر. وأمّا الكلام فلأن قوله: {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} غاية مضروبة وتستدعي ما هي غاية له، فلا بدّ أن يكون المعنى: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، وهو وجه لطيف. ويجوز أن يكون. المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى: ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ، كما تقول: لا أبرح المكان. ومجمع البحرين: المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام، وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق. وقيل: طنجة. وقيل: أفريقية. ومن بدع التفاسير: أن البحرين موسى والخضر، لأنهما كانا بحرين في العلم. وقرئ: {مجمع} بكسر الميم، وهي في الشذوذ من يفعل، كالمشرق والمطلع من يفعل {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} أو أسير زماناً طويلاً. والحقب ثمانون سنة.
وروي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقرّوا بها بعد هلاك القبط، أمره الله أن يذكر قومه النعمة، فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله وقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه. فقالوا له: قد علمنا هذا، فأي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إلى الله، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر، وبقي إلى أيام موسى. وقيل: إنّ موسى سأل ربه: أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأيّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى، أو تردّه عن ردى. فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه. قال: أعلم منك الخضر. قال: أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة.
قال: يا ربِ، كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً في مكتل، فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان، فرقد موسى، فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت، فأخبره فتاه بوقوعه في البحر، فأتيا الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوبه، فسلم عليه موسى، فقال: وأني بأرضنا السلام، فعرّفه نفسه، فقال: يا موسى، أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر {نَسِيَا حُوتَهُمَا} أي نسيا تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة. وقيل: نسي يوشع أن يقدّمه، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء. وقيل: كان الحوت سمكة مملوحة. وقيل: إن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل، فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة، ونام موسى، فلما أصاب السمكة برد الماء وروحه عاشت.
وروي: أنهما أكلا منها. وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء {سَرَباً} أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق، وحصل منه في مثل السرب معجزة لموسى أو للخضر {فَلَمَّا جَاوَزَا} الموعد وهو الصخرة لنسيان موسى تفقد أمر الحوت وما كان منه. ونسيان يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. وقيل: سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر، وألقي على موسى النصب والجوع حين جاوز الموعد، ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك، فتذكر الحوت وطلبه. وقوله: {مِن سَفَرِنَا هذا} إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة.
فإن قلت: كيف نسي يوشع ذلك، ومثله لا ينسى لكونه أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها لكونه معجزتين ثنتين: وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها- وقيل: ما كانت إلاّ شق سمكة- وقياء الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه؟ ثم كيف استمرّ به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت؟ قلت: قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب حتى اعتراه النسيان وانضم إلى ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى عليه السلام من العجائب، واستأنس بإخوانه فأعان الإلف على قلة الاهتمام {أَرَأَيْتَ} بمعنى أخبرني.
فإن قلت: ما وجه التئام هذا الكلام، فإن كل واحد من {أَرَأَيْتَ} و{إِذْ أَوَيْنَا} و{فَإِنّى نَسِيتُ الحوت} لا متعلق له؟ قلت: لما طلب موسى عليه السلام الحوت، ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدهش وطفق يسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك، كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإني نسيت الحوت، فحذف ذلك.
وقيل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت. و{أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل من الهاء في {أَنْسَانِيهُ} أي: وما أنساني ذكره إلاّ الشيطان. وفي قراءة عبد الله: {أن اذكركه} و{عَجَبًا} ثاني مفعولي اتخذ، مثل {سَرَباً} يعني: واتخذ سبيله سبيلاً عجباً، وهو كونه شبيه السرب. أو قال: عجباً في آخر كلامه، تعجباً من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها أو مما رأى من المعجزتين، وقوله: {أنسانيه إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وقيل: إن {عَجَبًا} حكاية لتعجب موسى عليه السلام، وليس بذاك {ذلك} إشارة إلى اتخاذه سبيلاً، أي: ذلك الذي كنا نطلب، لأنه أمارة الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام. وقرئ: {نبغ} لغير ياء في الوصل، وإثباتها أحسن، وهي قراءة أبي عمرو، وأمّا الوقف، فالأكثر فيه طرح الياء اتباعاً لخط المصحف {فارتدا} فرجعا في أدراجهما {قَصَصًا} يقصان قصصاً، أي: يتبعان آثارهما اتباعاً. أو فارتدّا مقتصين {رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} هي الوحي والنبوة {مّن لَّدُنَّا} مما يختص بنا من العلم، وهو الإخبار عن الغيوب.