فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (10- 11):

{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}
أي {أولئك} الجامعون لهذه الأوصاف {هُمُ الوارثون} الأحقاء بأن يسمّوا ورّاثاً دون من عداهم، ثم ترجم الوارثين بقوله: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر. ومعنى الإرث: ما مرّ في سورة مريم. أنث الفردوس على تأويل الجنة، وهو: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روي أنّ الله عزّ وجلّ بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك والأذفر. وفي رواية: ولبنة من مسك مذرّي وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}
السلالة: الخلاصة؛ لأنها تسلّ من بين الكدر، وفعالة، بناء للقلة كالقلامة والقمامة.
وعن الحسن: ماء بين ظهراني الطين.
فإن قلت: ما الفرق بين من ومن؟ قلت: الأوّل للابتداء، والثاني للبيان، كقوله: {مِنَ الأوثان} [الحج: 30].
فإن قلت: ما معنى: {جَعَلْنَا} الإنسان نطفة؟ قلت: معناه أنه خلق جوهر الإنسان أوّلاً طيناً، ثم جعل جوهره بعذ ذلك نطفة. القرار: المستقرّ، والمراد الرحم. وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقرّ فيها، كقولك. طريق سائر. أو بمكانتها في نفسها؛ لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. قرئ: {عظماً فكسونا العظم} و {عظاماً فكسونا العظام} و {عظماً فكسونا العظم} وضع الواحد مكان الجمع لزوال اللبس؛ لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة {خَلْقاً ءاخَرَ} أي خلقاً مبايناً للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيواناً وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصمّ، وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح: وقد احتجّ به أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده قال: يضمن البيضة ولا يرد الفرخ: لأنه خلق أخر سوى البيضة {فَتَبَارَكَ الله} فتعالى أمره في قدرته وعلمه {أَحْسَنُ الخالقين} أي: أحسن المقدّرين تقديراً، فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه. ونحوه: طرح المأذون فيه في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون} [الحج: 39] لدلالة الصلة.
وروي عن عمر رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله خلقاً آخر، قال: «فتبارك الله أحسن الخالقين» وروي: أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فنطق بذلك قبل إملائه، فقال: له النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب، هكذا نزلت» فقال: عبد الله: إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبيّ يوحى إليّ، فلحق بمكة كافراً، ثم أسلم يوم الفتح.

.تفسير الآيات (15- 16):

{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}
قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن: لمائتون. والفرق بين الميت والمائت: أنّ الميت كالحيّ صفة ثابتة. وأمّا المائت، فيدلّ على الحدوث. تقول: زيد مائت الآن، ومائت غداً، كقولك يموت. ونحوهما: ضيق وضائق، وفي قوله تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] {لَمَيِّتُونَ} جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه: دليلين أيضاً على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع.
فإن قلت: فإذاً لا حياة إلا حياة الإنشاء وحياة البعث.
قلت: ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلاً على أن الثلث ليس عندك. وأيضاً فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة: الإنشاء والإماتة والإعادة، والمطوي ذكرها من جنس الإعادة.

.تفسير الآية رقم (17):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}
الطرائق: السموات، لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة: أو لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم: وقيل: الأفلاك؛ لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها: أراد بالخلق السموات، كأنه قال: خلقناهم فوقهم {وَمَا كُنَّا} عنها {غافلين} وعن حفظها وإمساكها أن تقع فوقهم بقدرتنا: أو أراد به الناس وأنه أنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها، وينفعهم بأنواع منافعها، وما كان غافلاً عنهم وما يصلحهم.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)}
{بِقَدَرٍ} بتقدير يسلمون معه من المضرة، ويصلون إلى المنفعة. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم. {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} كقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] وقيل: جعلناه ثابتاً في الأرض. وقيل: إنها خمسة أنهار: سيحون نهر الهند. وجيحون: نهر بلخ، ودجلة والفرات: نهرا العراق. والنيل: نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة، فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معيشهم. وكما قدر على أنزاله فهو قادر على رفعه وإزالته. وقوله: {على ذَهَابٍ بِهِ} من أوقع النكرات وأحزها للمفصل. والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان باقتدار المذهب، وأنه لا يتعايى عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد، من قوله: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} [الملك: 30] فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر.

.تفسير الآيات (19- 20):

{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20)}
خصّ هذه الأنواع الثلاثة، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع. ووصف النخل والعنب بأن ثمرهما جامع بين أمرين: بأنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطباً ويابساً، رطباً وعنباً، وتمراً وزبيباً. والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعاً، ويجوز أن يكون قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} من قولهم: يأكل فلان من حرفة يحترفها، ومن ضيعة يغتلها ومن تجارة يتربح بها: يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم، منها ترتزقون وتتعيشون {وَشَجَرَةً} عطف على جنات. وقرئت مرفوعة على الابتداء، أي: ومما أنشيء لكم شجرة و{طُورِ سَيْنَآءَ} وطور سنين، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه، كامريء القيس، وكبعلبك، فيمن أضاف. فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث؛ لأنها بقعة، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء. ومن فتح فلم يصرف؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء. وقيل: هو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وإيلة. ومنه نودي موسى عليه السلام.
وقرأ الأعمش: {سينا} على القصر {بالدهن} في موضع الحال، أي: تنبت وفيها الدهن. وقرئ: {تنبت} وفيه وجهان، أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت. وأنشد لزهير:
رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِم ** قَطِيناً لَهُمْ حَتَّى إذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ

والثاني: أنّ مفعوله محذوف، أي: تنبت زيتونها وفيه الزيت. وقرئ: {تنبت} بضم التاء وفتح الباء، وحكمه حكم تنبت.
وقرأ ابن مسعود: تخرج الدهن وصبع الآكلين. وغيره: تخرج بالدهن: وفي حرف أبيّ: {تثمر الدهن} وعن بعضهم: تنبت بالدهان.
وقرأ الأعمش: {وصبغاً} وقرئ: {وصباغ} ونحوهما: دبغ ودباغ. والصبغ: الغمس للائتدام. وقيل: هي أوّل شجرة نبتت بعد الطوفان، ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} [النور: 35].

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}
قرئ: {تسقيكم} بتاء مفتوحة، أي: تسقيكم الأنعام {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي تتعلق بها منافع من الركوب والحمل وغير ذلك، كما تتعلق بما لا يؤكل لحمه من الخيل والبغال والحمير. وفيها منفعة زائدة، وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها، والقصد بالأنعام إلى الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة، وقرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفائن البرّ. قال ذو الرمّة:
سَفِينَةُ بَرٍّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا

يريد صيدحه.

.تفسير الآيات (23- 25):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}
{غَيْرُهُ} بالرفع على المحل، وبالجرّ على اللفظ، والجملة استئناف تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم، وشكر نعمته التي لا تحصونها واجب عليكم، ثم تذهبوا فتعبدوا غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء {أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء فِي الأرض} [يونس: 78]. {بهذا} إشارة إلى نوح عليه السلام، أو إلى ما كلمهم به من الحثّ على عبادة الله، أي: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعي وهو بشر أنه رسول الله، وما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر: وقولهم: {مَّا سَمِعْنَا بهذا} يدلّ على أنهم وآباؤهم كانوا في فترة متطاولة. أو تكذبوا في ذلك لأنهماكهم في الغي، وتشمرهم لأن يدفعوا الحق بما أمكنهم وبما عنّ لهم، من غير تمييز منهم بين صدق وكذب. ألا تراهم: كيف جننوه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً وأوزنهم قولاً. والجِنة: الجنون أو الجنّ، أي: به جنّ يخبلونه {حتى حِينٍ} أي احتملوه واصبروا عليه إلى زمان، حتى ينجلي أمره عن عاقبة، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه.

.تفسير الآيات (26- 30):

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}
في نصرته إهلاكهم، فكأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، أو انصرني بدل ما كذبوني، كما تقول: هذا بذاك، أي بدل ذاك ومكانه. والمعنى: أبدلني من غمّ تكذيبهم، سلوة النصرة عليهم، أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59]، [الشعراء: 135]، [الأحقاف: 21]. {بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله حفاظاً يكلؤونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم: عليه من الله عين كالئة {وَوَحْيِنَا} أي نأمرك كيف تصنع ونعلمك. روي أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر. روي أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب. وقيل: كان تنور آدم عليه السلام، وكان من حجارة، فصار إلى نوح. واختلف في مكانه، فعن الشعبي: في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد. وقيل: بالشام بموضع يقال له: عين وردة. وقيل: بالهند.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: التنور وجه الأرض.
وعن قتادة: أشرف موضع في الأرض، أي أعلاه.
وعن علي رضي الله عنه: فار التنور: طلع الفجر. وقيل: معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر. وقيل: هو مثل كقولهم: حمي الوطيس. والقول هو الأوّل. يقال: سلك فيه: دخله. وسلك غيره، وأسلكه. قال:
حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدِهِ

{مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ} من كلّ أمتي زوجين، وهما أَمة الذكر وأمّة الأنثى، كالجمال، والنوق، والحصن والرماك {اثنين} واحدين مزدوجين، كالجمل والناقة، والحصان والرمكة: روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض. وقرئ: {من كل} بالتنوين، أي: من كل أمّة زوجين. واثنين: تأكيد وزيادة بيان.
جيء بعلى مع سبق الضارّ، كما جيء باللام مع سبق النافع. قال الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} [الصافات: 171]، ونحو قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] وقول عمر رضي الله عنه: ليتها كانت كفافاً، لا عليَّ ولا لي.
فإن قلت: لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت: لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة، لما عرف من المصلحة في إغراقهم، والمفسدة في استبقائهم، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً، ولزمتهم الحجّة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين. ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهي عنه، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم، كقوله:
{فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الأنعام: 45]، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أهم وأنفع له، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها، منزلاً يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته، وهو قوله: {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين}.
فإن قلت: هلا قيل: فقولوا: لقوله: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} لأنه في معنى: فإذا استويتم؟ قلت: لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبيّ. وقرئ: {منزلاً} بمعنى إنزالاً، أو موضع إنزال، كقوله: {ليدخلهم مدخلاً يرضونه}. {إِن} هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى، وإن الشأن والقصة {كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد. أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذّكر، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ تركناها ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 15]