فصل: تفسير الآيات (36- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (36- 38):

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}
{فِى بُيُوتٍ} يتعلق بما قبله. أي: كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد، كأنه قيل: مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت. أو بما بعده، وهو يسبح، أي: يسبح له رجال في بيوت. وفيها تكرير، كقولك: زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف كقوله: {في تسع آيات} [النمل: 27] أي سبحوا في بيوت. والمراد بالإذن: الأمر. ورفعها: بناؤها، كقوله: {بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27- 28]، {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد} [البقرة: 127] وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي المساجد، أمر الله أن تبنى، أو تعظيمها والرفع من قدرها.
وعن الحسن رضي الله عنه: ما أمر الله أن ترفع بالبناء، ولكن بالتعظيم {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} أوفق له، وهو عام في كل ذكر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: وأن يتلى فيها كتابه. وقرئ: {يسبح} على البناء للمفعول، ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني: {لَهُ فِيهَا بالغدو}، و{رِجَالٌ} مرفوع بما دلّ عليه {يُسَبّحُ} وهو يسبح له، وتسبح، بالتاء وكسر الباء.
وعن أبي جعفر رضي الله عنه بالتاء وفتح الباء. ووجهها أن يسند إلى أوقات الغدوّ والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة. والمراد ربها، كصيد عليه يومان. والمراد وحشهما. والآصال: جمع أصل وهو العشي. والمعنى: بأوقات الغدوّ، أي: بالغدوات. وقرئ: {والإيصال} وهو الدخول في الأصيل. يقال: آصل، كأظهر وأعتم. التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح، فإما أن يريد: لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة، ثم خصّ البيع لأنه في الإلهاء أدخل. من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته: ألهته ما لا يلهيه شراء شيء يتوقع فيه الربح في الوقت الثاني، لأن هذا يقين وذاك مظنون، وإمّا أن يسمى الشراء تجارة، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع، كما تقول: رزق فلان تجارة رابحة، إذا اتجه له بيع صالح أو شراء. وقيل: التجارة لأهل الجلب، اتجر فلان في كذا: إذا جلبه. التاء في إقامة، عوض من العين الساقطة للإعلال، والأصل: {إقوام} فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض، فأسقطت، ونحوه:
وِأَخْلَفُوكَ عِدَ الأمرِ الَّذِي وَعَدُوا

وتقلب القلوب والأبصار: إما أن تتقلب وتتغير في أنفسها: وهو أن تضطرب من الهول والفزع وتشخص، كقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10]. وإما أن تتقلب أحوالها وتتغير فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً لا تبصر {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي أحسن جزاء أعمالهم، كقوله: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] والمعنى يسبحون ويخافون، ليجزيهم ثوابهم مضاعفاً ويزيدهم على الثواب تفضلاً. وكذلك معنى قوله: {الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] المثوبة وزيادة عليها من التفضل. وعطاء الله تعالى: إما تفضل وإما ثواب، وإما عوض {والله يَرْزُقُ} ما يتفضل به {بِغَيْرِ حِسَابٍ} فأما الثواب فله حساب لكونه على حسب الاستحقاق.

.تفسير الآية رقم (39):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)}
السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري. والقيعة: بمعنى القاع أو جمع قاع، وهو المنبسط المستوي من الأرض، كجيرة في جار. وقرئ: {بقيعات}: بتاء ممطوطة، كديمات وقيمات، في ديمة وقيمة. وقد جعل بعضهم بقيعاة بتاء مدورة، كرجل عزهاة، شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم تخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه العطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} [الغاشية: 3]، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، وقد كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر في الإسلام.

.تفسير الآية رقم (40):

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}
اللجيّ: العميق الكثير الماء. منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر. وفي {أَخْرَجَ} ضمير الواقع فيه {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مبالغة في لم يرها؛ أي: لم يقرب أن يراها؛ فضلاً عن أن يراها. ومثله قول ذي الرمة:
إذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحَبِّينَ لَمْ يَكَد ** رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ

أي لم يقرب من البراح فما باله يبرح؟ شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجده من خدعه من بعيد شيئاً، ولم يكفه خيبة وكمداً أن لم يجد شيئاً كغيره من السراب، حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، ولا يقتل ظمأه بالماء. وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجّ البحر والأمواج والسحاب، ثم قال: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه، فهو في ظلمة الباطل لا نور له. وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات؛ لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل الصالح. أو كونهما مترقبين، ألا ترى إلى قوله: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقوله: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} [إبراهيم: 27] وقرئ: {سحاب ظلمات} على الإضافة. وسحاب ظلمات، برفع {سَحَابٌ} وتنوينه وجرّ {ظلمات} بدلاً من {ظلمات} الأولى.

.تفسير الآيات (41- 42):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}
{صافات} يصففن أجنحتهن في الهواء. والضمير في {عِلْمٍ} لكل أو لله. وكذلك في {صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} والصلاة: الدعاء. ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.

.تفسير الآيات (43- 44):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}
{يُزْجِى} يسوق. ومنه: البضاعة المزجاة: التي يزجيها كل أحد لا يرضاها. والسحاب يكون واحداً كالعماء، وجمعاً كالرباب. ومعنى تأليف الواحد: أنه يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض. وجاز بينه وهو واحد؛ لأن المعنى بين أجزائه، كما قيل في قوله:
... بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

والركام: المتراكم بعضه فوق بعض. والودق: المطر {مِنْ خلاله} من فتوقه ومخارجه: جمع خلل، كجبال في جبل. وقرئ: {من خلله} {وَيُنَزّلُ} بالتشديد، ويكاد سنا: على الإدغام. وبرقه: جمع برقة، وهي المقدار من البرق، كالغرفة واللقمة. وبرقه: بضمتين للإتباع، كما قيل: في جمع فعلة: فعلات كظلمات. و {سناء برقة} على المدّ المقصور، بمعنى الضوء، والممدود: بمعنى العلو والارتفاع، من قولك: سنيّ، مرتفع. و{يَذْهَبُ بالأبصار} على زيادة الباء، كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] عن أبي جعفر المدني: وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته وظهور أمره، حيث ذكر تسبيح من في السموات والأرض وكل ما يطير بين السماء والأرض ودعاءهم له وابتهالهم إليه، وأنه سخر السحاب التسخير الذي وصفه وما يحدث فيه من أفعاله حتى ينزل المطر منه، وأنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها على ما تقتضيه حكمته، ويريهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف أبصارهم، ليعتبروا ويحذروا. ويعاقب بين الليل والنهار، ويخالف بينهما بالطول والقصر. وما هذه إلاّ براهين في غاية الوضوح على وجوده وثباته. ودلائل منادية على صفاته، لمن نظر وفكر وتبصر وتدبر.
فإن قلت: متى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح من في السموات ودعاءهم، وتسبيح الطير ودعاءه، وتنزيل المطر من جبال برد في السماء، حتى قيل له: ألم تر؟ قلت: علمه من جهة إخبار الله إياه بذلك على طريق الوحي.
فإن قلت: ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة في قوله: {مِنَ السماء مِن جِبَالٍ}، {مِن بَرَدٍ}؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض. والثالثة للبيان. أو الأوليان للابتداء: والآخرة للتبعيض. ومعناه: أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها، وعلى الأوّل مفعول {ينزل}: {من جبال}.
فإن قلت: ما معنى {مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ}؟ قلت: فيه معنيان. أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأَرض جبال حجر.
والثاني: أن يريد الكثرة بذكر الجبال، كما يقال: فلان يملك جبالاً من ذهب.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}
وقرئ: {خالق كل دابة}. ولما كان اسم الدابة موقعاً على المميز وغير المميز، غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه، كأن الدواب كلهم مميزون، فمن ثمة قيل: فمنهم، وقيل: من يمشي في الماشي على بطن والماشي على أربع قوائم.
فإن قلت: لم نكر الماء في قوله: {مِّن مَّآء}؟ قلت: لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء مختصّ بتلك الدابة، أو خلقها من ماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة، فمنها هوام ومنها بهائم ومنها ناس. ونحوه قوله تعالى: {يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الاكل} [الرعد: 4].
فإن قلت: فما باله معرّفاً في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَىّ} [الأنبياء: 30]؟ قلت: قصد ثمة معنى آخر: وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط، قالوا: خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجنّ من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه.
فإن قلت: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت: قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع: فإن قلت: لم سمي الزحف على البطن مشياً؟ قلت؛ على سبيل الاستعارة كما قالوا في الأمر المستمرّ: قد مشى هذا الأمر، ويقال: فلان لا يتمشى له أمر. ونحوه استعارة الشقة مكان الجحفلة، والمشفر مكان الشفة. ونحو ذلك. أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين.

.تفسير الآيات (46- 47):

{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)}
{وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا. أو إلى الفريق المتولي، فمعناه على الأوّل: إعلام من الله بأنّ جميعهم منتف عنهم الإيمان لا الفريق المتولي وحده. وعلى الثاني: إعلام بأن الفريق المتولي لم يكن ما سبق لهم من الإيمان إيماناً، إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة القلب؛ لأنه لو كان صادراً عن صحة معتقد وطمأنينة نفس لم يتعقبه التولي والإعراض. والتعريف في قوله: {بالمؤمنين} دلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفت: وهم الثابتون المستقيمون على الإيمان، والموصوفون في قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} [الحجرات: 15].

.تفسير الآيات (48- 49):

{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)}
معنى {إِلَى الله وَرَسُولِهِ} إلى رسول الله كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد: كرم زيد. ومنه قوله:
غَلَّسْنَهُ قَبْلَ الْقَطَا وَفُرَّطِهْ

أراد: قبل فرط القطا. روي: أنها نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهوديّ يجرّه إلى رسول الله، والمنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمداً يحيف علينا.
وروي أنّ المغيرة بن وائل كان بينه وبين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة في ماء وأرض، فقال المغيرة: أمّا محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ {إِلَيْهِ} صلة يأتوا، لأن (أتى) و (جاء) قد جاءا معدّيين بإلى، أو يتصل بمذعنين لأنه في معنى مسرعين في الطاعة. وهذا أحسن لتقدّم صلته ودلالته على الاختصاص. والمعنى: أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المرّ والعدل البحت. يزورّون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق، لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمّة الخصم.