فصل: تفسير الآيات (50- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (50- 51):

{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}
الضر والضير والضور: واحد، أرادوا: لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله، من تكفير الخطايا والثواب العظيم، مع الأعواض الكثيرة. أو لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل أنه لابد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت. والقتل أهون أسبابه وأرجاها. أو لا ضير علينا في قتلك، إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته ويرجو رحمته، لما رزقنا من السبق إلى الإيمان وخبر {لاَ} محذوف. والمعنى: لا ضير في ذلك، أو علينا {أَن كُنَّا} معناه: لأن كنا، وكانوا أوّل جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، أو من رعية فرعون، أو من أهل المشهد. وقرئ: {إن كنا} بالكسر وهو من الشرط الذي يجيء به المدلّ بأمره، المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أوّل المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر جعله: إن كنت عملت لك فوفني حقي ومنه قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِى وابتغاء مَرْضَاتِى} [الممتحنة: 1] مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك.

.تفسير الآيات (52- 56):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)}
قرئ: {أسر}، بقطع الهمزة ووصلها. وسر {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} علل الأمر بالإسراع باتباع فرعون وجنوده آثارهم. والمعنى: أني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم، ويسلكوا مسلككم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأهلكهم.
وروي: أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه، وروي: أنّ الله أوحى إلى موسى: أن أجمع بني إسرائيل، كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا الجداء. واضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة، أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط، واخبزوا خبزاً فطيراً فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري، فأرسل فرعون في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر، مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدّمته سبعمائة ألف: كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، فلذلك استقل قوم موسى عليه السلام وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً، وسماهم شرذمة قليلين {إِنَّ هَؤُلآءِ} محكي بعد قول مضمر. والشرذمة: الطائفة القليلة. ومنها قولهم: ثوب شراذم، للذي بلي وتقطع قطعاً، ذكرهم بالاسم الدال على القلة. ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً، واختار جمع السلامة الذي هو للقلة، وقد يجمع القليل على أقله وقلل. ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد. والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالى بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج، سارعنا إلى حسم فساده؛ وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه. وقرئ: {حذرون} و {حاذرون} و {حادرون}، بالدال غير المعجمة. فالحذر: اليقظ، والحاذر: الذي يجدّد حذره. وقيل: المؤدي في السلاح، وإنما يفعل ذلك حذراً واحتياطاً لنفسه. والحادر: السمين القوي. قال:
أُحِبُّ الصَّبِيَّ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّهِ ** وَأُبْغِضُهُ مِنْ بُغْضِهَا وَهُوَ حادِرُ

أراد أنهم أقوياء أشداء.
وقيل مدججون في السلاح، قد كسبهم ذلك حدارة في أجسامهم.

.تفسير الآيات (57- 60):

{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)}
وعن مجاهد: سماها كنوزاً لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله. والمقام: المكان، يريد: المنازل الحسنة والمجالس البهية.
وعن الضحاك: المنابر.
وقيل السر في الحجال {كذلك} يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه. والجر على أنه وصف لمقام، أي: مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم. والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك. {فَأَتْبَعُوهُم} فلحقوهم. وقرئ: {فاتبعوهم} {مُشْرِقِينَ} داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقاً إذا طلعت.

.تفسير الآيات (61- 68):

{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}
{سَيَهْدِينِ} طريق النجاة من إدراكهم وإضرارهم. وقرئ: {فلما تراءت الفئتان}. {إنا لمدركون} بتشديد الدال وكسر الراء، من أدرك الشيء إذا تتابع ففني. ومنه قوله تعالى: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الأخرة} [النمل: 66] قال الحسن: جهلوا علم الآخرة. وفي معناه بيت الحماسة:
أَبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتَابَعُوا ** أُرَجّى الْحَيَاةَ أَمْ مِنَ الْمَوْتِ أَجْزَعُ

والمعنى: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم، حتى لا يبقى منا أحد. الفرق: الجزء المتفرّق منه. وقرئ: {كل فلق} والمعنى واحد. الطود: الجبل العظيم المنطاد في السماء {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ} حيث انفلق البحر {الاخرين} قوم فرعون، أي: قربناهم من بني إسرائيل: أو أدنينا بعضهم من بعض، وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، أو قدمناهم إلى البحر. وقرئ: {وأزلقنا}، بالقاف، أي: أزللنا أقدامهم. والمعنى: أذهبنا عزهم، كقوله:
تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا ** وَذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ

ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبساً فيزلقهم فيه. عن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم. ويستقبل القبط فيقول: رويدكم يلحق آخركم. فلما انتهى موسى عليه السلام إلى البحر قال له مؤمن آل فرعون وكان بين يدي موسى: أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر ولا يدري موسى ما يصنع، فأوحى الله تعالى إليه: أن أضرب بعصاك البحر، فضربه فصار فيه اثنا عشر طريقاً: لكل سبط طريق.
وروي أنّ يوشع قال: يا كليم الله، أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا؟ قال موسى: ههنا. فخاض يوشع الماء وضرب موسى بعصاه البحر فدخلوا.
وروي أنّ موسى قال عند ذلك: يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكل شيء، والكائن بعد كل شيء. ويقال: هذا البحر هو بحر القلزم. وقيل: هو بحر من وراء مصر، يقال له: أساف {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أية آية، وآية لا توصف، وقد عاينها الناس وشاع أمرها فيهم، وما تنبه عليها أكثرهم، ولا آمن بالله. وبنو إسرائيل: الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} المنتقم من أعدائه {الرحيم} بأوليائه.

.تفسير الآيات (69- 71):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)}
كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام؛ ولكنه سألهم ليريهم أنّ ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ وأنت تعلم أنّ ماله الرقيق، ثم تقول له: الرقيق جمال وليس بمال.
فإن قلت: {مَا تَعْبُدُونَ} سؤال عن المعبود فحسب، فكان القياس أن يقولوا: أصناماً، كقوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219]، {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق} [سبأ: 23]، {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} [النحل: 30].
قلت: هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم، وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار. ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم نعبد {فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين} ولم يقتصروا على زيادة نعبد وحده. ومثاله أن تقول لبعض الشطار: ما تلبس في بلادك؟ فيقول: ألبس البرد الأَتحمى، فأجرّ ذيله بين جواري الحي. وإنما قالوا: نظل، لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.

.تفسير الآيات (72- 73):

{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)}
لا بد في {يَسْمَعُونَكُمْ} من تقدير حذف المضاف، معناه: هل يسمعون دعاءكم.
وقرأ قتادة: {يسمعونكم}، أي: هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم؟ وهل يقدرون على ذلك؟ وجاء مضارعاً مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية. ومعناه: استحضروا الأحوال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا هل سمعوا أو أسمعوا قط. وهذا أبلغ في التبكيت.

.تفسير الآيات (74- 82):

{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}
لما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم: رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهي عبادة الأقدمين الأوّلين من آبائكم، فإن التقدّم والأوّلية لا يكون برهاناً على الصحة، والباطل لا ينقلب حقاً بالقدم، وما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له، ومعنى العداوة قوله تعالى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82] ولأنّ المغري على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان، وإنما قال: {عَدُوٌّ لِى} تصويراً للمسألة في نفسه، على معنى: أني فكرت في أمرى فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أوّلاً وبني عليها تدبير أمره، لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون ادعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنّه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للنصوح ما لا يبلغه التصريح؛ لأنه يتأمّل فيه، فربما قاده التأمّل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت، لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناساً يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا بيتكم. والعدوّ والصديق: يجيئان في معنى الوحدة والجماعة. قال:
وَقَوْمٍ عَلَيَّ ذَوِي مِرَّةٍ ** أَرَاهُمْ عَدُوًّا وَكَانُوا صَدِيقَا

ومنه قوله تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] شبها بالمصادر للموازنة، كالقبول والولوع، والحنين والصهيل {إِلاَّ رَبَّ العالمين} استثناء منقطع، كأنه قال: ولكن رب العالمين {فَهُوَ يَهْدِينِ} يريد أنه حين أتمّ خلقه ونفخ فيه الروح، عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كلّ ما يصلحه ويعنيه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصاً، ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة، وإلى معرفة مكانه، ومن هداه لكيفية الارتضاع، إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد، وإنما قال: {مَرِضْتُ} دون (أمرضني) لأنّ كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم. وقرئ: {خطاياي}، والمراد: ما يندر منه من بعض الصغائر؛ لأنّ الأنبياء معصومون مختارون على العالمين. وقيل: هي قوله: {إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] وقوله لسارّة: هي أختي. وما هي إلا معاريض كلام، وتخييلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار.
فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق لي: أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: {أَطْمَعُ} ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفاً لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم.
فإن قلت: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت: لأنّ أثرها يتبين يومئذٍ وهو الآن خفي لا يعلم.