فصل: تفسير الآيات (208- 209):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (208- 209):

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)}
{مُنذِرُونَ} رسل ينذرونهم {ذِكْرِى} منصوبة بمعنى تذكرة. إمّا لأنّ (أنذر، وذكر) متقاربان، فكأنه قيل: مذكرون تذكرة. وإمّا لأنها حال من الضمير في {منذرون} أي، ينذرونهم ذوي تذكرة. وإمّا لأنها مفعول له؛ على معنى: أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. أو مرفوعة على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى: هذه ذكرى. والجملة اعتراضية. أو صفة بمعنى: منذرون ذوو ذكرى. أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. ووجه آخر؛ وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له. والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم {وَمَا كُنَّا ظالمين} فنهلك قوماً غير ظالمين. وهذا الوجه عليه المعوّل.
فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد (إلا) ولم تعزل عنها في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4]؟
قلت: الأصل: عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22].

.تفسير الآيات (210- 212):

{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}
كانوا يقولون: إنّ محمداً كاهن وما يتنزل عليه من جنس ما يتنزل به الشياطين على الكهنة، فكُذبوا بأنّ ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه؛ لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء.
وقرأ الحسن: {الشياطون}. ووجهه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجري الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله، فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن يقولوا. هذه يبرون ويبرين، وفلسطون وفلسطين. وحقه أن تشتقه من الشيطوطة وهي الهلاك كما قيل له الباطل.
وعن الفرّاء: غلط الشيخ في قراءته {الشياطون} ظنّ أنها النون التي على هجاءين، فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتجّ بقول الحسن وصاحبه يريد: محمد ابن السميفع مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلا وقد سمعا فيه.

.تفسير الآيات (213- 214):

{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)}
قد علم أنّ ذلك لا يكون، ولكنه أراد أن يحرّك منه لازدياد الإخلاص والتقوى. وفيه لطف لسائر المكلفين، كما قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل} [الحاقة: 44]، فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فيه وجهان: أحدهما أن يؤمر بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه، ويبدأ في ذلك بمن هو أولى بالبداءة، ثم بمن يليه: وأن يقدّم إنذارهم على إنذار غيرهم، كما روي عنه عليه السلام: أنه لما دخل مكة قال: «كلُ ربَا في الجاهليةِ موضوعٌ تحتَ قدميّ هاتينِ، وأَوّلُ ما أضعُهُ رِبَا العباسِ» والثاني: أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة، ولا يحابيهم في الإنذار والتخويف.
وروي: «أَنّهُ صَعِدَ الصَفَا لما نزلت فنادَى الأقربَ فالأقربَ فخذاً فخذاً، وقال: يا بني عبدِ المطلب، يا بني هَاشمِ، يا بني عبدِ منافِ، يا عباسُ عمَّ النبيّ يا صفيةُ عمةَ رسولِ اللَّهِ، إني لا أمْلِكُ لَكُم مِنَ الله شَيئاً، سَلُوني مِنْ مَالي مَا شِئْتُمْ» وروي: أَنَّه (صلى الله عليه وسلم) جَمَعَ بني عبدِ المطلبِ وهم يومئذٍ أربعونَ رَجلاً: الرجلُ مِنْهُمْ يأَكلُ الجذعةَ، ويشربُ العس على رجلِ شاةٍ وقعبٍ مِنْ لبَنٍ، فأكَلُوا وشَربُوا حتى صَدَرُوا، ثم أَنْذَرَهُم فقالَ: «يا بني عبدِ المطلبِ، لو أَخبرتُكَم أَنّ بسفحِ هذا الجبلِ خيلاً أكُنْتُمْ مُصَدّقي؟ قالوا: نَعَمْ. قالَ: فَإِني نَذيرٌ لَكُمْ بينَ يَديَ عذابٌ شديدٌ»، ورُوي أَنّهُ قَالَ: «يا بني عبدِ المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، افتدُوا أنفسَكم منَ النارِ فإنّي لا أغني عنكم شيئا» ثم قال: «يا عائشةُ بنتَ أبي بكر، ويا حفصةُ بنتَ عمر، ويا فاطمةُ بنتَ محمدٍ، ويا صفيةَ عمةَ محمد، اشترين أنفسكنّ منَ النار فإنيّ لا أغني عنكنّ شيئاً».

.تفسير الآيات (215- 216):

{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)}
الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب، ومنه قول بعضهم:
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ ** فَلاَ تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلاَ

ينهاه عن التكبر بعد التواضع.
فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتبعون للرسول، فما (معنى) قوله: {لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين}؟ قلت: فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، وأن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدّق واتبع رسول الله فيما جاء به، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب، ثم إمّا أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح. والمعنى: من المؤمنين من عشيرتك وغيرهم، يعني: أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره.

.تفسير الآيات (217- 220):

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)}
{وَتَوَكَّلْ} على الله يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره. وقالوا: المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة ثم سأل غيره خلاصه، لم يخرج من حد التوكل؛ لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله. وفي مصاحف أهل المدينة والشام: {فتوكل}، وبه قرأ نافع وابن عامر، وله محملان في العطف: أن يعطف على (فقل). أو؛ (فلا تدع). {عَلَى العزيز الرحيم} على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته. ثم اتبع كونه رحيماً على رسوله ما هو من أسباب الرحمة: وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه؛ ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سر أمرهم، وكيف يعبدون الله، وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع منها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بالساجدين: المصلون. وقيل: معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة. وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمّهم.
وعن مقاتل: أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله، هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال: لا يحضرني، فتلا له هذه الآية. ويحتمل أنه: لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين {إِنَّهُ هُوَ السميع} لما تقوله: {العليم} بما تنويه وتعمله. وقيل: هو تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، من قوله صلى الله عليه وسلم: «أتَموا الركوعَ والسجودَ، فواللَّهِ إني لأَراكُم منْ خلفِ ظهرِي إذا ركعتُم وسجدْتُم»، وقرئ: {ويقلبك}.

.تفسير الآيات (221- 223):

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}
{كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} هم الكهنة والمتنبئة، كشقّ، وسطيح، ومسيلمة، وطليحة {يُلْقُونَ السمع} هم الشياطين، كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملإ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما أطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من أولئك {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} فيما يوحون به إليهم؛ لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وقيل: يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة. وقيل: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم. أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، وترى أكثر ما يحكمون به باطلاً وزوراً. وفي الحديث: «الكلمةُ يخطفُها الجنيُّ فيقرّها في أذنِ وليهِ فيزيدُ فيها أكثر من مائةِ كذبةٍ» والقرّ: الصبّ.
فإن قلت: كيف دخل حرف الجرّ على (من) المتضمنة لمعنى الاستفهام والاستفهام له صدر الكلام؟ ألا ترى إلى قولك: أعلى زيد مررت؟ ولا تقول: على أزيد مررت؟ قلت: ليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معاً: معنى الاسم، ومعنى الحرف. وإنما معناه: أن الأصل أمن، فحذف حرف الاستفهام واستمرّ الاستعمال على حذفه، كما حذف من (هل) والأصل: أهل. قال:
أَهَلْ رَأَوْنَا بِسَفْحِ الْقَاعِ ذِي الأَكَمِ

فإذا أدخلت حرف الجرّ على (من) فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ في ضميرك، كأنك تقول: أعلى من تنزّل الشياطين، كقولك: أعلى زيد مررت.
فإن قلت: {يُلْقُونَ} ما محله؟ قلت: يجوز أن يكون في محل النصب على الحال، أي: تنزل ملقين السمع، وفي محل الجرّ صفة لكل أفاك؛ لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف، كأن قائلاً قال: لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت.
فإن قلت: كيف قيل: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني؛ وأكثرهم مفتر عليه.
فإن قلت: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين} [الشعراء: 192]، {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} [الشعراء: 210]، {هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} لم فرق بينهنّ وهنّ أخوات؟ قلت: أريد التفريق بينهنّ بآيات ليست في معناهنّ، ليرجع إلى المجيء بهنّ وتطرية ذكر ما فيهنّ كرّة بعد كرّة: فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها. ومثاله: أن يحدّث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه.

.تفسير الآيات (224- 226):

{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)}
{والشعراء} مبتدأ. و{يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} خبره: ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار، ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل: الغاوون: الراوون. وقيل: الشياطين، وقيل: هم شعراء قريش: عبد الله بن الزبعري، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحيّ. ومن ثقيف: أمية ابن أبي الصلت. قالوا: نحن نقول مثل قول محمد وكانوا يهجونه، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم وقرأ عيسى بن عمر: والشعراء، بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حبّ النصب. قرأ: {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 4] {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] و{سُورَةٌ أنزلناها} [النور: 1] وقرئ: {يتبعهم}، على التخفيف. ويتبعهم، بسكون العين تشبيهاً (لبعه بعضد).
ذكر الوادي والهيوم: فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة حدّ القصد فيه، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وأن يبهتوا البريّ، ويفسقوا التقي.
وعن الفرزدق: أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ ** وَبِتُّ أُفضُّ أَغْلاَقَ الْخِتَامِ

فقال: قد وجب عليك الحدّ، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحدّ بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}.

.تفسير الآية رقم (227):

{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}
استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعراً قالوه في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وصلحاء الأمة، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم. قال الله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] وذلك من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب لقوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وعن عمرو بن عبيد: أن رجلاً من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. وقيل: المراد بالمستثنين: عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، والكعبان: كعب بن مالك، وكعب بن زهير؛ والذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هجاة قريش.
وعن كعب بن مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «اهجُهم؛ فوالذي نفسِي بيدِهِ لهُو أَشدُّ عليهم منَ النبل» وكان يقول لحسان: «قلْ وروحُ القدسِ معَكَ» ختم السورة بآية ناطقة بما لا شيء أهيب منه وأهول، ولا أنكى لقلوب المتأمّلين ولا أصدع لأكباد المتدبرين، وذلك قوله: {وَسَيَعْلَمُ} وما فيه من الوعيد البليغ، وقوله {الذين ظَلَمُواْ} وإطلاقه. وقوله: {أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} وإبهامه، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حين عهد إليه: وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها. وتفسير الظلم بالكفر تعليل، ولأن تخاف فتبلغ الأمن: خير من أن تأمن فتبلغ الخوف.
وقرأ ابن عباس: {أي منفلت ينفلتون} ومعناها: إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة: اللهم اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها؛ وعلم أن من عمل سيئة فهو من الذين ظلموا، والله أعلم بالصواب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأَ سورةَ الشعراءِ كان لَه من الأجر عشرُ حسناتٍ بعددِ منْ صَدَّق بنوحٍ وكذَّبَ بهِ وهودٍ وشعيبٍ وصالحٍ وإبراهيمَ وبعددِ منْ كَذَّبَ بعيسى وصدّق بمحمدٍ عليهمُ الصلاةُ والسَلامُ»