فصل: تفسير الآيات (188- 189):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (188- 189):

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
ولا يأكل بعضكم مال بعض {بالباطل} بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه. (و) لا {تُدْلُواْ بِهَا} ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام {لِتَأْكُلُواْ} بالتحاكم {فَرِيقاً} طائفة {مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم} بشهادة الزور، أو باليمين الكاذبة، أو بالصلح، مع العلم بأن المقضي له ظالم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين: «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئاً، فإنما أقضي له قطعة من نار» فبكيا وقال كل واحد منهما: حقي لصاحبي. فقال: «اذهبا فتوخيا، ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» وقيل: {وَتُدْلُواْ بِهَا} وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. وتدلوا: مجزوم داخل في حكم النهي، أو منصوب بإضمار أن، كقوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42]. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح، وصاحبه أحق بالتوبيخ.
وروي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت. {مَوَاقِيتُ} معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدد حملهنّ وغير ذلك، ومعالم للحج يعرف بها وقته. كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب، فإذا كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلماً يصعد فيه؛ وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم: {و لَّيْسَ البر} بتحرّجكم من دخول الباب {ولكن البر} برّ {مَنِ اتقى} ما حرّم الله.
فإن قلت: ما وجه اتصاله بما قبله؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها معلوم-: أنّ كل ما يفعله الله عزّ وجلّ لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البرّ في شيء وأنتم تحسبونها برّاً. ويجوز أن يجري ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج، لأنه كان من أفعالهم في الحج. ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى: ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله. ثم قال: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} أي وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا. والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه؛ لما في السؤال من الاتهام بمقارفة الشك {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 21].

.تفسير الآيات (190- 193):

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
المقاتلة في سبيل الله: هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين {الذين يقاتلونكم} الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين. وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} [التوبة: 36].
وعن الربيع بن أنس رضي الله عنه: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف. أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء. أو الكفرة كلهم لأنهم جميعاً مضادّون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم، فهم في حكم المقاتلة، قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل: لما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء، خاف المسلمون أن لايفي لهم قريش ويصدّوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام وكرهوا ذلك نزلت وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم والشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك {وَلاَ تَعْتَدُواْ} بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم. والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة. ومنه: رجل ثقف، سريع الأَخذ لأقرانه. قال:
فَإمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ** فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إلَى خُلُود

{مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من مكة وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح. {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشدّ عليه من القتل.
وقيل لبعض الحكماء: ما أشد من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت، جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت. ومنه قول القائل:
لَقَتْلٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعا ** عَلَى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بِحَدِّ فِرَاقِ

وقيل: (الفتنة) عذاب الآخرة {وَذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 13] وقيل: الشرك أعظم من القتل في الحرم، وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين، فقيل: والشرك الذي هم عليه أشدّ وأعظم مما يستعظمونه. ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم. وقرئ: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم، فإن قتلوكم): جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم. يقال: قتلتنا بنو فلان. وقال: فإن تقتلونا نقتلكم {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الشرك والقتال، كقوله: {إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شرك {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الشرك {فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين} فلا تعدوا على المنتهين لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: {إِلاَّ عَلَى الظالمين} موضع على المنتهين. أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين، سمي جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة، كقوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} أو أريد أنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم.

.تفسير الآية رقم (194):

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه، يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم {والحرمات قِصَاصٌ} أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة كانت، اقتص منه بأن تهتك له حرمة، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا، وأكد ذلك بقوله {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ واتقوا الله} في حال كونكم منتصرين ممن اعتدى عليكم، فلا تعتدوا إلى ما لا يحلّ لكم.

.تفسير الآية رقم (195):

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
الباء في {بِأَيْدِيكُمْ} مزيدة مثلها في أعطى بيده للمنقاد. والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة بأيديكم، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل: (بأيديكم) بأنفسكم: وقيل تقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده، إذا تسبب لهلاكها. والمعنى: النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله. أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدوّ.
وروي: أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصاري: نحن أعلم بهذه الآية، وإنما أنزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه. وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها. فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. وحكى أبو علي في (الحلبيات) عن أبي عبيدة، التهلكة والهلاك والهلك واحد. قال: فدلّ هذا من قول أبي عبيدة على أن التهلكة مصدر. ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان: التنضبة والتنفلة. ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما، على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار.

.تفسير الآية رقم (196):

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
{وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. قال:
تَمَامُ الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا ** عَلَى خَرْقَاءَ وَاضِعَةِ اللِّثَامِ

جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به. وقيل: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، روى ذلك عن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. وقيل: أن تفرد لكل واحد منها سفراً كما قال محمد: حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل. وقيل: أن تكون النفقة حلالاً. وقيل: أن تخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية.
فإن قلت: هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلا أمر بإتمامهما، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين، فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعاً، إلا أن تقول: الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما، بدليل قراءة من قرأ {وأقيموا الحج والعمرة} والأمر للوجوب في أصله، إلا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب كما دلّ في قوله {فاصطادوا} [المائدة: 2] {فانتشروا} [الأحزاب: 53] ونحو ذلك، فيقال لك: فقد دلّ الدليل على نفي الوجوب، وهو ما روي: أنه قيل: يا رسول الله: العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: «لا، ولكن أن تعتمر خير لك» وعنه: «الحج جهاد والعمرة تطوّع» فإن قلت: فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن العمرة لقرينة الحج.
وعن عمر رضي الله عنه: أن رجلاً قال له: إني وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين عليّ، أهللت بهما جميعاً فقال: «هُديت لسنة نبيك». وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة مثل الحج؟ قلت: كونها قرينة للحج أنّ القارن يقرن بينهما، وأنهما يقترنان في الذكر فيقال: حجّ فلان واعتمر والحجاج والعمار، ولأنها الحجّ الأصغر، ولا دليل في ذلك على كونها قرينة له في الوجوب. وأمّا حديث عمر رضي الله عنه فقد فسر الرجل كونهما مكتوبين عليه بقوله: أهللت بهما، وإذا أهلّ بالعمرة وجبت عليه كما إذا كبر بالتطوّع من الصلاة. والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقي الحجّ وحده فيها، فهما بمنزلة قولك: صم شهر رمضان وستة من شوال، في أنك تأمره بفرض وتطوّع.
وقرأ عليّ وابن مسعود والشعبي رضي الله عنهم {والعمرة لله} بالرفع، كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحجّ وهو الوجوب {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} يقال: أُحصر فلان، إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز. قال الله تعالى: {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 273] وقال ابن ميادة:
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَت ** عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شَغُولُ

وحُصر: إذا حبسه عدوّ عن المضي، أو سجن. ومنه قيل للمحبس: الحصير. وللملك، الحصير، لأنه محجوب. هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء، مثل صدّه وأصدّه. وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني، وعليه قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى، كل منع عنده من عدوّ كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار. وعند مالك والشافعي منع العدوّ وحده.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه الحج من قابل» {فَمَا استيسر مِنَ الهدى} فما تيسر منه. يقال: يسر الأمر واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب. والهدي جمع هدية، كما يقال في جدية السرج جدي، وقرئ: {من الهديّ} بالتشديد جمع هدية كمطية ومطيّ. يعني فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة، فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدي من بعير أو بقرة أو شناة، فإن قلت: أين ومتى ينحر هدي المحصر؟ قلت: إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء عند أبي حنيفة يبعث به، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار وعندهما في أيام النحر وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً. و(ما استيسر) رفع بالابتداء، أي فعليه ما استيسر. أو نصب على: فاهدوا ما استيسر {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ} الخطاب للمحصرين: أي لا تحلوا حتى تعلموا أنّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ {مَحِلَّهُ} أي مكانه الذي يجب نحره فيه. ومحل الدين وقت وجوب قضائه، وهو ظاهر على مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
فإن قلت: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه حيث أحصر؟ قلت: كان محصره طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة وهو من الحرم، وعن الزهري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم. وقال الواقدي: الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} فمن كان به مرض يحوجه إلى الحلق {أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ} وهو القمل أو الجراحة، فعليه إذا احتلق فدية {مّن صِيَامٍ} ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من برّ {أَوْ نُسُكٍ} وهو شاة.
وعن كعب بن عجرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «لعلك أذاك هوامّك»؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة» وكان كعب يقول: فيّ نزلت هذه الآية، وروي: أنه مرّ به وقد قَرَحَ رَأْسُهُ فقال: «كفى بهذا أذى» وأمره أن يحلق ويطعم، أو يصوم. والنسك مصدر، وقيل: جمع نسيكة.
وقرأ الحسن: أو {نسك}، بالتخفيف {فَإِذَا أَمِنتُمْ} الإحصار، يعني فإذا لم تحصروا وكنتم في أمن وسعة {فَمَن تَمَتَّعَ} أي استمتع {بالعمرة إِلَى الحج} واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج: انتفاعه بالتقرّب بها إلى الله تعالى قبل الانتفاع بتقرّبه بالحج. وقيل: إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يحرم بالحج {فَمَا استيسر مِنَ الهدى} هو، هدي المتعة، وهو نسك عند أبي حنيفة ويأكل منه. وعند الشافعي: يجري مجرى الجنايات ولا يأكل منه، ويذبحه يوم النحر عندنا. وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم بحجته {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الهدي {ف} عليه {صِيَامٍ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج} أي في وقته وهو أشهرهُ ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله. والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم. وعند الشافعي: لا تصام إلا بعد الإحرام بالحج تمسكاً بظاهر قوله: {فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} بمعنى إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبي حنيفة، وعند الشافعي: هو الرجوع إلى أهاليهم.
وقرأ ابن أبي عبلة {وسبعةً} بالنصب عطفاً على محل ثلاثة أيام، وكأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام، كقوله:
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 15] فإن قلت: فما فائدة الفذلكة؟ قلت: الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة، وأيضاً ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم. وفي أمثال العرب: علمان خير من علم، وكذلك {كَامِلَةٌ} تأكيد آخر. وفيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزل: الله الله لا تقصر. وقيل: كاملة في وقوعها بدلاً من الهدي. وفي قراءة أبيّ: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} {ذلك} إشارة إلى التمتع، عند أبي حنيفة وأصحابه. لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه؛ وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق فدمهما دم نسك يأكلان منه. وعند الشافعي: إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئاً. وحاضرو المسجد الحرام: أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبي حنيفة. وعند الشافعي: أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة {واتقوا الله} في المحافظة على حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن خالف ليكون علمكم بشدة عقابه لطفاً لكم في التقوى.