فصل: تفسير الآيات (50- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (50- 57):

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}
فإن قلت: علام عطف قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ}؟ قلت: على يطاف عليهم. والمعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب قال:
وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إلاَّ ** أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ

فيقبل بعضهم على بعض {يَتَسَاءلُونَ} عما جرى لهم وعليهم في الدنيا، إلا أنه جيء به ماضياً على عادة الله في أخباره. قرئ: {من المصدّقين} من التصديق. ومن المصدَّقين مشدّد الصاد، من التصدّق، وقيل: نزلت في رجل تصدّق بماله لوجه الله، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه؛ فقال: وأين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضني الله به في الآخرة خيراً منه، فقال: أئنك لمن المصدّقين بيوم الدين. أو من المتصدّقين لطلب الثواب. والله لا أعطيك شيئاً {لَمَدِينُونَ} لمجزيون، من الدين وهو الجزاء. أو لمسوسون مربوبون. يقال: دانه ساسه. ومنه الحديث: «العاقل من دان نفسه» {قَالَ} يعني ذلك القائل: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} إلى النار لأريكم ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل: القائل هو الله عزّ وجلّ. وقيل: بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقرئ: {مطلعون} فاطلع. وفأطلع بالتشديد، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب: ومطلعون فاطلع وفأطلع بالتحفيف على لفظ الماضي والمضارع والمنصوب يقال طلع علينا فلان، واطلع وأطلع بمعنى واحد، والمعنى: هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضاً. أو عرض عليه الاطلاع فاعترضوه، فاطلع هو بعد ذلك. وإن جعلت الإطلاع من أطلعه غيره، فالمعنى: أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم، وهو من آداب المجالسة. أن لا يستبد بشيء دون جلسائه، فكأنهم مطلعوه. وقيل: الخطاب على هذا للملائكة. وقرئ: {مطلعون} بكسر النون، أراد: مطلعون إياي؛ فوضع المتصل موضع المنفصل، كقوله:
هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ

أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلاّ في الشعر {فِى سَوَآءِ الجحيم} في وسطها، يقال: تعبت حتى انقطع سوائي، وعن أبي عبيدة: قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي (إن) مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على {كاد} كما تدخل على (كان) {إِن كَانَ لَيُضِلُّنَا} واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والإرداء: الإهلاك. وفي قراءة عبد الله: لتغوينّ {نِعْمَةُ رَبّى} هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام، والبراءة من قرين السوء. أو إنعام الله بالثواب وكونه من أهل الجنة {مِنَ المحضرين} من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك.

.تفسير الآيات (58- 59):

{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)}
الذي عطفت عليه الفاء محذوف، معناه: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين. وقرئ: {بمائتين} والمعنى أنّ هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله به لهم للعلم بأعمالهم أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم يتمنون فيه الموت كل ساعة، وقيل لبعض الحكماء: ما شرّ من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت.

.تفسير الآيات (60- 61):

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)}
يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله واغتباطاً بحاله وبمسمع من قرينه، ليكون توبيخاً له يزيد به تعذباً، وليحكيه الله فيكون لنا لطفاً وزاجراً. ويجوز أن يكون قولهم جميعاً، وكذلك قوله {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه. وقيل: هو من قول الله عزّ وجلّ تقريراً لقولهم وتصديقاً له. وقرئ: {لهو الرزق العظيم} وهو ما رزوقوه من السعادة.

.تفسير الآيات (62- 70):

{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)}
تمت قصة المؤمن وقرينه، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال: {أذلك} الرزق {خَيْرٌ نُّزُلاً} أي خير حاصلاً {أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} وأصل النزل: الفضل والريع في الطعام، يقال: طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والغمّ، وانتصاب نزلاً على التمييز، ولك أن تجعله حالاً، كما تقول: أثمر النخلة خير بلحاً أم رطباً؟ يعني أنّ الرزق المعلوم نزل أهل الجنة. وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير في كونه نزلاً. والنزل: ما يقام للنازل بالمكان من الرزق. ومنه أنزال الجند لأرزاقهم، كما يقال لما يقام لساكن الدار: السكن. ومعنى الأوّل: أَنّ للرزق المعلوم نزلاً، ولشجر الزقوم نزلاً، فأيهما خير نزلاً. ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم قيل لهم ذلك توبيخاً على سوء اختيارهم {فِتْنَةً للظالمين} محنة وعذاباً لهم في الآخرة. أو ابتلاء لهم في الدنيا، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر، فكذبوا. وقرئ: {نابتة} {فِى أَصْلِ الجحيم} قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها: والطلع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها: إما استعارة لفظية، أو معنوية، وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية وقبح المنظر؛ لأنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شرّ محض لا يخلطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان، وإذا صوّره المصورون: جاؤا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله؛ كما أنهم اعتقدوا في المَلَكِ أنه خير محض لا شرّ فيه، فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] وهذا تشبيه تخييلي. وقيل: الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جداً. وقيل: إنّ شجراً يقال له الأستن خشناً منتناً مراً منكر الصورة، يسمى ثمره: رؤوس الشياطين. وما سمت العرب هذا الثمر رؤوس الشياطين إلاّ قصداً إلى أحد التشبيهين، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلاً ثالثاً يشبه به {مِنْهَا} من الشجرة، أي من طلعها {فَمَالِئُونَ} بطونهم، لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو يقسرون على أكلها وإن كرهوها، ليكون باباً من العذاب؛ فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شراباً من غساق أو صديد، شوبه: أي مزاجه {مِنْ حَمِيمٍ} يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم، كما قال في صفة شراب أهل الجنة {وَمِزَاجُهُ مِن تسنيم} [المطففين: 27] وقرئ: {لشوبا} بالضم، وهو اسم ما يشاب به، والأوّل تسمية بالمصدر.
فإن قلت: ما معنى حرف التراخي في قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً} وفي قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ}؟ قلت: في الأوّل وجهان، أحدهما: أنهم يملؤن البطون من شجرة الزقوم، وهو حارّ يحرق بطونهم ويعطشهم، فلا يسقون إلا بعد ما ملئ تعذيباً بذلك العطش، ثم يسقون ما هو أحرّ وهو الشراب المشوب بالحميم.
والثاني: أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع، فجاء بثم للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه. ومعنى الثاني: أنهم يذهب بهم عن مقارّهم ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن يتملؤا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، ومعنى التر اخي في ذلك بين، وقرئ: {ثم إن منقلبهم} ثم إن مصيرهم، ثم إن منفذهم إلى الجحيم: علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين، واتباعهم إياهم على الضلال، وترك اتباع الدليل، والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يحثون حثاً. وقيل: إسراع فيه شبه بالرعدة.

.تفسير الآيات (71- 74):

{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} قبل قومك قريش. {مُّنذِرِينَ} أنبياء حذروهم العواقب. {المنذرين} الذين أنذروا وحذروا، أي أهلكوا جميعاً {إِلاَّ عِبَادَ الله} الذين آمنوا منهم وأخلصوا دينهم لله، أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين.

.تفسير الآيات (75- 82):

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)}
لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه حين آيس من قومه، واللام الداخلة على نعم جواب قسم محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: فوالله لنعم المجيبون نحن. والجمع دليل العظمة والكبرياء. والمعنى: إنا أجبناه أحسن الإجابة، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون {هُمُ الباقين} هم الذين بقوا وحدهم وقد فني غيرهم، فقد روى أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده. أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرية نوح. وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام، وحام، ويافث. فسام أبو العرب، وفارس، والروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأخرين} من الأمم هذه الكلمة، وهي: {سلام على نُوحٍ} يعني يسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت: {سُورَةٌ أنزلناها} [النور: 1] فإن قلت: فما معنى قوله: {فِى العالمين}؟ قلت: معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعاً، وأن لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل: ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنه كان محسناً، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً، ليريك جلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه.

.تفسير الآيات (83- 87):

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)}
{مِن شِيعَتِهِ} ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما. أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من أهل دينه وعلى سنته، وما كان بين نوح وإبراهيم إلاّ نبيان: هود وصالح، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة.
فإن قلت: بم تعلق الظرف؟ قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعني: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم، أو بمحذوف وهو: اذكر {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من جميع آفات القلوب. وقيل: من الشرك، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها.
فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه أنه أخلص لله قلبه، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلاً لذلك {أَئِفْكاً} مفعول له، تقديره: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً، وإنما قدّم المفعول على الفعل للعناية، وقدّم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون إفكاً مفعولاً به، يعني: أتريدون به إفكاً. ثم فسر الإفك بقوله: {آلِهَةً} مّنَ {دُونِ الله} على أنها إفك في أنفسها. ويجوز أن يكون حالاً، بمعنى: أتريدون آلهة من دون الله آفكين {فَمَا ظَنُّكُم} بمن هو الحقيق بالعبادة، لأنّ من كان رباً للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام: والمعنى: أنه لا يقدر في وهم ولا ظنّ ما يصدّعن عن عبادته. أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء، حتى جعلتم الأصنام له أنداداً. أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟.

.تفسير الآيات (88- 90):

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)}
{فِى النجوم} في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها، وعن بعض الملوك أنه سئل عن مشتهاه فقال: حبيب أنظر إليه ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه. كان القوم نجامين، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم {فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} إني مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل.
فإن قلت: كيف جاز له أن يكذب؟ قلت: قد جوّزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية، وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. والصحيح: أن الكذب حرام إلاّ إذا عرّض وورّى، والذي قاله إبراهيم عليه السلام: معراض من الكلام، ولقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم. ومنه المثل: كفى بالسلامة داء. وقول لبيد:
فَدَعَوْتُ رَبِّي بالسَّلاَمَةِ جَاهِدا ** لِيُصِحَّنِي فَإذَا السَّلاَمَةُ دَاءُ

وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس وقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه. وقيل: أراد: إني سقيم النفس لكفركم.